الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني
حقيقة الجمال
ما زال الفلاسفة من لدن أفلاطون يكتبون عن الجمال. وقد لاحظ الكاتب عن الجماليات في الموسوعة البريطانية (1)، أن أمر الشعور بالجمال وتقديره والإعجاب به، مرجعه أول من كل شيء إلى الذات، وإلى أعماق القلوب، غير أنه مادام الشعور بالجمال كله، تابعا على الإدراك الحسي، فإنه لا مندوحة عن التساؤل: أمن الممكن إدراك حقيقة الجمال إدراكًا موضوعيًا علميًا تحليليًا، كما هي الحال في كل الأمور التي يكون علم الإنسان بها وتقديره لها متأتيًا عن طريق الإدراك الحسي؟
وقد زعم الفيلسوف الألماني "كانت" أن الجمال ليست له حقيقة موضوعية.
وكيف تكون له حقيقة علمية موضوعية والناس إنما يقيسونه بمقياس الذوق؟ ولأمر ما، اختاروا الذوق، ليعبروا عن ذلك المقياس الذي يقيسون به الجمال، إذ قل إن تجد الناس أكثر اختلافاّ وتبايناّ في حاسة من الحواس، منهم في حاسة الذوق! وقد ذهب "كانت" إلى أبعد من هذا، فزعم أن تقدير الجمال والاعتناء بقيمته، ظاهرة اجتماعية، وأنه لو أتيح لأمرئ أن يكون بمعزل عن سائر البشر، لهان عليه أن ينظف منزله (2).
(1) ENCYCLOPAEDIA BRITANNICA-13 EDITION-1 - 277
(2)
راجع المقالة 236.
وإذ قد نفى "كانت" أن تكون للجمال حقيقة موضوعية، فقد أثبت له حقيقة ذاتية. ومراده من ذلك، أن كل فرد منا يحس بالجمال ويقدره، ونحن في جملتنا متشابهون فبناء على هذا، لابد أن يكون إدراكنا للجمال متشابهاّ، ويستنتج من ذلك إمكانية وجود حقيقة للجمال بالنسبة إلينا معشر البشر، وتكون هذه الحقيقة مدركة إدراكًا ذاتيًا شخصياّ، لا موضوعياّ، بخلاف الحقائق العلمية، كحقيقة الجاذبية مثلا، التي تفعل فعلها، ويصدق تعرفيها، بغض النظر عن الذات المشاهدة لها.
هذا ولا يملك المرء إلا أن يستحسن ما قد ذهب إليه "كانت" من التفريق بين حقيقة الجمال، والحقائق العلمية. إلا أن وصفه لحقيقة الجمال بانها لا موضوعية محل للنظر (1). وهنا نتساءل: ما هو مراد "كانت" من الموضوعية أمر يصدق صدقًا ضروريًا بدهيًا، وليس على الباحث إلا استخلاصه بواسطة الاستقراء العلمي المنطقي الصحيح، الذي لا يتأثر بالعواطف. فلا أدري كيف يستطيع نفي الموضوعية عن حقيقة الجمال وحده هذا النفي الجازم، ولا ينفيها عن غيرها من الحقائق؟ حقًا، إن استبعاد العواطف الذاتية في اثناء البحث عم حقيقة الجمال، فيه عسر شديد. وكذلك في البحث عن أي حقيقة أخرى عسر شديد. وقد يجوز للمتطرف أن ينكر الموضوعية الحقة، حتى للنظريات العلمية الجافة. وقد أنكر الغالي موضوعية للزمان والمكان، وجعل كل ذلك أمرًا نسبيًا، ناشئًا عن انحصار الذهن البشري وذاتيته المتأصلة (2) وقد أنكر الفيلسوف البريطاني "برتراند راسل" على "كانت" مذهبه في القول بضرورية بعض البديهيات، وانبعاثها من إلهام فكري حق محض، مدعيًا أن لا بدهيات، وأن حقيقة الأعداد مثلا، وإنما انبعثت من التجربة الحسية (3)، وهي من أجل ذلك عرضة لكل الشكوك
(1) ليرجع إلى كانت. أما الكاتب فانما استقى مادته نقلًا عن الموسوعة البريطانية.
(2)
تهافت الفلاسفة للغزالي (مصر 1947 - 72).
(3)
History of Western hilosopshyby Bertrand Russel. (London 1946) of: 739 - 745.
والريب التي ذكرها "هيوم" وغيره. ومهما يكن من شيء، فلا ريب أن تأصل الذاتية في التفكير الإنساني حقيقة لا مدفع لها، ولا مفر منها.
والذي يجدر بالعاقل أن يقصد إليه، هو الجد، ومحاولة التجرد من الأهواء، وطلب الاستناد على الأدلة التي يقبلها العقل والمنطق المتماسك. فان كان هذا هو المراد بالموضوعية فليست حقيقة الجمال بعسير دخولها في هذا النطاق.
نعم، قد يجد الباحثون عسرًا في اتباع الأسلوب الاستقرائي وهم يتحدثون عن الجمال، وقد يلقون مشقة في تجنب الإلقاء بالقضايا العامة الصادرة عن الهوى.
ولكن ليس معنى ذلك استحالة الوصول إلى نتائج منطقية مرضية، في داخل حدود الطاقة البشرية على أنه ينبغي لنا أن نستفيد من وصف "كانت" لحقيقة الجمال بأنها لا موضوعية، ومن تفريقه بينها وبين الحقائق العلمية الجافة، ذلك بأن الحقائق العلمية الجافة، ليست في القرب من خويصة النفس بمنزلة الحقيقة الجمالية- أعني بذلك أنه من الممكن توهم بعد هاتيك وانعزالها عنا، وكوننا منها بمنزلة المتفرج، في حين أن حقيقة الجمال تتصل بنا اتصالا مباشراّ، لا يبرح أن يلون نظرتنا بالوان، ربما حالت بيننا وبين الجد المحض في تعرف كنها، وإدراك جوهرها.
هذا، ولا اريد أن أعني القارئ بنقل ما قاله الفلاسفة عن حقيقة الجمال، وعندي أنها حقيقة حسية، تدركها انت بالحواس، وبخاصة السمع والبصر. وحدها:
أن كل ما سر النفس من طريق الحواس الخمس (أم هي ست أم سبع) ولا سيما العين (1) والاذن، هو جميل. والجمال خصال مدركة بالحواس، وبخاصة هاتين الحاستين معاّ، أو منفردتين، من شأنها أن تسر النفس. فمثال المسموع: الصوت
(1) على أن في هذا نظرًا لقوله تعالى: {لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] فلا يد للبصيرة من عمل عظيم في إدراك حقيقة الجمال. وكم من بدن حسن ظاهر الهيئة تنفر منه النفس نفورًا. والله على كل شيء قدير. وانظر حديثنا عن الانسجام فعسى أن يقع فيه استدراك بعض هذا والله تعالى أعلم.
(2)
توفي رحمه الله في مارس سنة 1982.
الحسن. ومثال المرئي: المنظر الحسن، ومثال المسموع المرئي: الشلال مثلا، فإن له منظراّ حسناّ، وخريراّ حسناّ. ولله در الشاعر المبدع محمد المهدي المجذوب رحمه الله (2)، إذ يقول في نعت بعض الفاتنات:
شعرها العسجدي ينثال كالشلال ينصب في قرار النفوس
وأول القصيدة:
تلك لوسي فجنباني لوسي
…
رب كأسٍ تدير أعتى الرؤوس
هذا ولعلك، تقول: لماذا خصصت السمع والبصر دون سائر الحواس، والجواب عن ذلك، أني وجدت أن المذوقات والمشمومات والملموسات جميعًا أدخل في حاق الالتذاذ الجسدي، من المرئيات والمسموعات.
وكأن ما يلذك شمه أو ضمه أو ذوقه، يعطيك شعورًا جسديًا محضًا، خاليًا من الأبعاد الزمانية والمكانية، بخلاف المسموع والمرئي، فانهما لا يخلوان من بعدي الزمان والمكان.
والبعد المكاني أوضح في المرئي. والبعد الزماني أوضح في المسموع. والعين أقدر على ادراك المكان من الأذن. والأذن أقدر على إدراك الزمان من العين. والمكان أوضح للذهن الواعي من الزمان لتحيزه، وظهوره بمظهر الاستقرار والجمود، بحيث يمكن المرء من اختيار دقائقه وتفصيلاته اختبارًا كاملا، ولذلك كان استعمال المرئيات في معرض التوضيح والتبين، شائعاّ عند العلماء والنقاد والوصافين، ولذلك أيضاّ كثر تشبيه كثير من المدركات المسموعة، بالمدركات المرئية، بغرض التوضيح والإظهار. والزمان أعلق بالذهن الواعي، وبالنفس المحسة من المكان، لأنه أشبه بطبيعة الحياة، التي هي زمان يمر، وأنفاس تتعاقب، فلذلك كان التعبير عن طريقة أقوي وأشد، أليس عامل الزمان في المسموعات أوضح وأبين من عامل المكان؟ - خذ الكلمات مثلا، أليست صبغة الزمان أغلب عليها؟
ولعل هذه التفرقة بين المرئيات والمسموعات، تهدينا إلى إدراك السر في ارتفاع الشعر والموسيقا، عن الرسم والنحت والبناء. وجميع هاته فنون عبر بها البشر عن أروع ما شعروا به، وبأبهر ما قدروا عليه، ألا ترى أن المكان هو البعد البارز في الرسم والنحت والبناء؟ والمكان مع أنه من ظواهر الحياة، نجد أنه صنو الجانب المادي الفاقد للروح منها، فهذا يجعل التعبير عن طريق هذه الفنون أدنى إلى المادة، وأبعد الزماني، والزمان كأنه صنو الروح، التي إنما تمر أنفاسًا، وخفقات خفقات.
وقد جعل أرسطا طاليس الشعر في المنزلة العليا من الفنون، ولا أشك أنه أعلى منزلة من الموسيقا، لأن هذه يغلب عليها الزمان غلبة بينة، بحيث يصير عامل المكان المتجلي في نفس هيولي الأصوات ضئيلا خافتًا، كأنه لا موجود، أما الشعر وإن غلب الزمان عليه، فان للمكان فيه بروزًا ما-فهذا يجعله أشبه بحاق الحياة، من كلا الرسم والموسيقا اللذين يذهب أحدهما إلى المادة مذهبًا بعيدًا، ويذهب الآخر إلى الروح مذهبًا بعيدًا.
هذا، وحقيقة الجمال -مسموعًا كان أو مرئيًا- تدور كلها على أمرين:
الكل، والتفصيل. فالكل في المرئي يتجلى في الشكل والهيئة العامة، والتفصيل يتجلي في الألوان ومظاهر الضوء والظلام، التي بها تبرز حقيقة المرئي بروزًا كاملا. والكل في المسموع هو عبارة عن نوع رنته، وطبيعة جرسها. والتفصيل: عبارة عن تموجاتها ودخائلها.
فكل الصوت هو الذي يميز صوت البلبل من صوت الحمار، وتفصيل الصوت، هو الذي يميز، بين صوت بلبل وآخر. (هذا تمثيل، كما يقول سيبويه)، والحقيقة العميقة أن التمييز الحق بين صوت وآخر، يحصل بالكل والتفصيل معًا.