الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"خادية" من خدى البعير يخدي في السير. وقد ذكر الدكتور طه حسين كثيرًا من هذا العبث العلائي، وأحسن هرضه وتحليله في "كتابه مع أبي العلاء في سحنه":
هذا ومن أمثلة الجناس الموهم قول الحريري:
زينب. زينب بقد يقد
…
وتلاه ويلاه نهد يهد
فهذا غاية التكليف كما ترى.
الجناس التام:
ونعني به غير الموهم هنا، وهو أجود أنواع الجناس التام، مثل قول الصلتان:
فاتع المغيرة للمغيرة إن غدت
…
شعواء مشعلة كنبح النابح
فالمرء يدرك بالقرينة المانعة، وهي النعي، أن المغيرة الأولى علم، وأن الثانية مخالفة لها في المعنى.
كلمة عن الجناس:
أكثر ما كان يقع من الجناس في كلام المتقدمين، الأصناف الازدواجية والسجعية الحرفية، مخلوطة بأنواع التكرار التي قدمنا عنها الكلام من قبل، مثال ذلك قول أمرئ القيس بن حجر (1):
وقد أعتدى ومعي القانصان
…
وكل بمربأةٍ مقتفر
فيدركنا فغم داجنٌ
…
سميع بصير طلوب نكر
ألص الضروس، حني الضلوع
…
تبوع طلوب نشيط أشر
فهذا مثال جيد لجناس الازدواج- ففغم ودواجن، صيغتان متقاربتان في
(1) مختارات الشعر الجاهلي ص 88 - قوله: فغم وداجن: أراد به كلب الصيد. ألص الضروس. ملتصقها.
الوزن، سميع وبصير وطلوب، كلها من وزن عروضي واحد، والأوليان متساويتان في الوزنين الصرفي والعروضي، والقافية موازنة "لفغم" ومتشابهة "لداجن". وقوله:"ألص الضروس"، "حني الضلوع" جناس ازدواجي تقسيمي كامل الأطراف. وقل "تبوع طلوب نشيط" مثل ما قلنا في "سميع بصير طلوب"، مع ملاحظة أن الشاعر قد عكس الوضع الصرفي هنا.
ومثال آخر قوله من نفس الكلمة، في صفة الفرس:
وأركب في الروع خيفانة
…
كسا وجهها سعف منتشر (1)
لها حافر مثل قعب الوليـ
…
ـد ركب فيه وظيف عجر (2)
لها ثنن كخوافي العقا
…
ب سود يفين إذا تزبئر (3)
وساقان كعباهما اصمعا
…
ن لحم حماتيها منبتر (4)
لها عجز كصفاة المسـ
…
يل أبرز عنها جحاف مضر (5)
لها ذنب مثل ذيل العروس
…
تسد به فرجها من دبر
(1) أي أركب عند الحرب فرسًا كأنها الجرادة في الاستواء والضمر واتساع الصدر والامتداد والخفة، والخيفانة: هي الجرادة. وعنى بالسعف المنتشر: ما يتدلى على وجهها من السبيب.
(2)
القعب: هو القدح من اقرح، وأراد اتساع الحافر والوظيف: هو عظم الساق مما يلي الحافر. والعجر الغليظ: أي لها حافر رجب ركب عليه عظم ساقها الغليظ.
(3)
الثنن: ما خلف مؤخر الحافر من الشعر، ووصفه بالكثرة، وشبهه بخوافي العقاب، وهي ما دون جناحها الأمامي، وقوله: يفين من وفي: أي يشملن وينتشرن، إذا تزبئر: إذا تنتفش.
(4)
أصمعان: أي قويان. والحماة: عضلة الساق، وقوله: منبتر: أي كأنه منبتر لصلابته.
(5)
الصفاة: الصخرة، والصخرة التي تكون في مجرى السيل توصف بالصلابة والملاسة، فعجز هذه الفرس جمع القوة إلى الملاسة. والجحاف: هو السيل. والمضر إما من الضرر بمعناه المعروف، وإما بمعنى قريب قال الآخر:
لام الأرض ويل ما أجنت
…
بحيث أضر بالحسن السبيل
أي قارب الحسن، والحسن جبل.
لها متنتان خظاتاكما
…
أكب على ساعديه النمر (1)
لها عذر كقرون النسا
…
ء ركبن في يوم ريحٍ وصر (2)
وسالفة كسحوق الليا
…
ن أضرم فيها الغوي السعر (3)
لها جبهة كسراة المجنـ
…
ن حذقه الصانع المقتدر
لها منخر كوجار (4) الضباع
…
فمنه تريح إذا تنبهر (5)
وعين لها حدرة بدرة
…
شقت مآقيها من أخر (6)
هذا، وسائر القصيدة على هذا القري، جمع فيه الشاعر بين التكرار والحناس المزدوج، وأصناف أخرى من البديع. وأصناف أخرى من البديع. وألفت النظر إلى دقة صناعته، وقوة جرسه في نحو:"مثل قعب الوليد"، "كخوافي العقاب"، "كصفاة المسيل"، "كقرون النساء"، "كسحوق الليان"، "كسراة المجن" فكل هذا كلام متوازن مع طولٍ، ونوع من تقسيم. ثم يخرج منه الشاعر بفجاءة إلى قوله:
وعين لها حدرة بدرة
وما في ذلك من الإسراع، لا يخفى.
(1) هذا البيت من شواهد النحويين، واستشهدوا به على حذف نون التفنية من خظاتان. والمينتان هما الجنانبان؛ والخظا: الكثير اللحم، مؤنثة خظاة: أي لها جانبان مكتنزان. وقيل: أراد خظتا: أي امتلأتا، وزاد ألفًا بعد الخاء. وعند المبرد أن قوله خظاتا مضاف إلى ما بعده- وعندي أن هذا أجود. لأنه به يظهر أن الشاعر أراد امتلاء الجانبين مما يلي الصدر، وهذا لا ينافي الضمر المحمود في الجياد.
(2)
العذر: جمع عذرة، أراد به أول عرف الحصان، وشبه ذلك بشعور النساء انتشرن يوم الريح.
(3)
وسحوق الليان: النخلة الطويلة، والليان: النخل، والسحوق: الطويلة، والسالفة: العنق. والسعر: النار. وأراد شقرة عرف الفرس- وهذا يشرح قول طفيل الغنوي: "سنا ضرم في عرفج متلهب".
(4)
المجن: الدرقة، وسراته: ظهره، وحذقه: صنعه بمهارة- أراد لمعان جبهتها وملاستها وصلابتها.
(5)
الوجار: هو جحر الضب والثعلب، وأراد اتساع منخرها وذلك أقرب لئلا تنبهر.
(6)
حدرة: أي واسعة. وبدرة: سريعة النظر.
ويعجبني من هذه القصيدة قوله يصف المرأة:
برهرهة رودة رخصةٌ
…
كخرعوبة البانة المنفطر (1)
فتور القيام قطيع الكلا
…
متفتر عن ذي غروب خصر (2)
كأن المدام وصوب الغمام
…
وريح الخزامي ونشر القطر
يُعل به برد أنيابها
…
إذا طرب الطائر المستحر (3)
فانظر إلى الجناس الحرفي بتكرار الراء والحاء والتاء المنونة والباء في البيت الأول، وإلى المزاوجة بين: رودة ورخصة؛ وشبه المزاوجة بين: برهرهة، ورودة. ثم تأمل هذا الترصيع في فتور القيام، قطيع الكلام، والبيت الذي يليه:
هذا، ومن أمثلة الجناس الحرفي الخفي الجيدة قول النابغة:
إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم
…
عصائب طيرٍ تهتدي بعصائب
يصاحبنهم حتى يغرن مغارهم
…
من الضاريات بالدماء الدوارب
تراهن خلف القوم خرزًا عيونها
…
جلوس الشيوخ في ثياب المرانب (4)
جوانح قد أيقن أن قبيله
…
إذا ما التقى الجمعان أول غالب
لهن عليهم عادة قد عرفنها
…
إذا عرض الخطي فوق الكواثب (5)
علي عارفات للطعان عوابسٍ
…
بهن كلوم بين دامٍ وجالب (6)
فهم يتساقون المنية بينهم
…
بأيديهم بيض رقاق المضارب
(1) قوله: كخرعوبة البانة الخرعوبة: أي الناعمة.
(2)
ذو الغروب الخصر: هو ثغرها، والغروب: هي الأسنان البراقة، والخصر: هو البارد.
(3)
المستحر: هو الذي يصدح عند السحر.
(4)
المرانب: هي الثياب المصنوعة من فراء الأرانب.
(5)
الخطى: الرماح، والكاثبة: هي مقدم السرج، جمعها: كواثب.
(6)
العارفات للطعان: هي الخيل. والكلوم: الجروح. ودام: جرح فيه دم. وجالب: جرح ناشف قد برأ وصارت له قشرة.
يطير فضاضًا بينها كل قونسٍ
…
ويتبعها منهم فراش الحواجب (1)
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
…
بهن فلول من قراع الكتائب
تروثن من أزمان يوم حليمةٍ
…
إلى اليوم قد جربن كل التجارب (2)
تقد السلوقي المضاعف نسجه
…
وتوقد بالصفاح نار الحباحب (3)
وهكذا. وأسمى ما في هذا الشعر من تكرار الحروف ومزاوجة الكلمات وتوازنها: جناسًا خفيًا، لأن السامع والقارئ لا يكادان يفطُنان إليه، وإنما يهجُم عليهما الطرب هجومًا، خذ قوله:"يغرن مغارهم، والضاربات الدوارب" فهنا مزاوجة خفية لا تظهر أول الأمر. والذي له عهد طويل بصناعة الشعر، لا يكاد يفوته موضع الغينين في "مُغار، ويُغرن"، والشبه الوزني بين "الضاريات والدوارب" ولا سيما وأنت كثيرًا ما تقول:"الضواري، والداربات". وفي البيت التالي، راعى النابغة تكرار الخاء، حتى لا تصير خاء "خلف" منفردة جحيشة لا أخت لها، فجاء بها في قوله:"خزرًا عيونها"، وقوله:"جلوس الشيوخ". وراعي أيضًا التزام الثلاثي الساكن الوسط، على طريقة المجانسة الازدواجية في قوله:"خلف أقوم خزرًا". وعدل عن هذا إلى وزن "الفعول" عند قوله: "عيونها، جلوس الشيوخ". وفي البيت الذي يلي هذا عمد الشاعر إلى ألفاظ فجعلها أساس ترنمه، فتراها في قوله:"قد أيقن أن قبيله إذا ما التقى"، ولما ذكر الجيم في أول الكلام، في قوله:"جوانح" عز عليه أن يتركها من دون مزاوجة، فجاء بقوله:
(1) القونس: أعلى الخوذة. وفراش الحواجب: عظامها الدقيقة. وفضاضًا: متفرقًا منتشرًا.
(2)
يوم حليمة من أيام العرب المشهورة، قيل: إن الغبار حجب فيه الشمس حتى أظلمت الدنيا وبدت النجوم، وهذا من المتناقضات، إذ الذي يحجب الشمس يحجب النجوم أيضًا.
(3)
السلوقي: عنى به الدرع. والصفاح: الحجارة. والحباحب: نوع من الذباب يضيء بالليل. يعني أن السيوف تقد الفارس الدارع وتسقط الضربة حتى يصادم السيف حجارة الأرض ويقدح فيها نارًا كنار الحباحب؛ وهذا من المبالغة.
"الجمعان" في الشطر الثاني. هذا ولا تنس مكان النون المشددة من "أيقن، وأن"، ومن قوله:"لهن" في البيت الذي يلي، وهو قوله:
لهن عليهم عادةٌ قد عرفنها
…
إذا عرض الخطي فوق الكواثب
وأحسبك قد فطنت هنا لتكرار العين. وقد استمر فيها الشاعر إلى البيت التالي، ثم أتى بالطاء في قوله:"للطعان" ليذكرك طاء "الخطي"، وبالكاف في قوله:"كلوم" ليذكرك بكاف "الكواثب". وقد ترك المزاوجة في الوزن في قوله: "لهن عليهم الخ"، كأنه أراد أن يستريح منها شيئًا، ثم رجع إليها في البيت على "عارفان"، بمزاوجة غير كاملة في قولة:"عارفات، وعوابس، ودام، وجالب". وإلى الآن لم يكثر الشاعر من تكرار الفاء الذي مر عليك مفردًا في هذا البيت والأبيات المتقدمة، ولكنه أدخره ليأتيك به مكررًا، في قوله:
يطير فضاضًا بينها كل قونس
…
ويتبعها منهم فراش الحواجب
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
…
بهن فلول من قراع الكتائب
فالفاءات المتتابعة هنا، كأنما هي صدى لتلك الفاءات المفردات التي تقدمت. والبيتان الأخيران، مزج فيهما الشاعر بين مجموعة كان قد كررها من الأحرف، فيها الفاء والقاف والتاء والنون، وذلك قوله:
تورثن من أزمان يوم حليمةٍ
…
إلى يوم قد جربن كل التجارب
هذا، والذي لا يخالجني فيه أدنى ريبٍ، هو أن مثل هذا الجناس الخفي، على خفائه وانزوائه، لا يكون إلا بتعمد وتصيد من الشعراء، ولا يقع في كلامهم عن محض المصادفة والقدر والاتفاق الخالص، ولا يخدعنا عن هذه الحقيقة ما نجده من وقوع تكرار الحروف عن اتفاقٍ خالصٍ في النثر العلمي، فذلك شيء لا يعتد به. أما النثر الفني فمكان الصناعة والتعمد فيه لا يخفى. ومما يدفعني إلى القول بهذا، أن طبيعة
الشعر طبيعة جرسية، تقصد قصد الرنين والدندنة؛ والأصوات فيه تتداعي ويناغي بعضها بعضًا والشاعر لا يخلو حين ينظم من نوع من إرزام في الصدر مكنونٍ، أو بالغ مبلغ النئيج على أطراف الشفتين. وقد يتجاوز ذلك إلى شيء مثل البُغام وهدير القماري. وهو إذ يرصف كلماته في نسقٍ، متدفقًا في ذلك او متريثًا، لا يملك نفسه أن يضع كلمة من كلماته في موضع بارز في أول الشطر أو في أول العجر. ورنة تلك الكلمة حينئذ تكون بينة بارزة. خذ مثلًا الكلمة "فضاضًا" من قول النابغة السابق. فهي مثالٌ لما أزعمه من الكلمات البارزة تفاجئك بكينونة بينة عند أول الكلام، والشاعر حين تحصل له مثل هذه الكلمة، لا يملك نفسه من أن يلذع جرسها حسه، ويحفزه إلى أن يزاوج بينها وبين أخرى تشابهها وتباريها. فإما أن يجيء بذات وزنٍ مشابه لها، وإما أن يجيء بذات صوت مساوق مقارب. وهذا ما فعله النابغة عند قوله:"فراش الحواجب" فجاء بالوزن وبصوت الفاء. ولظهور الفاء نفسها من قوله "فضاضًا" وبروزها (وربما كان سبب هذا البروز هو تفرد الفاء مع ضادين وحركتين طويلتين"، احتاج النابغة إلى أن يقويها بفاءات مثلها في قوله: "فيهم، سيوفهم، فلول".
وتأمل قول عامر بن الطفيل:
وإني وإن كنت ابن سيد عامرٍ
…
وفارسها المشهور في كل موكب
فما سودتني عامر عن وراثةٍ
…
أبى الله أن اسمو بأم ولا أب
ولكنني أحمي حماها، وأتقي
…
أذاها، وأرمي من رماها بمنكب
تأمل هذا، تجد قوله:"ابن سيد عامر" قولا بارزًا، له جرس يطلب ما يضاهيه ويوازيه ويجاريه. وقد فطن عامر لذلك، فألحقه قوله:"وفارسها" وهو يناسب "ابن سيد عامر" من جهة المعنى ومن جهة الرنين، لمكان الراء والسين، ثم احتاج بعد إلى إقامة الوزن، فلم يجد أفضل من إقامته بكلمة تحمل طرفًا من رنة ما سبق من
كلامه، فجاء بقوله:"المشهور"، وفيها الهاء والراء والمد. وقد كان في وسعه أن يحيج عنها إلى "الصنديد" أو "المغوار"، ولكن قربها إلى ما سبق من جهة الصوت هو الذي طباها. ثم أكمل عامرٌ البيت بقوله:"في كل موكب"، فاتفقت له كافاتٌ، ما أحسبه كان قد قصد إليها. ولكن طبيعة القصد في نفسه الناظمة عندما توجع إلى تعزيز "ابن سيد عامر" بفارسها، "وبالمشهور"، أتت بالكافات في نوع من الاختيار "اللاواعي" هذا، ولو لم يكن عامر قد أراد إلى مضاهاة الحروف بعضها ببعض، ومجانستها، وملاءمتها، لكان له عن ذلك مندوحة، بإتباع أول كلامه:
وإني وإن كنت ابن سيد عامر
جواب الشرط، من غير قصد إلى الإطناب.
والبيت الثاني الذي وقع فيه جواب الشرط، يبدو لك أول وهلة كأنه خالٍ كل الخلو من مؤاخاة الكلمات ومجانستها. وهذا هو موضع الخفاء والإخفاء. وما هو إلا أن تتأمل حتى تجد أن الشاعر قد عدل عن اللام التعليلية، وعن "من" السببية في قوله:"عن وراثة" إلى "عن". وهل ترى أنه فعل ذلك، إلا لشدة دعاء العين الممدودة إلى جرس يؤاخيها؟ ونحو من هذا تجده في قوله:"سودتني، أسمو، أم". وغير خافٍ ما بين أبي وأب من تشابه.
أما البيت الثالث فالصناعة التقسيمية فيه أوضح من أن يدلل عليها. وجلي أن الشاعر لم يضطره إليها إلا حدوث القسمة بداءًا عند قوله: "ولكنني أحمي حماها".
فقوله: "أحمي" دعا قوله: "حماها". ثم هذا الجزء كله: "أحمي حماها" دعا نظائر أخريات، هن "أتقي أذاها" و"أرمي من رماها".
وأني لمما يطول عجبي من بعض النقاد القدماء الألى يزعمون بمعرض الحديث عن البديع، أن الجناس إنما كان شيئًا يقع اتفاقا وقدرًا للقدماء، لا يطلبونه، ولا
يحتفلون له. وإنما جعل يحتفل له المتأخرون وحدهم. وقال الآمديّ (1): "وقال -جلَّ وعزَّ- في التجنيس: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} [النمل: 44]، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} [الروم: 43] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عصية عصت الله ورسوله. وغفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله» . وقال القطامي:
ولما ردها في الشول شالت
…
بذيالٍ يكون لها لفاعا
وقال أيضًا:
كنية الحي من ذي الغيضة احتملوا
…
مستحقبين فؤادًا ماله فادى
وقال جرير:
وما زال معقولًا عقال عن الندى
…
وما زال محبوسًا عن الخير حابس
وقال ذو الرمة:
كأن البري والعاج عيجت متونه
…
على عشرٍ نهى (2) به السيل أبطح
وقال أمرؤ القيس:
لقد طمح الطماح من بعد أرضه
…
ليلبسني من دائه ما تلبسا
وقال الفرزدق:
خفاف أخف الله عنه سحابه
…
وأوسعه من كل سافٍ وحاصب
ذكر ذلك كله أبو العباس بن المعتز في كتاب "البديع"- ثم يستمر الآمديّ حتى يقول (3): "فتتبع مسلم بن الوليد هذه الأنواع واعتدها، ووشح بها شعره،
(1) الموازنة للآمدي، مصر (تحقيق محمد الدين) 1944: 11 - 12.
(2)
وقع "نهبي" في الموازنة، والصواب من الديوان: نهي به السيل، بنون وهاء مشددة وألف لين- انظر طبعة كمبردج 1919، ص 81.
(3)
الموازنة 13 - 14.
ووضعها في موضعها، ثم لم يسلم مع ذلك من الطعن، حتى قيل أنه أول من أفسد الشعر، روى ذلك أبو عبد الله محمد بن داود بن الجراح، قال: وحدثني محمد بن القاسم بن مهروية، قال: سمعت أبي يقول: أول من أفسد الشعر مسلم بن الوليد ثم اتبعه أبو تمام، واستحسن مذهبه، وأحب أن يجعل كل بيت من شعره غير خال من بعض هذه الأصناف، فسلك طريقا وعرا، واستكره الألفاظ والمعاني، ففسد شعره، وذهبت طلاوته، ونشف ماؤه. وقد حكى عبد الله بن المعتز في هذا الكتاب الذي لقبه البديع أن بشارا وأبا نواس ومن تقيلهم، لم يسبقوا إلى هذا الفن، ولكنه كثر في أشعارهم، فعرف في زمانهم. ثم إن الطائي تفرغ له، وأكثر منه، وأحسن في بعض ذلك، وأساء في بعض؛ وتلك عقبى الإفراط، وثمرة الإسراف، قال: وإنما كان الشاعر يقول من هذا الفن البيت والبيتين في القصيدة، وربما قرئ في شعر أحدهم قصائد، من غير أن يوجد فيها بيت واحد بديع. وكان يستحسن ذلك منهم إذا أتى قدرًا، ويزداد حظوة من الكلام المرسل. وقد كان بعضهم يشبه الطائي في البديع بصالح بن عند القدوس في الأمثال، ويقول: لو كان صالح نثر أمثاله في تضاعيف شعره، وجعل منها فصولا في أبياته، لسبق أهل زمانه، وغلب على ميدانه. قال ابن المعتز: وهذا أعدل كلامٍ سمعته". أهـ.
وكلام الآمدي هذا ومن على طريقته من النقاد الأوائل والمحدثين، يهمل أمرًا في غاية الأهمية، وهو حقيقة الفرق بين الجناس (وقل إن شئت سائر المحسنات البديعية) الذي يقع في كلام الأوائل من شعراء الجاهلية والإسلام، وأنواع الجناس التي تقع في كلام المتأخرين. وهذا الإغفال واضحٌ، من جهة نسبتهم الفرق كله إلى الكم لا الكيف، ونسبته أيضًا إلى وقوع الجناس عفوًا واتفاقًا عند القدماء، وعن تصيد وتعمد عند المحدثين، وإعراضهم كل الإعراض عن أن يتفهموا دوافع العفو والاتفاق وأسبابهما في شعر أولئك، ودوافع التصيد والتعمد وأسبابها عند هؤلاء. وقد ثبت لديك أيها القارئ الكريم مما استشهدنا به من كلام امرئ القيس والنابغة، أن
الأوائل كانوا يتعمدون المجانسة السجعية والازدواجية على حسب ما وضحناه. وازيدك أدلة أقوى، على ما سلف، قول أبي المثلم الهذلي (1):
لو كان للدهر مال كان متلده
…
لكان للدهر صخر مال قنيان
آبى الهضيمة متلاف الكريمة نا
…
بٍ بالعظيمة جلد غير ثنيان
حامي الحقيقة معتاق الوسيقة نسـ
…
ـال الوديقة لا سقط ولا وان
مناع مغلبةٍ ركاب سلهبة
…
رباء مرقبة سرحان فتيان
فمراعاة السجع في حشو الأبيات مع التقسيم العروضي، لا يمكن لزاعم أن يزعم عنهما أنهما داءً من غير تأت وتصيد.
هذا، وبحسبنا أن القدماء أنفسهم قد تنبهوا إلى وجود طبقة من بين شعرائهم، يتكلفون القول بشكل واضح، وقد سموا هؤلاء المجودين وأصحاب الحوليات وعبيد الشعر. لا بل إن القدماء قد تنبهوا إلى أن جميع ما لديهم من الأشعار ينتظمه لونان من التعبير: التكلف والتدفق، والتطبيع والتصنيع. وقد حاول ابن رشيق القيرواني أن يعتذر عن اللون الذي سماه الأوائل صناعة وتكلفا (عسى لأن هذه الكلمة الثانية قد كادت تفقد معناها الاصطلاحي القديم في عصره) بقوله:(العمدة 1: 108 - 109): "ومن الشعر: مطبوع، ومصنوع. فالمطبوع هو الأصل الذي وضع أولًا، وعليه المدار. والمصنوع وإن وقع عليه هذا الاسم، فليس متكلفا تكلف (2) أشعار المولدين، ولكن وقع فيه هذا النوع الذي سموه صنعة، من غير قصد أو تعمل، ولكن بطباع القوم عفوا، فاستحسنوه ومالوا إليه بعض الميل،
(1) قاله في رثاء أبي المثلم (انظر ديوان هذيل لتصحيح الرواية)، واستشهد له قدامة (نقد الشعر 29). والهضيمة: خطة الهون. والثنيان: الذي يتقدمه غيره. والوديقة: الحر والهاجرة. والسلهبة: الفرس. والمرقبة: المكان الذي يصعد عليه الربيئة.
(2)
لاحظ أن ابن رشيق يستعمل التكلف هنا بمعنى الصناعة فقط، لا بمعنى التعسف. وازن بين هذا والذي جاء عن التكلف والطبع في دائرة المعارف البريطانية (باب الشعر).
بعد أن عرفوا وجه اختياره على غيره، حتى صنع زهير الحوليات على وجه التقيح والتثقيف، يصنع القصيدة ثم يكرر نظره فيها، خوفًا من التعقب، بعد أن يكون قد فرغ من عملها في ساعة أو ليلة، وربما رصد أوقات نشاطه فتباطأ عمل لذلك والعرب لا تنظر في أعطاف شعرها بأن تجنس وتطابق أو تقابل، فتترك لفظة للفظة، ومعنى لمعنى، كما يفعل المحدثون. ولكن نظرها في فصاحة الكلام وجزالته، وبسط المعنى وإبرازه، وإتقان بنية الشعر، وإحكام عقد القوافي، وتلاحم الكلام بعضه ببعض، حتى عدوا من فضل صنعة الحطيئة حسن نسقه بعضه على بعض في قوله:
فلا وأبيك ما ظلمت قريع
…
بأن يبنوا المكارم حيث شاءوا
لا وأبيك ما ظلمت قريع
…
ولا برموا بذاك ولا أساءوا
بعثرة جارهم أن ينعشوها
…
فيغبر حوله نعم وشاء (1)
فيبني مجدها ويقيم فيها
…
ويمشي إن أريد به المشاء
ولإن الجار مثل الضيف يغدو
…
لوجهته وإن طال الثواء
وإني قد علقت بحبل قومٍ
…
أعانهم على الحسب الثراء
وكذلك قول أبي ذؤيب، يصف حمر الوحش والصائد:
فوردن والعيوق مقعد رابيء الضـ
…
ـضرباء خلف النجم لا يتتلع (2)
فكر عن في حجرات عذبٍ باردٍ
…
حصب البطاح تغيب فيه الأكرع
(1) أي فيصير وحلوله نعم وشاء: أي فيصير غنيًا. وقوله من بعد يمشي ثلاثي أي يكثر ولده إن أريد له ذلك وإذا جعلت الفعل "يمشي" رباعيًا أي يكون ذا ماشية ولكن هذا تكرار لما تقدم فمعنى كثرة النسل أشبه والله أعلم المشاء بفتح الميم.
(2)
أي وردت الحمر في حال أن العيوق كان خلف الثريا. لا يتتلع: أي لا يحاول الارتفاع، وذلك عند آخر الليل وأول الفجر. ووصف مكان العيوق هذا من الثريا، فشبهه بمقعد الرجل الذي يربأ: أي يراقب ضرباء الميسر (جمع ضريب)، واسم هذا الرجل: الربيئة. ثم كرعت الحمر في جوانب غدير بارد ذي حصباء، وغابت فيه أكرعها. ثم سمعن حس القانص.
فشر بن ثم سمعن حسًا دونه
…
شرف الحجاب وريب قرع يقرع
فنكرنه فنفرن فامترست به
…
هوجاء هادية وهادٍ جرشع (1)
فرمى فأنفذ من نحوصٍ عائط
…
سهمًا فخر وريشه متصمع (2)
فبدا له أقرب هاد (3) رائغًا
…
عنه فعيث في الكنانة يرجع
فرمي فألحق صاعديًا مطحرا
…
بالكشح فاشتملت عليه الأضلع
فأبدهن حتوفهن فهارب .... بذمائه أو بارك متجعجع (4)
فأنت ترى هذا النسق بالفاء كيف اطرد له، ولم ينحل عقده، ولا اختل بناؤه (5) ولولا ثقافة الشاعر ومراعاته إياه، لما تمكن له هذا التمكن. واستطرفوا ما جاء من الصنعة نحو البيت والبيتين في القصيدة بين القصائد. يستدل بذلك على جودة شعر الرجل وصدق حسه، وصفاء خاطره. فأما إذا كثر ذلك فهو عيب، يشهد بخلاف الطبع، وإيثار الكلفة (6)، وليس يتجه البتة أن يتأتى من الشاعر قصيدة كلها أو أكثرها متصنع من غير قصد، كالذي يأتي من أشعار حبيب والبحتري وغيرهما وقد كانا يطلبان الصنعة ويولعان بها
…
إلى آخ ما قاله". أهـ.
قلت: وكلام ابن رشيق هذا مقبول من حيث إن التكلف والصناعة في الشعر
(1) الهوجاء الهادية: هي الوحشية المتقدمة. والجرشع: القوي. والهادي: هو العنق: أي تقدمت الأوتان وتبعها عنق هذا الجمار الغليظ.
(2)
فرمى الصائد السهم، فأنفذه في الأتان. النحوص: أي القريبة العهد بالحمل، فخر السهم وريشه متلزج من الدم.
(3)
فبدت له جوانب الجمار راثغًا من السهم. والواية: "فبدت له أقراب هذا رائغا" بالغين المعجمة، فأدخل يده في الكنانة. وعيث: مضعف عاث.
(4)
فأبدهن حتوفهن: أي فبدد فيهن حنوفهن: أي فرق فيهن الموت.
(5)
الرواية في المفضليات ليست فاءاتها مطردة في هذا النسق، وقد أوردنا طرفا منها في الجزء الأول (المرشد 1: 306) وابن رشيق نقل كلامه من قدامة.
(6)
لاحظ أن ابن رشيق هنا يستعمل الكلمة بمعناها الاصطلاحي؛ مشربة شيئًا كم عنصر الزراية.
اتجاه ينهجه الشاعر، بعد أن توجد عنده الملكة والمقدرة، مردود من حيث إن ابن رشيق يجعل تكلف القدماء نوعا من الطبع، وتكلف المحدثين صناعة صرفا. وقد كان ابن قتيبة أحذق من، إذ اعترف أن التكلف في الشعر طريقه بإزاء الطبع، وأنه قد يقع للمتكلف ما يفسد شعره من الاستكراه، كما قد يقع له ما يرتفع به من قوة الدافع. وقد يقع للمطبوع ما يفسد شعره من موت الدافع والتدفق في لا معنى، كما قد يقع له ما يرتفع بشعره: من إصابة الغرض والسلاسة والانسياب. وسنفيض في الحديث عن التكلف والطبع والخيال المطلق والخيال النسبي، عندما نتعرض لمسألة الأسلوب إن شاء الله (1).
والذي يعنينا هاهنا، هو أن ننفي عن المحدثين أمثال مسلم وحبيب معرة ما وسمهم به الآمدي وقبيله كابن رشيق، من التكلف المزري، ونثبت للقدماء ما نفوه عنهم كل النفيـ من طلب الصناعة والتكلف، بمعنى التأني والتصيد والعمد.
وقد يقال: لإن هذا الذي سميناه جناسا ازدواجيا وسجعيا، ليس من مراد النقاد بهذا اللفظ في شيء. وإنما الجناس هو ما كان من نحو الأمثلة التي ضربها الآمدي وابن المعتز مثل {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} [النمل: 44]، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ} [الروم: 43]- وهذا لا مدفع إلى أنه غير كثير عند القدماء كثرته عند طبقة حبيب ومن تبعوه، كما أنه ليس بقليلٍ قلة ما يزعمونه، ويريدوننا إن نواطئهم عليه.
وهنا موضع مأخذنا على الآمدي ومن لف لفه. والذي نأخذه عليهم هو إغفالهم للكيف، واهتمامهم بالكم. وقد ذكرنا آنفا أن الجاهليين كانوا يتعمدون تزويج الألفاظ وتجنيس حروفها، وأن هذا أمر من طبيعة عمل الشاعر، وشيء تدعو إليه صناعة القريض دعاءً ملحا على أيه حال، لما تتطلبه من إقامة الوزن والموسيقا،
(1) راجع الشعر والشعراء 23 - 41. وقد نجنى الدكتور مندور على ابن قتيبة أيما تجن عندما تعرض لنقد مذهله في كتابه "النقد المنهجي عند العرب"، وليته تدبر كلام ابن قتيبة.
واليئام الحروف، وتناغي الكلمات. وإذ قد وضح هذا، فلا يعقل ألا يتفق للجاهلين نحو جناس {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} [النمل: 44] (1) في أثناء طلبهم للجناس السجعي، أعني مثلًا في أثناء تصيدهم للسينات وغيرها في نسقٍ ما. والمتصفح لدواوينهم يجد أمثلة كثيرة من هذا الضرب. خذ ما ذكره أبو هلال العسكري، في باب الجناس، على سبيل المثال (2):
قال الفرزدق:
قد سال في أسلاتنا أو عضه
…
عضب بضربته الملوك تقتل
وقال النابغة:
وأقطع الخرق بالخرقاء لاهيةً
وقال أوس بن حجر:
قد قلت للركب لولا أنهم عجلوا
…
عوجوا عليّض فحيوا الحي أو سيروا
وقال الأعشى:
رب حي أسقاهم آخر الدهر
…
وحي سقاهم بسجال
وقال ابن مقبل:
يمشين هيل النقا مالت جوانبه
…
ينهال حينا وينهاه الثرى حينا
وهكذا. وأمثال هذا كثير في كلام الجاهلية، فضلًا عن الإسلام الأموي، إذ حينئذ تجد أشياء كالمتعمدة لذاتها مثل قول ذي الرمة (3):
واسترجفت هامها الهيم الشغاميم
(1) هذا ليس من كلام الجاهلية، فهو من القرآن الكريم، وكلام الله عز وجل، ولكنا أردنا التمثيل فقط.
(2)
راجع الصناعتين من 325 - 332.
(3)
من قصيدته: أن توسمت من خرقاء منزلة.
وإنما قل الجناس المتشابه عند الجاهلين بالنسبة إلى شعراء المولدين، لأن أولئك كانوا لا يطلبونه هو، وإنما يطلبون الجناس السجعي، لإحداث الجرس بتكرار الحروف. وكان الجناس المتشابه يقع في تضاعيف هذا الجناس السجعي، كما في قول الأعشى:
وقد أروح إلى الحانوت يتبعني
…
شاوٍ مشل شلول شلشل شول
ولو كانوا يطلبون الجناس المتشابه نحو: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} [النمل: 44]، لكنا قد كثر في كلامهم كثرة الجناس السجعي، كما في الأمثلة التي ذكرناها، وكما في قول الأعشى.
يهب الجلة الجراجر كالبستان تحنو لدرق أطفال
وهنا تأتي مسألة "الكيف" التي زعمنا أن الآمدي وأصحابه قد أغفلوها وأهملوها. وتفيلها: أن الشعراء المحدثين طلبوا الجناس المتشابه دون السجعي الذي كان الجاهليون يكثرون منه، أو بتعبير أدق، إن الشعراء المحدثين تعمدوا طلب أصناف الجناس المتشابه على اختلاف درجاتها، مما يقع فيه توافق الكلمات في الأصول دون مجرد تكرار السواكن (Alliteration) والحركات (Assonance) وتجانسها، وقد ألهاهم طلبهم للجناس المتشابه، وتصيدهم له، وحرصهم عليه عن سائر الأنواع السجعبة، فصارت يقع في تضاعيف الجاهليين اتفاقا.
وهنا نجد اختلافًا كاملا بين "كيف" الجناس عند الجاهليين ولفهم، والمحدثين من طبقة أبي تمام ولفهم. وهذا الاختلاف الكامل ليس منشؤه الصناعة والتكلف بمعنى التصيد والعمد الزائد، فقد أثبتنا الصناعة والتكلف بهذا المعنى للجاهليين، بدليل ما استشهدنا به من كلام زهير وأمرئ القيس وغيرهما. ولكن منشأ الاختلاف فيما أوي هو نفس طبيعة التباين بين مجتمع القدماء الجاهليين ومجتمع المحدثين المولدين. فهذا
المجتمع الثاني قد كان عباسيًا متحضرًا متأنقًا، خرج من دهر البطولة الذي كان يعيشه القدماء، إلى دهر الإقامة، الدائر كيانه على الأمراء والوزراء والتجار والصناع والأدباء والحلية والثراء والمباهج المدينة الكسروية القيصرية. وقد كان الإسلام بتعاليمه وعقائده هو المسيطر على هذا المجتمع الجديد. أو قل: قد كان هذا المجتمع الجديد صفرًا من القيم المشركية القديمة، وكان الإسلام، هو الذي فتح لهذا المجتمع الجديد أسباب الحضارة، وأعطاه الاعتداد والزهو والشعور بالفضل والزيادة على سائر مجتمعات الدنيا وحباه الملك الواسع بما ينضوي تحته من ترف ونعيم، وبؤس وجحيم.
وقد كان الإسلام دينًا يرفض الأنصاب والتصاوير وما يجري مجراها من آثار المشركين وكانت طبيعة المجتمع الحضري الجديد تدعو أشد دعاء إلى التصاوير التماثيل والفنون الجميلة المنظورة، وقد كان في هذه الفنون الجميلة المنظورة، لو قد سمح بها الدين، مجالٌ واسع للتعبير الحضري، وتنفيس عن ذوق المجتمع المولد الجديد. ولكن الدين لم يفعل ذلك. فكان لا بد لهذا المجتمع من أن يجد فنا آخر يعوض به فقدان الرسم والفنون المماثلة له، والمتفرعة عنه، وقد بدأت بوادر هذا النوع من التعويض في أواسط العهد الأموي، عندما اهتم الخلفاء بالعمارة، وجعل فن الزخرفة يجد سبيلة إلى تزيين المساجد. وقد سرى هذا الفن إلى العصر العباسي، ونما وازداد حتى وصل إلى الأواني والنسيج، وجعل يبرز في الخطوط. وما إن جاء القرن الثالث حتى صارت البلاد الإسلامية تمتاز بفن خاص هو فن الزخرف الهندسي، الذي قد صار من أكبر (بل لعله أكبر) وسائلها للتعبير عن جمال الدنيا ومعانيها الفنية.
ولا أشك أن الخط العربي كان سيختلف أي اختلاف عما هو عليه الآن من تقاطع وتوازن وقابلية عظيمة لعمل الزخارف الهندسية، لو قد كانت عقلية المدينة التي نشأ فيها عقلية لا زخرفية. لا ريب أن زخرفة الخط قد طلبتها العقلية الإسلامية
طلبًا تلقائيًا، وأقبلت عليها، مدفوعة بدافع الرغبة في التعويض عما حرمه الدين عليها من الفنون المنظورة، لتزين بها مساجدها وأوانيها ومنسوجاتها.
وكما أن الزخرفة التي ارتبطت أولا بهندسة البناء ثم بالفسيفساء والرخام المصنف، انتقلت إلى الخطوط، فكذلك قد سرت موجة الزخرفة التي كانت تصطخب بها الأفئدة العباسية، إلى صناعتي الإنشاء والنظم. ألا ترى أن زخرفة الخط تدعو بطبيعتها إلى لفظ مزخرف؟ خذ مثلًا قول الحريري:
زينب زينت بقد يقد
…
وتلاوة ويره نهد يهد
ألا ترى أن مثل هذا مما يحرص الخطاط على اصطياده، ثم ألا ترى أن النزعة الجمالية التي تطرب لرؤية التقطيعات الهندسية في زركشة البناء، وتوشية الخط، وأشكال النسيج، يعجبها أيضًا أن تلقي لفظًا متوازيًا متقاطعًا في جرسه ورسمه ووزنه؟
وما احسب أبا تمام (وغن شئت فمسلم) إلا قد كان هو وأضرابه من الرواد الأولين إلى إظهار هذه النزعة الزخرفية الهندسية الكامنة في نفوس مجتمعهم، عن طريق العبارات المنظومة. ويدلك -سوى ما ذكرنا- على أن هذه النزعة الزخرفية كانت كامنة في النفوس، إقبال الشعراء، حتى البحتري الذي هو آية من آيات الطبع والسلاسة، على الزركشة اللفظية، وحتى ابن الرومي الذي كان يتعمد تتبع المعاني، وحتى المتنبي الذي كان يطلب الوضوح. ولعله مما يزيد كلامنا هذا بيانًا ما رواه ابن رشيق في العمدة (1)، من أن ابن الرومي ذكر في الاعتذار عن قول أبي تمام:
وحوافرٍ حفرٍ وصلب صلب
أن أبا تمام "كان يطلب المعنى ولا يبالي باللفظ، حتى لو تم له المعنى بلفظة نبطية لأتى
(1) العمدة 1: 111.
بها"، وفسر ابن رشيق قول ابن الرومي بتعليق ذكر فيه "أن المعنى الذي أراده وأشار إليه من جهة الطائي، إنما هو معنى الصنعة، كالتطبيق والتجنيس وما أشبههما" وأقول: إن ابن رشيق قد أصاب سويداء الحقيقة. ولا أظن بعد أن القارئ يخفي عليه موضع استشهادنا بهذا الخبر، فهو يدل على أن الشعراء أمثال ابن الرومي (وهو أعليائهم) كانوا يعدون الصناعة من حيز المعاني، فانظر كيف تمكن الزخرف من قلوب أولئك القوم؟
هذا، ولتمكن الزخرفة من النفوس، لم تكن الحملة التي شنها النقاد على أبي تمام إلا هواء، فقد صار مذهبه هو المذهب، وآضت طريقته هي الطريقة المتبعة، وعلى قريه سلك شعراء القرن الرابع ومن خلفوهم. ومن عجب أن النقاد أنفسهم حين نعوا الإفراط على أبي تمام، لم يؤاخذوا عليه البحتري، مع أنه لا يقل عن صاحبه إفراطًا. اللهم إلا ابن رشيق، فإنه قد تنبه لهذه الحقيقة، واعتذر له عن حبيب بأنه أسلس وأطبع. قال (1):"وقد كانا يطلبان الصنعة" يعني حبيبًا والبحتري، "ويولعان بها. فأما حبيب فيذهب إلى حزونة اللفظ، وما يملأ الأسماع منه، مع التصنيع المحكم طوعًا وكرهًا، يأتي للأشياء من بعد، يسلك منه دماثة وسهولة، مع إحكام الصنعة وقرب المأخذ، ور يظهر معه كلفة ولا مشقة". فهذا كلام منصف، إذ قد أثبت نزعة الزخرفة للرجلين، وفرق بينهما بأن أحدهما يذهب مذهب التجويد، والآخر يذهب مذهب الانسياب. ويقع التفضيل بينها بعد ذلك على حسب مزاج الناقد وهواه في هذين الاتجاهين اللذين لا يخلو الشعر منهما.
وإذ قد وضحت لنا هذه الحقيقة الهامة من أن الطائيين ومسلمًا وشعراء المحدثين إنما كان يدفعهم إلى الجناس دافع نفساني جمالي، أملته طبيعة مجتمعهم، وجب
(1) العمدة 1: 109.
الناقد أن يفرق كل التفرقة بين طبيعة أنواع الجناس التي وقعت في أشعار الجاهلية والصدر الأول، وطبيعة الجناس التي وقعت في أشعار المتأخرين من شعراء الإسلام. ولعله يمكن إجمال الفوارق جميعها في قولنا: إن القدماء كانوا يطلبون المجانسة من أجل الجرس الشعري وحده، ولذلك كانوا أحرص على مزاوجة الكلمات وتكرار الحروف والحركات، أما المحدثون فكانوا يطلبون المجانسة من أجل الزخرف الهندسي الذي كان رمزًا للجمال المحض عندهم، وكان هذا الزخرف الهندسي يقع على جرس الكلمة ومنظرها وموقعها في الرصف النظمي. ولعلنا إن تبينا حقيقة هذا الفرق، أن نتبين أيضًا أسباب ندرة الجناسات المتشابهة بحسب الأصول، والجناسات الموهمة والتامة عند القدماء. فهم قد كانوا لا يطلبونها، لحرصهم على غيرها. وإنما كانت تقع عندهم اتفاقًا كما ذكرنا آنفًا، وكما في قول الشنفري:
فبتنا كأن البيت حجر فوقنا
…
بريحانةٍ ريحت عشاءً وطلت
أو تعمدًا باستعمال الأعلام في معرض الذم أو المدح، كقول جرير:
ولا زال محبوسًا عن المجد حابس
وإنما نزعم أن مثل هذا متعمد لا اتفاقي، لأن الجرس الشعري ليس هو المطلوب طلبًا شديدًا هاهنا. وإنما عمد الشاعر إلى التظرف والتلاعب باسم المهجو نكاية به، وطنزًا عليه.
هذا، ولعل حرص المحدثين على الزخرفة والتوازن، أن يشرح لنا ما كادوا يجمعون عليه من تجنب الزحاف في الوزن على خلاف عادة الجاهليين. فالزحاف المحكم يزيد الجرس إحكامًا، ويكسبه زيادة في الدندنة، بما يضيف إليه من عنصر التنويع. ولكنه يقدح في هندسة البيت، ويخل من توازنه- والذي ركبت في نفسه نزعة المعادلة والتوازن ينفر منه ويأباه. وهكذا فعل المحدثون فيما المحدثون عدا أمثلة نادرة سنعرض لها إن شاء الله.