الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنواع الطباق
إذا نظرنا إلى الطباق من حيث طبيعته وذاته، فهو نوعان: نوع يكون بين الألفاظ المفردة، ونوع يكون بين مدلول التراكيب. فالذي يقع في الألفاظ المفردة فهو نحو التقابل (من حيث الضدية) بين الليل والنهار والباطن والظاهر، والظهر والبطن، ومن ذلك قول ابن المعتز:"هواي هوى باطن ظاهر"، وقول امرئ القيس:"زل عن بطن صخرة إلى ظهر أخرى" والتقابل هنا بين البطن والظهر والصخرة والأخرى، كأنه قال: إلى صخرة غيرها، وأنت تذكر قولنا في الطباق إنه على نية النفي الظاهر أو المضمر. والطباق بين المفردات يكون ملفوظًا مضمر النفي، كما في سائر الأضداد نحو البطن والظهر، وملفوظًا ظاهر النفي، وهذا يدخل في التكرار نحو "يعلم" و"لا يعلم"، وقد سبق الحديث عن هذا! ويكون ملحوظًا داخلا تحت عنصري الإضمار والإظهار، ومثال الإضمار قوله:
فإن تقتلونا في الحديد فإننا
…
قتلنا أخاكم مطلقًا لم يكبل
فقوله "مطلقًا" مضاد لقوله "في الحديد" الملحوظ منه معنى المقيد، والمقيد ضد المطلق. ومثال الإظهار:
فإن يك أنفي زال عنه جماله
…
فما حسبي في الصالحين بأجدعا
وهذا تكرار خفي بحسب ما قدمنا.
وطباق المفردات المحض شيء نادر لا يقع إلا في الكلام الإخباري المحض نحو: "هذا حلو حامض" أو "زل عن بطن صخرة إلى ظهر أخرى". وأنا في شك إن كان هذا الثاني غير داخل فيه تقابل التراكيب.
والنوع الثاني: هو الطباق الذي يقع بين مدلول التراكيب. ولا بد أن ينضوي تحت هذا طباق المفردات، ويكون واقعًا منه موقع التفصيل من الجملة. ومثال هذا
الطباق المركب قول كثير:
أمؤثرة الرجال علي ليلى
…
ولم أوثر على ليلى النساء
فقوله: "أمؤثرة الرجال""ولم أوثر" فيه طباق النقض والتكرار، وقوله "الرجال والنساء" فيه طباق الضدية. وهو وليلى -إن شئت- ضدان. وكل هذه الطباقات تفصيلية، واقعة في حيز الطباق المركب بين إيثاره ليلى على النساء، وإيثار ليلى للرجال عليه.
ومثال آخر قول حبيب:
فطول مقام المرء في الحي مخلق
…
لديباجتيه فاغترب تتجدد
فطول المقام مضاد للاغتراب، ومخلق مضادة للتجدد. وهذه الطباقات التفصيلية واقعة في حيز الطباق الإجمالي المركب، وهو كون الإقامة مخلقة والاغتراب مجددًا.
ومثال آخر قول الغنوي:
لقد كان أما حلمه فمروح
…
علينا وأما جهله فعزيب
فالحلم ضد الجهل. والمروح ضد العزيب، وهذه طباقات تفصيلية واقعة في حيز الطباق المركب، وهو كونه قريب الحلم منهم بعيد الجهل عنهم.
ولك إن شئت أن تقول: إن الطباق المركب هو ما أراده النقاد ائقدماء من لفظ المقابلة، أليس ابن رشيق يزعم أن أكثر ما تقع المقابلة في الطباق؟ وأنه ما جاوز الطباق ضدين إلا كان مقابلة؟ على أن رأي الأوائل في المقابلة يشينه اشتراطهم جواز الموافقة فيها، وهذا أمر أحق به التقسيم والموازنة. وقد فطن ابن رشيق لهذا حين
زعم "أن المقابلة بين الطباق والتقسيم"(1)، ويشينه أيضًا اشتراط أكثر من ضدين في الطباق فعلى رأيهم لا يكون قول زهير:
ليث بعثر يصطاد الرجال إذا
…
ما كذب الليث عن أقرانه صدقا
من الطباق. لأنه لا يشمل على أكثر من ضدين هما "كذب" و"صدق". وعندي أن هذا البيت من خالص الطباق المركب، تفصيله الطباق الجزئي في الصدق والكذب، وإجماله الطباق الكلي الذي تراه في المقابلة، بين إحجام الليث عن الأقران، وإقدام الممدوح عليهم. ولهذا استشهد به الأصمعي حين ذكر الطباق. ألا ترى أنوضع الشاعر إقدام الممدوح، مكان إحجام الليث، يشبه كلام الأصمعي، حيث قال: إن المطابقة، أصلها من وضع الأيدي مكان الأرجل في مشي ذوات الأربع؟
هذا، وأحسب أننا بقولنا إن الطباق بين المفردات يكون تفصيلا لطباق أكبر يقع بين التراكيب، (لك أن تسمية بالمقابلة) قد ذهبنا مرة واحدة، إن شاء الله، بالخلط الكثير، والالتباس الذي كان يقع فيه النقاد عند الحديث عن المقابلة والطباق. اللهم إلا ما كان من نحو:"هذا حلو حامض"، وقول امرئ القيس:
"زل عن ظهر صخرة إلى بطن أخرى"(2) والأول في النفس منه شيء، لأنه يوشك أن يكون طباقًا محضًا بين المفردات، لا ينضوي تحت طباق أكبر منه. أما الثاني فأرجح الآن أن فيه عنصر المقابلة، بين نزول الماء منحدرًا من ظهره صخرة، واستقراره في بطن أخرى- ومثل هذا يقع في أكث الطباقات المزدوجة التي ينظر فيها الشاعر إلى كلمة سابقة فيعمد إلى أخرى تناظرها في الوزن وفي الموضع من الكلام، فيجعلها بإزائها.
(1) العمدة 2: 14.
(2)
راجع أول هذا الفصل والصناعتين: 313.
هذا، وإذا نظرنا إلى الطباق من جهة الداء، وجدناه أنواعًا ثلاثة، يسلك بها الشاعر إحدى طريقتين، إما الإخبار، ونعني بالخطابة: "المسلك الإنشائي المندفع، وبالأخبار المسلك التقريري المتأني.
أما النوع الأول، فهو طباق الازدواج. وهذا أكثر أنواع الطباق شيوعًا. وقد تجده متخللا في الأنواع الأخرى. والازدواج يكون إما بمراعاة وزن الكلمة العروضي أو الصرفي، وإما بمراعاة موضعها من الكلام، وإما بمراعاتها معًا. فمثال الأخير قول حبيب:
وأحسن من نور تفتحه الصبا
…
بياض العطايا في سواد المطالب
فقد جعل البياض بإزاء السواد، والعطايا إزاء المطالب وهي متضادة في المعنى، متساوية في الوزن العروضي والصرفي، متقابلة من حيث موضعها من الكلام. فالبياض مضافة إلى العطايا، والسواد مضاف إلى المطالب، وقل شبيهًا بذلك في العطايا والمطالب.
ومثال النوع الثاني، وهو التقابل في الموضع من الكلام من دون الموازنة العروضية أو الصرفية، قول حبيب أيضًا:
جاد الفراق بمن أضن بنأيه
…
لمسالك الإتهام والإنجاد
والشاهد في "جاد، وأضن" فهما متقابلتان من حيث موضع التركيب، ولكنهما غير متوازنتين. أما الإتهام والإنجاد، فهما التقى فيه الموضع التركيبي والوزن الصرفي.
ومثال النوع الأول، قول أبي الطيب:
متى لحظت بياض الشيب عيني
…
فقد وجدته منها في السواد
فالسواد والبياض متوازنان من حيث العروض، وإن كان هذا التوازن غير تام، لمكان الألف واللام في السواد ويجيء التوازن في اللفظ والموضع أكثر ورودًا في الشعر من مجيئه في اللفظ وحده، ومجيئه في الموضع دون اللفظ أقل من الأول وأكثر من الثاني.
ولعل القارئ يرجع إلى ما قدمناه من الحديث عن الجناس الازدواجي، وقد قلنا هناك إنه تجانس الكلمات من حيث الوزن دون الحروف، مثل مصابيح ودنانير، ومجهود ونبراس- والوزن قد يكون صرفيًا كما في الأول، وعروضيًا كما في الثاني. فغن فعل ذلك، رأى قرب الصلة بين هذا الذي نسميه طباقًا ازدواجيًا متوازنًا في اللفظ، وذلك الذي سميناه جناسًا ازدواجيًا. والحق أن أمثال، سواد وبياض وإتهام وإنجاد، وطريف وتليد، مما يلتقي فيه الطباق والجناس. هذا الالتقاء كثيرٌ، لأن هذه الأصناف كثيرة في الكلام، ويعول الشعراء عليه في تقوية الجرس وإيجاد انسجام بين اللفظ والمعنى، أيما تعويل. وسنفصل الحديث عنه في باب الموازنة إن شاء الله.
هذا، والنوع الثاني من أنواع الأداء الطباقي، ما يقصد فيه الشاعر إلى تأكيد معنى، بأن يجمع بين أطرافه المتناقضة، مثل قول المتنبي:
ولكن ربهم أسرى إليهم
…
فما نفع الوقوف ولا الذهاب
ولا ليل أجن ولا نهار
…
ولا خيل حملن ولا ركاب
فالوقوف والذهاب، والليل والنهار، والخيل والركاب، جميعها أضداد. وقد جمعها الشاعر تحت حكم واحد، هو عدم النفع، ليؤكد ويظهر قوته.
وهذا النوع من الطباق، يلجأ ليه شعراء لدفع الشك والتأكيد المطلق.
ومثله قول جرير:
ويقضى الأمر حين تغيبب تيم
…
ولا يستأذنون وهم شهود
فحكم عليهم بالضعف في جميع حالاتهم.
والشعراء الخطابي النزعة يكثرون من هذا النوع، والمتنبي من أكثر الشعراء تعاطيًا له، وهو بمذهبه أشبه ولا سيما في بحر الوافر، (وقد ذكرنا شدة طلب هذا البحر لرد المور بعضها على بعض، والإكثار من المطابقة الخطابية). ومن أمثلة شعر المتنبي فيه قوله:
أقمت بأرض مصرف لا ورائي
…
تخب بي الركاب ولا أمامي
وملني الفراش وكان جنبي
…
يمل لقاءه في كل عام
ومما يدخل في هذا النوع من الطباق، أن يعمد الشاعر على معنى يريد أن يطلق عليه حكما عاما. فيحكم عليه بنقيضه أو ضده، إغرابًا منه ومبالغة في تأكيد الحكم العام. مثال ذلك قول أبي الطيب:
ومن يك ذا فم مر مريض
…
يجد مرًا به الماء الزلالا
فالمراد هنا أن يقول: "يجد كل شيء مرًا" فحكم بالمرارة على الماء الزلال، وهو نقيضها، ليؤكد المعنى.
ومثل هذا قول جرير:
لئيم العالمين يسود تيما
…
وسيدهم وإن كرهوا مسود
ومثله قوله أبي الطيب:
فلا تنلك الليالي إن أيديها
…
إذا رمين كسرن النبع بالغرب
ولا يعن عدوا أنت قاهره
…
فإنهن يصدن الصقر بالخرب
وقصده أن يدل على قوة الليالي وجبروتها، فاختار النقائض ليدلل بها على ذلك، وليدفع كل شك في الحكم الذي أصدره. ولعمري إن ما يسكر النبع بالغرب
ويصيد الصقر بالخرب، لا يعجزه شيء، وجدير أن يخاف العاقل من مكره.
والنوع الثالث من أنواع الأداء الطباقي، هو القياس، وذلك أن يعمد الشاعر إلى قضيتين متقابلتين، فيجمعهما معًا، بحيث يستنتج السامع منهما حكمًا. وقد تكون إحداهما هي النتيجة، والقضية الأولى أو الواسطة محذوفة. وقد تكون بينهما قضايا كثيرة محذوفة. ومثال ذلك قول حبيب:
إذا حدث القبائل ساجلوهم
…
فإنهم بنو الدهر التلاد
فهنا قضيتان تؤديان إلى نتيجة هي أن أعداء الممدوحين لن ينتصروا عليهم. وبين هاتين القضيتين قضايا يمكن استخراجها في يسر. والنتيجة محذوفة، لكن لفظ القضيتين واضح الدلالة عليها.
ومثال آخر من شعره:
فطول مقام المرء في الحي مخلق
…
لديباجتيه فاغترب تتجدد
وهنا، عندنا القضية الأولى، والنتيجة، والقضية الواسطة أشار إليها بلفظة "فاغتراب".
ومثال ثالث قوله:
ولكنني لم أحو وفرًا مجمعًا
…
ففزت به إلا بشمل مبدد
ولم تعطني الأيام نوما مسكنا
…
ألذ به إلا بنوم مشرد
والبيت الأول كأنه يريد أن يقول فيه: لا خير في مال يفرق بينك وبين أحبائك، أو يفرق شملك. وقد حذف هنا قضية واسطة مع النتيجة.
والبيت الثاني حذف فيه النتيجة، لدلالة قوله:"ألذ به" عليها. ويمكنك أن تقول إن قوله: "ففزت به" في البيت الأول يدل على النتيجة، وهي "لا فوز مع