الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم خلص الشاعر إلى أربه آخر الأمر وهو جد وتحريض على الحفاظ وطرح الجوار وإذكاء الحرب إذ لم يستطع إلى سعة السلم الكريمة سبيل:
وخبرت قومي ولم ألقهم
…
أجدوا على ذي شويس حلولا (1)
فإما هلكت ولم آتهم
…
فأبلغ أماثل سهم رسولا
بأن قومكن خيروا خصلتين
…
كلتاهما جعلوها عدولا
خزي الحياة وحرب الصديق
…
وكلا أراه طعامًا وبيلا
فإن لم يكن غير إحداهما
…
فسيروا إلى الموت سيرًا جميلًا
والكلمة من القصائد الحسان وبشامة خال زهير ومنه تعلم زهير تحبير الشعر وتجويده ولنا إليها عودة إن شاء الله.
وحسبنا هذا القدر من الاستشهاد. وما نزعم أنا طوينا الحقب فعاصرنا القدماء حتى صرنا نصدر مثل حدسهم لما يقرع أسماعهم من المطالع وما إليها، ولكنا نزعم أن نأمل المطالع بغرض الخلوص إلى حقيقة دلالاتها من طريق التفهم الواضح المسلك أجدر أن يكون أهدى وأصوب آخر الأمر من تقديم فروض كالحسية والسطحية وعدم الوحدة وهلم جرا، ذلك بأن طريق الفهم الواضح والاستقراء والحدس السليم أحق بالهداية والصواب من طريق الدعاوي المنبعثة من باطنيات الوساوس والأوهام.
مطالع المحدثين:
قال ابن رشيق في العمدة «الشعر قفل أوله مفتاحه» وهذا في معنى ما سبق من ذكرنا من قوله إن الشاعر إذا انفتح له نسيب القصيدة فقد ولج من الباب ووضع رجله في الركاب. والكلام الذي رواه ابن رشيق عن الحاتمي وزعمنا أن أصله
(1)() في شرح المفضليات شويس بشين معجمة مضمومة وواو مفتوحة وياء ساكنة وسين مهملة.
أرسطوطاليسي كان ينبغي له فيه أن ينسب الإحسان فيه إلى القدماء قبل نسبة ذلك إلى الحذاق من المحدثين لأن صلة ما بين مطالع قصائدهم وسائر مادتها أوضح، كما قد سبق التمثيل به.
وما يبدو من هجوم أبي تمام على الموضوع كقوله:
السيف أصدق أنباء من الكتب
…
في حده الحد بين الجد واللعب
وقوله:
الحق أبلج والسيوف عوارى
…
فحذار من أسد العرين حذار
وقوله:
آلت أمور الشرك شر مئال
…
وأقر بعد تخمط وصيال
لو تأملته إن هو إلا فواتح مقدمات جعلت مكان النسيب لتلائم ما هو مقبل عليه من القول. وقد سلك أبو الطيب مسلكًا قريبًا من مذهب أبي تمام في التقديم بما يجعله مكان النسيب ويبدو كأنه هجوم على الموضوع مثل قوله:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
…
وتأتي على قدر الكرام المكارم
وقوله:
عقبى اليمين على عقبى الوغى ندم
…
ماذا يزيدك في إقدامك القسم
وقوله:
أعلى الممالك ما يبنى على الأسل والطعن عند محبيهن كالقبل
وهذا البيت كأن فيه تقوية للمعنى الذي ذهبنا إليه لما فيه من الإشارة إلى الغزل.
وحديث أبي تمام عن الرواية وعن النجوم وما فرعه في أول البائية وعن جوار الخليفة الأفشين وأنه رأى به:
ما لم يكن يومًا رأى
…
عمرو بن شأسٍ قبله بعرار
كل هذا كالوقوف على الطلل والأثافي والأواري وما أشبه من معالم الدار، على أنه في باب الهجوم والمكافحة للغرض وكأن مطالع أبي تمام أروع وأقرع للسمع من مطالع أبي الطيب والبحتري وسائر المحدثين، وكأن «أحمد شوقي» رحمه الله أراد أن يكون مثله في بعض مطالعه الطنانة مثل قوله:
الله أكبر كم في الفتح من عجب
…
يا خالد الترك جدد خالد العرب
وكقوله:
قم سليمان بساط الريح قاما
…
ملك القوم من الجو الزماما
وكقوله:
يا أخت أندلس عليك سلام
…
هوت الخلافة عنك والإسلام
فالنفس ههنا حبيبي. بل قوله:
بسيفك يعلو الحق والحق أغلب.
على ما فيه من مجاراة أبي الطيب ومحاكاة لفظه ومعانيه، تجد فيه نفثًا من النفس الحبيبي في كلمة «الحق» هذه التي كأنما نظر فيها إلى قول حبيب «الحق أبلج والسيوف عوارى» وليس على شوقي في جميع هذا كبير مأخذ، إذ من حق النموذج الجيد أن يحاكى، وإن كان التقصير عن بلوغ مستواه مما يكون كأنه ضربة لازب.
هذا وكما كان القدماء يعتمدون في مطالع النسيب أن تكون ذوات دلالة على
ما بعدها مفاتح لأقفالها كانوا أيضًا يعتمدون بها أن تروع وتقرع الأسماع يشهد بذلك ما اختاروه منها كقول امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
وقوله:
ألا عم صباحًا أيها الطلل البالي
وقول النابغة:
كتمتك ليلًا بالجمومين ساهرا
…
وهمين همًّا مستكنًّا وظاهرا
وقوله:
كليني لهم يا أميمة ناصب
…
وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب
وكان أبو تمام عالمًا بهذا من مذ 1 هبهم الذي يقرعون به الأسماع ويهيئون بذلك سبيل النفوذ إلى الأفئدة، وكان انتهاج مسلكه من مقومات بديعه، مثلًا قوله:
على مثلها من أربع وملاعب
…
أذيلت مصونات الدموع السواكب
وقوله:
غدت تستجير الدمع خوف نوى غد
…
وبات قتادًا عندها كل مرقد
وقوله:
دمن ألم بها فقال سلام
…
كم حل عقده صبره الإلمام
فهذه المطالع على أنها نسيبية قرعها للأسماع لا يخفى، وقد جنى عليه قوله «على مثلها من أربع وملاعب». أن أعترض عليه أحد حساده إذ اعترته تمتمة كانت مما نعتريه فقال:«لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» فأدخل عليه بذلك دهشة عظيمة. وزعم ابن المعتز أن أبا تمام كان رديء الإنشاد -فعله أراد هذا من تمتمته،
على أن صاحب التمتمة ربما تغنى فأجاد، فهل كان أبو تمام يتغنى شعره، فإذا أنشده يتكلم به كلامًا دون الغناء تمتم؟ قال الآخر يهجوه:
يا نبي الله في الشعر ويا عيسى ابن مريم
أنت من أشعر خلق الله ما لم تتكلم
على أن أبا تمام كان يعلم أن جودة شعره تعلو على كل إنشاد. وذكروا أنه كان له غلام ينشد عنه أحيانًا. وخبره الذي ذكره ابن المعتز عن ثقته من جودة شعره لا يخلو من روح فكاهة. قال في كتاب البديع: «ودخل أبو سعيد المخزومي على إسحاق بن إبراهيم المصعبي فأنشده قصيدة وكان حسن الإنشاد، ثم دخل بعده الطائي فأنشده وكان رديء الإنشاد فقال المصعبي للطائي لو رأيت المخزومي وقد أنشدنا آنفًا فقال أيها الأمير نشيد المخزومي يطرق بين يدي نشيدي
…
» أ. هـ. يطرق بتشديد الراء من تطريق الحبلى للولادة، فالمولود هو شعر الطائي، وشعر المخزومي تطريق.
وعسى أن يستفاد من قول القائل:
أنت من أشعر خلق الله ما لم تتكلم
إن أبا تمام كان إذا تغنى شعره أحسن فإذا تكلم به اضطرب، والترنم بالشعر والمجيء به كالكلام، كلاهما وجهان في الإنشاد، كما يستفاد من الباب الذي جعله سيبويه لذلك في الجزء الثاني من الكتاب، إلا أن التغني هو الأصل. وقد كان أبو تمام محبًا للغناء تشهد بذلك أخباره كما يشهد به قوله في المغنية الفارسية:
ولم أفهم معانيها ولكن
…
ورت كبدي فلم أجهل شجاها
فما خلت الخدود كسبن وجدا
…
لقلبي مثلما كسبت يداها
يعني ضربها بالعود، وهذا من قول أبي تمام ينبه على دقة حسه بالموسيقا حتى
جعل لها تأثيرًا يوازنه بالجمال الجنسي، هذا ومن مطالع أبي تمام الرائعة قوله:
هن عوادي يوسفٍ وصواحبه
…
فعزما فقدما أدرك النجح طالبه
ويبدو عجز البيت كأنه غير مرتبط بصدره لأول وهلة، ولكن عند التأمل تظهر قوة صلته ظهورًا بينًا، وذلك أن عادة الشعراء القدماء أن يجدولا في اللحاق بالحبيب الذي بان أو يذكروا شيئًا من هذا المعنى. قال علقمة:
هل تلحقني بأخرى الحي إذ شحطوا
…
جلذيةٌ كأتان الضحل علكوم
وقال يتسلى بالرحلة عن الحبيب الذي فارقه أو لا سبيل إليه:
فدعها وسل الهم عنك بجسرةٍ
…
كهمك فيها بالرداف خبيب
وقال كعب بن زهير:
أمست سعاد بأرضها لا يبلغها
…
إلا العتاق النجيبات المراسيل
فقول أبي تمام متضمن لهذا الذي ذكرناه من عادة الشعراء. ولذلك صح له أن يرد على المستنكر الذي قال له: «لم لا تقول ما يفهم» بقوله «ولم لا تفهم ما يقال» أي لم لا تتأمل فتدرك مرادي من الإشارة إلى مسلك الشعراء في المصير إلى الجد بعد ذكر الهوى والبين ومزج ذلك بالإشارة إلى الحديث الشريف في قوله: «عوادي يوسف وصواحبه» .
هذا، وما أحسب أبا الطيب قد خلا من نظر خفي إلى أبي تمام في مطلعه هذا ومن نوع مجاراة ومحاكاة له فيه حيث قال:
وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه
…
بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه
والبحر واحد ومذهب الإيقاع متقارب.