الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم يقول متمم:
ءآثرت هدمًا باليًّا وسوية
…
وجئت بها تعدو بريدًا مقزعا
أي جئت تعدو بأخبار السوء كأنك بريد ملوك الروم- مقزعًا أي سريعًا.
فلا تفرحن يومًا بنفسك إنني
…
أرى الموت وقاعًا على من تشجعا
لعلك يومًا أن تلم ملمة
…
عليك من اللائي يدعنك أجدعا
نعيت امرأً لو كان لحمك عنده
…
لآواه مجموعًا له أو ممزعا
فلا يهنئ الواشين مقتل مالكٍ
…
فقد آب شانيه إيابًا فودعا
أي عاد عدوه الكاره له كهذا المحل وهو شامت فرح، أما هو فقد ودعنا وداع فراق الأبد.
النسيب:
مر عن النسيب من الحديث عنه كثير ونريد الإشارة ههنا إلى أهم ضروبه مما قد تصح عليه قسمته- وهذه الضروب تتداخل. فالضرب الأول ما يتعلق بالشوق المحض والحنين المحض وذكر المعاهد والديار وقد سبق في الجزء الثالث حديث عن رمزياته مما يغني عن إعادة ذلك ههنا. ومما يحسن إلحاقه ههنا بما سبق ذكره على سبيل الاستدراك (ولنا قدوة حسنة في ابن رشيق حيث قال في باب أغراض الشعر وصنوفه قبل استشهاده بأبيات الناشئ: «قد كنت أردت ذكر هذا الفصل فيما تقدم من باب عمل الشعر وشحذ القريحة له، فلم أثق بحفظي فيه، حتى صححته فأثبته بمكانه من هذا الباب») قول الفرزدق:
تذكر هذا القلب من شوقه ذكرا
…
تذكر شوقًا ليس ناسيه عصرا
وهو مطلع القصيدة التي ذكر فيها فراره من زياد.
تذكر ظمياء التي ليس ناسيًّا
…
وإن كان أدنى عهدها حججًا عشرًا
ثم جعل يصف ظمياء هذه بما توصف به حسان النساء. وكان معروفًا للفرزدق ويعرف ذلك لنفسه أنه لم يكن يجيد تلك الإجادة في حرارة الغزل ومعاني النسيب.
وما مغزلٌ بالغور غور تهامه
…
ترعى أراكًا من مخارمها نضرا
وغور تهامة ههنا من حيث طريقة النظم مثل خدر عنيزة.
من العوج حواء المدامع ترعوي
…
إلى رشأٍ طفلٍ تخال به فترا
أي الأماكن التي يقال لها العوج في جبال طيء كل منها عوجاء وطفل أحسبه بفتح الطاء أي ناعم.
بأحسن من ظمياء يوم لقيتها
…
ولا مزنة راحت غمامتها قصرا
أي عصرًا- ثم ما هو إلا أن يشعرنا أشعارًا لا غموض فيه أن ظمياء ما هي إلا كناية عمن سينتصر له من سادة بني أمية ويحميه مما أوعده به زياد- وهو سعيد بن العاص:
إذا أوعدني عند ظمياء ساءها
…
وعيدي وقالت لا تقولوا له هجرا
فظمياء كناية عن قريش وعن هذا القرشي الذي أجاره. وقد زعموا أن زيادًا رق للفرزدق لما ذكر هذا خوفه منه وشبهه بالأسد فبعث إليه يعده العفو والعطاء فكان الفرزدق أحذر من غراب وقال هذه الأبيات- وقال مباشرة بعد هذا:
وكم دونها من عاطف ذي صريمةٍ
…
وأعداء قومٍ ينذرون دمي نذرا
إذا أوعدني عند ظمياء ساءها
…
وعيدي وقالت لا تقولوا له هجرا
أي سوءا وهذا البيت نص في ما نزعمه.
دعاني زيادٌ للعطاء ولم أكن
…
لآتيه ما ساق ذو حسب وفرا
وعند زياد لو يريد عطاءهم
…
رجالٌ كثير قد يرى بهم فقرا
قعود لدى الأبواب طلاب حاجةٍ
…
عوانٍ من الحاجات أو حاجةً بكرا
فلما خشيت أن يكون عطاؤه
…
أداهم سودًا أو محدرجة سمرا
أي قيودًا أو سياطًا.
فزعت إلى حرفٍ أضر بنيها
…
سرى الليل واستعراضها البلد القفرا
فذكر فراره من زياد ووصف الناقة، لا تخلو الناقة من رمز إلى همته هو نفسه ونشاطه في الفرار. وفي نعت ظمياء بعض الرمزية من نفسه إلا أن عظمها أراد به قريشًا وسعيدًا- كقوله في صفة ظمياء وتشبيهها بالظبية:
أصابت بأعلى ولو لين حبالةً
…
فما استمسكت حتى حسبت بها نفرا
أي أصابت حبالة صائد ففزعت منها أن يقع فيها ولدها فما استمسكت تتأمل الحبالة حتى رأيت النفور في وجهها. وههنا نوعٌ من الوحي الخفي إلى حال خوفه هو من حبالة زياد وخوف ظمياء عليه أن يقع فيها وظمياء كما فسرنا.
وقول كعب بن زهير في ناقته:
تسعى الوشاة جنابيها وقولهم
…
إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول
يقوي ما نقول به من الرمزية في مثل هذه المواضع.
هذا والضرب الثاني من النسيب هو الوصف وقد ذكرنا أوصاف شعراء العرب للهيفاء والبادنة وما يلابس ذلك من عمدٍ إلى صناعة تماثيل ببيان الألفاظ وبلاغة الشعر. وقد بطل التمثال في شعر الإسلام إلا قليلًا، فصرت لا ترى جسم بادنة أو هيفاء، ولكن تسمع أصوات الأحاديث وحلاوة الغزل أو حرارة الصبابات وعلى ذلك مذهبا عمر وجميل، ثم جاء البديع بزخارفه. ونفر الناس بروح محافظة الدين عن
التصريح بالغزل وصفاته، فاستبدل ذلك أول الأمر بنحو قول بشار:
وتخال ما ضمت عليه ثيابها ذهبًا وعطرا
وكأن تحت لسانها هاروت ينفث فيه سحرا
وقد سبقت الإشارة إلى هذا في أواخر الجزء الثالث. ولكأن الذوق المتنطس في المحافظة سار أميل إلى أن يسمع الوصف من الضرير دون البصير.
وأحسن بشار إذ قال:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة
…
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
قالوا بمن لا ترى تهذي فقلت لهم
…
الأذن كالعين توفي القلب ما كانا
وقال:
لقد عشقت أذني كلامًا سمعته
…
رخيمًا وقلبي للمليحة أعشق
ولو عاينوها لم يلوموا على البكا
…
كريمًا سقاه الخمر بدر مخلق
أرى أن مخلقًا هنا معناها معطر عليه الخلوق وهو من عطورهم، والبيت جيد فيه خفيٌّ من السخرية، أي ماذا قصارى أن تريهم أعينهم إلا أن يقولوا شخص في خلقة بدر- واستعمل صنف البديع المسمى الاستخدام في قوله «مخلق» هو عند المبصرين بأعينهم من الخلقة وعنده من الخلوق لأنه كما يسمع يشم ثم الخلوق قرينة مانعة إرادة البدر السماوي:
وكيف تناسي من كأن حديثه
…
بأذني وإن غيبت قرطٌ معلق
وكان لبشار قرط بأذنه فقيل له المرعث من أجل ذلك، فهو هنا لا يخلو من فكاهة إذ جعل حديث المحبوب قرطًا هو يغيبه فلا يرى.
ويجري مجرى الوشي اللفظي الذي حل محل الأوصاف ذات الحيوية في نعت النساء، وشي الأفكار والمعاني كقول إبراهيم بن المهدي:
إذا كلمتني بالعيون الفواتر
…
رددت عليها بالدموع البوادر
فالحديث هنا قد اختفى والمعنى قديم ولكن تناوله ههنا حضاري المعدن.
فلم يعلم الواشون ما دار بيننا
…
وقد قضيت حاجاتنا بالضمائر
أقاتلي ظلمًا بأسهم لحظها
…
أما حكم يقضي على طرف جائر
فلو كان للعشاق قاضٍ على الهوى
…
إذن لقضى بين الفؤاد وناظر
والصناعة الفكرية واضحة في هذا.
وقد جر فرط النفور من نعت النساء ذي الحيوية من أجل هذا التزمت والتنطس الحجابي المحافظ إلى استبداله بنعت الغلمان، وأحسبه كان أول الأمر كثير منه جاريًّا مجرى الكناية. وفي ترجمة ابن المعتز لأبي نواس ما يفيد في بعض هذا المعنى غير أنه قد اتلأب طريق الغزل بالغلمان، حتى صار مهيعًا مسلوكًا، نحو قول الفتح بن خاقان الأندلسي في قلائده في ترجمته للمعتمد بن عباد: «وله في غلام رآه يوم العروبة من ثنيات الوغى طالعًا، ولطلا الأبطال قارعًا، وفي الدماء والغًا، ولمستبشع كنؤس المنايا سائغًا، وهو ظبي قد فارق كناسه، وعاد أسدًا صارت القنا أخياسه، ومتكاثف العجاج قد مزقه إشراقه، وقلوب الدارعين قد شكتها أحداقه، فقال:
أبصرت طرفك بين مشتجر القنا
…
فبدا الطرفي أنه فلك
أوليس وجهك فوقه قمرا
…
يجلي بنير نوره الحلك
وله فيه:
ولما اقتحمت الوغى دارعا
…
وقنعت وجهك بالمغفر
حسبنا محياك شمس الضحا
…
عليها سحابٌ من العنبر
وكلا وصفي الفتح والمعتمد فيهما من الصناعة ما ترى.
وتأمل هذه الصناعة العظيمة الافتنان في قول حازم القرطاجني من مقصورته:
سمعي رماني ولساني قبله
…
في لجج الأهواء فيما قد رمى
لو كان الحظ دون لفظ لم يكن
…
يصلى من الأشجان قلبي ما أصطلي
أي إذا نظرت العين الحسن فعشقته فإن معاني ذلك عبارة عن ألفاظ يسمعها السمع وما سمعها السمع إلا بعد أن نطقها اللسان. وكأن ههنا دقيقة عقلية فحواها أن كل خطرات المرء وأفكاره تدور في نطاق اللغة، الإنسان تفكيره كله كلمات وحروف:
فلم أخذت الطرف مني بالذي
…
جر على القلب اللسان وجنى
لا تظلمي إنسان عيني في الهوى
…
فليس للإنسان إلا ما سعى
ولو كان قال: أن ليس للإنسان ما سعى، لكان أقرب إلى صحة الاقتباس والمعنى بذلك مستقيم، وإنما يصح الاقتباس بالواو كما في الآية:{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} .
والضرب الثالث من النسيب هو المغامرة ذات المجازفة البطولية، وهي التي ذكرها امرؤ القيس حيث قال:
تجاوزت أحراسًا إليها ومعشرًا
…
علي حراصًا لو يسرون مقتلي
وأغرب الدكتور رطه حسين رحمه الله حين نسب أصل هذا النوع من الغزل إلى عمر بن أبي ربيعة. وهو قديم موغل في القدم. وقد استمر في الشعر مع استمرار عصوره ومذاهبه. وأخذ عناصر منه الإفرنج من طريق إسبانيا والأندلس، وهي التي في شعر الطروبدوريين. ومما يدلك على قدم هذا النوع من الشعر قول عنترة وقد ذكرناه من قبل ووعدنا أن نعود إليه وهو:
يا شاة ما قنصٍ لمن حلت له
…
حرمت علي وليتها لم تحرم
فبعثت جاريتي فقلت لها اذهبي
…
فتحسسي أخبارها لي واعلمي
قالت رأيت من الأعادي غرة
…
والشاة ممكنة لمن هو مرتمي
وكأنما التفتت بجيد جداية
…
رشأ من الغزلان حر أرثم
تأمل عفاف عنترة وأدبه، إذ لم يقل كقول امرئ القيس، جئت وقد نضت لنوم ثيابها، ولكن اختصر الكلام وأشعرنا أنه صار إليها، ثم وصفها وهي تحدثه فذكر جيدًا كأنه جيد جداية، وأنفا عليه النقطة الحمراء.
وإنما ذكر عنترة هذه الشاة -أي الغانية المحجوبة ههنا- وجاريته وهي رسول الغرام ههنا- ثم ارتماءه ومجازفته لما أمكنت الفرصة حسب ما خبرته المرسلة الجاسوسة؛ لأن هذا من مذهب الشعراء، وهذه الميمية قالها ليرى بها من تحدوه أن يقول الشعر أنه على قوله قادر. وليست ميمية عنترة مما أنكره المعاصرون ولا أنكرها الدكتور طه لأنه أثبت شعر مضر، فهذا من كلام عنترة سابق لكلام عمر بن أبي ربيعة.
هذا الخبر المختصر في أبيات عنترة هو عينه الأسطوري في قصة فاطمة ابنة المنذر والمرقش وابنة عجلان التي هي جاسوسة كما هي مطية تحمل إليها الفتيان، وينبغي على هذا أنها كانت جلدة جسيمة من «أمزونيات» النساء. وقد سقنا الخبر بتمامه بمعرض الحديث عن ميمية المرقش. ومدار مجازفة الغرام كله على لقاءٍ محرمٍ وسولٍ ونجاة بعد متعة وإشعارٍ بالفتوة والفروسية. وقد صار هذا بأسره من أدب الفروسية الطروبدوري في ما بعد. ولم يتردد ستندال في سفره عن الغرام من نسبة سائر أدب الفروسية والعشق إلى العرب وأن أصوله في مواسم الحج إذ تلتقي الأفواج على صفاء العبادة وضبط عواطف القلوب عند الهوى والشهوات.
ولعله لم يباعد، من حيث النظر إلى الأصول الجاهلية (1).
(1)() ذكر هذا في كتابه «عن الحب» De L'amour- اسم المؤلف وهو فرنسي ستندال Stendhal- 1783 - 1842 م.
وقد كانت أنكحة الجاهلية فيها كثير أبطله الإسلام كبغاء الشريفات وغيرهن. وفي سورة الواقعة {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} وفي سورة الأعراف: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} وفي سورة النور {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} . وكانت ربما طافت المرأة عارية وقالت من يعيرني تطوافًا بكسر التاء أي شيئًا تستتر به.
هذا ولما أبطل الإسلام ما أبطله من أمر الجاهلية، تأدب الناس بأدبه فبنو عذرة كانوا سدنة ود واسم ود يدل على أنه كان من آلهة الحب والحنث. والعذرة من المرأة معروفة فلأمر ما صار بنو عذرة سدنة ود بفتح الواو أو ضمها وإلى بني عذرة ينسب الحب العذري، ومعناه الابتعاد عن مس العذرة عفافًا وصبرًا. ويبدو أن أصله الجاهلي الإشراكي القديم كان على خلاف ذلك.
وبنو حن بن عذرة كانوا أهل بأس وشوكة وهم أعانوا قريشًا على خزاعة لأنهم كانوا خئولة قصي، وذلك مذكورٌ في السيرة في خبر رزاح بن ربيعة. وعبادة العزي كانت في قريش قالوا وكانت العزى أحب آلهتهم إليهم. وقول النابعة في الميمية وقد سبق الاستشهاد بها:
حياك ربي فإنا لا يحل لنا
…
لهو النساء وإن الدين قد عزما
ينبئ أن حج الجاهلية كما كان موسمًا لضروب من الإباحة والحنث والفواحش التي كان يزعم لها أصحابها أن الله أمر بها، وجل سبحانه وتعالى أن يكون يأمر بالفحشاء، ولكن زين لهم الشيطان أعمالهم. ونحو قول عمر بن أبي ربيعة:
وكم من قتيل لا يباء به دمٌ
…
ومن غلقٍ رهنًا إذا ضمه مني
ومن مالئ عينيه من شيء غيره
…
إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
يسحبن أذيال المروط بأسواقٍ
…
خدالٍ وأعجاز مآكمها روى
تأمل ههنا تجد حيوية وحركة وخطوطًا لا تمثالًا يعرى ويكسى، وإن يك معنى من ذلك كنينًا في هذا الوصف كما ترى.
أوانس يسلبن الحليم فؤاده
…
فيا طول ما شوقٍ ويا حسن مجتلى
مع الليل قصرًا رميها بأكفها
…
ثلاث أسابيع تعد من الحصى
أي مع إقبال الليل، قصرًا أي وقت العصر، ترمي بأكفها إحدى وعشرين حصاة عددنها حين الرمي. أسابيع هنا بمعنى سبعات الرمي.
فلم أر كالتجمير منظر ناظرٍ
…
ولا كليالي الحج أفلتن ذا هوى
فههنا بقية من معاني حنث العزى -خضد الإسلام شوكتها فصار ما كان من فواحش حلاوة مزاح وفكاهة حديث وأبيات غزل. وما أرى ضلالًا في الرأي أكبر مما ذهب إليه بعضهم من أن انحلال ترف الحياة في الحجاز هو السبب الاجتماعي الذي يمت إليه غزل عمر وأضرابه. فالقائلون بهذا القول ينسون أن الحجاز كان موطن الفقه والنسك والعبادلة وتلاميذهم كعطاء ومجاهد وعكرمة وموطن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وهشام بن عروة وابن عمر وتلاميذه وموطن نافع ومالك وابن إسحاق- نعم لا يخلو من اللهو زمان أو مكان. ولكن الزعم لمجتمع كان أمر الدين عليه أغلب أنه كان مجتمع انحلال، ذلك خطأ بلا ريب.
وفكاهة الحديث، مهما يكن فيها من آسان الجاهلية، مما هو ليس بشرك بعد أن ذهبت دعوة الإسلام بكل شرك، ليس بفواحش ولا برفث. ولذلك ما رووا خبر
إنشاد بعض الفضلاء من السلف الصالح:
نبئت أن فتاة كنت أعشقها
…
عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول
وإنشاد ابن عباس:
إن تصدق الطير ننك لميسا
ومع هذا قد أبى إحساس التحرج إلا ملامة عمر بن أبي ربيعة على غزله وكان الجيل الأول أوسع حلمًا وأرحب صدرًا. فقد رووا أنه أنشد ابن عباس رضي الله عنهما رائيته فأقبل عليه وأعرض عن نافع بن الأزرق.
ورووا عن يزيد بن معاوية، وما كان من صالحي السلف، أنه قال لأحد جنده وهو يستعرضهم لغزوة الحرة:«ترس ابن أبي ربيعة خبر من ترسك» ، يعني قوله:
فكان مجنى دون من كنت أتقي
…
ثلاث شخوص كاعبان ومعصر
وذكر صاحب أنساب الأشراف أن يزيد كان امرأً ذا عقدة. وقد كان من الجبابرة الطغاة بلا شك، فاستشهاده بما استشهد به من شعر عمر يدل على من كان ينزله ذلك الشعر من منزلة الفكاهة والملح.
ومع هذا فقد كان ابن أبي ربيعة صاحب مال وتجارة (1). وشعره الغزلي ما عدا
(1)() أية ذلك تردده بين الشام واليمن، قال يذكر سفره إلى الشام:
قلت سيرا ولا تقيما ببصرى
…
وحفير فما أحب حفيرا
إنما قصرنا إذا حسر السير
…
بعيرًا أن نستجد بعيرا
فهذا سير تاجر. وقال يذكر صنعاء وحمى أصابته بها:
لعمرك ما جاورت غمدان طائعًا
…
وقصر شعوب أن أكون به صبا
ولكن حمى أضرعتني ثلاثةً
…
مجرمة ثم استمرت بنا غبا
وشعوب جبل صنعاء، وغمدان قصرها العظيم.
في جملته التماس الراحة والأنس من عناء سفر التجارة، وذلك كان عمل آبائه من عهد الجاهلية. وقوله:
هيهات من أمة الوهاب منزلنا
…
إذا حللنا بسيف البحر من عدن
شاهد في هذا الذي نقول به. وأمة الوهاب ابنته. ولا يعقل في نحو قوله:
قالت سكينة والدموع ذوارفٌ
…
منها على الخدين والجلباب
ليت المغيري الذي لم أجزه
…
فيما أطال تصيدي وطلابي
أن تكون سكينة أو سعيدة (1) قالت له ذلك وهي ممن أجمع عليه مع الشرف أنها من العقائل. (فيما أطال أي في إطالته فلا تظن أنه أراد بها بينما كما يقول بعضهم الآن).
وقد كان في القوم حرية وقرب عهدٍ بالسذاجة البدوية المعدن، إذ لا ينفك عربي مهما يكن من أهل الحواضر من أن يكون متحليًا بفضائل البداوة، ومهما يكن من أهل البادية أن تكون له صلة بالحواضر وهو قول أبي حيان إنهم كانوا في باديتهم حاضرين.
ثم لا ننس أخذ عمر وجيله من أدب القرآن. وأحسب أن الدكتور طه حسين رحمه الله قطع بأن أسلوب الحوار من ابتكار عمر بن أبي ربيعة وفي معلقة عنترة حوار مع حصانه حيث قال:
فأزور من وقع القنا بلبانه
…
وشكا إلي بعبرة وتحمحم
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى
…
ولكان لو علم الكلام مكلمي
وفي كلمة زهير:
صحى القلب عن سلمى وأقصر باطله
…
وعري أفراس الصبا ورواحله
(1)() زعم أبو الفرج أن البيت أصله «قالت سعيدة» وهي من عقائل قريس وغيره المغنون إلى «سكينة» .
وهي مما أثبته الدكتور طه حسين حوار وأخبار. وكذلك في معلقته: «أمن أم أوفى دمنة لم تكلم» . وفي نونية المثقب حواره مع ناقته: «أهذا دينه أبدًا وديني» . فالذي في معلقة امرئ القيس من الحوار ليس بخارج من هذا النطاق.
وقال عبد الله بن سلمة الغامدي من شعراء المفضليات:
ولم أر مثلها بوحاف لبن
…
يشب قسامها كرمٌ وطيب
على ما أنها هزئت وقالت
…
هنون أجن منشأ ذا قريب
فإن أكبر فإني في لداتي
…
وعصر جنوب مقتبل قشيب
قولها هنون: أي يا هؤلاء، يا رجال، أجن صاحبكم هذا والحوار في القرآن كثير.
وحديث النساء جاء في سور من القرآن- منهن سورة يوسف وفيه قول امرأة العزيز: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} وقولها: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا} وهو من باب مكرهن وقول النساء- قال تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا} وهذه بعض الأمثلة من سورة يوسف، بله أحاديث يوسف وأخوته وأبيهم عليهم السلام وحديث العزيز والملك وأرباب السجن. وفي سورة هود:{يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} وحوار سيدنا لوط وسيدنا شعيب وسائر الأنبياء ولا سيما حوار موسى وهارون عليهم السلام أجمعين وخبر ابنتي شعيب: {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} الآية- {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} الآية- {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} الآية وسورة مريم وسورة الإسراء وسورة الفرقان وسائر القرآن فيه معجز من الحوار بين الرسل وقومهم وبين غير ذلك مما قصه علينا الكتاب الحكيم- فالمسلمون في صدر الإسلام كانوا أسرع شيء إلى احتذاء نهج القرآن والتأثر ببلاغته وأساليبه، فنسبة استعمال الحوار إلى عمر أنه ابتكره، حتى على تقدير التسليم أن شعراء الجاهلية لم
يكونوا يستعلمون الحوار، غير الصواب. هذا مع علمنا أن الجاهلين كما قدمنا كانوا يعرفون الحوار وهو في أساليبهم كثير لا يتصيد تصيدًا في المثل والمثلين وحسبك المعلقات دون سواها (1).
وقال كعب بن زهير وهو قبل عمر:
تسعى الوشاة جنابيها وقولهم
…
إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول
فقلت خلوا سبيلي لا أبالكمو
…
فكل ما قدر الرحمن مفعول
وقال النجاشي الحارثي وحاسبه عمر رضي الله عنه على ذلك وابن أبي ربيعة ما ولد إلا ليلة مات عمر رضي الله عنه:
وما سمي العجلان إلا لقولهم
…
خذا القعب واحلب أيها العبد واعجل
وقال الشماخ في الحلفة التي حلفها زمان أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه:
يقولون لي يا احلف ولست بحالف
…
أراوغهم عنها لكيما أنا لها
وقد أنشد سحيم بائيته عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفيها قوله:
أشارت بمدراها وقالت لتربها
…
أعبد بني الحسحاس يزجي القوافيا
رأت قتبارثا وسحق عباءة
…
وأسود مما يملك الناس عاريا
فقوله «أشارت بمدراها» كأنه من نظم أصحاب الغزل القديم، وقد جاء به عمر حيث قال:
أشارت بمدراها وقالت لتربها
…
أهذا المغيري الذي كان يذكر
(1)() قال ابن رشيق في قراضه الذهب: ومن محاورات امرئ القيس التي تقدم فيها وفات الناس «تقول وقد جردتها من ثيابها. كما رعت مكحول المدامع اتلعا وعيشك لو شيء أتانا رسوله. سواك ولكن لم نجد لك مدفعا» فأخذه ابن أبي ربيعة وهو من المشهورين في هذا المذهب والمجددين فيه- ص 42 طبع تونس سنة 1962 تحقيق الشاذلي بو يحيى وأورد ابن رشيق قول ابن أبي ربيعة وناهدة الثديين الببيتين. أ. هـ.
أو يكون عمر قد أخذه من عبد بني الحسحاس. وأخذ البيت الذي يليه أيضًا في قوله:
رأت رجلًا أما إذا الشمس عارضت
…
فيضحى وأما بالعشي فيخصر
وقد هزئ نافع بن الأزرق من قوله هذا حيث قال: «فيخزى وأما بالعشي فيخسر» فرد عليه ابن عباس رضي الله عنهما مقالته ثم يقول سحيم:
يرجلن أقوامًا ويتركن لمتي
…
وذاك هوان ظاهرٌ قد بدا ليا
أي كما نقول الآن تفرقة عنصرية.
فلو كنت وردًا لونه لعشقنني
…
ولكن ربي شانني بسواديا
فما ضرني إن كانت أمي وليدةً
…
تصر وتبري باللقاح التواديا
والتوادي عيدان تبرى وتشد على أخلاف الناقة. لئلا ترضع هكذا في شرح أبي عبيدة المروى له عن نفطوية تحقيق الميمني (النسخة المصورة عن طبعة دار الكتب. القاهرة سنة 1369 هـ).
وكأن أبا العلاء من أراد إلا الإشارة إلى هذا البيت حيث قال:
توى دينٌ في ظنه ما حرائرٌ
…
نظائر آم وكلت بتوادي
وهذا البيت في أبيات وقف عندها الدكتور طه حسين رحمه الله في كتابه النفيس «مع أبي العلاء في سجنه» .
وما انفرد عمر بين أصحاب الغزل المعاصرين له بالحوار حتى ينص عليه بابتكار فيه ليس لغيره فيه مثل نصيبه. جميل، معاصر عمر الذي يقرن به في باب
الغزل، وله مذهب من الصبابة يوازن الموازنون بينه وبين مذهب عمر، يكثر من أساليب الحوار في عذرياته العاطفيات، من ذلك قوله:
يقولون جاهد يا جميل بغزوةٍ
…
وأي جهاد غيرهن أريد
لكل حديثٍ بينهن بشاشةٌ
…
وكل قتيلٍ بينهن شهيد
إذا قلت ما بي يا بثينة قاتلي
…
من الحب قالت ثابت ويزيد
وإن قلت ردي بعض عقلي أعش به
…
بثينة قالت ذاك منك بعيد
وقوله:
ولرب عارضةٍ علينا وصلها
…
بالجد تمزجه بقول الهازل
فأجبتها في الحب بعد تستر
…
حبي بثينة عن وصالك شاغلي
لو كان في قلبي كقدر قلامةٍ
…
فضلًا لزرتك أو أتتك رسائلي
هذا وقد سبقت منا الإشارة إلى شعر الفرزدق الذي يسخر فيه من مذاهب الشعراء في مغامرات الغرام والرائية التي أولها:
ألا من لشوقٍ أنت بالليل ذاكره
فذة في بابها وقد ذكرنا منها قطعة صالحة في باب حديثنا عن البحر الطويل في الجزء الأول.
وقد جاء بلون من مذهبه هذا في الفائية.
عزفت بأشاش وما كدت تعزف
…
وأنكرت من حدراء ما كنت تعرف
أو لعل هذه الفائية أسبق. وقد زعم فيها أن المحبوبة محجوبة في قصر دونه الحراس بأيديهم الرماح والسيوف والدرق وعندهم كلابٌ ضاريات- وما أحسبه كذب من
نسب الفرزدق إلى نوع من الجبن، وله أخبار في خوف الكلاب، من ذلك خبره إذ مر سكران فحيا الكلاب يظنها أناسًا وقال:
فما رد السلام شيوخ قومٍ
…
مررت بهم على سكك البريد
ولا سيما الذي كانت عليه
…
قطيفة أرجوان في القعود
ومن ذلك خبره مع الذئب:
وأطلس عسال وما كان صاحبًا
…
دعوت بناري موهنًا فأتاني
ولعله كان كلبًا لا ذئبًا.
قال في الفائية:
فكيف بمحبوسٍ دعاني ودونه
…
دروبٌ وأبوابٌ وقصرٌ مشرف
أي له شرفات- كقول الأسود بن يعفر: «والقصر ذي الشرفات من سنداد» .
وصهبٌ لحاهم راكزون رماحهم
…
لهم درقٌ تحت العوالي مصفف
تأمل هول هذه الصورة. هؤلاء الحراس من عبدي الروم والصقالب.
وضارية ما مر إلا اقتسمنه
…
عليهن خواض إلى الطنئ مخشف
الطنئ بكسر الطاء وسكون النون أي هوى النساء ونحوه والفجور. مخشف بكسر الميم كمنبر أي دخال دباب ينخشف أي يدخل في الشيء كالثعبان والخشفة بالتحريك في ما ذكره صاحب القاموس صوت دبيب الثعبان وفي البيت نفس من هذا المعنى. وسياق البيت ما مر عليهن امرؤ هذا شأنه إلا هجمن عليه واقتسمن لحمه.
يبلغنا عنها بغير كلامها
…
إلينا من القصر البنان المطرف
وإذ هي بعيدة المنال كل هذا البعد فلا سبيل إليها إلا بخوارق الطبيعة. من ذلك
الدعاء. تأمل هذه الشيطنة في الفكاهة، أن يبتهل ويتوسل ويدعو الله في أمرٍ هو إثم متذرعًا باسم الحب.
دعوت الذي سوى السموات أيده
…
ولله أدنى من وريدي وألطف
ليشغل عني بعلها بزمانة
…
تدلهه عني وعنها فنسعف
ويستمر الفرزدق في دعابة دعائه أن يرسل الله على عيني بعل محبوبته العمى ثم يقدم هو طبيبًا فيداويه- أو كما قال:
فداويته عامين وهي قريبة
…
أراها وتدنو لي مرارًا فأرشف
ولا يخفى أن الفرزدق ههنا لا يخلو من القصد والعمد إلى السخرية من بعض جوانب المجتمع في عصره، كالذي فعله أبو العلاء بعد زمان في نحو قوله:
لو كان لي أمرٌ يطاوع لم يشن
…
ظهر الطريق يد الحياة منجم
وقفت به الورهاء وهي كأنها
…
عند الوقوف على عرين تهجم
ويقول ما اسمك واسم أمك إنني
…
بالغيب عما في الغيوب أترجم
وهي في اللزوميات.
ثم تمنى الفرزدق أن يكونا هو ومحبوبته بعيرين، كلاهما به عرٌّ يخاف قرافه على الناس «والعر الجرب» ويمكن تأويل هذا من قوله:
كلانا به عرٌّ يخاف قرافه
…
على الناس مطلي المساعر أخشف
بأنه يعني إبل الناس فلذلك يطردان فصارا من أجل ذلك:
بأرض خلاء وحدنا وثيابنا
…
من الربط والديباج درع وملحف
أي بدل الربط والديباج نلبس الخشن من الثياب درعًا تدرع هي به وملحفًا التحف أنا به أو نلتحف كلانا به
…
وقوله «ثيابنا» يعني ثيابها الدرع مكان الريط
والديباج إذ كلا هذين أشبه بحال ترفها الآن ولا تخفى الابتسامة والضحك في «نا» من قوله ثيابنا اللهم إلا أن يكون يشير إلى معنى قوله «حلل الملوك لباسنا في أهلنا» واستبعده ويذهب بشطر الفكاهة. وقد عاد فجعل أنفسهما بشرين بعدما كانا بعيرين، ثم جعل شرابهما خمرًا سلافة قرقفا تمزج بأبيض من ماء الغمام. وجعل زادهما لحم حبارى. وجعل لهما صاحبا من الوحش كنمر القتال الكلابي وكان له معاصرًا، يألفهما ويتألفانه- وهو ههنا بازٍ لأن الحبارى يصيدها البازي أو نحوه، وهو قوله:
ولا زاد إلا فضلتان سلافةٌ
…
وأبيض من ماء الغمامة قرقف
وأشلاء لحمٍ من حبارى يصيدها
…
إذا نحن شئنا صاحبٌ متألف
وقد أعجب كثيرًا مذهب الفرزدق هذا فتمنى كأمنيته إلا أنه لفرط حماقته نسي أن يجعل أنفسهما إنسانين، كأنما يريد أن يزيد على معنى الفرزدق بالتمسك بصورة المسخ البعيري الذي تمنى أن يمسخاه هو ومحبوبته وهي أبياته التي يقول فيها:
أيا ليتنا كنا بعيرين لا نرد
…
على منهل ألا نشل ونضرب
وقصيدة جران العود الفائية تنظر بطرف إلى فائية الفرزدق هذه وبطرف إلى رائية عمر ويائية الحسحاسي ومذهب المجازفة الذي عند امرئ القيس وألمع أبو العلاء إلى أخذ جران العود من سحيم في رسالة الغفران حيث قال- يسند القول إلى ابن القارح الوهمي ويصف جرانًا بالإحسان في القريض: «ويقول لبعض القيان اسمعينا قول هذا المحسن إلخ» - وأورد الأبيات الثلاثة:
حملن جران العود حتى وضعنه
…
بعلياء فأرجائها الجن تعزف
وقوله حملن ينظر إلى خبر خدر عنيزة كما ينظر إلى بعض خبر ابنة عجلان وجعل الجن
تهتف بالصحراء كناية عن خلوها كل الخلو فلا يراه معهن أحد.
وأحرزن منا كل حجزة مئزرٍ
…
لهن وطاح النوفلي المزخرف
فالنوفلي هذا خمار كن يتقنعن به. وقوله وأحرزن، نظر إليه، لا أرتاب في ذلك، أبو الطيب حيث قال:
إني على شغفي بما في خمرها
…
لأعف عما في سراويلاتها
فعيب عليه كما تعلم قوله «سراويلاتها» . والذي صنع أعف مما صنع جران العود؛ لأنه قد مد يده كما ترى.
وقلن تمتع ليلة النأي هذه
…
فإنك مرجومٌ غدًا أو مسيف
وقال أبو العلاء: «وهذا البيت يروى لسحيم» فهذا إلماعة إلى أخذ جران من سحيم. وهو إسلامي والرجم حكم المحصن إذا زنى ووجدت في بعض الكتب أن جران العود جاهلي وهذا خطأ منشؤه من قلة تحقيق أو وهم وجران العود عقيلي إسلامي اسمه المستورد بن الحارث وقيل عامر بن الحارث النميري وهذا جاهلي فمن هنا مصدر الوهم والأول قول الصحاح والمزهر وعليه الزبيدي شارح القاموس -وقوله أو مسيف فالسيف من ذي غيرة لا يريد الفضائح فيجلله السيف- ويغلب على الظن وهو الصواب إن شاء الله، أن نسبة هذا البيت إلى سحيم وهم أصله خبر مقتل سحيم وهو أشبه أن يكون جاريًا مجرى الفكاهة حاكى به جران مذهب الفرزدق.
ونأمل أن نورد من هذه الفائية أبياتًا، عندما نعرض إن شاء الله لذكر شيء من حائيته التي سمي بها جران العود وكلتاهما في ديوانه المطبوع. وقد استمر بالشعراء القول على مذهب المجازفة في باب الغزل إلى زماننا هذا -وربما جيء به على سبيل الإشارة كما في قول أبي الطيب:
وقد طرقت فتاة الحي مرتديًّا
…
بصاحبٍ غير عزهاة ولا غزل
فظل بين تراقينا ندفعه
…
وليس يعلم بالشكوى ولا القبل
يعني السيف ويكنى بهذا عن الفتوة والعفاف.
وقال الطغرائي:
إني أريد طروق الحي من إضمٍ
…
وقد حمته رماة من بني ثعل
وفي أوائل هذا العصر تجد منه في شعر محمود زناتي وفي بعض شعر محمد سعيد العباسي رحمها الله.
ومن تأمل بعض قطع الشعر الحديث أو ما يقال له الحديث أو ما يقال له الحديث جدًا، أحس أنفاس أسلوب المجازفة القديمة فيه أيضًا.
ورحم الله أحمد شوقي حيث يقول:
دخل الكنيسة فارتقبت خروجه
…
فأتيت دون طريقه فزحمته
فهذه الفكاهة فيها لون سوقي ولا يخفى أن الشاعر أراد به حلاوة القول- وقول العقاد رحمه الله، وقد ذكرناه في الجزء الأول:
ويا ليلتي لما ظفرت بقربه
…
وقد ملأ البدر المنير الأعاليا
فيه نظر إلى الأصل الذي قدمناه. وقد نبهنا أن الحديث في هذا الباب مما يطول فنكتفي بهذا القدر، ومتى عن داع من بعد إلى ذكر شيء ذي بالٍ منه جئنا به في موضعه إن شاء الله وبه التوفيق.
هذا والضرب الرابع هو الملح وجعل منه أبو تمام قول الآخر وهو بعض الحجازيين:
خبروها بأنني قد تزوجـ
…
ـت فظلت تكاتم الغيظ سرا
ثم قالت لأختها ولأخرى
…
جزعًا ليته تزوج عشرا
وأشارت إلى نساءٍ لديها
…
لا ترى دونهن للسر سترا
ما لقلبي كأنه ليس مني
…
وعظامي كأن فيهن فترا
من حديثٍ نمى إلي فظيع
…
خلت في القلب من تلظيه جمرا
وجانب الملحة ههنا في التحليل ولا يخلو من قسوة على النساء، غير أنه -ولا أبغي تعقيبًا على أبي تمام (وينبغي لي ولغيري أن يتأدب في مثل هذا الموضع كمثل أدب ابن رشيق حيث قال في باب المطبوع والمصنوع يذكر ابن الرومي أن التسليم له والرجوع إليه أحزم) - غير أنه أشبه بهذه الأبيات أن تكون من الغزل الحواري على مذهب ابن أبي ربيعة ولعلها له فهي في ديوانه على أن تعمية حبيب أمر نسبتها أقوى عندنا شهادة- وأسلوب الأبيات كأنه متأخر عن زمان عمر ناظر إليه وإلى نحو قوله في الدالية:
ليت هندًا أنجزتنا ما تعد
…
وشفت أنفسنا مما نجد
واستبدت مرةً واحدةً
…
إنما العاجز من لا يستبد
زعموها سألت جاراتها
…
وتعرت ذات يومٍ تبترد
أكما ينعتني تبصرنني
…
عمركن الله أم لا يقتصد
فتضاحكن وقد قلن لها
…
حسنٌ في كل عين من تود
حسدًا حملنه من أجلها
…
وقديمًا كان في الناس الحسد
وقوله «وأشارت إلى نساء لديها» ينظر إلى «زعموها سألت جاراتها» وإلى «أشارت بمدراها» فهذا الذي يرجح أن على قول الأحد المتأخرين عن زمان عمر قليلًا يحاكيه به والله تعالى أعلم والذي من حاق الملح نحو:
أيا سحاب طرقي بخير
…
وطرقي بخصية وأير
ولا ترينا طرف البظير
ونحو:
وفيشةٍ ليست كهذي الفيش
…
قد ملئت من خرقٍ وطيش
إذا بدت قلت أمير الجيش
…
من ذاقها يعرف طعم العيش
وكل هذه من الحماسة والباب مليء بما هو من هذا المجرى وهو في كتالة الجاحظ كثير.
والذي نعنيه أنه الضرب الرابع من باب الغزل هو ما قصد فيه الشاعر إلى إمتاع سامعه بحديث مكشوف عن النساء «والجنس» وفي باب المجازفة مقاربة لهذا إذ المجازف مقدم على لقاء ممنوع خواضٍ إلى الطنيء كما قال الفرزدق، غير أن الحب هو دافعه:
وكذاك الحب ما أشجعه
…
يركب الهول ويعصي من وزع
غير أن ثم بابا من أبواب الغزل، فيه المطلوبة بغيٌّ أو تراد لبغاء، والرسول قواد أو قوادة أو ما بمنزلتها، وقد وصف هذا الضرب الفرزدق في شعره حيث قال:
سيبلغهن وحي القول عني
…
ويدخل رأسه تحت القرام
والقرام من أستار خدور النساء ذكره لبيد في معلقته «زوج عليه كلة وقرامها» وهنا يتحدث الفرزدق عن رسولٍ قواد:
أسيد ذو خريطةٍ نهارًا
…
من المتلقطي قرد القمام
فقلن له نواعده الثريا
…
وذاك عليه مرتفع الزحام
أي ذلك وقت انصراف الناس وارتفاع زحامهم من مجالسهم ونحوها.
خرجن إلي حين لبسن ليلًا
…
وهن خوائفٌ قدر الحمام
مشين إلي لم يطمثن قبلي
…
وهن أصح من بيض النعام
خص بيض النعام لأنه تشبه به العذارى.
فبتن بجانبي مصرعاتٍ
…
وبت أفض أغلاق الختام
يحكى عن أحد أمراء الطوائف بالأندلس أنه جامع مائتي جارية في لحافٍ واحد. فعله أراد أن يجعل حقيقةً ما جاء به الفرزدق على سبيل المفاكهة. وقد جاءت هذه الأبيات في نسيب قصيدة مدح بها هشام بن عبد الملك. فكأن هشامًا كان يطربه أو يسره هذا القري من الملح. ويشهد على صحة هذا الحدس أبيات أبي النجم وكان ممن يؤذن له على هشام:
علقت خودًا من بنات الزط
…
كأن تحت درعها المنعط
إذا بدا منها الذي تغطي
…
شطًّا رميت فوقه بشط
لم يعل في البطن ولم ينحط
فيه شفاء من أذى التمطي
…
كهامة الشيخ اليماني الثط
أي القليل شعر اللحية أو شعر اللحية والحاجبين.
وقد كان هشام ذا عقدةٍ وحزم. والأنس إلى فكاهة إحماض الشعر مما لا يوقع في مذمة إن شاء الله. وأحسب أن جران العود حاكى الفرزدق في صفة رسل غرامه حيث قال له في الفائية:
يبلغهن الحاج كل مكاتب
…
طويل العصا أو مقعدٌ متزحف
ومكمونة رمداء لا يحذرونها
…
مكاتبة ترمي الكلاب وتحذف
طويل العصا أي أعمى يتحسس بعصاه. مكمونة: رديئة العينين قبيحة منظرهما بحمرة فيهما ونحوها:
هذا وقصيدة الأعشى: «ودع هريرة إن الركب مرتحل» المعلقة فيها نفس من ملحات «الجنس» حيث قال:
قالت هريرة لما جئت زائرها
…
ويلي عليك وويلي منك يا رجل
ولأمر ما قيل هذا أخنث بيت قالته العرب.
قولهم الإحماض من نعتهم الإبل أنها أخلت وأحمضت قالوا والخلة بضم الخاء لها كالخبز والحمض كالحلوى وقولهم الإحماض من عبارات المحدثين أي تحلية الحديث بالجنسيات وما أشبه. وهو عند الأعشى كثير نحو قوله:
وأمتعت نفسي من الغانيا
…
ت إما نكاحًا وإما أزن
ومن كل بيضاء رعبوبةٍ
…
لها بشرٌ ناصع كاللبن
وقال في مدحته سلامة ذا فائش:
ومثلك معجبة بالشبا
…
ب صاك العبير بأجسادها
تسديتها عادني ظلمةٍ
…
وغفلة عين وإيقادها
أي عادنين أي مقيمين وكائنين في ظلمة وفي غفلة من عين رقيب ترى وإيقاد نار تكشف أمرنا. وهذا كما قال عمر بن أبي ربيعة من بعد «وأطفئت مصابيح شبت بالعشي وأنؤر» ويجوز أن يتضمن معني إيقادها هنا نار الهوى والأول أوضح وأيسر وأقرب. تسديتها أي أصبتها يريد الوطء.
فبت الخليفة من بعلها
…
وسيد «تيا» ومستادها
أي سيدها وسيد سيدها وأخذ من قول امرئ القيس «فمثلك حبلى» ومن قوله: «يغط غطيط البكر» ، إلا أنه سلك به مسلك الأحماض وأما امرؤ القيس فإنما ساق ما ساق في معرض التذكر وانفعال الهوى فجاء قوله لا مجيء ما يريد به إمتاعك به
ولكن ما يريد به إراحة نفسه، وهذا سبيله العظة والحكمة، فمن عابه بالفحش عابه من هذا الوجه فتأمل. وقد رأى قدامة ألا يعيبه وأحسبه أصاب في الجملة إلا في التفصيل لأنه احتج بقصة الخشب والنجار أنه إذا كان حاذقًا لا يضيره أن يكون الخشب رديئًا ويعترض على هذا بأن رداءة الخشب قد تفسد جودة الصناعة أو تكون فيها موضعًا للعيب.
والأعشى أراد إلى محض الإضحاك ولهذا فاكهه أبو العلاء في الرسالة بمقال لبيب «سبحان الله يا أبا بصير، بعد إقرارك بما تعلم غفر لك وحصلت في جنة عدن إلخ» (ص 218).
وكأن الأعشى قد سبق الفرزدق إلى أسلوب الفكاهة والضحك من قصة المغامرة الغرامية «تجاوزت أحراسًا وهلم جرا» في نحو قوله:
ولقد أطفت بحاضر
…
حتى إذا عسلت ذئابه
وإنما تعسل مع الظلام.
وصغا قمير كان يمنـ
…
ـع بعض بغيةٍ ارتقابه
صغا أي مال، وهذا كقول عمر «وغاب قمير كنا أرجو غيوبه» وهو كثير ما يشبهه في شعر الغزل. وتكسر نون تنوين التاء فتصلها براء «ارتقابه» لإقامة الوزن.
أقبلت أمشي مشية الحشيان مزورًا جنابه
الحشيان صاحب الربو -مزورًا جنابه أي مائلًا وهذا كقول عمر من بعد «وشخصي خشية القوم أزور» - ويروي هنا «الخشيان» بالعين المعجمة كما بالمهملة.
وإذا غزالٌ أحور الـ
…
ـعينين يعجبني لعابه
حسنٌ مقلد حليه
…
والنحر طيبة ملابه
غراء تبهج زولةٌ
…
والكف زينها خضابه
ومن ههنا يبدأ أسلوب الفكاهة أوضح، على أن نفسه في ما تقدم لا يخفى.
ولو أن دون لقائها
…
المروت دافعة شعابه
لعبرته سبحًا ولو
…
غمرت مع الطرفاء غابه
لأنه إذا غمر غابة القصب والطرفاء فخطره يحذر حذرا.
ولو أن دون لقائها
…
جبلًا مزلقة هضابه
لنظرت أني مرتقا
…
هـ وخير مسلكه عقابه
أي لو دونها جبل هضباته مزلقات لنظرت أين طريق مرتقاه ولاقتحمته وإن تكن العقبات المرهبات خير مسالكه.
لأتيتها إن المحب
…
مكلف دنسٌ ثبابه
من هنا أخذ الفرزدق قوله: «خواض إلى الطنئ مخشف» .
ولو أن دون لقائها
…
ذا لبدةٍ كالزج نابه
لأتيته بالسيف أمشـ
…
ـي لا أهد ولا أهابه
وقد ذكرنا رائية الوضاح:
قالت ألا لا تلجن دارنا
…
إن أبانا رجلٌ غائر
فمن شاء زعم أن نفس الأعشى هنا فيه نفس وضاح الحضاري فكيف يكون ذلك وهو جاهلي ولزعم أن هذا من كلام الأعشى منحولٌ على مذهبي عمر ووضاح اليمن- وإذن للزم القائل بنحو هذا القول أن ينكر قول تأبط شرا حيث فخر وقال:
فرشت لها صدري فزل عن الحصى
…
به جؤجؤ عبلٌ ومتنٌ مخصر
وقوله: «وإني قد لقيت الغول» والذين صححوا له هذا هم عينهم الذين شكوا في:
«إن بالشعب بالذي دون سلع» فإن لم ينكره، فمذهب هذا الإمتاع جاهليٌّ والإسلاميون إليه نظروا. وإن أنكره شك في تدقيق من كانوا يعرفون التمييز بين ما هو منحول وما هو لين وما هو بين بين وما هو جزلٌ أصيل.
وليس يصح في الأفهام شيء
…
إذا احتاج النهار إلى دليل
ونلفت القارئ الكريم إلى قول الأعشى في باب فخره الغزلي:
ولو أن دون لقائها
…
ذا لبدة كالزج نابه
والزج بمنزلة السنان غير حاد الحرف، في طرف الرمح الآخر بضم الزاي.
لأتيته بالسيف أمـ
…
شي لا أهد ولا أهابه
فإن بعد هذا قوله على مذهب الوثب:
ولي ابن عم ما يزا
…
ل لشعره خببًا ركابه
فقوله لا أهابه يلائم هذا كما ترى. وإليه نظر البحتري حيث قال في ابن الرومي:
شاعر لا أهابه
…
نبحتني كلابه
إن من لا أعزه
…
لعزيز جوابه
وكان البحتري بشعر الأعشى صحيحه ومنتحله عالمًا.
هذا وقد وصف الأعشى القواد والفتاة (وإليه نظر الفرزدق في ما فاكه به هشامًا) في البائية العذبة التي أولها.
أوصلت صرم الحبل من
…
سلمى لطول جنابها
وقد أورد المعري ما جاء كالرفث منها على لسان النابغة الجعدي يحاج به الأعشى ويزعم له أو كما قال «فأقسم إن دخولك الجنة من المنكرات» ومن شواهد عدم استحقاقه الجنة أبيات من هذه القصيدة.
وكأن أمر المتعات الحرام على منهج واحدٍ منذ بدء ذلك في الخليقة:
ولقد غبنت الكاعبا
…
التي أحظ من تخبابها
بالخاء المعجمة وما أشبه أن يكون بالحاء لشبهه بسير المعنى وسياقه أي أجد الحظوة من محبتها. وتخبابها أي مخادعتهن هنا وله وجه كما ترى ويناسب ذكر الخيانة بعده.
وأخون غفلة قومها
…
يمشون حول قبابها
حذرًا عليها أن ترى
…
أو أن يطاف ببابها
لكنه ليس مجازفًا يتجاوز هؤلاء: «علي حراصًا لو يسرون مقتلي» - إنه مخادع مخاتل صاحب ريبات ومكايد.
فبعثت جنيًّا لنا
…
يأتي برجع جوابها
الجني أراد به القواد يقصد إلى معنى تمرده. وقد عكس الفرزدق الصورة فجعله كالمجنون أو الأبله. وذلك من أجل ما كانت تقتضيه طبيعة المجتمع الإسلامي أن يحترس مثله أو يحترس منه، وأن يبدو من كان على مثاله أن من غير ذوي الإربة. وقد منع رسول الله صلى الله عليه وسلم هيتا من الدخول على الحرم لما سمعه يصف عند أم سلمة رضي الله عنها بادية بنة غيلان أنها تقبل بأربع وتدبر بثمان والحديث في الصحيح.
جعل الفرزدق مجنونه أو أبلهه أسيد (تصغير أسود)، مبالغة في تهوين شأنه، ذو خريطة (تصغير خريطة يضع فيها ما يصيب من القمامات) من المتلقطي قرد القمام، أي يتلقط قرد القمام أي النفايات التي في القمامات ومثل هذا يرثي لحاله ولا تحوم حوله تهمة واحترس أبو فراس بقوله نهارًا- أي هذه حاله في النهار أما في الليل
فهو شيطان رجيم- جني كجني الأعشى.
فمشى ولم يخش الأنيـ .... ـس فزارها وخلابها
لأنه -بحكم جنيته- يقدر على التخفي والجن لا يراهم الإنس ولا يخافون من الإنس: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف].
فتنازعا سر الحديـ
…
ـث فأنكرت فنزا بها
أي أنكرت ما قاله ولم ترضه فوثب بها في المكر وثبا.
عضب اللسان متقنٌ
…
فطنٌ لما يعنى بها
صنعٌ بلين حديثها
…
...............
عضب اللسان، أي في لسانه حدة، ولا يكون هكذا إن لم تكن هاته التي يتحدث إليها بينه وبينها ما يجعله يستطيع ذلك وقوله:«فتنازعا سر الحديث» يدل على هذا.
«صنع بلين حديثها» لأن النساء لا بد معهن من المياسرة، بل والحق أحق أن يقال- إن المياسرة، مما تؤسر به قلوب البشر رجال أو نساء، ولصناعة سحر حديثه إليها ورقته لانت إليه.
صنعٌ بلين حديثها
…
فدنت عرى أسبابها
أخذ هذا من قول امرئ القيس:
وصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا
…
ورضت فذلت صعبةً أي إذلال
إلا أن امرأ القيس أورد قوله مورد المودة وذكريات الحب، وهذا أقرب إلى باب الحكمة وداخل في التأمل كما تقدم ذكره.
قالت قضيت قضية
…
عدلًا لنا يرضى بها
فأرادها كيف الدخو
…
ل وكيف ما يؤتى بها
في المطبوع من مختار الشعر الجاهلي «لها» ولو كان ذلك صحيحًا لأشار إليه أصحاب القوافي فقد تفطن بعضهم إلى أن نحو «لؤلؤها» لا يجوز مع «يكلؤها» لأن التخفيف للهمزة عند من يخففها قد يوجد اختلافًا وقد نبهوا على أمثال:
يا نخل ذات السدر والجداول
تطاولي ما شئت أن تطاولي
لمكان اختلاف حركة الواو- فالوجه ههنا «يؤتى بها» إن شاء الله.
في قبة حمراء زيـ
…
ـنها ائتلاف طبابها
الطباب الحواشي والكلمة معروفة عندنا في الدارجة يجعلون الطاء عندنا تاء ومنها «تبابة البروش وتتبيبها» والبروش أبسطة تصنع من سعف الدوم واحدها برش بكسرتين- هذا في الدارجة.
ودنا تسمعه إلى
…
ما قال إذ أوصى بها
هذا لما عاد الفاجر يخبر بما أصاب من نجاح ويوصي الشاعر بالفتاة، أنها بكر أو كالبكر فينبغي أن تؤخذ برفق:
إن الفتاة صغيرة
…
غرٌّ فلا يسدى بها
لا يسدى بها أي لا تتسدى، أي لا توطأ يقول هذا له شيطنة وترغيبًا وأصله من تسدية الثوب لأنها إدخال خيوطٍ في خيوط.
إني أخاف الصرم منـ
…
ـها أو شحيج غرابها
أي أخاف أن تغضب علي إن أنت أفزعتها ثم تفارقني فهذا شحيج غرابها على هذا القواد الجني الخبيث.
فدخلت إذ نام الرقيـ
…
ـب فبت دون ثيابها
من ههنا أنشد أبو العلاء هذه الأبيات في رسالة الغفران مستنكرًا بها على لسان النابغة الجعدي.
حتى إذا ما استرسلت
…
للنوم بعد لعابها
هكذا رواية أبي العلاء ورواية الديوان كما في مختار الشعر الجاهلي: «من شدة للعابها» والمعاني متقاربة، غير أن رواية أبي العلاء أوضح وكأنها أجود:
قسمتها نصفين كل
…
مسودٍ يرمى بها
فدلنا على أنها بغيٌّ من ضرب رفيع لا يطرقه إلا السادة. وفي خبر أبي سفيان أن سمية أم زيادٍ كانت دون ما يطلب لمثله إذ جاء فيه: «هاتها على نتن إبطيها» وكأن هذا جيء به لذم زياد وثلب أمه والله أعلم.
فثنيت جيد غريرةٍ
…
ولمست بطن حقابها
كالحقة الصفراء صا
…
ك عبيرها بملابها
ثم حتى الأعشى أدركه الحياء هنا، فعمد إلى ذكر الشراب، وإنما هو إيماء إلى استمرار المتعة واستئنافها.
وإذا لنا تامورة
…
مرفوعة لشرابها
ومذهبه كما ترى أرق مما ذهب إليه الفرزدق حيث قال: «وبت أفض أغلاق الختام» وأحسب أن أبي ربيعة أخذ صفة مرسلته حيث قال:
فبعثت كاتمة الحديـ
…
ـث رفيقة بجوابها
وحشيةً إنسيةً
…
خراجةً من بابها
من صفة الأعشى هذه وقد سلك نفس البحر والروى- وقد أورد صاحب الأغاني هذين البيتين ومعهما ثالث وعد ذلك فيما ذكروا من محاسنه وإبرامه نعت الرسل.
ومن عجب أمر الأعشى أن هذه القصيدة في أولها من ضروب التأمل ما يقع في رثاء «الأينيات» - نعني الكلمات التي يشار فيها إلى هلاك الغابرات من الأمم:
إن القرى يومًا ستهـ
…
ـلك قبل حقٌ عذابها
وتصير بعد عمارة
…
يومًا لأمر خرابها
أو لن ترى في الزبر بيـ
…
ـنة بحسن كتابها
ولا يروعنك بعد شبه ما ههنا بالتذكير القرآني فتعجل إلى أنه منتحل، فقد هلك الأعشى بعد الهجرة بزمان، وقد تلي القرآن وحفظ وشاع ذكره في العرب منذ أن دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وذلك قبل هلاك الأعشى، (وإنما هلك بعد عام الحديبية)، بقريب من عشرين عامًا. والشعراء أسرق شيء للكلام. قال الجاحظ، هو شيخ النقاد ومرجع أكثر كلامهم، في الجزء الثالث من كتاب الحيوان:
«ولا يعلم شاعرٌ تقدم في تشبيه مصيب تام، وفي معني غريبٍ عجيب أو في معنى شريف كريم أو في بديع مخترع إلا وكل من جاء من الشعراء بعده أو معه إن هو لم يعد على لفظه فيسرق بعضه أو يدعيه بأسره فإنه لا يدع أن يستعين بالمعنى ويجعل نفسه شريكًا فيه، كالمعنى الذي تنازعه الشعراء فتختلف ألفاظهم وأعاريض أشعارهم، ولا يكون أحدٌ منهم أحق بذلك المعنى من صاحبه، أو لعله أن يجحد أنه سمع بذلك المعنى قط وقال إنه خطر على بالي من غير سماع كما خطر على بال الأول، هذا إذا قرعوه به- أ. هـ.» . قلت ولهذا المعنى حرصت قريش ومن شايعها على الشرك أول الأمر على أن يسموا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر فيغرقوا موضعه في غمرة الشعراء، وذلك قوله تعالى:{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} .
ليس الأعشى ببدعٍ من الشعراء. وكان مع أهل الشرك حتى فلج الإسلام، فما جاء من كلامه وفيه معاني القرآن فمن ثم أخذ. وقل مثل ذلك في لبيد قبل إسلامه. وفي جماعة ممن شهد أوائل الإسلام زمنًا يمكنهم من الأخذ من القرآن. وقد علموا أنه
جاء بمعجزة وتحدي. وشعر أمية بن أبي الصلت ينبغي أن ينظر إليه من هذا الوجه.
وينبه ههنا ويلفت النظر إلى أن تلاميذ النقد المعاصر وأساتذته مما يشغلون أنفسهم وتلاميذهم بتتبع أثر بلاغة القرآن في شعر الصحابة والتابعين وضروب بلاغتهم وذلك لا يحتاج إلى طول درس وتحليل. ولكن الذي يحتاج حقًّا إلى الدرس والتحليل هو تأثير القرآن وأثر بلاغته في شعراء الجاهلية الذين عاصروه ومن نوره قبسوا عن عمد أو لما كان للآيات البينات من سيرورة وتالين. وأما العمد فقد قدمنا لك مذهب الجاحظ فيه.
هذا والذي سوغ للأعشى استعمال منهج الرثاء الذي الحكمة مما سميناه «الأينيات» أن هذه الكلمة في الهجاء أو الوعيد. والأعشى ذكر ما ذكره من أمر هذه الفتاة ينتشى به ليتبختر إلى لقاء عدوه بسيف من حديد القول الصقيل البتار- قال في سياق ما تقدم:
أولم ترى حجرًا وأنت حكيمة ولما بها
إن الثعالب بالضحى يلعبن في محرابها
والجن تعزف حولها كالحبش في محرابها
يشير إلى خبر زرقاء اليمامة وقد جاء به مفصلًا في شعره وهلاك طسم وجديس وتكرار «محرابها» أمثاله عند الأعشى كثير وشبه الجن بالحبش لأن الحبش أرادت منذ عهد غير بعيد من زمان يتذكره جيل الأعشى أن تدخل مكة وتستولى على الكعبة- فهذا في ما نرى أصل تشبيهه في هذا الموضع. والهجاء دل عليه بالمطلع حيث قال:
أوصلت صرم الحبل من
…
سلمى لطول جنابها
ورجعت بعد الشيب تبـ
…
ـغي ودها بطلابها
فهذا فيه معنى التوبيخ المشعر بفتور العلاقات ولذلك قال من بعد:
أقصر فإنك طالما
…
أوضعت في إعجابها
أو لن يلاحم في الزجاجة صدعها بعصابها
أي إن العصاب لا يصلح الزجاجة بعد انكسارها. وهذا كما ترى صريح في فساد ذات البين وقال في آخر هذه القصيدة:
وردت على سعد بن قيـ
…
ـسٍ ناقتي ولما بها
أي ولهلاكها وضياعها فعلت ذلك.
فإذا عبيد عكف
…
مسك على أنصابها
وجميع ثعلبة بن سعـ
…
ـدٍ بعد حول قبابها
من شربها المزاء ما استبطنت من أشرابها
وعلمت أن الله عمدا حسها وأرى بها
فسرها المحقق وفي بعض ما ذكره نظر كقوله (المختارات طبعة الحلبي 2/ 255 الهامش 44) مسك متعلقون وضبطها بضم الميم وفتح السين وهو جائز وما أرى إلا أنه جمع مسكة بكسر الميم وهي القطعة من المسك ويجوز في الجمع أن تجعل كفعل بضم الفاء وفتح العين أو كسرها وفتح العين. والمسك كما ذكر صاحب القاموس من المقويات أم لعل الصواب: مسك بكسر الميم وسكون العين وهو مستقيم معنى ووزنًا وفيه بعد السخرية، أي إذا بنوا سعد بن قيس عبيد لهم صنان عاكفون على أصنام لهم عليها يشربون المزاء أي الخمر ولكني ما استبطنت، ما أدخلت بطني، شيئًا من أشرابها جمع شرب أو شرب بضم الشين أو كسرها أي مما يشربون- وعلمت أن الله أهلكها وأخزاها.
وشراب الخمر أعلم بذم شرابها.
وأحسب أن الفرزدق نظر إلى هذا من قول الأعشى في الأبيات العينية التي صور فيها عمارًا ذا كناز وأصحابه صورة مضحكة هازئة- وفي الديوان من يأت عوامًا وما أراه إلا تصحيفًا وما هو إلا عمار بتشديد الميم وكان عمار هذا ماجنًا:
من يأت عمارًا ويشرب عنده
…
يدع الصيام ولا تصلي الأربع
في الديوان كما تقدم «عوامًا» ورأيتها «عمارًا» في موضع يوثق به وساق الخبر وند بعد عني.
ويبيت في حرجٍ ويصبح همه
…
برد الشراب وتارة يتهوع
ولقد مررت ببابهم فرأيتهم
…
صرعى ومنهم قائمًا يتتعتع
أي وبعضهم يتتعتع في حال قيامه.
فذكرت أهل النار حين رأيتهم
…
وحمدت خالقنا على ما يصنع
في الديوان «خائفنا» وفيه بعد والصواب «خالقنا» وهكذا رأيتها وسائر الرواية في الموضع الذي ند عني وفي الديوان ص 514 (مصورة من طبعة الصاوي بمصر) بياض مكان (منهم)، ومكان سخرية الفرزدق وصورته المضحكة تشبيهه حال السكارى بحال أهل النار وأوصافهم كأن تكون وجوههم مردودة على أدبارهم، ثم حمده الله على هذا الذي رآه لما فيه من عظة واعتبار وجل من لا يحمد على المكروه سواه.
وما ذكرنا من شعر الأعشى منبئ على مرادنا من هذا الضرب الرابع من شعر الغزل، الذي إنما يعمد فيه إلى الملح والإحماض. ومن أشهر أمثلته في الشعر القديم الوصف الذي في أبيات دالية المتجردة، وقد تقدم الحديث في ذلك والدالية اليتيمة تحاكي مذهب النابغة وهذا التي أولها:
هل بالطلول لسائلٍ رد
وصاحبها يقال دورقة المنبجي وند موضعها عني وأحسبها أخرجها الميمني في بعض ما أخرج من مختارات.
وأمثال قول عنترة.
تجللتني إذ أهوى العصا قبلي
ليس من باب الإحماض كما لا يخفى، ولكن من باب الوداد. وأبيات عبيد بني الحساس:
توسدني كفا وتثني بمعصم
فيها قصص حلاوة الأنس ولكن فيها أيضًا التلذذ بالذكرى والوداد.
وفي قول أبي قردودة:
كبيشة عرسي تريد الطلاقا
…
وتسألني بعد وهنٍ فراقا
كبيشة إذ حاولت أن تبين
…
يستبق الدمع مني استباقا
وقامت تريك غداة الفرا
…
ق كشحًا لطيفًا وفخذًا وساقا
ههنا لون جنسي ولكن الأبيات جارية على نموذج المرأة المغاضبة.
ومنسدل كمثاني الحبا
…
ل توسعه زنبقًا أو خلاقا
وهذه الأبيات مما رواه الجاحظ، وما أحسب لولاه عرف مكان أبي قردودة وهو صاحب ابن عمار الطائي الذي نهاه عن أحمر العينين والشعرة ومرت أبيات ذلك وهي أيضًا مما روى الجاحظ وأشار إليها ابن عبدون في الرائية.
ومما يحسن ذكرهم في هذا الفصل عن الضرب الرابع أبيات قريبات من معنى
الملح عباسيات أو مقاربة ذلك مما رواه الجاحظ، أحسبها في البيان يقولها أحد الشعراء يهجو بها القبطي من قضاة قريش نسبوه إلى أمه:
أتاه وليدٌ بالشهود يقودهم
…
على ما ادعى من صامت المال والخول
وجاءت إليه كلثم وكلامها
…
شفاء من الداء المخامر والخبل
فأدلى وليدٌ عند ذاك بحقه
…
وكان وليد ذا مراءٍ وذا جدل
وكان لها دل وعينٌ كحيلة
…
فأدلت بحسن الدل منها وبالكحل
ففتنت القبطي حتى قضى لها
…
بغير كلام الله في السور الطول
أحسبه يشير إما إلى مسألة الافتداء وإما إلى مهر من تفرض لها فريضة ثم تطلق من دون مساس والأول أشبه لقوله: «على ما ادعى من صامت المال والخول» فتكون كلثم فركت وليدًا وادعت عليه دعاوي بدلها وطالب هو بمهرها الذي أصدقها إياه فلم يجده مع ما أوتي من مراءٍ وجدل والآيات التي في الجزء الثاني من البقرة من عند قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} هي المرادة فيما أرى. والسور الطوال بضم ففتح أي الطوال وهي البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة ويونس.
فلو كان من بالقصر يعلم علمه
…
لما استعمل القبطي فينا على عمل
أي الأمير.
له حين يقضي للنساء تخاوصٌ
…
وكان وما فيه التخاوص والحول
يتخاوص على من يقضي عليه جبرية وإرهابًا أي ينظر شزرًا وبمؤخر عينه.
إذا ذات دلٍ كلمته بحاجة
…
فهم بأن يقضي تنحنح أو سعل
وبرق عينيه ولاك لسانه
…
يرى كل شيء ما خلا شخصها جلل
أي صغيرًا وسكن اللام على لغة ربيعة والوقف في هذا الموضع بالألف أو «يرى» مبنية للمفعول.
على أن مذهب هذه الأبيات اللامية هجاء فهذا قولنا إنها مقاربة للملح. وكل باب الإقذاع الهجائي تجيء فيه الملح الجنسية كهذا أو أشد ولذلك موضعه فنأمل أن نذكر شيئًا منه أن صرنا إليه إن شاء الله.
وفي شعر ابن أبي ربيعة إحماض بويرد. وقد كان الرجل سيدًا قرشيًّا غير بعيد المنزلة من السياسة. وقد كان أخوه الحارث من الأمراء وهو الملقب بالقباع وأحسب أن ابن أبي ربيعة إنما يجيء بالأحماض من أجل إكمال ظرافة كلامه كما في أبياته الرائية التي فيها يقول:
ثم كانت دون اللحاف لمشغو
…
فٍ معنى بها مشوقٍ شعارا
وفي بعد قوله «شعارا» وهي الخبر عن «كانت» عمل وتردد في الحكاية.
واشتكت شدة الإزار من البهـ
…
ـر وألقت عنها لدي الخمارا
وأظن الدكتور زكي مبارك رحمه الله حسب أن المراد ههنا أمرٌ مكشوف. والمتأمل سيصح عنده أن ابن أبي ربيعة ما عدا أن هذه المحبوبة جلست لأنس وغرام ليس بمتجاوز العفاف إلى الزنا ودليل ذلك قوله: «ألقت عنها لدي الخمارا» . إلقاؤها الخمار لديه وسفورها، ذلك شأو من المودة والأنس بعيد. واشتكت أن نطاقها آذتها شدة ملاصقته جسدها، وذلك لبهرها، أي تعبها بضم الباء وسكون الهاء وانقطاع نفسها إذ جاءت إليه في عجلة وتوجس من مكان بعيد، فأدخلت يدها في درعها تحل الإزار لتخفف من ضغطه على جسدها، لا أكثر من ذلك. وعماها ذلك في مجلسه طرحٌ للاحتشام وأنسٌ بالغ. ولا يستقيم في صناعة الشعر أن يكون الشاعر يريد أنها حلت نطاقها على حد قول البحتري:
وقطع التكة الرأي
…
إذا التكة لم تحلل
ثم يقول: «ألقت لدي الخمارا» - إذ حل النطاق «أجل من التحرش» كما في المثل:
حبذا رجعها إليها يديها
…
في يدي درعها تحل الإزارا
فلو كان الأمر جنسًا ووطئًا ما كان لتأمله رجع اليدين كبير معنى، ولشغلته شهوة الحيوان عن نحو هذا التأمل الجمالي.
ثم قالت وبان ضوءٌ من الصبـ
…
ـح منير للناظرين أنارا
يعني الفجر الذي يليه صوت المؤذن:
يابن عمي فدتك نفسي إني
…
أتقي كاشحًا إذا قال جارا
والحور مجاوزة الحد فهي يخشى أن يقال عنها بلسان الحسد ما لم تفعله فتأمل. وهذ أسلوب المحادثة المؤنثة الذي يحسن ابن أبي ربيعة حكايته. وما أدري لماذا لم يفطن أصحاب النظريات العرقية إلى ما كان يجري فيه من دم حبشي كما قد فطنوا إلى يونانية ابن الرومي أم هان أمر «الحبشية» عندهم -نعني به النسبة إلى الحبشة- وليس لعمري بالأمر الهين. وزعمنا أن فيه دمًا حبشيًا لورود الخبر بذلك أن أمه كانت حبشية وذكروا غير ذلك مما ليس عنه ببعيد حقًّا (1).
وبشار في الرائيتين ممن جرى على مذهب هذا الباب الرابع من الغزل، على أنه نظر -إن جاز أن يقال نظر لمكان ضرره كما لا يخفى- نظرًا شديدًا إلى شيطنة الأعشى، قوله (وهو من لعب امرئ القيس):
أمتي بدد هذا لعبي
…
ووشاحي حله حتى انتثر
فيه صدى من:
فثنيت جيد غريرة
…
ولمست بطن حقابها
(1)() نسب أبو الفرج الأول إلى عمر بن شبة وذكر ورجح ذلك أن اسم أمه مجد أم ولد من أصل حميري وقع عليها سباء. وحمير من العرب سادة فهل كانت خلاسية؟ ولعمر ابن سماه جوانا ومعنى الواد في هذا لا يخفى وله بنت سماها أمة الواحد وهذا مما تجوز التسمية به ولا يخلو بعد من معنى بعض الدفاع.
هذا والحديث في أبواب الغزل والنسيب ذو سعة.
على أنه مما ينبغي التنبيه إليه مكان جريرٍ -لا في هذا الباب الرابع من الغزل، فإن تناوله إياه أكثر دخوله في باب إقذاع الهجاء، ولكن في باب الهوى والصبابات.
وباب الهوى والصبابات أكثره فرع من حنين النسيب الجاهلي الطلي وهو الضرب الأول. وفي الصدر الأول الإسلامي غمر روحٌ من التعبد والتقوى والزهد والتصوف كان له -فيما نعتقد أثر عظيم- في تقوية هذا الضرب الأول والارتفاع به إلى مراق جعلته أعظم أصناف النسيب وأبقاها أثرًا وتأثيرًا في شعر العرب وشعر الأمم التي أخذت منهم. ولسنا نرد أن نفيض الآن في مناقشة أسطورة القرن الرابع الهجري أنه كان ذروة التفكير والحضارة الإسلامية، فالذي نراه أنه على جودة ما كان فيه من إنتاج إنما كان بداية الضعف -إن كان ثم حقًّا ضعف. ومقالة من قالوا إن التصوف «الإسلامي» نشأ بأخرة فيها عندنا شك كبير ونضع الإسلامي بين قوسين لأنكارناها إذ كل تصوف لهو إسلامي بالضرورة فوصفه بالإسلامي زيادة لا حاجة بالمعنى إليها. وذكر لفظ التصوف في كتب الجاحظ يدل على قدم اللفظ. والجاحظ من رجال القرن الثاني وطال عمره إلى الثالث {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} والتبويب بحسب المئين من السنوات أمر فهرسة لا حقيقة واقعة، فالدولة الأموية انتهت سنة 132 هـ وبدأت سنة 40 هـ فليس هذا بجاعلها تمثل القرن الأول دون القرن الثاني ولكن لها في أحدهما الثلثان وفي الآخر الثلث، وللدول من المرانة وقابلية التغير الجوهري أكثر مما للأفراد فالجاحظ الذي ولد قبل أبي نواس (فهو ينص على أنه أسن منه) يجب أن ينسب في أمر المعاصرة إلى جيل أبي نواس. وقد عاش مع ذكراه بعد أن مضت السنون على وفاته والمختار له ولشعراء جيله أكثر وردوا عند الجاحظ من شعر الجيل الذي ينتمي إلى أوائل المائة الثالثة وأواخر الثانية. وقال أبو تمام في بعض شعره وهو مما تناوله النقاد:
كانوا برود زمانهم فتمزقوا
…
فالآن قد لبس الزمان الصوفا
وقال صخر بن عمرو بن الشريد في ما روي من أخبار الخنساء لما سئلت عن طول حدادها على أخيها وأن ذلك مما ورد النهي عنه في الإسلام:
وإن هلكت مزقت خمارها
…
واتخذت من شعر صدارها
فمن العجب البحث عن أصل يوناني لهذه الكلمة. ومن قديم مقال العرب: «وما بل بحرٌ صوفة» فهل نحسب أنهم كانوا يجزون صوفة فيختبرون بها البحر أم هذا يشير إلى ثياب الصوف ما رق منها وما خشن. قال امرؤ القيس:
وفي كتاب الزبير بن بكار عن عباد قريش وخاصة عباد قومه بني أسد منهم عجائب. وفي القرآن من آيات العبادة الدالة على التجرد كثير، ما كان ناشئًا من خوف الله وما كان ناشئًا من حب الله سبحانه وتعالى. قال تعالي:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران]. والعجب لمن يقرأ خبر الوحي ثم يحاول أن يرد أمر الروحانية في التفكير الإسلامي إلى الهند وإلى اليونان.
وكأن المسلمين عند بعض من يأخذ بأطراف هذا الموضوع لم يعرفوا شيئًا من الهيام بالملأ الأعلى من قبل الحلاج، ولعله رحمه الله ما جرت إليه القتل والصلب والتحريق إلا السياسة وجذبه من بعض مطالبها بحبال. وقد كان زمانه زمان كثير من ذلك- كالقرامطة وصاحب الزنج وهو إن منزلة الخلافة بعد مقتل المتوكل أو الأمين. شعر عروة بن أذينة روحاني النسيب مثل كلمته:
إن التي زعمت فؤادك ملها
…
خلقت هواك كما خلقت هوى لها
وفيها قوله:
وإذا وجدت لها بوادر سلوة
…
شفع الضمير إلى الفؤاد فسلها
وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود:
شققت القلب ثم ذررت فيه
…
هواك فليم فالتأم الفطور
تغلغل حب عثمة في فؤادي
…
فباديه مع الخافي يسير
أي هذا الذي يظهر منه هو شيء قليل بالنسبة إلى ما أخفيه منه.
تغلغل حيث لم يبلغ شراب
…
ولا حزنٌ ولم يبلغ سرور
هذه غاية في الرقة والروحانية. ومع حرارة العاطفة وصدق البيان هنا، أيضًا، فكر عميق.
وقد كان الحجاز الموطن الأول للفقه والعلم. وظهر أثر ذلك في الشعر. وأثر لا في شعر الحجازيين وحدهم- مثل كثير، وتجويده وعمق تفكير في شعره لا يخفى، وأستاذه جميل الذي وصف بصدق الصبابة لغلبة صدقه في الحب على طريقته في تعمق معاني الحب، وعمر الذي لا يفتر من الإشارة إلى المعاني الفقهية في فكاهاته والأخذ من حوار القرآن، ولكن في سائر شعراء العرب من بالعراق ومن باليمن منهم ومن بالبادية منهم وبالشام. ولا ريب أن ههنا نظرة تفكير وتأمل في هذه الأبيات من شعر ابن الدمينة:
وقد زعموا أن المحب إذا دنا
…
يمل وإن النأي يشفي من الوجد
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا
…
علي ذاك قرب الدار خيرٌ من البعد
على أن قرب الدار ليس بنافع
…
إذا كان من تهواه ليس بذي عهد
ولم يكن ابن الدمينة من الفقهاء ولكن من بادية خثعم.
تأمل ما قاله ابن أذينة وكان من العلماء وأهل الفكر في قريب من هذا المعنى:
إلفان تعنيهما للبين فرقته
…
ولا يملان طول الدهر ما صنعا
مستقبلان نشاصًا من شبابهما
…
إذا دعا دعوة داعي الهوى سمعًا
تأمل قوله (نشاصًا من شبابهما) وانظر شدة شبهه باستعارات أبي تمام وأصحاب البديع من بعد. النشاص السحاب الأبيض وهو أول ما يجتمع من سحاب المزن مرتفعًا بعض فوق بعض.
لا يعجبان بقول الناس عن عرضٍ
…
ويعجبان بما قالا وما صنعا
وتأمل التعمق النفسي في قول كثير:
وددت وما تغني الودادة أنني
…
بما في ضمير الحاجبية عالم
فإن كان خيرًا سرني وعلمته
…
وإن كان شرًّا لم تلمني اللوائم
وما ذكرتك النفس إلا تفرقت
…
فريقين منها عاذرٌ لي ولائم
شعر كثير وجميل وعمر والأحوص وجيلهم من أمصار الحجاز أيام الصدر الأول فيه هم المنحى الفكري المثقف. والغالب على الآخذين بدرسه أن يكتفوا بقسمته إلى عذري وجنسي وحواري وتقريري أو أشياء من هذا المنحى ويغفلون عن جانب غلبة صناعة الفكر والفن عليه وهي بالنسبة إليه أصل وجميل وعمر كانا يمثلان ذروة التبريز في مذهبين من هذه الصناعة- مذهب الحنين وحديث الشوق والغرام وزاد فيه جميل على الصناعة صدق الصبابة وسلاسة الطبع والانفعال ومذهب حديث النساء ولهوهن والمغامرة إليهن وزاد عمر بالظرف وتمثيل أحوال مجتمعه ولا سيما جانبه المؤنث بدقة وحذق وحضارة أسلوب.
وكان كثير شاعرًا فحلًا، غير أنه قصر عن ذروة جميل في مذهب الصبابة، لحرارة أنفاس هذا وصدقه وقصر عن ذروة عمر في مذهب المؤانسات لا سماح طبع هذا وانسياب حلاوة ظرفه وشيطنته وقصصه وزاد عليهما باستقصاء المعاني وتعمقها تعمقًا مذهلًا. ومع هذا لم يجسر على بعض ما جسرا عليه مما يدخل في أعماق أغوار التأملات النفسية مثل قول جميل:
رمى الله في عيني بثينة بالقذى .... وفي الغر من أنيابها بالقوادح
فما دعا عليها إلا وهو يعبر عن صدق صبابة غالبة حتى لقد أمضته ولذعته لأنه أحس أن فيها إتلاف نفسه.
ومثل هذا قول جنادة العذري وأحسبه قد يروي لعمر (1).
من حبها أتمنى أن يلاقيني
…
من نحو بلدتها ناع فينعاها
ولو تموت لراعتني وقلت لها
…
يا بؤس للموت ليت الموت أبقاها
وقد تعلم خبر سلامة مع عبد الرحمن كان يلقب بالقس وأخبار المجنون والوضاح وما أشبه -كلهن من صناعة أهل ثقافة وحضارة وقد ذكروا أن خبر المجنون كله صنعه بعض بني أمية وليس ذلك ببعيد فقد كان منهم شعراء محسنون- عبد الملك كان شاعرًا راوية فقيهًا، وكذلك كان مروان شاعرًا ورووا له أبياتًا يستشهد بها في باب القوافي. وأمر الوليد بن يزيد واشتهاره بالشعر معروف. وكان يزيد بن معاوية شاعرًا. وكأن المعري ينسب الأبيات اليائية إليه وإن لم يصرح بذلك وهي التي أولها:
أخالد قومي خبريني وأعلني
…
حديثك إني لا أسر التناجيا
وهو القائل:
إذا جلست على الأنماط متكئًا
…
بدير مران عندي أم كلثوم
فما أبالي الذي لاقت جموعهم
…
بالقند فونة من حمى ومن موم
(1)() لعل مما تصح به روايته لعمر أنه روي له:
أفق قد أفاق العاشقون وفارقوا الهوى واستمرت بالرجال المرائر
زع النفس واستبق الحياء فإنما
…
تباعد أوتدني الرباب المقادر
وهبها كشيءٍ لم يكن أو كنازح
…
به الدار أو من غيبته المقابر
وهذا مكان استشهادنا، على أن هذه الأبيات تروى لكثير وكأن أبا الفرج يرجح نسبتها إلى عمر والله أعلم.
وهذا نفس ينبئ عن شعر كثير. وزعم ابن خلكان أن له ديوانًا وأورد أبياتًا منها:
وقالت نساء الحي تطمع أن ترى
…
بعينيك ليلى مت بداء المطامع
وقد دخل هذا في أشعار المتصوفة.
على أن الشاعر الذي اقتبس أضوأ جذوة من الضرب الأول من النسيب- وهو الحنين والصبابة مع ملابسة الرمز والروحانية والحرارة وأجواء من أهواء الأنفس وضمائرها لكل لذلك- لم يكن من شعراء الغرام المشهورين به دون غيره، ولكن الفحول، الذين متى ذكروا ذكر أمر تقدمهم في المدح والهجاء والفخر وما أشبه أول شيء -ذلك الشاعر هو جرير.
وقد فطن النقاد ورواة الشعر لتبريز جرير فقالوا إن أغزل بيت قالته العرب قوله:
إن العيون التي في طرفها مرضٌ
…
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
وأحلى غزل قوله:
إن الذين غدوا بلبك غادروا
…
وشلا بعينك لا يزال معنيا
غيضن من عبراتهم وقلن لي
…
ماذا لقيت من الهوى ولقينا
في نسيب جرير حرارة وعمق وحنين وقد أتيح بسبب ما برع فيه من أساليبه فيه أن صار ذلك نموذجًا يحتذى. وقد تنبه إلى هذا المعنى ونبه عليه بشار في نونيته التي جارى بها:
يا حبذا جيل الريان من جيل
…
وحبذا ساكن الريان من كانا
وحبذا نفحات من يمانية
…
تأتيك من قبل الريان أحيانا
فقال:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة
…
والأذن تعشق قبل العين أحيانا
وحاكى البحتري أسلوب جرير، وحاكى مداح الرسول عليه الصلاة والسلام أساليبهما وانتقلت آثار ذلك إلى الأشعار الفارسية كما في روضة سعدي الشيرازي مثلًا وقد ترجمت إلى العربية منذ حين قريب. وشاعر آخر ينبغي أن يقرن بجرير وهو ذو الرمة. وكانت له مية كما كانت لكثير عزة ولجميل بثينة ولتوبة ليلى الأخيلية ولابن الطثرية وحشية. وكانت له خرقاء وقيل هي مية. ولعلهما ما كانا إلا علمي غرام شعري استعارهما من جمال امرأتين رآهما وتحدث إليهما وأعجب بجمالها هما مية بنت طلبة من آل قيس بن عاصم وخرقاء من حسان بني عامر بن صعصعة. واسم خرقاء لقب تحبيب، يطلق على الجميلة التي لا تصنع شيئًا وإن كانت في حاق أمرها تحسن أن تصنع يقال لها ذلك لأنها منعمة أو للدلالة على تنعمها- وقد ألمعنا إلى هذا المعنى عند الحديث عن ميمية علقمة. ويطلق أيضًا على المحسنة في الصناعة من باب تسمية الشيء بضده، وأحسب أنه لذلك سميت خرقاء -إن لم يكن هذا اسمها الأول- الصحابية التي كانت تقم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنها، ولا ريب إنها كانت تحسن ما تصنع وأن يكون هذا لقبًا أشبه والله أعلم.
في شعر جرير حرارة انفعال النفس نحو الجمال والحب معًا -تأمل قوله:
لما تذكرت بالديرين أرقني
…
صوت الدجاج وقرع بالنواقيس
فقلت للركب إذ جد الرحيل بنا
…
ما بعد يبرين من باب الفراديس
يبرين صحراء العرب بنجد وباب الفراديس بدمشق.
لو قد علون سماويًّا موارده
…
من عند دومة خبت قل تعريسي
هل دعوة من جبال الثلج مسمعةٌ
…
أهل الإياد وحيًّا بالنباريس
فههنا حنين خالص ويزيد فيه قوة الإحساس بالطبيعة- ومن آية ذلك الموازنة بين سماء الصحراء المصحية وجبال الشام ذات الثلج وضروب السحاب
والدكنة والنبت مما ليس في الموارد السماويات من عند دومة خبت إلى يبرين ومكان الترنم بالمواضع يزيد روح الحنين قوة.
وتأمل قوله وهو مما خلطت فيه اللوعة بالحنين وحلاوة الغزل:
أهوى أراك برامتين وقودا
…
أك بالجنينة من مدافع أودا
بان الشباب فودعاه حميدا
…
هل ما ترى خلقًا يعود جديدا
يا صاحبي دعا الملامة واقصدا
…
طال الهوى وأطلتما التفنيدا
إن التذكر فاعذلاني أودعا
…
بلغ العزاء وأدرك المجلودا
أي وصل إلى حيث العزاء والتسلي فأزاله وأدرك مكان الجلد والتصبر فذهب بكل تجلد وصبر.
لا يستطيع أخو الصبابة أن يرى
…
حجرًا أصم ولا يكون حديدا
هذا من القرآن كما ترى {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} [الإسراء]، فإن يكن جريرًا أخذ من الأحوص قوله:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى
…
فكن حجزًا من يابس الصخر جلمدا
فقد أخفى الأخذ وذهب به، لنظره إلى القرآن، مذهب توليد أيما بارع وإن لم يكن أخذ من الأحوص فهو بذلك حقيق، إذا التأثر بالقرآن في شعره كثير ظاهر.
أخبلتنا وصددت أم محلم
…
أفتجمعين خلابة وصدودا
الهمزة والفاء والواو العاطفة من خاص أسلوب القرآن. والأعشى قد نظر إليه في هذا ومرت أبيات من هذا المجرى في بائيته التي استشهدنا بها في الضرب الرابع.
إني وجدك لو أردت زيادة
…
في الحب عندي ما وجدت مزيدا
يا مي ويحك أنجزي الموعودا
…
وارعي بذاك أمانة وعهودا
ونرى كلامك لو ينال بغرة
…
ودنو دارك لو علمت خلودا
نام الخلي وما رقدت لحبكم
…
ليل التمام تقلبًا وسهودا
في شعر جرير من طابع زمانه ذكر الحدود والغيرة وبعض ظرف الحديث وفكاهته. هذا من مذهبه اختفى في نهجي أبي تمام البحتري. البحتري أقرب إلى نفسه. وأخذ أبي تمام من طريقته مخالطه بديعه ذو العقد الكثيرات والأخذ الدقيق من ذي الرمة وغيره من الشعراء. ألح البحتري على نفثات اللوعة وذكر المواضع ليزيدها وقد نبهنا إلى هذا من مذهبه عند الحديث عن التكرار المحض في الجزء الثاني.
على أن حلاوة جرير وفكاهة ظرفه لا تفثأ من حرارة عاطفته شيئًا. بل لعلها نوع من استراحة فنية يستريح به منها كما هي أيضًا لا تخلو من معنى التقية. وأحسب أن كلردج لوقد كان زعم أن الشعراء المحسنين مما يستريحون من مواضع قوة الانفعال إلى ضروب من التلهية الفنية يجعلون ذلك بمنزلة الفواصل لكان لمذهبه الذي قال به في «الشعر والمنظومة» (راجع قبله) وجه ما. على أن التطويل في منظومات الإفرنج ومن اقتدوا بهم كان من بعض ما دعاه إلى هذه المقالة كما قدمنا.
خذ قوله:
ألا ترى العين يوم البين إذ ذرفت
…
هاجت عليك ذوي ضغن وحساد
حلأتنا عن قراح المزن في رصفٍ
…
لو شئت روى غليل الهائم الصادي
حلأتنا أي منعتنا الماء وعني تقبيلها، وكانت شعراء الجاهلية تشبه حلاوة الثغر في التقبيل بالسلافة تمزج بالعسل والثلج والماء. ولكن جريرًا ههنا يكتفي بالماء، ويجعله ماء جاريًّا على رصف من الحصى، ليدل على برده ونقائه. وجعل للتقبيل ما لمثل هذا
الماء من موقع في نفس العطش الصدى، وصار الأمر ليس لذة وتمتعًا كما كان يصفه الشاعر الجاهلي، ولكن حرارة ولوعة، تشتد الحاجة إلى إطفائها -وشتان ما بين الشيء الذي يلتمس لمتعة فينال، والذي يطلب من أجل احتياج إليه ويمنع. التشبيه من نوع إسلامي مألوف، نحو منه قول القطامي:
فهن ينبذن من قول يصبن به
…
مواقع الماء من ذي الغلة الصادي
وهو قبل كلمة جرير هذه؛ لأنه من قصيدة قيلت في مدح زفر بن الحارث وذلك قبل زمان معاوية بن هشام بن عبد الملك الذي قيلت فيه هذه الدالية الجريربة والقطامي يتحدث عن منالة وجرير عن حرمان وهذا مكان الالتياع.
كم دون بابك من قوم نحاذرهم
…
يا أم عمرو وحداد وحداد
هل من نوال لموعود بخلت به
…
وللرهين الذي استغلت من فادي
لو كنت كذبت إذ لم تؤت فاحشة
…
قومًا يلجون في جور وإفناد
لا جرم نظر جرير إلى دالية القطامي نظرًا شديدًا من طرف مختلس لذلك النظر الشديد- تأمل محاكاة الإيقاع في «قومًا يلجون في جور وإفناد» لقول القطامي (واسمه عمير بن شييم):
من مبلغ زفر القيسي مدحته
…
من القطامي قولًا غير إفناد
ثم يقول جرير:
فقد سمعت حديثًا بعد موثقنا
…
مما ذكرت إلى زيد وشداد
تعداد الأسماء هنا ينظر أيضًا إلى القطامي في بيته المتقدم. وحلاوة الفكاهة ههنا من جرير إلى سامعي شعره. وحرارة العاطفة من جرير إلى ليلى نسيبه. فههنا لونان شريجان من التعبير.
حي المنازل بالبردين قد بليت
…
للحي لم يبق منها غير أبلاد
هذا كأنه استراحة من الحوار الحاد العاطفة الذي مضى- مع ما فيه من الفكاهة.
ما كدت تعرف هذا الربع غيره
…
مر السنين كما غيرن أجلادي
لقد علمت وما خبرت من أحد
…
أن الهوى بنقا يبرين معتادي
وهذا كأنه يكفكف به دمعه.
وقال رحمه الله:
كيف العزاء ولم أجد مذ ينتمو
…
قلبًا يقر ولا شرابًا ينقع
ولقد صدقتك في الهوى وكذبتني
…
وخلبتني بمواعد لا تنفع
قد خفت عندكم الوشاة ولم يكن
…
لينال عندي سرك المستودع
كانت إذا نظرت لعيد زينة
…
هش الفؤاد وليس فيها مطمع
هذا من أجود ما قيل في تجميل النساء مظهرهن، تريد الحسناء بذلك إكمال بهاء شخصها، لا تريد تبرجًا وخفة إلى اللهو.
وقوله «نظرت لعيد زينة» - دليل على صحة ما ذكر من العفة والحصانة أي تنتظر أن تتزين للعيد وهو موسم والتزين له من الطيبات اللاتي لم تحرم.
بان الشباب حميدة أيامه
…
ولو أن ذلك يشترى أو يرجع
رجف العظام من البلى وتقادمت
…
سني وفي لمصلح مستمتع
وتقول بوزع قد دببت على العصا
…
هلا هزئت بغيرنا يا بوزع
زعم ابن قتيبة إن جريرًا كان ينشد أحد الخلفاء -أو من بمجراه- هذه القصيدة وهو طرب لها حتى صار إلى هذا البيت فأفسد ذلك الطرب بهذا الاسم القبيح «بوزع» .
ولا ريب أن ابن قتيبة كان يقول بهذا الذي قاله من وجه صواب. غير أنه لا يخفى أن جريرًا أراد به الفكاهة. وبوزع هذه، ظاهر إنها ليست المحبوبة ولكن امرأة
أخرى، التفت إليها الشاعر، أو لعلها امرأته، كما هو قد أسن هي أيضًا قد أسنت، فتنكر عليه هذا التصابي. وحمل الخليفة -أو من بمجراه- (إن صحت الرواية) - هذا الاسم على أنه علم المشبب بها ففتر طربه من أجل ذلك. على أن ابن قتيبة لم يخل في الذي ذهب إليه من تنطس أذواق أهل عصره. وجرير من أدق الشعراء اختيارًا للفظ ومن أسمحهم طبعًا وأنصعهم ديباجة. والبزيع في اللغة من معانيها الظريف والغلام الحدث الذي يتكلم ولا يستحي، فالقصد إلى التلقيب بهذا المعنى لامرأة غير المتغزل بها وهي امرأته، أو بالمتغزل بها على أنها امرأته وهو يفاكهها، يستقيم عليه المعنى الذي أراده الشاعر كل الاستقامة. واشتقاقه اسم بوزع لا يخلو من مرح- بل هو مرح جدًّا لو تفطن المرء إليه في سياقه:
وتقول بوزع قد دببت على العصا
…
هلا هزئت بغيرنا يا بوزع
ولقد رأيتك في العذارى مرة
…
ورأيت رأسي وهو داج أفرع
هذا يوهم أن المتغزل فيها امرأته، شابت كما شاب- وهذا كمذهب معاوية الحكماء في أبياته التي أولها:
أجد القلب من سلمى اجتنابا
وهي مفضلية وقد ذكرنا منها في ما تقدم من هذا الكتاب. وقول جرير من بعد يشهد بأن المشيب بها غير بوزع الهازئة:
كيف الزيارة والمخاوف دونكم
…
ولكم أمير شناءة لا يربع
أي لكم زوج بغيض شتيم غيور.
يا أثل كابة لا حرمت ثرى الندى
…
هل رام بعدي ساجر فالأجرع
حيوا الديار وسائلوا أطلالها
…
هل ترجع الخبر الديار البلقع
ولقد حبست بها المطي فلم يكن
…
إلا السلام ووكف عين تدمع
فسقاك حيث حللت غير فقيدة
…
هزج الرواح وديمةٌ لا تقلع
قوله غير فقيدة احتراس من السقيا التي تكون في الرثاء. على أنه ههنا إنما يرثى قطعة من نفسه وهي الشباب والمحبوبة رمز له. وتعداد المواضع مما ذكرنا من قبل أنه يقوي معنى الحنين.
ومما يشهد لنسيب جرير أنه كان آخذًا بقلوب أهل عصره ما رووا من أن سكينة بنت الحسين رضي الله عنهما أخذت عليه قوله:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا
…
وقت الزيارة فارجعي بسلام
ولم تجهل سكينة أن جريرًا إنما يذكر طيفًا -وإنه طرد الطيف لأنه مقبل على قتال والعرب لا تقرب النساء إذا أقدمت على الحرب، ولكن رأت وجه مأخذ عليه فأخذته. وهذا من النقد كأخذهم على جميل قوله:«رمى الله في عيني بثينة بالقذى» وعلى عمر قوله «من نحو بلدتها ناع فينعاها» ومخرج جرير أقرب مخرجهما.
ومما سار لجرير في معاني الحنين والنسيب قوله:
تمرون الديار ولم تعوجوا .... كلامكم علي إذن حرام
وقوله:
أتذكر إذ تودعنا سليمى
…
بفرع بشامة سقي البشام
وقوله:
يا أم ناحية السلام عليكم
…
قبل الرحيل وقبل عذل العذل
لو كنت أعلم أن آخر عهدكم
…
يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل
وقوله:
فلما التقى الحيان ألقيت العصا
…
ومات الهوى لما أصيبت مقاتله
وقوله:
فهيهات هيهات العقيق ومن به
…
وهيهات خلٌّ بالعقيق نواصله
وقوله:
لا بارك الله فيمن كان يحسبكم
…
إلا على العهد حتى كان ما كانا
لا بارك الله في الدنيا إذا انقطعت
…
أسباب دنياك من أسباب دنيانا
والقصيدة النونية التي منها هذان البيتان وغيرهما مما هو مشهور جدًّا من شعر جرير أريد بها هجاء الأخطل ونسيبها سبعة وخمسون بيتًا كلها أكثرها رائع سيار وبعد ذلك خمسة عشر بيتًا من الهجاء. وقد أوردنا منها قطعة صالحة في الجزء الأول في معرض الحديث عن البحر البسيط.
هذا ومما نفس جرير فيه بين جدًّا من شعر أبي عبادة البحتري قوله:
هذي المعاهد من سعاد فسلم
…
واسأل وإن وجمت ولم تتكلم
آيات ربع قد تأبد منجد
…
وحدوج حي قد تحمل متهم
وبمسقط العلمين ناعمة الصبا
…
حيرى الشباب تبين إن لم تصرم
بيضاء تكتمها الفجاج وخلفها
…
نفسٌ يصعده هوى لم يكتم
هل ركب مكة حاملون تحية
…
تهدى إليها من معنى مغرم
إن لم يبلغك الحجيج فلا رموا
…
في الجمرتين ولا سقوا في زمزم
ورموا برائعة الفراق فإنها
…
سلم السهاد وحرب نوم النوم
الإشارة إلى الحجيج ومكة والجمرتين فيها أصداء عمر بن أبي ربيعة وجيله
ولكن على مذهب من التغني والترنم والشجن الفني الجريري المعدن. وهذا هو الذي صار من بعد بصفائه وحرارته منهجًا لمداح الرسول عليه الصلاة والسلام في مدائحهم، كقول البوصيري في أول البردة:
أمن تذكر جيران بذي سلم
…
مزجت دمعًا جرى من مقلة بدم
أم هبت الريح من تلقاء كاظمةٍ
…
وأومض البرق في الظلماء من إضم
فما لعينيك إن قلت أكففاهمتا
…
وما لقلبك إن قلت استفق يهم
أيحسب الصب أن الحب منكتم
…
ما بين منسجم منه ومضطرم
وكيف تكتم حبًّا بعد ما شهدت
…
به عليك عدول الدمع والسقم
لفظ الشهادة والعدول مستعار من الفقه ومن واقع حياة الناس آنئذ والاستعارة على صناعتها سلسلة، وفيها بساطة مذهب العلماء -كأن الشاعر لا يقول شعرًا ولكن يتكلم لغتهم- ولأبي الطيب وللمعري إحسان لا ينكر في هذا الضرب من الأسلوب وأصله أقدم من ذلك:
وأثبت الوجد خطى عبرةٍ وضنًى
…
مثل البهار على خديك والعنم
وقال عبد الرحيم البرعي:
فؤادي بربع الظاعنين أسير
…
يقيم على آثارهم وأسير
أحن إذا غنت حمائم شعبهم
…
وينزع قلبي نحو ويطير
فيا ليت شعري عن محاجر حاجر
…
وعن أثلاث روضهن نضير
وعن عذبات البان يلعبن بالضحا
…
عليهن كاسيات النعيم تدور
ومن لي بأن أروي من الشعب شربة
…
واشهد تلك الأرض وهي مطير
واسمع في سفح البشام عشية
…
بكاء حمامات لهن هدير
أحيباب قلبي هل سواكم لعلتي
…
طبيب بداء العاشقين خبير
فجودوا بوصل فالزمان مفرق
…
وأكثر عمر العاشقين قصير
والبوصيري والبرعي كلاهما هيامهما ووجدهما منبعث من محبة رسول صلى الله عليه وسلم.
وقد كنا من قبل قرنا اسم ذي الرمة بجرير، في هذا الباب أنه أبعد فيه من عمر وجميل وأدنى إلى جرير وقد كان تأثيره على الشعراء بعده عظيمًا. ولقد نسب الجاحظ كثيرًا من إبداع أهل البديع إلى العتابي، أنه أصلٌ له. والعتابي من عصر الجاحظ. وذو الرمة سابق في ميدان التأمل والتعمق في التصوير والاستعارة والمزج بين عناصر الجمال في البشر وفي الطبيعة. وقد كان اقتداء أبي تمام به وأخذه منه كثيرًا. وكأن قوله:
ما ربع مية معمورًا يطيف به
…
غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب
يشير إلى ذروٍ من هذا.
ويعجبني قول أبي حية النميري وفيه صناعة ذات روح من سذاجة:
جرى يوم رحنا عامدين لأرضنا
…
سنيح فقال القوم مر سنيح
السنيح ما ولاك ميامنه فبعضهم يتفاءل به وبعضهم يتشاءم.
وقالوا حمامات فحم لقاؤها
…
وطلح فزيرت والمطي طليح
وقال صحابي هدهدٌ فوق بانة
…
هدًى وبيانٌ بالنجاح يروح
وقالوا دمٌ دامت مواثق بيننا
…
ودام لنا حلو الصفاء صريح
لعيناك يوم البين أسرع وأكفأ
…
من الفنن الممطور وهو مروح
وقال مروان بن أبي حفصة، وكان من فحول الشعور، فأرخ للنسيب تأريخًا أدبيًّا منظومًا قريبًا في البراعة مما صنع الفرزدق في اللامية حيث ذكر المهلهل وذا القروح والأوائل من الفحول:
إن الغواني طالما قتلننا
…
بعيونهن ولا يدين قتيلًا
من كل آنسة كأن حجالها
…
ضمن أحور في الكناس كحيلا
البيت الأول من قول جرير: «إن العيون التي في طرفها حورٌ» وكان مروان يقدم جريرًا وهو القائل في تفضيله:
ذهب الفرزدق بالفخار وإنما
…
حلو الكلام ومره لجرير
ويدخل في حلو الكلام غزله ونسيبه وقد أثبت مروان أسماء أكثر أصحاب الغزل وأدركته القاعدة التي وضعها الجاحظ من بعد أن الشعراء إذا سرقوا أخفوا وجحدوا فكتم اسم جرير ليخفى أخذه بيته الأول منه، أو كأنه اكتفى -هذا إذا حسنا به الظن وذلك في حق مثله واجب بأخذ البيت الأول منه للتنبيه على مكانه في الغزل.
أردين عروة والمرقش قبله
…
كل أصيب وما أطاق ذهولا
ولقد تركن أبا ذؤيب هائما
…
ولقد تبلن كثيرًا وجميلًا
أما عروة فهو ابن حزام بالزاي والذي في بيت امرئ القيس زعموا أنه بالذال المعجمة وقد مر القول في هذا وعروة القائل:
ألا ليت كل اثنين بينهما هوًى
…
من الناس والأنعام يلتقيان
فيقضي حبيب من حبيب لبانة
…
ويرعاهما ربي فلا يريان
وأبو ذؤيب هو صاحب المرثية وله خبر مع امرأة عشقها وكان يرسل إليها غلامًا من قومه ابن أخته يقال له خالد فاستغواها -وإلى شيء من هذا المعنى يشير أبو الطيب من طرف خفي في قوله:
كلما عاد من بعثت إليها
…
غار مني وخان فيما يقول
أفسدت بيننا المودات عينا
…
ها وخانت قلوبهن العقول
وقال أبو ذؤيب بيته المشهور:
تريدين أن تضمديني وخالدا
…
وهل يجمع السيفان ويحك في غمد
والضماد من أنكحة أهل الشرك أبطله الإسلام. ونعود إلى أبيات مروان:
ولقد تركن أبا ذؤيب هائما
…
ولقد تبلن كثيرًا وجميلا
وتركن لابن أبي ربيعة منطقا
…
فيهن أصبح سائرًا محمولا
فجعل لهن عليه دولة وكأن قد قتلنه إلا أنه لم يصرح بذلك وتلمحه في قوله بعد:
ألا أكن ممن قتلن فإنني
…
ممن تركن فؤاده مخبولًا
وحاكى بعضهم طريقة أبي حية في العيافة فصنع أيما تصنيع، من ذلك مثلًا:
فقلت لتربيها اتبعاها فإنني
…
بها مستهام قالتا نتطلف
وقولا لها يا أم عمرو أليس ذا
…
مني والمني من متعة ليس تخلف
تفاءلت من أن تبذلي طارف الهوى
…
بأن بان لي منك البنان المطرف
أتعب الشاعر ذهنه ليحصل على هذا التجنيس، وسبب ظهور بنانها رميها الجمرات. وغزل الشعر المرتبط بموسم الحج قديم وأشهره شعر عمر وأضرابه. ولكنه عاد إليه من المحدثين جماعة- من أمثال هذا القري والكد فيه لا يخفى:
وفي عرفات ما يخبر أنني
…
بعارفة من نيل وصلك أسعف
فابلغتا ما قلته فتبسمت
…
وقالت أحاديث العيافة زخرف
إذا كنت ترجو مني الفوز بالمني
…
فبالخيف من أعراضنا تتخوف
لما ذكر الشاعر مني يتفاءل أن في ذلك ما يشعر بقرب نيل المنى، ذكرت له أن منى فيها الخيف وهذا يشعر بالخوف والخيف بفتح فسكون هو جانب سفح الجبل وخيف منى به مسجد الخيف.
وقد أنذر الإحرام أن وصالنا
…
حرام وأنا من وصالك نصرف
قائل هذه الأبيات من القضاة ذكره صاحب شرح المقصورة.
ومن أكثر الشعراء صناعة في باب الغرام الشريف الرضي ومعانيه وألفاظه واستعاراته أخذٌ صلتٌ من الشعراء الذين سبقوه في غير ما زيادة توجب أن ينسب من أجلها إليه جودة توليد أو إبداع. نعم له صياغة تملأ الفم وتقرع جانب السمع، ولكنها لا تصل حقًّا إلى القلب- تأمل قوله في كلمة له مطلعها:
يا ليلة السفح هلا عدت ثانية سقى زمانك هطال من الديم
السقيا كثيرة ولكنه ههنا نفس على ابن المعتز قوله:
سقى المطيرة ذات الظل والشجر
…
ودير عبدون هطال من المطر
فحاكاه وجاراه وباراه ثم صار بعد مجاراة ذلك الخليفة البائس إلى مجاراة عبد بني الحسحاس في نهج لفق فيه أصنافًا من امرئ القيس وعمر بن أبي ربيعة وأبي الطيب المتنبي ولزم مع ذلك لإحساسه بمنصبه وحسبه ونسبه ونقابته للأشراف دعوى- بل إلحاحًا على دعوى العفاف، ومع تكرار للفظه قارب بذلك، بل ولج ولوجًا في السآمة والإملال. قال:
وأمست الريح كالغيري تجاذبنا
…
على الكثيب فضول الريط واللمم
يشي بنا الطيب أحيانًا وآونة
…
يضيئنا البرق مجتازًا إلى أضم
بتنا ضجيعين في ثوبي عفا وتقى
…
يلفنا الشوق من قرن إلى قدم
عفا أي عفاف حذف الفاء على طريقة «بسبا الكتان» و «درس المنا بمتالع فأبان» ولو قال «عفاف تقي» كان وجهًا صحيحًا ولعله كذلك وأفسده الناسخ أو الطابع والثوبان ثوباهما نسبهما إلى عفاف أصله التقي «لا الخوف من تبعاتها» كما قال أبو الطيب والمعنى منظور أو لعله منظور فيه إليه.
وبات بارق ذاك الثغر يوضح لي
…
مواقع اللثم في داج من الظلم
وبيننا عفة بايعتها بيدي
…
على الوفاء لها والرعي للذمم
فصارت العفة ههنا خلافة أو عهد طريقة أو ولاء ديني.
يولع الطل بردينا وقد نسمت
…
رويحة الفجر بين الضال والسلم
وأكتم الصبح عنها وهي غافلة
…
حتى ترنم عصفور على علم
فقمت أنفض بردا ما تعلقه
…
غير العفاف وراء الغيب والكرم
وظاهر أن البرد تعلقه التراب والتنفيض مأخوذ من عبد بني الحسحاس ولم يدع عفافًا.
وألمستني وقد جد الوداع بنا
…
كفا تشير بقضبان من العنم
وألثمتني ثغرًا ما عدلت به
…
أرى الجني ببنات الوابل الرذم
ثم انثنينا وقد رابت ظواهرنا
…
وفي بواطننا بعد عن التهم
وبعض التأمل يسند حجة من قال بأن هذا من كلام الشريف ومنهجه الغزلي متكلف غاية التكلف، لا فيه حلاوة زخارف صناعة أهل البديع مثل:
وأمطرت لؤلؤًا من نرجس وسقت
…
وردًا وعضت على العناب بالبرد
ولا حرارة صبابة أهل التبدي مثل قوله توبة:
حمامة بطن الودايين ترنمي
…
سقاك من الغر الغوادي مطيرها
علي هدايا البدن إن كان بعلها
…
يرى لي ذنبًا غير أني أزورها
وكنت إذا ما زرت ليلى تبرقعت
…
فقد رابني منها الغداة سفورها
ههنا العفاف حق العفاف.
أما قوله: «وأمست الريح كالغيرى» فهو قول عبد بني الحسحاس:
وهبت شمال آخر الليل قرة
…
ولا ستر إلا ثوبها وردائيا
والحسحاسي ألطف مأتى من الشريف؛ لأنه جعل الثوبين سترًا -إذ لم يكن
لهما ستر غيرهما- بعد هبوب الريح الباردة، هي التي الجأتهما إلى التماس التوقي من لذعها. أما الشريف فقد لفه الثوب مع صاحبته ثم جاءت الريح غيري لتكشف المستور. لا ريب أنه لم يرد هذا المعنى ولكن أراد الأخذ من الحسحاسي والزيادة عليه بنسبة الغيرة إلى الريح لأن ههنا حبًّا ولقاء يثير الغيرة. ولكن ذلك قارب به فساد المعنى ثم هو قد حشد أشياء من معاني الحسحاسي هنا حشدًا، كقوله الكثيب وهو في بيت الحسحاسي:
وبتنا وسادانا إلى علجانة
…
وحقف تهاداه الرياح تهاديا
والعلجانة ما ارتفع من الرمل عند أصول الشجرة. وأخذ الشريف وتلفيقه ظاهر. والريط ثوب الفتاة. واللمم بكسر اللام جمع لمة وهي شعر الرأس وما أكثر ما تذكر اللمم في وصف شعور الرجال إذا جاوزت شحمات الآذان ويقال لشعور النساء ذوائب وغدائر وفروع وكل ما يدل على الجثالة. وقوله «يشي بنا الطيب» من قول عبد بن الحسحاس «فما زال ثوبي طيبًا من ثيابها» والحسحاسي أجود معنى لأنه نسب الطيب إليها، وقد عمى الرضي إذ جعل الطيب كأنه منسوب إليهما معًا، ثم انخرط به سبيله وراء المقابلة، فجعل الطيب يدل عليهما حيننًا وضوء البرق يدل عليهما حينًا وجعل البرق مجتازًا إلى أضم بلا كبير فائدة في ذلك وذكر البرق في شعر امرئ القيس وعبد بن الحسحاس كما تعلم «أصاح ترى برقًا أريك وميضه» ، وقال الحسحاسي:
فدع ذا ولكن هل ترى ضوء بارق
…
يضيء حبيًّا منجدًا متعاليا
وأخذ الشريف من الآية {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} فأضاف ذلك برقه الواشي ههنا. وفي هذا التلفيق نوع من إفساد للمعنى، إذ الطيب لا ينقطع أن يكون طيبًا فواحًا في الأحيان التي لا يشي بهما ويدع ذلك للبرق
أن يضيئهما، ثم قد جعل مع الريح التي تجاذبهما فضول الثياب برقًا ومع البرق بلا ريب مطرٌ فصارا كبقرة لبيد التي قال فيها:
باتت وأسبل واكفٌ من ديمة
…
يغشى الخمائل دائما تسجامها
تجتاف أصلًا قالصًا متنبذا
…
بعجوب أنقاء يميل هيامها
يعلو طريقة متنها متواتر
…
في ليلة كفر النجوم غمامها
وتضيء في وسط الظلام منيرة
…
كجمانة البحري سل نظامها
وإنما أوقعه في هذه المزلة والخلط حرصٌ منه على التلفيق. فقد تعلم خبر عمر ابن أبي ربيعة إذ قال:
وما نلت منها محرمًا غير أننا
…
كلانا من الثوب المورد لابس
فأخذ هذا عليه فأعذر عن نفسه بأنه أصابهما رش من مطر فاستترا بهذا الثوب المورد، فجاء الشريف بهذا المعنى في قوله «بتنا ضجيعين في ثوبي عفاف تقى» وقوله «يلفنا الشوق من فرع إلى قدم» ليس بجيد لغلظ الألفاظ ورقة المعنى ثم المعنى إضافة مستغنى عنها. وإن يكن أراد أن الشوق هو ثوبا العفاف والتقى اللذان يلفانهما ففي ذلك بعدٌ وغموض ليس يسمح به ظاهر تأويل كلامه. ثم بعد أن ذكر البرق وهو برق سحاب وسماء مجتاز إلى إضم بدا له أن يجعل البرق هو ثغر المحبوبة وتكلف شرحًا لذكر البرق الذي مر مجتازًا إلى إضم فقال:
وبات بارق ذاك الثغر يوضح لي
ولا معنى لذاك هنا غير قصد الشرح، فقد سبق له من تقريب صاحبة الثغر إلى نفسه أن تحدث عن نفسيهما معًا بضمير المتكلم. وكأنه أعجبه قول أبي الطيب حيث قال:
تبل خدي كلما ابتسمت
…
من مطر برقة ثناياها
فأخذ هذا البرق وما معه من دمع وقبل وجاء بها في بيته الذي كأنما هو حركة «فيلم سينمائي» بطيئة لهذا البارق الذي إنما يبرق ليريه مواقع التقبيل. ورنة عجز البيت من أبي الطيب وأبي تمام معًا:
صنا قوائمها عنهم فما وقعت
…
مواقع اللؤم في الأيدي ولا الكزم
هذا أبو الطيب وأما أبو تمام فأكثر بائيته مصدر لرنين الشريف هنا نحو:
ضوء من النار والظلماء عاكفة
…
وظلمة من دخان في ضحى شحب
والشاهد موقع في -وقال ذو الرمة يصف مية ويشبهها بالمزنة:
أو مزنة فارقٌ يجلو غواريها
…
تبوج البرق والظلماء علجوم
ومثل هذا المعنى في الشعر كثير- إلا أننا هنا نتتبع تشابه الإيقاع ومحاكاته. «تبوج البرق» هي نفس الرنة التي جاء بها الشريف في «مواقع اللثم» و «مواقع اللؤم» - وطريقة تركيب عجز بيت أبي تمام «وظلمة من دخان في ضحى شحب» هي نفس طريقة تركيب «مواقع اللثم في داج من الظلم» ولنتذكر ههنا رد البحتري قول أبي نواس «ولم أدر من هم غير ما شهدت به» إلى كلام الهذلي حيث قال «فلم أدر من ألقى عليه رداءه» وقوله «رويحة الفجر بين الضال والسلم» إنما هو من قول الآخر وهو من شواهد النحو المعروفة:
يا ما أميلح غزلانا شدن لنا
…
من هؤليائكن الضال والسلم
وكما ههنا تصغير جاء الشريف بتصغير ولم يقدر على الفرار من الحاء لأن موضع أخذه فرض نفسه عليه ولولا ذلك لكانت له عنها مذاهب. وقوله:
واكتم الصبح عنها وهي غافلة
أخذه من قول عبد بني الحسحاس:
لعبن بدكداكٍ خصيب جنابه
…
وألقين عن إعطافهن المراديا
وما رمن حتى أرسل الحي داعيا
…
وحتى بدا الصبح الذي كان تاليا
وحتى استبان الفجر أشقر ساطعا
…
كأن على أعلاه سبا يمانيا
فأدبرن يخفضن الشخوص كأنما
…
قتلن قتيلًا أو أصبن الدواهيا
وأصبحن صرعى في البيوت كأنما
…
شربن مدامًا ما يجبن المناديا
فقوله إنه يكتم الصبح عنها وهي غافلة ينبئ بنومها في مكان اللقاء ومغامرة الغرام وهذا معنى فاسد لأن الحب معه الاستمتاع بساعاته والعشاق يتحدثون عن قصر الليل إذا لقوا الأحباب. وعبد بني الحسحاس جاء بالمعنى على وجه الصواب حيث قال إنهن لم يرمن أي لم يذهبن حتى جاء شخص من الحي يذكرهن ويدعوهن ممن يخاف عليهن أن يفتضح أمره وأمرهن. فتلبثن إلى أن بدا أول الفجر وذلك غلسٌ لا تتبين معه الأشخاص. وأتى الشريف من جهة قول الحسحاسي: «وأصبحن صرعى في البيوت» ولكن هذا منهن قد كان بعد العودة من أنس الغرام ومغامراته- أما الشريف فقد نامت صاحبته حتى صاح العصفور وصياح العصافير مع الأسفار. وقوله «ترنم عصفور على علم» فيه عمل؛ لأن العلم يدل على الجبل والأكمة وما هو بهذه المنزلة والعصافير تكون على الأغصان، فجعل الغصن علمًا لا يخلو من تكلف، وتضخيم إلا يكن ذلك مما أملته ضرورة القافية. على أنا لا نقطع بهذا بالنسبة إليه، إذ هو مقتدر على القوافي غير أن تذوقه واختياره لهن فيه مذهبه وطريقة مضغه للكلم. وقوله «فقمت أنفض بردا» ألمعنا إلى أنه من قول الحسحاسي:«فنفضت ثوبينا ونظرت حولنا» ، من ميميته التي مر ذكرها في معرض الحديث عن البحر الطويل. وإذ علمنا موضع العفاف فما معنى الكرم- اللهم إلا أن يجعل ذلك التفاتًا من الغزل إلى الفخر ولا محل للفخر ههنا، وقوله و «ألمستني كفًّا» مع زعمه أن ذلك حين «جد الوداع بنا» ضعيف. وقد ذكر لنا القبلات من قبل. وأحسبه شغله ههنا
أمر الصناعة اللفظية والإشارة إلى الكف الخضيب من النجوم. وجعله الأصابع قضبانًا من العنم فيه جهد. ثم إن الشريف كأن قد تذكر أن لمس الكف لا يفي بغرض الشوق والغزل فاستدرك بذكر الثغر ولم يعد التشبيه المألوف من ذكر الخمر وما تمزج به عن عسل وماء وثلج أو كما قال حسان:
كأن سبيئةً من بيت راس
…
يكون مزاجها عسل وماء
على أنيابها أو أطعم غض
…
من التفاح هصره اجتناء
على فيها إذا ما الليل قلت
…
كواكبه ومال بها الغطاء
إذا ما الأشربات ذكرن يوما
…
فهن لطيب الراح الفداء
وقد كان حسان من وصاف الخمر في الجاهلية وهو القائل:
إن التي ناولتني فرددتها
…
قتلت قتلت فهاتها لم تقتل
وهذه الأبيات قيلت في فتح مكة وقد ذكر في تحريم الخمر أنها كانت بعد الفتح تحريمها، على اختلاف في ذلك. فعلى هذا القول فلا يحتاج ما قاله إلى تخريج. وعلى قول من زعم أن التحريم كان قبل ذلك، فيعتذر له بأنه مضى على طريقة قول كانت هي المألوفة في الشعر على زمانه، وعليها سار كعب في اعتذاريته حيث قال:
كأنه منهل بالراح معلول
وهذا أحسبه هو الذي أراده أبو العلاء إذ قال في رسالة الغفران يدافع عن حسان: «ويحك أما استحييت أن تذكر مثل هذا في مدحتك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول كان أسجح خلقًا مما تظنون. ولم أقل إلا خيرًا. لم أذكر إني شربت خمرًا ولا ركبت مما حظر أمرًا وإنما وصفت ريق امرأة يجوز أن يكون حلا لي ويمكن أن أقوله على الظن» أ. هـ.
وقد أضرب الشريف عن ذكر الخمر فجعل ثغر حبيبته أرى الجني، أي عسلًا مما تجنيه النحل، ممزوجًا بماء المزن الصافي- وهذا تشبيه إسلامي مختصر من التشبيه الجاهلي ومراعى فيه جانب التحريم وقد جاء به المرار حيث قال:
لو تطعمت به شبهته
…
عسلًا شيب به ثلج خصر
وقال المعري في مرثيته لأبي الشريف الرضي. يذكر المرتضى وأخويه ونار القرى عندهما:
نار لها ضرمية كرمية
…
تأريثها إرث عن الأسلاف
تسقيك والأري الضريب ولو عدت
…
نهي الإله لثلث بسلاف
ولم يكن المعري يخلو من فكاهة ذات خبث خفي، فهل ألمع ههنا إلى مذهب الشريف في التحرج عن ذكر الخمر في نحو هذا من غزله واكتفائه بالأري أي العسل مكانها.
وقول الشريف: «ثم انصرفنا وما رابت ظواهرنا إلخ» من قول أبي الطيب:
توهم القوم إن العجز قربنا
…
وفي التقرب ما يدعو إلى التهم
كان الشريف رحمه الله ذا علم وأدب جم وكان عظيم القدر قريب المنزلة من الخليفة، بل لعله كان أعظم نفوذًا منه لأن أصحاب الدولة من بني بويه والديلم كانوا شيعة وكان هو للأشراف نقيبًا. وذلك هو الذي جسره على أن يقول للخليفة:
ما بيننا يوم الفخار تفاوت
…
أبدًا كلانا في المكارم معرق
إلا الخلافة ميزتك فإنني
…
أنا عاطل منها وأنت مطوق
شعور الشريف بحسبه ونسبه واستحقاقه أن يكون هو ولي الأمر كان عظيمًا كعظمة قدره عند نفسه وعند الناس. وكان ذا ملكة في الشعر. إلا أنه لم يكن أشعر
قريش ولا أشعر بني عبد مناف ولا أشعر بني هاشم -عمر بن أبي ربيعة وابن قيس الرقيات والوليد بن يزيد وابن المعتز- هؤلاء أشعر منه بلا ريب وشأوهم من شأوه بعيد. مع هذا قد قال عنه بعض من ترجموا له أنه أشعر قريش، مما ينبئ أنه عسى أن يكون ذلك من بعض ما كان يظن هو إنه يتقدم به على غيره والله تعالى أعلم.
مهما يكن من شيء، فإن ملكة الشريف في حاق الشعر كانت محدودة. كان ذا حظ من جزالة اللفظ وقرعه الأسماع. ولكنه ما كان ليدنو بحال من منزلة البحتري وأبي تمام وأبي الطيب. على ما لا ريب فيه عندي، إنه كان يرى في نفسه إنه مثلهم. وقد كان كثير المحاكاة لأبي الطيب. وقد عرف أبو الطيب بجودة تغزله في البدويات وقد عقد الثعالبي فصلًا عن أبي الطيب في يتيمته ونبه تنبيهًا على أن هذا كان من تبريزه وذكر من ذلك أمثلة حسانًا. حجازيات الشريف كانت محاكاة لهذا التبدي في غزل أبي الطيب. ولعله والله أعلم رام أن يزيد عليه بإدخال عناصر من عمر بن أبي ربيعة وسحيم. وقد كان أبو الطيب يغرف من بحر نفسه وانفعالات قلبه، فإذا أخذ من شاعر شيئًا جاء بذلك على سبيل الاستعانة فكان ما يسميه النقاد توليدًا وابتكارًا، ومثل هذا الصنع الأصيل لا يبرز عليه أحد مهما يجتهد بتلفيق لمذاهب المحسنين ومحاكاة للمبدعين. وهذا ما صنعه الشريف. وذلك له دأب يا للأسف، من شواهد ذلك مثلًا والشيء بالشيء يذكر محاكاته للبحتري في نعت الذئب، وأكل من لحم الذئب كما فعل البحتري وما أشك أن البحتري قال عن تجربة منه أو من غيره عن قرب معرفة أو ملابسة، وما صدر الشريف إلا عن محاكاة ما قرأ مع حرص على مجاراة البحتري وقصد إلى ما عسى أن يظن أنه تفوق عليه وذلك قوله:
وعاري الشوى والمنكبين من الطوى
…
أتيح له بالليل عاري الأشاجع
أغيبر مقطوع من الليل ثوبه
…
أنيس بأطراف البلاد البلاقع
قليل نعاس العين إلا غيابة
…
تمر بعيني صائم القلب جائع
ألم وقد كاد الظلام تقضيا
…
يشرد فراط النجوم الطوالع
وإذا انقضى الظلام شرد فراط النجوم وغيرها.
إذا فات شيء سمعه دل أنفه
…
وإن فات عينيه رأى بالمسامع
تظالع حتى حك بالأرض زوره
…
وراغ وقد روغته غير ظالع
فقد صار الذئب ههنا كأسد أبي الطيب الذي جمع نفسه في زوره ودق بالصدر الحجار.
ثم زاد -أو كأنه زاد- على البحتري بوصف افتراس الذئب للشاة، وأخذ ذلك من فريسة أسد أبي الطيب.
ألقى فريسته وبربر دونها
…
وقربت قربًا خاله تطفيلا
فجمع بين الشنفري والفرزدق وأبي الطيب، كل هذا لينبذ البحتري كما ترى ولم يخل من نظر إلى قول حميد بن ثور:
ينام بإحدى مقليته ويتقي
…
بأخرى الرزايا فهو يقظان هاجع
وعين حميد تدل على أن الرضي نظر إليها ثم جعل الروي مخفوضًا -وليس الخفض من الضم بجد بعيد إذ هما يلتقيان في الإقواء. ولنجعل هذا خاتمة الحديث عن النسيب. وهو قد أفضى إلى الوصف، فلنشرع في الحديث عن ذلك والله المستعان.
الوصف:
الوصف أربعة أصناف، صريح وضمني ومقصود إليه بدءًا ومستطرد إليه أثناء الكلام، وهذه الأصناف الأربعة كثيرًا ما تتداخل. قول امرئ القيس:
أصاح ترى برقًا أريك وميضه
…
كلمع اليدين في حبي مكلل
قوله «أصاح ترى برقًا أريك وميضه في حبي مكلل» منه، هذا وصف صريح، وقوله منه «كلمع اليدين» تشبيه يجوز أن يكون فيه وصف ضمني لحركة اليدين المشار إليهما في قوله:«تصد وتبدي البيت» أو أيما يدين، ويجوز أن يكون من باب التوضيح لحركة البرق، فيكون بذلك أقرب إلى الوصف الصريح للبرق لا الوصف الضمني لحركة اليدين والأصابع.
وقول عدي بن الرقاع العاملي:
تزجي أغن كأن إبرة روقه
…
قلمٌ أصاب من الدواة مدادها
فيه وصف صريح لروق الشادن حين برز كأنه بطرفه المحدد الصغير إبرة وكأنه حرف قلم أصاب سواد مداد. ثم هو بلا ريب وصف ضمني للقلم يوشك لقوة حيويته أن يكون صريحًا ويشعر بأن المقصود بالوصف هو القلم لا قرن الظبية.
وقول ذي الرمة:
كأن عمود الفجر جيدٌ ولبةٌ
…
وراء الدجى من حرة اللون حاسر
هل هو صريح في نعت طلوع الفجر أو ضمني كصريح في نعت امرأة حسناء سافرة، جميلة واضحة الوجه، بادية خصل شعرها من الخمار الحاسر؟ هذه الصورة الرائعة شديدة الشبه برسم جيوكندا الذي لليوناردودا فنشي (1) ولو كان سبق زمان غيلان ما شككنا أن غيلان منه أخذ، كما قدمنا ذكره من تأثر القدماء في تصويرهم بمرأى ما رأوا من التماثيل وقد ذكروا ذلك في أشعارهم كقول امرئ القيس:
كأن دمى سقفٍ على ظهر مرمرٍ .... كسا مزبد الساجوم وشيًّا مصورا
(1)() يذكر أن فناني القرن الثامن عشر كانوا مما يستعينون في تصويرهم بمنظومة The Seasons أي الفصول لتومسون James Thomson 1700 - 1748 م يا ترى هل كانوا أول الفنانين استعانة بالشعر؟ ثم هذه المنظومة في الفصول، ألا تنظر لما كان ينظمه شعراء العرب من وصف في هذا المجرى؟
وقول عمر
دميةٌ عند راهب ذي اجتهاد
…
صوروها بجانب المحراب
ولكن غيلان قد سبق ليوناردو، فينبغي أن يكون هذا قد أخذ فكرة رسمه منه. وقد يذكر أن ليوناردو سافر إلى بلد المسلمين وكان يعرف العربية، فتأمل وقول ذي الرمة:
ورملٍ كأوراك العذارى لبسته
…
وقد لبسته المدجنات الحنادس
نعت للرمل صريح وللأوراك ضمني كصريح -وهذا الضرب المتداخل من النعت من طريق التشبيه والاستعارة كثير عند ذي الرمة- وتأمل قوله:
براقة الجيد واللبات واضحة
…
كأنها ظبيةٌ أفضى بها لبب
اللبب ما استرق وامتد من الرمل.
بين النهار وبين الليل من عقدٍ
…
على جوانبه الأسباط والهدب
ههنا صورة الظبية وقد امتد جيدها وهي خارجة من معظم الكثيب إلى مسترقه والوقت أصيل قد ألقى أضواءه على أمواج الرمال، وعلى أغصان الشجر وعلى متني الظبية. نعت المرأة كأنه وسيلة إلى هذا النعت المضمن في المشبه به. على أن صورة جيد المرأة ولباتها بعد مشرقة واضحة.
والوصف الضمني المذهل، أكثر ما يقع في الصور المنتزعة من التجارب المألوفة كالذي مر من مقال ابن الرقاع وكقول امرئ القيس:
كأن ذرا رأس المجيمر غدوة
…
من السيل والغثاء فلكة مغزل
وقوله:
وليل كموج البحر أرخى سدوله
…
علي بأنواع الهموم ليبتلي
وقوله:
مكر مفر مقبل مدبر معا
…
كجلمود صخر حطه السيل من عل
فالمشبه به في جميع هذا موصوف كما المشبه موصوف.
شبه القدماء ذا الرمة في التشبيه بامرئ القيس. والتأمل والأناة ونوعٌ من صناعة، أغلب على طريقة غيلان، ثم له ولعٌ بربط صور جمال النساء بصور جمال الطبيعة ويبث في ذلك أنفاسًا من حرارة صبابته. ومن الوصف الصريح الذي لا يخرج به التشبيه إلى وصف ضمني قول النابغة:
كليني لهم يا أميمة ناصب
…
وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب
تطاول حتى قلت ليس بمنقض
…
وليس الذي يرعى النجوم بآئب
فوصف الليل هنا صريح لا تلابسه صفة ضمنية لقطيع من الماشية غاب راعيه وإنما جيء بهذا توسعًا في الكلام.
وقوله:
وحلت بيوتي في يفاع ممنع
…
تخال به راعي الحمولة طائرا
حذارًا على ألا تنال مقادتي
…
ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا
فتشبيه راعي الحمولة بالطائر لا يدخل على النعت الصريح استطرادًا أو إضافة بنعت ضمني للطائر. البيوت التي في أعلى اليفاع واضحة الصورة وكذلك الراعي الذي لبعده دق فصار كأنه طائر.
وقال ذو الرمة:
أقامت به حتى ذوي العود في الثرى
…
وساق الثريا في ملاءته الفجر
فههنا نعت صريح للفجر. وصورة الملاءة توضيح لهذا النعت.
وقال زهير:
صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله
…
وعرى أفراس الصبا ورواحله
فههنا صورة مرحة للأفراس والرواحل، وإن كان المراد صفة الشباب، واستعارة هذه المعاني الدالة على الحيوية له.
وقال الهذلي يصف اقتراب السحاب:
كأن تواليه بالملا
…
سفائن أعجم ما يحن ريفا
فههنا نعت للسفائن وهي المشبه به.
وكثيرًا ما يدل التشبيه على انطباعه وملاحظة يلاحظها الشاعر، فيكون بذلك معرضًا للتجارب ولوصف أحوال البيئة والمجتمع- كقول امرئ القيس:«نزول اليماني ذي العياب المحمل» فدل على مشهد التاجر اليمني المتنقل في ذلك الزمان وكقول لبيد:
كعقر الهاجري إذا ابتناه
…
بأشباهٍ حذين على مثال
فدلنا على أن أهل هجر كانوا يعرفون عمارة المباني وعمل اللبن بقوالب يحذون اللبنات عليها، وقال:
جنوح الهالكي على يديه
…
مكبًّا يجتلي نقب النصال
فدلنا على أن صناعة السيوف والنصال كانت معروفة. والهالكي الحداد.
وقال الآخر:
إني وقتلى سليكا ثم أعقله
…
كالثور يضرب لما عافت البقر
فهذا كان من عاداتهم وزعم ابن أبي الحديد ينسبه إلى بعض الأذكياء أن العرب