المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كلمة عن «الأدب الجاهلي»: - المرشد إلى فهم أشعار العرب - جـ ٤

[عبد الله الطيب المجذوب]

الفصل: ‌كلمة عن «الأدب الجاهلي»:

‌كلمة عن «الأدب الجاهلي» :

قولنا الأدب الجاهلي، الأدب الأموي، الأدب السياسي وتقسيم هذا إلى الأول والثاني والثالث أحسبه من أخطاء نقدنا الحديث. ذلك بأننا في الحقيقة بإزاء درس الأدب العربي كله وإنما تهمنا فيه القمم.

وذكر أحد النقاد المعاصرين في كتاب له اسمه تشريح النقد (1)(بالإنجليزية) ما معناه أن من عيوب النقد أن يحصر نفسه بين التأريخ وبين الفلسفة يستعير طورًا من هذا وطورًا من تلك. ومن عيوب الناقد أن ينظر إلى الأدب من زاوية اجتماعية أو إحيائية أو فيزيائية أو مذهبية. وأحسن الخارجي لما سئل عن الفرزدق وجرير أيهما شعر، فمع كراهيته سؤالهم لم يمنعه من ذلك من ان يقول أشعرهما من يقول:

وطوى الطراد مع القياد بطونها

طي التجار بحضرموت برودًا

ولو قدم ذلك الخارجي المذهبية على الموضوعية لقال أشعر منهما عمران بن حطان أو لرفض الحديث عنهما أو قال إنما الشاعر عمران بن حطان أو خارجي آخر.

اللغات الأوروبية حديثة العهد. أطوار نمائها واضحة كما تكون أطوار نماء الصغير منا واضحة، حتى إذا استوى وبلغ الأشد أشبه أن يكون ملازمًا لحالة واحدة بطيئة أطوار التغيير. فالمقسم لآداب اللغات الأوروبية إلى عصور عنده من طبيعة حداثتها ما يبرر ذلك. لكن اللغة العربية لا نعلم من أمرها إلا من لدن هي ناضجة. فلا شيء يبرر تقسيمها إلى عصور إلا أن نكون نقلد طريقة الإفرنج في درسهم آداب لغاتهم. على أنهم حين يدرسون آداب اليونان واللاطين وهي عندهم أصول،

(1)() طبع جامعة برنستون بأمريكا Anatomy of Criticism by N. Frye.

ص: 374

ويسمونها «الأدب الكلاسيكي» لا يفعلون شيئًا من ذلك. هي لديهم كلٌّ واحد من أوميروس إلى سينكا. ولديهم نحوها نظرة تقديس. وكأن المستشرقين أول درسهم لآداب العربية أنفوا بتعصب ديني أو عنصري من أن يجعلوا للغة العربية منزلة كلغات الأدب الذي هو عندهم كلاسيكي وبهما جاءت النصوص الكنسية المعتمدة من الكتاب المقدس. وما تنبه المستشرقون حين شبهوا اللغة العربية بلغاتهم الدارجة، ليحظوا من منزلة قدسيتها المرتبطة بقداسة القرآن وإعجازه إلى أنهم قد شبهوها بلغاتهم الدارجة أيضًا من حيث الحيوية وقابلية البقاء.

قولنا «الجاهلي» في نعت الأدب نعني النسبة إلى زمان الجاهلية وذلك قبل الإسلام بنحو مائتين أو أكثر أو أقل قليلًا من السنين، على النحو الذي قدره العلماء الأولون. وفي القرآن ذكر الجاهلية الأولى. وقيل هي زمن نوح عليه السلام. وما أشبه أن يكون المراد من الجاهلية الأولى -والله أعلم بمراده في قوله تعالى:{وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} أن يكون: أي تبرج الجاهلية الأولى التي كان عليها أمر الناس قبل مجيء الإسلام. الجاهلية لفظ ذم به الله تعالى زمان كان الشرك ضاربًا بجران. اشتقاقها من الجهل الذي هو نقيض العلم. ولا أدري لماذا يلتمس بعضنا لها اشتقاقًا من الجهل بمعنى الغضب كما في قول التغلبي:

ألا لا يجهلن أحدٌ علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

إذ مرد الجهل بمعنى الغضب إلى معنى تجاهل المعرفة والاندفاع الذي لا يبالي. واستعمال الجهل بمعنى عدم العلم قديم في العربية. قال تعالى في خبر نوح عليه السلام: {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أي من الذين لا يعلمون بعد الذي جاءك من العلم من التزام ما يوحى إليك. وفي خبر موسى عليه السلام: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} - أي أن أكون أمرتكم بما ليس

ص: 375

لي به علم وبما لن يوح إلى ربه أن آمركم به. ووصف الله سبحانه وتعالى أهل الجاهلية بعد الذي جاءهم من البينات فأبوه وإن كانوا كما قال تعالى: {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات] فوصفهم جل شأنه بأنهم لا يعلمون، قال تعالى:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} وقال تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} . «أي كفار قريش قالوا مثل قول اليهود والنصارى. وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ} وهؤلاء كفار قريش.

ونفي العلم هو إثبات للجهل وقد وصف الله سبحانه وتعالى أممًا سابقة جاءتهم رسلهم بالبينات والحكمة فأبوا بأنهم أهل جهالة كما وصف سبحانه وتعالى قريشًا بذلك. قال تعالى: {وَلُوطًا آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} وخاطب لوط قومه قال: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} . وقال: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} - والرشد علم كما قال تعالى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} . وفي حديث نوح عليه السلام وخبره مع قومه: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} ثم يقول من بعد لقومه: {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} . أسلوب القرآن بليغ مؤثر، ينفي اللفظ إذا كان ذلك أبلغ وأقوى دلالة كما في قوله تعالى {يَعْلَمُونَ} {لَا يَعْلَمُونَ} وفي سورة الروم:{لَا يَعْلَمُونَ، يَعْلَمُونَ} وكما في سورة الطور: {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا} ويجيء اللفظ المقابل إذا كان ذلك أقوى وأدل وأبلغ مثل {عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [سورة هود] ويقابله {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [سورة النمل]. و {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} يقابله {أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} الصبر يقابله الجزع. {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} - ظن الجاهلية يقابل الحق، أي يظنون ظن أهل الجهالة من الكفار، الظن الذي هو باطل.

وصفهم الله عز وجل بأنهم جهلاء وجاهلية لأن العلم النافع هو معرفة الله

ص: 376