الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونحو ذلك مما يزيد الممدوح طربًا حين يسمعه.
كلمة أبي تمام:
ولكنه صوب العقول إذا انجلت
…
سحائب منه أعقبت بسحائب
من دقيق ما وصف به الشعر عامة وشعره هو خاصة، وكان في كلمة أبي تمام هذه ردًّا على ما من جزم بأن المعاني مطروحة في الطريق وأن الشعراء إنما يتفاوتون بجودة الأداء، وهي من كلمات الجاحظ المعروفة. على أن الجاحظ قد جزم في موضع آخر احسبه في البيان على أن المعاني مستترة خافية في أسرار الأنفس حتى يبرزها البيان، وأن المعنى، كما قال التابعي الجليل عامر بن عبد قيس، إذا خرج من القلب ولج إلى القلب فصوب العقول، الذي ذكره أبو تمام يمكن حمله على هذا الباب. على أن أبا تمام قد أراد به أن للفكر وتأمل العقل في الشعر جانبًا يجعل الإبداع لجيده ملازمًا، على ما يظهر من تشابهٍ، كما السحاب يتشابه، وكل غيث عن الآخر مختلف، وهو شيء في ذات نفسه بديع بكر -ألم تقل العرب في نعت المطر:
جادت عليه كل بكر حرةٍ
…
فتركن كل قرارة كالدرهم
وقفة مع الشاعر الناقد صمويل تيلور كولردج وبعض مسائل النقد:
للشاعر الناقد صمويل تايلور كواردج Samuel Taylor Colerdge (1772 - 1834 م) مذهب قريب من صوب العقول هذا إذ يقول في أوائل المجلد الثاني من الترجمة الأدبية- أي كتابة المسمى بما هذه ترجمته التقريبية Biographia Literaria طبعة أكسفورد (سنة 1967 مصورة)(ص 49 - 50)(الطبعة الأولى سنة 1817 وأعيدت 1907 ومن بعد إلى 1967 م).
And first from the origin of metre. This I would trace to the balance in the mind effected by that spontaneous effort which strives to hold in check the workings of passion. It might be easily explained likewise in what manner this
salutary antagonism is assisted by the very state which it counteracts، and how this balance of antagonists became organised into METRE (in the usual acceptation of that term) by a supervising act of the will and judgement consciously and for the foreseen purpose of pleasure. Assuming these principles، as the data of our argument we deduce from them two legitimate conditions، which the critic is entitled to expect in every metrical work. First that، as the ELEMENTS of metre owe their existence to a state of increased excitement so the metre itself should be accompanied by the natural language of excitement.
Secondly that as these elements are formed into metre ARTIFICIALLY، by a VOLUNTARY act، with the design and for the purpose of blending DELIGHT with emotion، so the traces of the VOLITION should throughout the metrical language be proportionately desecrnible. Now these two conditions must be reconciled and co-present. There must be not only a partnership، but a union، an interpenetration of passion and will، of SPONTANEOUS impulse and voluntary purpose. Again this union can be manifested only in a frequency of forms and figures of speech (originally the offspring of passion، but now the adopted children of power) greater than would be desired or endured، where the emotion is not voluntarily encouraged and kept up for the sake of pleasure، which such emotion، so tempered and mastered by the will، is found capable of communicating. It not only dictates، but of itself tends to produce، a more frequent employment of picturesque and vevifying language، than would be natural in any other case، in which there did not exist، as there does in the present، a previous and well understood، though tacit COMPACT between the poet and his reader that the latter is entitled to expect، and the former bound to supply this species and degree of pleasurable excitement.
هذا آخر تحديث كلردج عن أصل الوزن في الشعر ثم استشهد على ما قاله بشيء من مسرحية شكسبير التي اسمها قصة الشتاء ومضى من بعد يتحدث عن طبيعة تأثير أوزان الشعر وترجمة ما تقدم على وجه التقريب كما يلي، مع التنبيه على أنه مما يتعمق في العبارة ويشربها روحًا فلسفيًّا:
«أولًا من حيث منشأ الوزن. عندي أن ذلك مرده إلى توازن في العقل يحدثه بفعل منه عفويٌ يروم به أن يكبح من حدة سورة الوجدان، وبنحو من ذلك عسانا أن نفسر بسهولة الكيفية التي فيها يوجد هذا التناكر المفيد يستعين بنفس
الحالة التي هو يقاومها، وكيف أن هذا التوازن بين أمرين متناكرين يصير منتظمًا في الوزن (بمعناه المصطلح المعروف) بسبب ما يطرأ عليه من تدبير الإرادة والرأي عن عمد وبحدسٍ سابق يرمي إلى إحداث اللذة والسرور. وإن تك هذه المبادئ هي مقدمات للحجة التي ندلي بها، فإننا يصح لنا أن نستخرج من ذلك بالاستنتاج أمرين، يحق لكل ناقد أن يتوقعهما في كل عمل ينتظمه الوزن. أولًا أن عناصر الوزن تستمد وجودها من حالة ازدياد في تهيج الشعور، ولذلك فينبغي للوزن نفسه أن ترافقه اللغة الطبيعية التي تعبر عن التهيج. ثانيًّا، أن هذه العناصر إنما تصير وزنًا بعمل الصنعة واختيار الإرادة وذلك من أجل أن تمتزج العاطفة باللذة، ولهذا فينبغي أن يكون للجانب الإرادي آثار محسوسة نتبينها بنسبة حضوره في جميع لغة الكلام الموزون. هاتان الحالتان (يعني كلردج حالة التهيج التي تعبر عنها لغة التهيج وحالة الصنعة والإرادة التي ترمي إلى مزج عاطفة التهيج بعامل الإبهاج واللذة) يلزم التوفيق بينهما وان يكون حضورهما معًا في آن واحد. يلزم ألا يكون أمرهما شركةٍ ولكن أمر اتحاد، أن يكون تداخلًا متغلغلًا متلاحمًا بين حدة انفعال الوجدان وبين الإرادة، بين الدافع العاطفي العفوي والقصد المتعمد المختار. ثم إن هذا الاتحاد إنما يتجلى في تواتر أشكال في التعبير والمجاز (هن في الأصل سلالة تولدت من حدة انفعال الوجدان، وقد صارت الان أطفالًا تبنتهم القدرة على البيان) تواترًا أشد من أن يحتمل أو يشتهى إلا حيث تكون العاطفة تحفزها الإرادة وتحتفظ بها من إيجاد تلك اللذة وذلك الإمتاع اللذين إنما توجد العاطفة تقوى على التعبير بهما والإبلاغ حين تهيمن عليهما الإرادة وتحد من سورتها. إنه (بتجليه هذا) لا يملي بحسب، ولكن يوجد من تلقاء طبيعة ذاته، يجنح إلى إنتاج تواتر لاستخدام لغة التصوير والتعبير ذي الحيوية أكثر مما قد يعد مثله طبيعيًّا في الحالات الأخرى التي لا تقتضي كما تقتضي هذه الحالة وجود نوع من عهد سابق معلوم حقًّا، وإن يك ذلك غير مصرح به، بين الشاعر ومن يقرأ له، هذا يرى من حقه أن ينتظر ويجد
هذا النوع وهذا المقدار من الإثارة الممتعة والشاعر يلتزم بأن عليه أن يمده بذلك» أ. هـ.
نبهنا على أن كلردج مما يتعمق في العبارة ويشربها روحًا فلسفيًّا وهو هنا يحاول التوفيق بين مذهب الرومنسيين في نسبة الشعر إلى انفعال الوجدان والعواطف وطبيعة التأليف الفني التي تطلب تخير اللفاظ والمعاني والصيغ وذلك مجال الملكة الصانعة والقدرة والتفكير.
وعبارات أبي تمام أنصع وأوضح، على ما فيه من عمق كما تقدم من قوله المشهور:
ولكنه صوب العقول إذا انجلت
…
سحائب منه أعقبت بسحائب
وقد ترى في كلام كلردج أنه قد أخضع جانب العاطفة لجانب الفكر والإرادة التي تنتخب وتختار.
ومما يشهد بصحة هذا الذي نذهب إليه من تشبيه مذهب كلردج الناقد بمذهب أبي تمام قول أبي تمام:
إحذاكها صنع الضمير يمده
…
جفرٌ إذا نضب الكلام معين
ويروى اللسان، والضمير أجود مع تقارب المعنى إذ أبو تمام نفسه هو القائل:«لسان المرء من خدم الفؤاد» .
ولا بأس من التنبيه ههنا على أن أبا تمام كما هو شاعر هو أيضًا ناقد شهد له معاصروه ومن بعدهم بجودة الذوق والقدرة على الموضوعية الشاملة النظرة في ذلك، ثم قد ضمن شعره مسائل وآراء في النقد تجعله من المقدمين حقًّا في هذا الباب وهذا أمرٌ ينبغي ألا يغفل عنه.
قوله: «صنع الضمير يمده جفر إذا نضب الكلام معين» هو عينه مقال
كلردج بالاتحاد بين المتقابلين الذي يتجلى في التعابير المجازية وتواتر اللغة الحية لا يمليها من تجليه فحسب ولكن ينتجها بطبيعته التي تجنح إلى الإنتاج. وقوله إحذاكها يفيد معنى الإمتاع والعطاء. وعبارة أبي تمام أقوى وأنصع وأوضح لأن تشقيق الشعر فيها أقل خالية كل الخلو من فيهقة حرارة تفخ الكلام التي عند كلردج. ويعتذر له بما قدمناه من أن هذا نثر يتفلسف به.
وقال أبو تمام يصف قصيدة شعره:
حذيت حذاء الحضرمية أرهفت
…
وأجادها التخصير والتلسين
والحضرمية أحذية رقاق جياد كانت تحذى بحذقٍ صنعةٍ ومهارة على مثالٍ يجعل لشكلها نموذجًا. والمثال الذي حذا أبو تمام عليه قصيدته الموصوفة ههنا وهي التي مطلعها:
وأبي المنازل إنها لشجون
…
وعلى العجومة إنها لتبين
هو ما راعه وأثاره من عظمة الخلافة آنئذ.
وفسر التبريزي قوله: «إنها لشجون» فقال: «يقول إن المنازل الخالية عن أهلها لهموم، أقسم بها تعظيمًا لها، والشجون جمع شجن وهو الحزن، أي تذكر العاشق العهود، فتكسبه حزنًا، وعلى ما بها من العجمة تشكو سوء حال تأثير الزمان فيها، وما ابتليت به من تسلط الدروس عليها لمفارقة سكانها، وإنما يريد أن الواقف عليها باعتباره وتأمله يحصل له ذلك فكأن الدار عرفته وأخبرته» أ. هـ. والذي ذهب إليه التبريزي من الشرج وجه يحتمله لفظ أبي تمام، ولا أحسب أنه مراده، بل أحسب أن مراده:«وأبي المنازل» قسم، «إنها لشجون» - أي هي نفسها حديث وكلام، من قولهم الحديث ذو شجون، أي ذو شعب وطرائق ولا تعجبن أيها القارئ الكريم من قولنا هذا فإنا لا نعترض به على أبي زكريا، ولكن هذا وجه كما قوله وجه. ويبرز ما ذهبنا إليه من قولنا إن أبا تمام أراد أن المنازل هي
نفسها حديث ذو شجون، هي نفسها كلام وحديث متنوع، قوله إنها لتبين، فكأنه توضيح وضحه به يقول فيه لا تعجب من أنها حديث ذو شجون فإنها على عجمتها مبينة ناطقة بلسان. قال زهير:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم
ثم لما تبينها وعرف معالمها قال:
فلما عرفت الدار قلت لربعها
…
ألا أنعم صباحًا أيها الربع وأسلم
وهذا يتضمن زعمًا من زهير أن الربع يسمع تحيته. وقال لبيد:
فوقفت أسألها وكيف سؤالنا
…
صمًّا خوالد ما يبين كلامها
فكأن حبيبًا هنا ينقض قضية لبيد. وقال عنترة:
يا دار عبلة بالجواء تكلمي
…
وعمي صباحًا دار عبلة واسلمي
وقال أيضًا:
أعياك رسم الدار لم يتكلم
…
حتى تكلم كالأصم الأعجم
يروي هذا البيت في ميميته، ومثله، ومثل معناه، صح لعنترة أو لم يصح، لم يكن ليخفى عن أبي تمام، ولعله نظر إليه.
ذكر التخصير والتلسين في بيته «حذيت حذاء الحضرمية إلخ» لا ريب يشير به إلى قول أبي نواس:
إليك أبا العباس من دون من مشى
…
عليها ركبنا الحضرمي الملسنا
قلائص لم تسقط جنينًا على الوجى
…
ولم تدر ما قرع الفنيق ولا الهنا
أي هذه الحضرميات الملسنات قلائص (جمع قلوص أي الناقة الشابة، ولكنهن لسن من الإبل، لم يعرفن قرع الفحل ولا الطلاء من الجرب. الفنيق
الفحل والهنا بكسر الهاء كالهناء بوزن الكتاب وهو طلاء الإبل بالقطران من الجرب، ويعجبني من هذه النونية قوله:
أطال قصير الليل يا رحم عندكم
…
فإن قصير الليل قد طال عندنا
ولا يعرف الليل الطويل وهمه
…
من الناس إلا من تنجم أو أنا
أي إلا من سهر الليل مهمومًا أو عاشقًا يرعى النجوم وإلا أنا إذ أنا عاشق محروم ومهموم.
وقال أبو تمام:
خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى
…
والليل أسود رقعة الجلباب
بكرًا تورث في الحياة وتغتدي
…
في السلم وهي كثيرة الأسلاب
ويزيدها مر الليالي جدةً
…
وتقادم الأيام حسن شباب
وقال:
لم تسق بعد الهوى ماء على ظمأٍ كماء قافيةٍ يسقيكها فهم
بكسر الها أي ذو فهم، والساقي ذو الفهم هو الشاعر ينشد العاشق المحرور فيفثأ من حرارة ظمئه بما يودعه القلب من الأشجان التي تنفسح لها الدموع فيخفف ذلك من حرارة اللوعة والظمأ إلى الوصال.
من كل بيت يكاد الميت يفهمه
…
حسنًا ويحسده القرطاس والقلم
إذا أنشد لأن لرنته من المنشد الفهم (بكسر الهاء) ما يتغلغل من المعاني في الفؤاد بأكثر مما ينبعث من خط القرطاس والقلم. ولا يخلو معنى قوله: «كماء قافية بسقيكها فهم» من القصدالي معنى الغناء. وكما ذو الفهم هو الشاعر، يكون أيضًا هو المغني الحاذق. وكان لأبي تمام بالغناء ولع وطرب.
مالي ومالك شبه حين أنشده
…
إلا زهير وقد أصغى له هرم
فدلنا بهذا البيت، إن كان صادقًا، أنه كان ينشد شعره فيمتلك به الأسماع، وهذا خلاف ما روى ابن المعتز أنه كان سيء الإنشاد، فالله أعلم أي ذلك كان.
بكل سالكةٍ للفكر مالكةٍ
…
كأنه مستهام أو به لمم
أي هي ابنة الفكر تسلك من الفكر إلى الفكر مالكةً له فالحالين حتى كأنه عاشق مستهام أو به لمم من الجن، وهذا غاية في الاتصال والإبلاغ والإمتاع.
وقال:
إليك بعثت أبكار القوافي
…
يليها سائقٌ عجلٌ وحادى
جوائز عن ذنابي القوم حيرى
…
هوادي للجماجم والهوادي
أي تجاوز أذناب القوم، هوادي أي مهتديات إلى جماجمهم وهواديهم أي أعناقهم جمع هاد بمعنى عنق يعني إلى رؤسائهم وساداتهم وكبرائهم.
شداد الأسر سالمة النواحي
…
من الإقواء فيها والسناد
الإقواء والسناد من عيوب القافية كما مر.
يذللها بذكرك قرن فكرٍ
…
إذا حرنت فتسلس في القياد
فزعم كما ترى أن الفكر هو الذي يصنع ويصوغ وتنقاد إليه القوافي، وقرن فكر بكسر القاف أي قرين للفكر ومقابل كفء له ونظير عني الشاعر أي نفسه أي هو مقارن للفكر مقابل له قادر على أن يروض به لغة الشعر ومعانيه.
ولا ريب أنك فطنت أيها القارئ إلى ما بين هذا وبين ما زعمه كلردج من أمر المتناكرين والتوازن والاتحاد وحدة سورة الوجدان وروية الفكر وحده منها ومقارنته لها ومقابلته من شبهٍ.
لها في الهاجس القدح المعلى
…
وفي كتب القوافي والعماد
أي تقع في القلب موقعًا حسنًا وحين تدون في الدواوين وحين ينظر إلى نوع نظمها ورويها وعمود شعرها. لا جرم نظر الآمدي في قوله «عمود الشعر» إلى هذا من قول أبي تمام، ولله در القائل، وبه استشهد الثعالبي في معرض حديثه عن طعون الصاحب في أبي الطيب:
وذموا لنا الدنيا وهم يحلبونها
…
ولم أر كالدنيا تذم وتحلب
وأمثلة ذكر الفكر والفهم وما أشبه في شعر أبي تمام كثيرة. وما اشتملت عليه هذه الأبيات الدالية من معاني النقد وتأملاته شاهد فيما قدمناه من أن حبيبًا كما كان شاعرًا ضخمًا كان كذلك ناقدًا ضخمًا. وفي هذه الأبيات قوله:
منزهة عن السرق المورى
…
مكرمة عن المعنى المعاد
فقوله «السرق المورى» حاوٍ لأصناف السرق التي عددها النقاد. وقد زعم ابن الأثير أنه قد اهتدى في ذلك إلى ما لم يهتد أحد قبله، ومعرفته بشعر أبي تمام تشهد بأخذه منه، على أقل تقدير.
وأما عمود الشعر التي أشرنا إلى أن الآمدي قد نظر في استعماله إياها إلى قول أبي تمام «وفي كتب القوافي والعماد» فمن العجب الزعم الدائر بيننا الآن إن هذه العبارة كانت اصطلاحًا، ولو كانت اصطلاحًا لكان النقاد قد أفردوا لها بابًا أو فصلًا ولا نجد شيئًا من ذلك عند أحدٍ منهم (1)، وحسبك شاهدًا عمدة ابن رشيق
(1)() نعم، ذكر المرزوقي أشياء سبعة زعم أنهن عمود الشعر وليس هذا بجاعله اصطلاحًا وما جاء حقًّا بأمر ذي بال وكان صاحب تقعير ورحى تطحن أبزارًا، ولو تأملت الأشياء السبعة التي ذكرها وجدتها كلها راجعة إلى اللفظ والمعنى وما قاله الجاحظ في أمر الالتحام وقد عجز المرزوقي عن توضيح عيار كل منها. ثم قال فهذه «الخصال عمود الشعر عند العرب» وعمود هنا عبارة جاحظية لا تنبئ أن هذا اصطلاح فتأمل. والمرزوقي الآن «موضة» كعبد القاهر وحازم القرطاجني، فالله المستعان.
وكتاب قدامة وأبي هلال والمثل السائر، وإنما كان قولهم عمود الشعر كقولهم عمود كذا وكذا يعنون قوامه وما ينبغي أن يعمد إليه فيه وقولنا الصلاة عماد الدين ليس «عماد الدين» فيه اصطلاحًا للصلاة ولما ينبغي أن تكون عليه ولكنه وصف وتمثيل، وكذلك قولك عمود الشعر قال الجاحظ في الحيوان (ج 6 - 72 - 73) الطبعة المصورة عن حيوان عبد السلام هرون في معرض الحديث عن الضب:«فأما ما ذكروا من أن للضب أيرين وللضبة حرين فهذا من العجب العجيب، ولم نجدهم يشكون وقد يختلفون ثم يرجعون إلى هذا العمود» . أ. هـ. أي عامدين إلى هذا القول المتقدم. وفي البيان والتبيين ج 1 - ص 340 «وكان خالد جميلًا ولم يكن بالطويل فقالت له امرأته إنك لجميل يا أبا صفوان قال وكيف تقولين هذا وما في عمود الجمال ولا رداؤه ولا برنسه فقيل له وما عمود الجمال فقال الطول ولست بطويل ورداؤه البياض ولست بأبيض وبرنسه سواد الشعر وأنا أشمط ولكن قولي إنك مليح ظريف» أ. هـ. فالعمود والبرنس والرداء مع ما أضفن إليه ههنا لسن باصطلاحات ولكن هذه طريقة التعبير وعمود من أساليب البيان أي شيء يعمد إليه العامد من أساليب البيان.
قال الجاحظ في الجزء الرابع من الحيوان ص 77 بمعرض تفسير قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} أن شحم الخنزير مرادٌ أيضًا بالتحريم: «فلما كان اللحم هو العمود الذي يقصد إليه إلخ» -وقالوا عمود الرواية أي ما يعتمد عليه منها، وما يعمد إليه منها. والأمثلة في هذا المجال كثيرة. وعلى هذا قولهم:«عمود الشعر» أي ما ينبغي أن يعمد إليه منه. فهذا ليس باصطلاح. فعسى ان يكف بعض القائلين من غربهم في هذا المجال وليس ما ذكره المرزوقي في مقدمته لشرح ديوان الحماسة بخارج في جملته عما ذكرناه.