المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وقفة عند خواتيم أبي تمام: - المرشد إلى فهم أشعار العرب - جـ ٤

[عبد الله الطيب المجذوب]

الفصل: ‌وقفة عند خواتيم أبي تمام:

وهذا ينظر فيه إلى قول النابغة «ها إن ذي عذرة» آخر «يا درامية» لمكان اسم الإشارة مع سائر المعنى كما ترى.

وأحسب أن أبا تمام كما هو أشد قرعًا للأسماع بمطالعه كذلك هو بمقاطعه، والبحتري فيهما معًا دون ذلك، وليس معنى هذا أنه لا يفتتح بما يشعر بالبداية ولا يختم بما يشعر بالختام. فقوله مثلًا:

صنت نفسي بما يدنس نفسي

مطلع قوي وآخر الكلمة:

وأراني من بعد أكلف بالأحـ

ـرار طرًّا من كل سنخ واس

ولنا عودة إلى عامة مذهبه إن شاء الله عند الحديث على التخلص والاقتضاب وما هو من هذا المجرى من أساليب تماسك القصيدة ووحدتها. ونرى أن نقف الآن شيئًا عند مذهب أبي تمام في نهايات قصائده لاشتمالهن على كثير مما يجري مجرى النقد وقد كان أبو تمام، كما ذكر عنه ابن الأثير في أخريات فصول كتابه المثل السائر «رب معان وصيقل الباب وأذهان» .

‌وقفة عند خواتيم أبي تمام:

كان لأبي تمام مذهبٌ من الفخر يختم به كثيرًا من قصائده مثل قوله:

فدونكها لولا ليان نسيبها

لظلت صلاب الصخر منها تصدع

لها أخوات قبلها قد سمعنها

وإن لم تزع بي مدة فستسمع

قال التبريزي: «أي إن عشت سمعت مني أمثالها» وضبطت الزاي بالكسرة ومدة بالنصب والمعنى على هذا لا يتضح، ووزع من باب وضع وما أرى إلا أن

ص: 177

الصواب تزغ بكسر الزاي بعدها غين معجمة وقبلها تاء مستثناة فوقية أي وإن لم تمل ومدة «مرفوعة فاعل» لقوله «لم تزغ» هكذا:

وإن لم تزغ بي مدة فستسمع

والمعنى إن لم تنته مدتي وإن مد في حياتي فستسمع مني أخوات لها وعلى هذا جاء معنى تفسير التبريزي وزاغ يزيغ من ألفاظ القرآن وإياها أراد حبيب فيما أرى. ومثل قوله:

خذها مثقفة القوافي ربها

لسوابغ النعماء غير كنود

حذاء تملأ كل أذن حكمةً

وبلاغةً وتدر كل وريد

كالدر والمرجان ألف نظمه

بالشذر في عنق الكعاب الرود

كشقيقة البرد المنمنم وشيه

في أرض مهرة أو بلاد تزيد

يعطي بها البشرى الكريم ويحتبى

بردائها في المحفل المشهود

بشرى الغني أبي البنات تتابعت

بشراؤه بالفارس المولود

كرقي الأساود والأراقم طالما

نزعت حمات سخائم وحقود

وهذا آخر القصيدة الدالية التي أولها:

أرأيت أي سوالفٍ وخدود

عنت لنا بين اللوى فزرود

وقد اعتذر بها إلى أحمد بن أبي داود فرضي عنه وقد وردت منها قطعة وافية بمعرض الحديث عن الكامل فالجزء الأول من هذا الكتاب. وقول أبي تمام «وتدر كل وريد» أي يتغنى بها في كل البلاد، وإدرار الوريد كناية عن ذلك. والى الغلو في حسن وحيد وجودة أدائها قصد ابن الرومي حيث قال:

لا تراها هناك تجحظ عينٌ

لك منها ولا يدر وريد

ص: 178

ولم يخل من التعريض ههنا كما أشرنا إلى ذلك في ما تقدم. ولعل الخطيب قد وهم حيث فسر قول حبيب «وتدر كل وريد» فقال: «وإدرار الوريد كناية عن الذبح» قال: «وقوله تدر كل وريد يعني من يحسدها ومن يعاندها» . وجليٌّ أن أبا تمام لم يخصص قوله «كل وريد» بوريد من يعاندها أو يحسدها ولكنه عمم ولم يخصص فوجب حمل كلامه على عمومه، وما كل وريد بحاسدها صاحبه، وإنما أراد حبيب التنويه بمعنى التغني بها والترنم طربًا وإعجابًا وقد فطن إلى هذا المعنى بعض الشراح كما أورده المحقق في الهامش، وإن يك إدرار وريد الجارية عائبًا لها فليس إدرار انفعال الغناء بعائب الرجل الفحل به ذلك العيب.

ومثل قوله:

خذها مغربةً في الأرض آنسةً

بكل فهمٍ غريب حين تغترب

من كل قافية فيها إذا اجتنيت

من كل ما يجتنيه المدنف الوصب

الجد والهزل في توشيع لحمتها

والنبل والسخف والأشجان والطرب

لا يستقي من حفير الكتب رونقها

ولم تزل تستقي من بحرها الكتب

حسيبةٌ في صميم المدح منصبها

إذ أكثر الشعر ملقىً ماله حسب

من حفير الكتب بالحاء المهملة أشبه بطريقة حبيب لمقابلة الحفير للبحر وبالجيم المعجمة يكون معنى الجفير الجفر بفتح الجيم وسكون الفاء وهو الماء الكثير ولا مقابلة ههنا ويدلك على أن الجفر هو الماء الكثير أو هكذا كان معناه عند حبيب قوله وهو من مجرى ما نحن فيه من أساليب فخره عند نهايات كلامه:

جاءتك من نظم اللسان قلادةٌ

سمطان فيها اللؤلؤ المكنون

حذيت حذاء الحضرمية أرهفت

وأجادها التخصير والتلسين

إنسيةٌ وحشيةٌ كثرت بها

حركات أهل الأرض وهي سكون

ص: 179

ينبوعها خضلٌ وحلى قريضها

حلى الهدي ونسجها موضون

أما المعاني فهي أبكارٌ إذا

نصت ولكن القوافي عون

احذاكها صنع اللسان يمده

جفرٌ إذا نضب الكلام معين

ويسيء بالإحسان ظنًّا لا كمن

هو بابنه وبشعره مفتون

يرمي بهمته إليك وهمه

أمل له أبدًا عليك حرون

فمناه في حيث الأماني رتع

ورجاؤه حيث الرجاء كنين

ولعل ما يرجوه مما لم يكن

بك عاجلًا أو آجلًا سيكون

وهذا البيت حسن ختامٍ كما ترى. وقال التبريزي في الجفر: «بئر واسعة الفم يقول بعضهم إنها تكون غير مطوية وهي مع ذلك قليلة الماء» قلت هذا معنى واحد من معاني الجفر ولا ريب أن التبريزي حجة، غير أن في قولهم غلام جفرٌ وشاة جفر ما يدل على معنى القوة وذكر صاحب القاموس أسماء مياهٍ كثيرة مما يجري على وجه الأرض تسمى جفرًا وعليه ظاهر كلام أبي تمام حيث قال «معين» والله أعلم. ومن مفردات مقاطع أبي تمام الجيدة قوله في أبي دلف واسمه القاسم بن عيسى العجلي:

نامت همومي عني حين قلت لها

هذا أبو دلفٍ حسبي له وكفى

ومن خاتمات كلامه في قصيدة على القاف هجا بها أحد الشعراء:

سر أين شئت من البلاد فإن لي

سورًا عليك من الرجال وخندق

وقبيلةٌ يدع المتوج خوفهم

فكأنما الدنيا عليه مطبق

أي سجن واشتقاقه من الأطباق أي التغطية فلك في بائه الكسر والفتح وقوله سورًا عليك من الرجال وخندق يجوز في خندق الرفع والنصب غير أن النصب لا يصلح ههنا ونظر أبو تمام إلى قول غيلان: «عليها من الظلماء جلٌّ وخندق» وقد

ص: 180

نشير إلى تأثره غيلان من بعد أن صرنا إليه إن شاء الله تعالى.

وقصائد تسري إليك كأنها

أحلام رعبٍ أو خطوب طرق

من منهضاتك مقعداتك خائفًا

مستوهلًا حتى كأنك تطلق

أي حتى كأنك حامل بها وجع الولادة. تطلق بضم التاء وفتح اللام مبنية للمفعول:

من شاعر وقف الكلام ببابه

واكتن في كنفي ذراه المنطق

قد ثقفت منه الشآم وسهلت

منه الحجاز ورققته المشرق

قوله «وقبيلة» و «قصائد» يجوز فيها النصب بالرد على اسم أن من قوله فإن لي سورًا إلخ. هذا وقوله: «وقصائد تسري إليك» وقوله: «كثرت بها حركات أهل الأرض إلخ» في النونية وقوله: «إنسية وحشية إلخ» وقوله: «مغربة في الأرض آنسة إلخ» في الأبيات البائية التي مرت منذ حين قريب، كل هذا يريد به أن يدل على سيرورة الشعر، وكثرة إنشاد الناس له، وهذا مما يصحح ما ذهبنا إليه في تفسير قوله «وتدر كل وريد» إن شاء الله.

وقال في آخر البائية التي مدح بها أبا دلف وجعل الخاتمة تنتظم عدة أبيات:

إليك أرحنا عازب الشعر بعدما

تمهل فروض المعاني العجائب

غرائب لاقت في فنائك أنسها

من المجد فهي الآن غير غرائب

ولو كان يفني الشعر أفناه ما قرت

حياضك منه في العصور الذواهب

ولكنه صوب العقول إذا انجلت

سحائب منه أعقبت بسحائب

أقول لأصحابي هو القاسم الذي

به شرح الجود التباس المذاهب

وإني لأرجو أن ترد ركائبي

مواهبه بحرًا ترجى مواهبي

وأحسن أبو تمام إذا حلى البيت السابق للمقطع وكأنه منه باسم ممدوحه كما فعل في قوله:

هذا أبو دلفٍ حسبي به وكفى

ص: 181