المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كلمة عن أبي نواس: - المرشد إلى فهم أشعار العرب - جـ ٤

[عبد الله الطيب المجذوب]

الفصل: ‌كلمة عن أبي نواس:

ولأبي الطيب بعد مطالع في ما يبدؤه بالنسيب حسان مثل قوله:

ليالي بعد الظاعنين شكول

طوال وليل العاشقين طويل

وقوله:

فديناك منم ربعٍ وإن زدتنا كربا

فإنك كنت الشرق للشمس والغربا

وقوله:

لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقى

وللحب ما لم يبق منه وما بقى

وقوله:

تذكرت ما بين العذيب وبارق

مجر عوالينا ومجرى السوابق

وقوله:

أود من الأيام ما لا توده

وأشكو إليها بيننا وهي جنده

فهؤلاء روائع وللسمع قوارع.

هذا وقد وهم كثير من الباحثين وأوهموا حين افترضوا أن النسيب قد كان البدء به ضربة لازب، ثم فرعوا من ذلك أنه قد صار عبئًا ثقيلًا عند شعراء العصر العباسي الأول فثاروا عليه، وأن هذا شاهد الحيوية والتطور، وكثر التخريج والتحليل حول أبي نواس خاصة.

‌كلمة عن أبي نواس:

قد كان أبو نواس شعوبي اللسان أحيانًا كثيرة كما في قوله:

عاج الشقي على رسم يسائله

وعجت أسأل عن خمارة البلد

تبكي على طلل الماضين من أسد

لادردرك قل لي من بنو أسد

ومن تميم ومن قيس ولفهما

ليس الأعاريب عند الله من أحد

ص: 129

على أن هذا ربما كان أدخل في باب العصبية منه في باب الشعوبية، لذكره بني أسد كأنما يشير بذلك إلى نونية الكميت -وهو أسدي- في ذم اليمن، وكان أبو نواس معروفًا بالتعصب لليمن وما ذكر في ذمه إلا قبائل مضر وهم الأعاريب إذ البداوة عليهم أغلب منها على اليمن وقال ابن رشيق في باب المبدأ والخروج والنهاية، «ولما سجنه الخليفة على اشتهاره بالخمر وأخذ عليه ألا يذكرها في شعره قال:

أعر شعرك الأطلال والمنزل القفرا

فقد طالما أزرى به نعتك الخمرا

دعاني إلى نعت الطلول مسلط

تضيق ذراعي أن أرد له أمرا

فسمعا أمير المؤمنين وطاعة

وإن كنت قد جشمتني مركبا وعرا

فجاهر بأن وصفه الأطلال والقفر إنما هو من خشية الإمام، وإلا فهو عنده فراغ وجهل، وكان شعوبي اللسان، فما أدري ما وراء ذلك وإن في اللسان وكثرة ولوعه بالشيء لشاهدًا عدلًا لا ترد شهادته وقد قال أبو تمام:

لسان المرء من خدم الفؤاد» أ. هـ.

وكأن ابن رشيق مداخله شك في الذي هم أن ينسب أبا نواس إليه من الشعوبية ومع الشك تتردد، وبعض ذلك أحسب مرده إلى ضرب من التقية والحذر كان يعمد إليه ابن رشيق يصانع بذلك مولاه أو من كان ذا قدم في مجالسه والله تعالى أعلم.

على أن استشهاد ابن رشيق بالأبيات الرائية التي استشهد بها أدل على المعنى الذي ذكر في الأبيات الدالية لمكان ما ذكرناه فيها من الدلالة على العصبية وقد كان أبو نواس ميالًا إلى الهزل والعبث وعسى أن يدخل في ذلك التظرف بالتظاهر برقة الدين إن يكن رقيقة، ومما يشهد بأن بعض ذلك ربما كان من مذهبه قوله:

تيه مغن وظرف زنديق

فقد نسب الظرف إلى الزنديق كما ترى. وزعم ابن المعتز أن غزل أبي نواس بالمذكر

ص: 130

كان كذبًا، وكان إلى زمانه أقرب وبه أعرف وهو الذي قطع بالذي قدمنا من عصبية أبي نواس لليمن واستشهد ببائيته التي أولها.

لست لدارٍ عفت وغيرها

ضربان من قطرها وحاصبها

وذكر منها جملة أبيات وأورد تفسيرها الذي قرأه هو على أبي العباس المبرد. هذا ويمكن أن يوجه قول أبي نواس إلى أنه أرا به التعريض ببعض معاصريه أو إلى أنه ذهب به إلى مجرد الطعن في البداوة والأعراب كعادة ساكنة المدر من العرب في جاهليتهم وإسلامهم. وقد ارتجز الحجاح على منبر الكوفة وتمثل بقول القائل:

قد لفها الليل بعصلبي

أروع خراجٍ من الدوي

مهاجر ليس بأعرابي

ولم يكن أبي نواس أول ولا آخر من تضجر بمقدمة الطلل وما هو بمجراها في المطالع، فامرؤ القيس هو شيخ الأوائل وسابقهم قد روى له قوله:

عوجا على الطلل المحيل لعلنا

نبكي الديار كما بكى ابن حزام

وابن حزام هذا أحسبه هو عروة صاحب عفراء من قدماء العشاق في الدهر الأول ثم تكرار اسم العاشق والمعشوقة في أزمان جاءت من بعد، وكان مثلًا للعشق كما كان المرقش مثلًا للعشق وكما صار قيس وليلى من بعد مثلًا للعشق وقد كان في الجاهلية مرقشان، فلا تستبعد أن يكون عروتان وعفراوان وأكثر. قال جرير في ذكر المرقش:

قلبي حياتي بالحسان مكلف

ويحبهن صداي في الأصداء

إني وجدت بهن وجد مرقش

ما بعض حاجتهن غير عناء

وقال فذكر عروة وعفراء، في كلمة مدح بها العباس بن الوليد بن عبد الملك،

ص: 131

وما أشبه أن يكون عني عاشقين بعيدي الزمان من عهده جدًّا:

إن الشفاء الذي ضنت بنائله

فرع البشام الذي تجلو به البردا

هل أنت شافيةٌ قلبًا يهيم بكم

لم يلق عروة من عفراء ما وجدا

وقال فذكر عروة بن حزام في بيت يهجو به الفرزدق:

إن المكارم قد سبقت بفضلها

فانسب أباك لعروة بن حزام

ولم يكن الفرزدق صاحب نسيب ولكنه كان يتهم بفجور وزعم جرير فيما كان يسبه به أن أباع غالبًا كان لغير رشدة، وأنه كان لجده صعصعة قين يقال له جبير، عشقته نساء مجاشع وشغف قفيرة جدة الفرزدق حبًّا فجاءت بغالب منه، فذلك قوله:

وتغضب من ذكر القيون مجاشع

وما كان ذكر القين سرًّا مكتما

مجاشع هم رهط الفرزدق:

ترى الخور جلدًا من بنات مجاشع

لدى القين لا يمنعن منه المخدما

أن ترى الناس الخائرات جلودًا من بنات مجاشع لدى هذا القين أي جبير الحداد لا يمنعن منه المخدم بضم الميم الأولى والدال المشددة المفتوحة وهو الساق حيث تكون الخدمة بالتحريك وهي الخلخال.

إذا ما لوى بالكلبتين كتيفة

رأين وراء الكير أيرا محمما

والكلبتان والكير من أداة الحداد والكتيفة هي قطعة الحديد، ويخفي ما في البيت على فحشه من فكاهة وشيطنة. ثم يقول:

لقد وجدت بالقين خور مجاشع .... كوجد النصارى بالمسيح ابن مريما

فجعل أمرهن حبًّا فيه زيادة ومبالغة -فهذا يوضح أن قوله:

فانسب أباك لعروة بن حزام

ص: 132

«بالزاي وهو اسم العاشق المشهور وما أرى إلا أن الاسم الذي في بيت امرئ القيس هو عين هذا الاسم ودخله التصحيف فقيل حذام بالذال وخذام بالخاء المعجمة وحمام بميمين فتأمل» .

أي إلى العشق، أي إلى جبير الذي هو كعروة وقفيره التي هي العفراء.

وزعم جرير أن أم الفرزدق قد استدعى لها صائغ وهي صبية ليخلص قرطها فعض أذنها، فحول قصة القرط في الأبيات الميمية هذه إلى قصة ساق ومخدم وأشنع من ذلك. والبيت الذي زعم فيه ما زعم هو قوله:

ليست كأمك إذ يعض بقرطها

قين وليس على القرون خمار

أي على شعر الرأس، ولا يخفى ما ههنا من خبث.

هذا، وبيت امرئ القيس الذي تقدم ذكره:

عوجا على الطلل المحيل لعلنا

نبكي الديار كما بكى ابن حذام

فيه نفس من تبرم بضرورة البدء بذكر الديار أحيانًا كثيرة في المطالع.

وقال زهير:

وما نرانا نقول إلا معارًا

أو معادًا من قولنا مكرورا

وقال عنترة:

هل غادر الشعراء من متردم

كأنه لا يرى سبيلًا إلى القول، ثم أقدم على القول كما يقدم سائر الشعراء فذكر الطلل وقال:

أم هل عرفت الدار بعد توهم

ص: 133

وروى بعضهم أول هذه الميمية:

يا دار عبلة بالجواء تكلمي

كأنه يستكثر -والله تعالى أعلم- توالي أربعة أشطار بالتصريع ولا يخفى ما في ذلك من قوة الترنم. وفي شرح ابن الأنباري للقصائد السبع قال: «قال يعقوب سمعت أبا عمرو ويقول لم أكن أروي هذا البيت لعنترة حتى سمعت أبا حزام العكلي ينشده له» أ. هـ. يعقوب هو ابن السكيت قتيل المتوكل (244 هـ) وأبو عمرو هو الشيباني لا أبو عمرو بن العلاء. ويدلك على أن بيت عنترة:

هل غادر الشعراء من متردم

أم هل عرفت الدار بعد توهم

أنه هو أول القصيدة ما يحمله من معنى ظاهر التردد والإحجام مع أن النية صادقة على الإقدام، وهذا كقوله من بعد:

ولقد حفظت وصاة عمي بالضحى

إذ تقلص الشفتان عن وضح الفم

إذ يتقون بي الأسنة لم أخم

عنها ولكني تضايق مقدمي

لما رأيت القوم أقبل جمعهم

يتذامرون كررت غير مذمم

وهو جار على طريقتهم في إيحاء المطالع بما سيجيئ بعد من أغراض القول وفنونه وقال الحماسي:

خيال لأم السلسبيل ودونها

مسيرة شهر للبريد المخبب

معاذ الإله أن تكون كدميةٍ

ولا ظبيةٍ ولا عقيلة ربرب

ولكنها زيدت على الحسن كله

كمالًا ومن طيبٍ على كل طيب

فهذا كما ترى متبرم بأن الشعراء لم يدعوا تشبيهًا في مطالع النسيب إلا ذكروه فلا يريد أن يكرر ذلك فيقصر عن صفة أم السلسبيل ولعل قوله «أم السلسبيل» كنية اخترعها يصف بها حلاوة ما زوده إياه ثغر طيف الخيال. والسلسبيل من ألفاظ

ص: 134

القرآن. فجعل ليلاه من الحور العين كما ترى. وإنما سقنا هذا الشاهد لسببين، أولهما ملابسته للمطلع إذ قوله معاذ الإله إلخ بعد بيت المطلع مباشرة فكأنه منه فجرى فيه على قريب من مذهب عنترة العبسي، وثانيهما أنه يأخذ على الشعراء ذكرهم الدمية والظبية والربرب، وليس ذلك من شعوبيته فهو عربي قح (حجية بن المضرب). ولو سقط هذا البيت لأبي نواس لبنى عليه بعض من يأخذ بالتحامل على العرب بناء.

وقد مر بك قول الكميت:

طربت وما شوقا إلى البيض أطرب

ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب

فأنكر الغزل في المطلع ثم أنكر ضروبًا مما يفتتح به الشعراء من طير وظباء وديار قال:

ولم تلهني دار ولا رسم منزل

ولم يتطربني بنان مخضب

ولا أنا ممن تزجر الطير همه

أصاح غراب أم تعرض ثعلب

ولا السانحات البارحات عشية

أمر سليم القرن أم مر أعضب

الأعضب المكسور القرن وكان أهل العيافة يتشاءمون به.

ولكن إلى أهل الفضائل والنهى

وخير بني حواء والخير يطلب

وقال أبو الطيب، فنظر إلى قول الكميت هذا، وكلاهما عربي عن الشعوبية بعيد حق بعيد:

إذا كان مدح فالنسب المقدم

أكل فصيح قال شعرًا متيم

لحب ابن عبد الله أولى فإنه

به يبدأ الذكر الجميل ويختم

وقد كان أبو الطيب مع تبرمه ههنا بالنسيب في المبدأ ممن يجيد مطالع النسيب وبداياته الغزلية وعد أبو منصور في يتيمة الدهر تشبيه بالبدويات من محاسنه فتأمل.

ص: 135

وأبو نواس ممن مهد لأبي تمام مذهب الافتنان في اتباع طريقة القدماء في المطالع والتفريع عنها، وهو القائل:

ودار ندامى عطلوها وأدلجوا

بها أثر منهم جديد ودارس

مساحب من جر الزقاق على الثرى

وأضغاث ريحان جنيٌّ ويابس

فهذا كوقفة من يقف على آثار الدار يتبين معالمها كقول زهير:

وقفت بهات من بعد عشرين حجة

فلأيًّا عرفت الدار بعد توهم

أثافي سفعًا في معرس مرجل

ونؤيا كجذم الحوض لم يتثلم

وقد وقف أبو نواس كوقوف القدماء على الربع عند قوله:

حبست بها صحبي فجددت عهدهم

وإني على أمثال تلك لحابس

وقوله:

وخيمة ناطور برأس منيفة

تهم يدا من رامها بزليل

حططنا بها الأثقال فل هجيرةٍ

عبورية تذكى بغير فتيل

وهي مما كان يرويه الأصمعي ويحفظه لمكانه من سلامة اللغة وفصاحتها، كما يدل على بعض ما ذكر من خبره في طبقات ابن المعتز. أبو نواس ينظر في هذه الكلمة إلى وصف الشعراء خيمة الربيئة الذي يصعد قمة تل أو ربوة أو صخرة ليراقب منها الأعداء. وكانت هذه الخيمة يقال لها النعامة وكانت من أعواد ثلاثة عليها خرقة يستظل بها الربيئة وقد لقي من قبل جهدًا في الصعود إليها، وكانوا مما يفتخرون بذلك، قال امرؤ القيس:

ومرقبة كالزج أشرف فوقها

أقلب طرفي في فضاء عريض

وقد رد القرآن على صناديد أهل الكفر فخرهم بالمربأة وصعودها وطربهم لفخر

ص: 136

الشعراء به، فجعل لهم عقابًا من الله جل جلاله، من جنسه في جهنم وساءت مصيرًا. قال تعالى:{سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} وقال تعالى: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} ، وقد جعل أبو نواس مكان مظلة الربيئة خيمة الناطور التي ذكر (الناطور حارس البستان) وجعلها على رأس صخرة عسيرة الصعود، وزعم أنه صار إليها مع أصحابه في هجيرة موقدة (عبورية نسبة إلى الشعرى العبور وزمانها أشد الحر) لا لأرب حربي كما كان يصنع الربيئة في الزمان القديم، ولكن ليلهو ويلعب ويشرب ويطرب. وقد نظر في صفة خيمة الناطور والهجيرة العبورية إلى نحو قول تأبط شرًّا:

وقلةٍ كسنان الرمح بارزة

ضحيانة في شهور الصيف محراق

بادرت قنتها صحبي وما كسلوا

حتى نميت إليها بعد إشراق

لا شيء في ريدها إلا نعامتها

منها هزيم ومنها قائم باقي

ومن مطالع أبي نواس القديمة المذهب قوله:

ديار نوار ما ديار نوار

كسونك شجوًا هن منه عوارى

يقولون في الشيب الوقار لأهله

وشيبي بحمد الله غير وقار

وقوله:

لمن طلل عاري المحل دفين

عفا أيه الاخوالد جون

وقوله:

يا كثير النوح في الدمن

لا عليها بل على السكن

سنة العشاق واحدة

فإذا أحببت فاستكن

وقوله:

دعت الهموم إلى شغاف فؤادي

وحمت جوانب مقلتي رقادي

ص: 137

وهذا مطلع جارى فيه، كما لا يخفى، مطلع الأسود بن يعفر:

نام الخليس ما أحس رقادي

والهم محتضر لدي وسادي

ومن مطالعه يتعصب لليمن جدًّا أو هزلًا ويذكر ديارهم ويعير تميمها أكل الضب:

ألا حي أطلالًا بسيحان فالعذب

الى برعٍ فالبئر بئر أبي زعب

تمر بها عفر الظباء كأنها

أخاريد من روم يقسمن في نهب

وقال في مطلع خمرية طللي على تماجنه بذلك:

عفا المصلي وأقوت الكثب

منى فالمربدان فاللبب

والمسجد الجامع المروءة والديـ

ـن عفا فالصحان فالرحب

منازل قد عمرتها يفعا

حتى بدا في عذارى الشهب

يعني الشيب- وقد حاكى أبو نواس في ذكر المصلي طريحًا الثقفي من شعراء بني أمية ذكر المسجد في معرض ذكر الطلل فزعم صاحب الأغاني أن أبا جعفر المنصور سأل هل ذكر المسجد أحد قبله في صفات الطلول، فهذا الخبر مما يدلنا على سذاجة من يقولون بأن القدماء كانوا في نقدهم سذجًا أم ليت شعري هل نظر أبو جعفر في نقد اليونان لصفة الطلول إذ هو ممن يذكرون أنه أول أو من أوائل من أمروا بترجمة علوم يونان؟ ثم يقول أبو نواس:

في فتية كالسيوف هزهم

شرخ شباب وزانهم أدب

ثمت راب الزمان فاقتسموا

أيدي سبا في البلاد فانشعبوا

قوله «في فتيه كالسيوف» ينظر إلى نحو قول الأعشى:

في فتيه كسيوف الهند قد علموا

أن هالكٌ كل من يحفى وينتعل

وفيه ما ترى من زيادة عند قوله «هزهم شرخ شباب» وهي عبارة رشيقة جمع

ص: 138

فيها بين ترشيح للتشبيه بقوله هزهم وهو يرجع إلى تصوير حال السيوف وتجريد للتشبيه بقوله «شرخ شباب» . وهو يرجع إلى نعت حال الفتية. ولا يخلو في ذلك من طرف خفي نظر به إلى قوله ابن أبي ربيعة:

وهي مكنونة تحير منها

في أديم الخدين ماء الشباب

«هزهم شرخ الشباب» هو ضرب مولد من تحيير ماء الشباب.

وقال في ميمية استحسنها ابن المعتز وجعلها في درجة رائيته الخصيبية:

يا دار ما فعلت بك الأيام لم تبق فيك بشاشة تستام

عرم الزمان على الذين عهدتهم

بك قاطنين وللزمان عرام

ومطلع الخصيبية (وهو من المطالع الفخمان والقصيدة من روائعه):

أجارة بيتينا أبوك غيور

وميسور ما يرجى لديك عسير

من نوع المطالع النسيبية وقد تعلم استهلال الأعشى حيث قال:

بانت لتفجعنا عفارة

يا جارتا ما أنت جارة

فقد بدأ بذكر الجارة كما ترى.

وقال فاستهل بذكر الشباب، وقد تعلم أن ذلك من مطالع القدماء كقول سلامة بن جندل:

أودى الشباب حميدًا ذو التعاجيب

أودى وذلك شأو غير مطلوب

قال:

كان الشباب مطية الجهل

ومحسن الضحكات والهزل

كان الفصيح إذا نطقت به

وخرجت أخطر صيت النعل

ص: 139

ثم قال:

فالآن صرت إلى مقاربة

وحططت عن ظهر الصبا رحلي

وقد مر بك قولنا منذ دهر في باب الحديث عن الكامل الأخذ وأخيه المضمر أن أبا نواس قد جارى في هذه اللامية امرأ القيس في قصيدته التي مطلعها:

حي الحمول بجانب العزل

وذلك لا يخفى لاتفاق الوزن والروى. وقول أبي نواس:

كان الشباب مطية الجهل

من قول النابغة الذبياني:

فإن يك عامر قد قال جهلًا

فإن مطية الجهل الشباب

وقد يقال: «مظنة الجهل» بالظاء المعجمة والنون في بيتي النابغة والحسن.

وقوله: «وحططت عن ظهر الصبا رحلي» من قول زهير:

صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله

وعرى أفراس الصبا ورواحله

وفي لامية أبي نواس هذه:

فاعذر أخاك فإنه رجل

مرنت مسامعه على العذل

وهذا فيه كالنظر إلى قول عمران بن حطان:

فاعذر أخاك ابن زنباع فإن له

في النائبات خطوبًا ذات ألوان

وقول أبي نواس:

لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند

واشرب على الورد من حمراء كالورد

ما عدا فيه دعا إلى الافتتاح بالخمر، ومذاهب القدماء في افتتاح القصائد لا

ص: 140

يحد لها حد، وقد تعلم قول عمرو بن كلثوم:«ألا هبي بصحنك فاصبحينا» .

وقول عدي بن زيد:

بكر العاذلون في وضح الصبـ

ـح يقولون لي أما تستفيق

ودعوا بالصبوح يومًا فجاءت

قينة في يمينها إبريق

وإليه نظر الأخطل حيث قال:

بكر العواذل يبتدرن ملامتي

والعالمون فكلهم يلحاني

في أن سقيت بشربة مقذية

صرف مشعشعة بماء شنان

ومما عسى أن يصح الاستشهاد به على طغيان لسان أبي نواس يتحدى ويعبث وأن ذلك بعيد أن يكون منه جدًّا نحو قوله:

يا أحمد المرتجى في كل نائبة

قم سيدي نعص جبار السموات

ونحو قوله:

دع عنك لومي فإن اللوم إغراء

وداوني بالتي كانت هي الداء

من كف ذات حر في زي ذي ذكر

لها محبان لوطيٌّ وزناء

صور الساقية وهذا العبث المكشوف الصارح كالشيء المفاجئ بالنسبة إلى لب الموضوع -لب الموضوع هو زجر العاذل والقصد إلى مغايظته بذكر التداوي من الخمار بكأسٍ أخرى من الخمر. ولا يخلو أبو نواس في قوله: «من كف ذات حر في زي ذي ذكر» بعد قوله: «دع عنك لومي فإن اللوم إغراء» من قصد أيضًا مع المغايظة وروح التحدي إلى شيء من بعض التعريض بالعاذل، وفي القصيدة من بعد قوله:

فقل لمن يدعي في العلم فلسفة

حفظت شيئًا وغابت عنك أشياء

لا تحظر العفو إن كنت امرأً حرجًا

فإن حظركه بالدين إزراء

ص: 141

في هذين البيتين جدل حاد وانتصار لمذهب أهل السنة لعل أبا نواس صدر فيه عن عقيدة صادقة لا عن الرغبة في الاستخفاف بالعاذل وحدها ثم التظرف بذكر انتظاره عفو الله وغفرانه ورحمته التي وسعت كل شيء. وقيل إن النواسي أراد بقوله «فقل لمن يدعي في العلم فلسفة» إبراهيم النظام، وكان شيخ المعتزلة وكبير متكلميهم وكانت للمعتزلة صولة فكر في الصدر الأول من خلافة بني العباس. وكان عمرو بن عبيد كريمًا عند أبي جعفر. وكان أبو معاذ من شيعة واصل بن عطاء حينًا من الدهر ثم فارقه وهجاه وقال:

مالي أشايع غزالًا له عنق

كنقنق الدو إن ولي وإن مثلا

عنق الزرافة ما بالي وبالكمو

تكفرون رجالا كفروا رجلا

نقنق الدو لنونين مكسورتين أي النعامة والدو والصحراء والنعامة طويلة العنق الذكر والأنثى وأكثر ما يطلق النقنق على الذكر وهم الظليم إن ولي وإن مثلًا أي مقبلًا ومدبرًا ثم قال عنق الزرافة وكأن بشارًا إنما سمع بطول عنقه وطول عنق النقنق والزرافة فذكر ذلك على السماع إذ كان رجلًا ضريرًا ولعل مقتل بشار كان -والله أعلم- بكيد من المعتزلة فقد نسب إلى واصل فيه ما هو كالتحريض عليه. هذا وقد صاحبت صولة الفكر المعتزلية صولة من سلطان باطش أيام المأمون والمعتصم والواثق وقع بها مخالفوهم من أهل السنة في محنة عظيمة. فهذان البيتان من أبي نواس في إنكار مقالة المعتزلة بالوعد والوعيد يدلان على جرأة منه عظيمة في مجال الكلام والفكر المذهبي. وقد كانت نهاية حياته بعد مقتل الأمين غامضة. روى ابن المعتز في أخباره عنه في طبقاته قال: «واسمه الحسن بن هانئ ويكنى أبا علي، ولد بالأهواز بالقرب من الجبل المقطوع المعروف براهبان سنة تسع وثلاثين ومائة ومات ببغداد سنة خمس وتسعين ومائة وكان عمره خمسًا وخمسين سنة ودفن في مقابر الشونيزي في تل اليهود ومات في بيت خمارة كان يألفها» أ. هـ. قلت ههنا موضع الغموض، فهل أصاب

ص: 142

المسكين كيد تدبير خفي من المعتزلة؟ ومن أميرهم أمير المؤمنين المأمون؟ على أن المأمون قد كان معروفًا له الحلم وسعة الصدر، ذكروا أن دعبلًا هجاه فلم يصبه منه شيء، وإن الحسين بن الضحاك أسرف في رثاء الأمين ثم إنه عفا عنه ولم ينله بأذى، وقد عفا عن عمه إبراهيم بعد خروجه عليه ودعاء بغداد له بالخلافة. ومع هذا لم يسلم من فتلك المأمون بعض من لم يسعهم رضاه، أولهم أخوه الأمين ثم وزيره الفضل بن سهل وقائده هرثمة بن أعين، وقد تخطفت السيوف من قال له:«يا أمير الكافرين» في ساعته، ومع أن سوء أدبه قد جر عليه ذلك، ما كان من تخطفوه بأسيافهم ليفعلوا ما فعلوه على غير ثقة من أن المأمون سيرضى عنه وقد فعل شيئًا مثل ذلك أشياخ الروم بأحد زملائهم في المجلس، في ما ذكره مؤرخوهم، أوائل عهد الإمبراطورية بالاستبداد، فتأمل. وقد ذكروا أن المأمون أمر بعلي بن جبلة العكوك فاستل لسانه من أصله لقوله في أبي دلف:

إنما الدنيا أبو دلف

بين باديه ومحتضره

فإذا ولى أبو دلف

ولت الدنيا على أثره

ولعل استلال لسان علي بن جبلة العكوك أن صح قد كان له سبب أعمق من مجرد فرط الغلو في مدح أبي دلف، وما كان أبو دلف إلا من خدم الخلافة مذعنًا لها كل الإذعان، وأنكر ابن المعتز هذا الخبر وجزم أن علي بن جبلة مات حتف أنفه وما أشبه هذا أن يكون هو الصواب، والله أعلم (1).

خلاصة القول إن أبا نواس لم يخرج عن مذاهب الشعراء في المبدأ والمطالع

(1)() ذكر نشوان بن سعيد في رسالة الحور العين (مصر 1948 م ص 192/ 193) أن النواسي مات قتيلًا قال فيما قاله إن أبا نواس كان في متنزهٍ مع قوم يتشيعون فعمل فيهم الشراب فقاموا إلى أبي نواس فداسوا بطنه فلم يزل يضع أمعاءه حتى مات. أ. هـ.

ص: 143

وطلب براعة الاستهلال، وقد سبق منا القول بأن المطالع والابتداء والمقدمة كل أولئك لا يمكن أن يحد له حد يسمعه فيقال إن أبا نواس قد خرج عنه حقًّا. امرؤ القيس وحده عنده من الابتداء نحو قوله:

لعمرك ما قلبي إلى أهله بحر

ولا مقصر يومًا فيأتيني بقر

ونحو قوله:

أرانا موضعين لأمر غيبٍ

ونسحر بالطعام وبالشراب

وقوله:

أحار ابن عمرو كأني خمر

ويعدو على المرء ما يأتمر

وقوله:

ديمة هطلاء فيها وطف

طبق الأرض تحرى وتدر

وقوله:

رب رام من بني ثعلٍ

مثلج كفيه في فتره

هذا عدا مطالعه المشهورة:

وقد مر من الشواهد في هذا الباب قدرٌ كافٍ.

وينبغي التنبيه إلى أن أبا نواس له ديوان -أو ما كأنه ديوان قائم بذاته في الكلاب والصيد، يجعله من حيث حاق الجودة في مصاف أبي النجم العجلي ومحسني الرجاز، والتزامه في كل ذلك بموضوع واحدٍ لا يخفى وقد استشهد الجاحظ بطردياته وأورد منها كاملة في الحيوان. وكان الجاحظ بأبي نواس معجبًا. وكأن الجاحظ، مع شهرته بالاعتزال، كان يضمر ميلًا إلى مذهب أهل السنة. وعسى هذا أن يفسر كثيرًا من إغضاء علمائهم عنه، كما أغضوا عن ظاهر انحراف أبي نواس، والله أعلم.

ص: 144