الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقاطع:
أمر المقاطع والنهاية قريب من أمر المطالع والبداية ذلك أنه كما تلتمس روعة المطلع ليقرع الأسماع، كذلك يلتمس حسن المقاطع ليكون مؤذنًا بالخواتيم وقد يصوغ الشاعر آخر بيت في القصيدة صياغة تدل على أنه ختم به قوله: كقول امرئ القيس:
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة
…
كفاني ولم أطلب قليلٌ من المال
ولكنما أسعى لمجدٍ مؤثل
…
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
وما المرء ما دامت حشاشة نفسه
…
بمدرك أطراف الخطوب ولا آلي
فهذا آخر بيت في القصيدة «ألا عم صباحًا أيها الطلل البالي» ومكانه بعدد البيتين السابقين له، الممهدين لمكانه، مشعر بالنهاية.
وقد أخذ الصلتان العبدي قوله:
تموت مع المرء حاجاته
…
وتبقى له حاجة بقي
من هذا البيت.
وقريب من مذهب امرؤ القيس ههنا مذهبه في الضادية حيث قال:
كأن الفتة لم يغن في الناس ساعةً
…
إذا اختلف اللحيان عند الجريض
أي ساعة الموت. وقال متمم بن نويرة بعد أن ذكر الشامتين:
فلا يهنئ الواشين مقتل مالك
…
فقد آب شانيه إيابًا فودعا
وهذا مشعر بآخر القصيدة. وقال النابغة ونبه على أن بيته هذا خاتمة كلامه:
ها إن تا عذرةٌ ألا تكن نفعت
…
فإن صاحبها قد تاه في البلد
ويروى: ها أن ذي عذرة
…
أو:
ها إنها عذرة ألا تكن نفعت
…
فإن صاحبها مشارك النكد
ويجوز أن النابغة قال هذا ثم عدل عنه وكانوا ممن يراجعون شعرهم كما يجوز أن يكون جاء بتكرار جعله خاتمة كلامه هكذا:
ها إن ذي عذرة ألا تكن نفعت
…
فإن صاحبها مشارك النكد
ها إن ذي عذرة ألا تكن نفعت
…
فإن صاحبها قد تاه في البلد
ويبعد هذا الوجه أنهم لم يرووه تكرارًا، فالوجه الأول هو الصواب إن شاء الله ونظر أبو تمام إلى خاتمة النابغة هذه من بعدٍ ما في قوله يعتذر إلى أحمد بن أبي دؤاد في آخر بيت وصف به قصيدة اعتذاره المنجحة:
كرقي الأوساد والأراقم طالما
…
نزعت حمات سخائم وحقود
وقال سويد بن أبي كاهل في آخر العينية «بسطت رابعة الحبل لنا» فأشعر بأنه ختمها:
هل سويد غير ليث خادرٍ
…
ثئدت أرض عليه فانتجع
وقد سبق عنها الحديث. وقال تأبط شرًّا في آخر القافية المفضلية ما يشعر باختتامها.
وهو قوله:
لتقر عن علي السن من ندم
…
إذا تذكرت يومًا بعض أخلاقي
وقد يكون بيت المقطع متصلًا ببيت أو بيتين قبله ويكون مع ذلك إشعاره بالنهاية قويًّا واضحًا مثل قول المثقب العبدي:
وما أدري إذا يممت أرضًا
…
أري الخير أيهيما يليني
أالخير الذي أنا أبتغيه
…
أم الشر الذي هو يبتغيني
وقد سبق التنبيه إلى التحام آخر هذه القصيدة بأولها وقوة دلالة مطلعها ومقطعها على سائر معانيها في معرض الحديث عن النعت والغزل والوداع والظعائن. ونزيد تنبيهًا ههنا على أن قوله في المطلع:
أفاطم قبل بينك متعيني
…
ومنعك ما سألت كأن تبيني
ينبئ بأن فاطمة لم تبن عنه إلا بمنعها وصدها، وقد افتن فحولها ظعينة ووصف ما شاء الله، ثم جعلها مقيمة وهو الظاعن وافتن علف وصف ناقته ورحلته ما شاء، والرحلة تسلٍّ وانصراف عن الغزل إلى ممدوح ما جد، ثم إذا الممدوح الماجد كفاطمة وذلك قوله بعد اتحاده مع ناقته ومناجاتها -كما ذكر أبو عبيد البكري:
إذا ما قمت أرحلها بليل
…
تأوه آهة الرجل الحزين
إلى عمرو ومن عمرو أتتني
…
أخي النجدات والحلم الرصين
فإما أن تكون أخي بحق
…
فأعرف منك غثي من سميني
وإلا فاطر حني واتخذني
…
عدوًّا أتقيك وتتقيني
وهذا كقوله في أول القصيدة:
ولا تعدى مواعد كاذبات
…
تمر بها رياح الصيف دوني
فإني لو تخالفني شمالي
…
خلافك ما وصلت بها يميني
إذن لقطعتها ولقلت بيني
…
كذلك أجتوي من يجتويني
ولو كان جعل قوله: وإلا فاطر حني إلخ
…
آخر كلامه، لكان وجهًا، ولكانت قصيدته محكمة متشابكة منبئة الأول بمعنى الآخر، مفصحة الآخر عن معاني الأول مع ما خالط ذلك من الافتنان بالوصف ورمزية الوصف -الوصف لأنه مقصد فني من مقاصد الشعر يعمد إليه لذاته، ورمزية الوصف لحسن تعبيرها وإنبائها عن حال ما كان عليه من طلب وتعذر مطلب وأمل وصل ومودة وخوف غدرٍ وهجر وتنكر
وحرمان. ولكنه لو فعل ذلك لكان أخطأ بلوغ الحكمة وهي ذروة ما يسمو إليه الشعر الجيد الرفيع فقوله:
وما أدري إذ يممت أرضًا
…
أريد الخير أيهما يليني
ملتفتٌ فيه إلى قوله:
إذا ما قمت أرحلها بليل
…
تأوه آهة الرجل الحزين
وهي ناقته ونفسه معًا، وهذا جوهر معنى المناجاة الذي نبه عليه أبو عبيدة في سمط اللئالي. وجلي ههنا أنه متردد أيرحلها أم لا يرحلها حيث قال:«وما أدري إذا يممت ارضًا»
…
قد غضب من صد فاطمة فأزمع هجرها كما هجرته كما لخص المذهب لبيد حيث قال من بعد:
فاقطع لبانة من تعرض وصله
…
ولشر واصل خلةٍ صرامها
أو أزمع التسلي عنها باليسير إلى ماجد ممدوح كما قال علقمة:
فدعها وسل الهم عنك بحسرة
…
كهمك فيها بالرداف خبيب
والآن إذ يرحل ناقته يريد عمرًا، فإن خيب عمرو هذا أمله فإنه سيغضب منه ويعده عدوًّا ويتقيه
…
ثم ماذا بعد
…
أي جانب من الأرض ينتجع بعد هذا الهجران وبعد هذا الحرمان
…
أيعود أدراجه خائبًا؟ أم هذه الدنيا عناء
…
وكل رحلة إلى محبوب أو مأمول، فاطمة أو عمرو، غايتها غيب، المرء يريد الخير، ونهايته الموت، أصاب في ما يسعى إليه نجاحًا أو لم يصب.
هذه الحكمة:
وما أدري إذا يممت أرضًا
…
أريد الخير أيهما يليني
أالخير الذي أنا ابتغيته
…
أم الشر الذي هو يبتغيني
ذروة بيان المثقب في هذه النونية وخلاصة كل ما رمز به وكني وصرح من معاني السعي وأمل الوصل وخوف الصد والهجران
…
خاتمة رائعة ومقطع نبيل. وقال عنترة بع أن وصف إقدامه وجلي عن نفسه:
ولقد خشيت أن أموت ولم تدر
…
للحرب دائرةٌ على ابني ضمضم
الشاتمي عرضي ولم أشتمهما
…
والناذرين إذا لقيتهما دمي
ويروى «إذا لم ألقهما» والمعنى متقارب، أي الناذرين دمي إذا لقيتهما في الحرب، يقولان ذلك فيبلغني.
إن يفعلا فلقد تركت أباهما
…
جزر السباع وكل نسر قشعم
وهذا مشعر بالنهاية كما ترى. وقوله لقد تركت أباهما أي لهما عندي مثلما لقي أبوهما، فهذا يخيفهما به، ثم لو قتلاني، لم يعدوا بذلك أن يصيبا بمقتلي ثأر أبيهما، فهما بنذرهما دمي قد جعلاني كفئًا لدمه، ففيم يشتمان عرضي ويقولان مثلًا إنما عنترة عبد زنيم، ولا يخفى على هذا التأويل ما يتضمنه هذا المقطع من تهكم مرعب مر. وآخر كلمة طرفة بن العبد قوله:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا
…
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
سيأتيك بالأخبار من لم تبع له
…
بتاتًا ولم تضرب له وقت موعد
أو كما يروى: «ويأتيك بالأخبار» وهذا البيت الثاني إنما هو ترنم بمعنى البيت الأول وقريب من لفظه وأما البيتان:
لعمرك ما الأيام إلا معارة
…
فما اسطعت من معروفها فتزود
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
…
فإن القرين بالمقارن يقتدي
فليسا من كلام طرفة على الأرجح ونبه التبريزي على أنهما ينسبان إلى عدي بن زيد وما أشبههما بمذهب تقوى زهير وحكمة شيخوخته وتجاربه وليس هذا ببعيد من مذهب
عدي فقد كان صاحب تأمل وأحزان وكان على دين النصارى وإنكار نسبة البيتين إلى طرفة وعدم ثبوت صحة روايتهما له قديم وهو الصواب إن شاء الله. وبيتا طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا
…
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
ويأتيك بالأخبار من لم تبع له
…
بتانًا ولم تضرب له وقت موعد
مقطع القصيدة بلا ريب، قوله بتاتًا مفعول به لقوله لم تبع له أي لم تشتر له بتاتًا تزوده به والبتات زاد المسافر وهكذا فسرها التبريزي وفسرها الزوزني بمتاع المسافر وأداته وكسائه وليس ببعيد وأردنا بهذا التنبيه على أنها ليست كقوله لا أكلمه بتاتًا وطلق امرأته بتاتًا وهو بمعنى قد يتبادر إلى ذهن الحدث الناشئ والله الموفق للصواب.
ومما بيت النهاية فيه متصل بما قبله قول المسيب بن علس في آخر عينيته البليغة:
أرحلت من سلمى بغير متاع
…
قبل العطاس ورعتها بوداع
قال يمدح القعقاع بن معبد بن زرارة من سادة بني تميم:
أنت الوافي فما تذم وبعضهم
…
تودي بذمته عقاب ملاع
وإذا رماه الكاشحون رماهمو
…
بمعابلٍ مذروبة وقطاع
ولذا كمو زعمت تميمٌ أنه
…
أهل المكارم والندى والباع
أي أطبقت على أنه السيد، وليست زعم التي هذا مطية الكذب، ولكن التي تفيد التأكيد كما في قوله تعالى:{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} أي كفيل وقوله «تودي بذمته عقاب ملاع» أي لا ذمة له. وأصله من الامتلاع وهو الاختلاس والمر السريع وعقاب ملاع أي العقاب السريعة الخطافة السريعة الأخذ والطيران، كأنه عقاب خطاف، مضاف ومضاف إليه، بوزن قطام، وخطاف تمثيل نمثل به لقوله ملاع أي عقاب الخطف والاختلاس والأخذ السريع، جعل ذلك كناية عن ذهاب الذمة كأنما خطفتها عقابٌ فأودت بها.
وقال الأعشى:
قالوا الطراد فقلنا تلك عادتنا
…
أو تنزلون فإنا معشر نزل
قد نخضب الغير في مكنون فائله
…
وقد يشيط على أرماحنا البطل
أراد أنهم يجيدون الرمي والعير الحمار الوحشي والفائل عرقٌ إصابته مقتل. وهذان البيتان آخر قصيدته:
ودع هريرة إن المركب مرتحل
…
وهل تطيق وداعًا أيها الرجل
وهما مقطع حسن ولم يخل الأعشى من نظر فيهما إلى أبيات عنترة في ابني ضمضم ويشبههما في باب الاختتام بالفخر آخر رائية ثعلبة بن صعير المفضلية التي أولها:
هل عند عمرة من بتات مسافر
…
ذي حاجةٍ متروح أو باكر
والبتات هنا واضحة الدلالة على معنى الزاد وفسرها ابن الأنباري بالمتاع والجهاز قال: «يقال تبتت الرجل لسفره إذا اشترى له ما يصلحه» .
قال في آخرها ودلالة ذلك على الانتهاء واضحة:
ولرب خصمٍ جاهدين ذوي شذًا
…
تقذي صدورهم بهتر هاتر
لدٍّ ظأرتهم على ما ساءهم
…
وخسأت باطلهم بحق ظاهر
بمقالةٍ من حازمٍ ذي مرةٍ
…
يدأ العدو زئيره للزائر
يدأ بالياء المهملة أي يدع صارت عينه همزة وقال التبريزي: «وذكر ابن الأنباري يدأ بالدال غير معجمة وقال يدأ بمعنى يدع تبدل العين همزة وهما لغتان وذأته وودأته» أ. هـ. وأجمل التبريذي بعبارته الأخيرة ثلاثة أقوال كان أجود لو فصلها وكلهن ذكره ابن الأنباري وعمود الرواية عن المفضل يدأ بالدال المهملة ومعناها يدع وفسرها أحمد بن عبيد بن ناصح بمعنى يقمع ويذأ بالذال المعجمة الرواية التي رجحها ثعلب ومعناها يقمع.
هذا والنهايات التي تكون من بيتين ومن أبيات كثيرة في شعر القدماء. قال علقمة:
وأنت الذي آثاره في عدوه
…
من البؤس والنعمى لهن ندوب
وفي كل حي قد خبطت بنعمة
…
فحق لشأس من نداك ذنوب
وما مثله في الناس إلا أسيره
…
مدانٍ ولا دانٍ لذاك قريب
وقال لبيد:
وهم السعاة إذا العشيرة أفظعت
…
وهم فوارسها وهم حكامها
وهم ربيع للمجاور فيهم
…
والمرملات إذا تطاول عامها
وهم العشيرة إن يبطئ حاسد
…
أو أن يميل مع العدو لئامها
وكان زهير ممن يحسن اختتام القصائد. وربما جاء ببيتٍ واحدٍ مفردٍ ينبئ عن الخاتمة، فمن ذلك قوله في آخر كلمته التي أولها «صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو» وهي من جياده:
وهي ينبت الخطي إلا وشيجه
…
وتغرس إلا في منابتها النخل
وقوله:
لو نال حيٌّ من الدنيا بمجدهم
…
أفق السماء لنالت كفه الأفقا
يختم به كلمته في هرم بن سنان التي أولها «إن الخليط أجد البين فانفرقا» وآخر معلقته أبيات الحكمة، واتصالها بما قبلها قوي، وإيذانها بالنهاية مبين وفي رواية السبع الطوال بشرح ابن الأنباري والعشر بشرح التبريزي أن آخر أبيات الحكمة وآخر القصيدة هو قوله:
ومهما تكن عند امرئٍ من خليقةٍ
…
وإن خالها تخفى على الناس تعلم
واعلم ما في اليوم والأمس قبله
…
ولكنني عن علم ما في غدٍ عم
وهذا يصلح أن يختم به ويوقف في النهاية عنده، ولكن فيه نوعًا من شكٍ وتشاؤم ألا يستمر الصلح وألا يكون عقد ما أحكمه السيدان مأمونًا عليه أن تحله خيانة أو غدر من ضرب ما صنعه حصين بن ضمضم.
وفي رواية الزوزني بعد هذين البيتين:
وكائن ترى من صامتٍ لك معجبٍ
…
زيادته أو نقصه في التكلم
لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده
…
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وأن سفاه الشيخ لا حلم بعده
…
وإن الفتى بعد السفاهة يحلم
سألنا فأعطيتم وعدنا فعدتم
…
ومن يكثر التسآل يومًا سيحرم
وفي سياق هذه الأبيات ما يشعر بقوة انتمائها إلى القصيدة وأنها نهايتها، وقد مدح زهيرٌ هرمًا بالفصاحة والبيان وقوة الحجة وأنه خطيب في قوله من القافية التي ذكرنا قبل مطلعها ومقطعها:
هذا وليس كمن يعيا بخطته
…
وسط الندى إذا ما ناطقٌ نطقا
والبيتان: «وكائن ترى من صامت لك معجب» وقوله: «لسان الفتى نصف ونصف فواده» يصفان مشهدي عي وبيانٍ مما يكون مثله قد كان في مجلس الخصومة والصلح بين عبس وذيبان ومن كان ثم من قبائل العرب ورجالاتها. وبيت سفاه الشيخ وجواز رجعة الفتى إلى الصواب بعد السفاهة يناسب أمر حصين بن ضمضم ومما يشهد بسفاهة حصين بن ضمضم قول عنترة في آخر معلقته الذي ذكرناه قبيل بعد بيتي المثقب اللذين في آخر نونيته. ولا يخفى أن في كلام زهير حيث ذكر سفاه الشيخ تعريضًا ما بشيخ ذي سفاهة أو شيوخ من سفهاء القوم أعانوا حصينًا أو شيئًا من هذا النحو يدلك على ذلك قوله:
وقال سأقضي حاجتي ثم أتقي
…
عدوي بألفٍ من ورائي ملجم
وفي قوله: «سألنا فأعطيتم وعدنا فعدتم» إشارة إلى ما كان من تحمل سيدي يبني مرة عبء الديات، والتحذير لسفهاء القوم أن يحسبوا أنهم كلما جنوا احتمل عنهما السيدان تبعة جرائرهم، تأمل قوله:
لعمرك ما جرت عليهم رماحهم
…
دم ابن نهيكٍ أو قتيل المثلم
ولا شاركت في الموت في دم نوفلٍ
…
ولا وهبٍ منهم ولا ابن المخزم
فكلا أراهم أصبحوا يعقلونه
…
صحيحات مالٍ طالعات بمخرم
ويروى:
فكلا أراهم أصبحوا يعقلونه
…
علالة ألف بعد ألف مصتم
تساق إلى قومٍ لقومٍ غرامةً
…
صحيحات مالٍ طالعات بمخرم
والمخرم الطريق في الجبل. وإنما سقنا هذه الأبيات لنوضح بها معنى قوله:
سألنا فأعطيتم وعدنا فعدتم
…
ومن يكثر التسأل يومًا سيحرم
وظن بعض من تناول هذا الباب من المعاصرين أن هذا الكلام لا يناسب شخصية زهير وأحسبه توهم أن قوله «سألنا» ههنا استجداء يستجديه لنفسه، وشأن القصيدة أمرٌ عظيم راجع إلى ما قدمناه لا إلى أن هذا استجداء شخصي.
ولعل من لم ير وهذين البيتين إنما كره كسرة ميم يحلم وميم سيحرم وقد سبق الحديث منا عن ذلك، ونضيف إليه ههنا أن كثيرًا من الرفع والنصب والخفض كان يقع من العرب لكلامهم تحسينًا له وافتنانًا فيه، ثم صار ما غلب هو القواعد، وقد قالوا:
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرةً
…
ولا ناعبٍ إلا ببينٍ غرابها
وقالوا:
رسم دارٍ وقفت في طلله
…
كدت أقضي الحياة من جلله
بكسر الميم وقالوا «كم عمةٌ لك يا جرير وخالةٌ» وقالوا فيما روى عن رؤبة «خير» بالجر يعني بخير وقالوا نعم الرجل فرفعوا وقالوا نعم رجلًا فنصبوا وقالوا رب فتيةٍ فخفضوا وربه فتيةً فنصبوا وقالوا ربما كذا كذا فكفوا رب بما وقالوا بالجر:
ربما الجامل المؤبل فيهم
…
وعناجيج بينهن المهار
وقال الفرزدق:
وعض زمانٍ يا بن مروان لم يدع
…
من المال إلا مسحتا أو بجلف
فنصب ورفع وتأويل ذلك على وجوه النحو ممكن وفيه ما قدمنا من أسلوب الزينة والافتنان وقال: «على زواحف تزجى مخهارير» بخفض الراء وله وجهٌ وقال جرير:
جئني بمثل بني بدرٍ لقومهم
…
أو مثل أسرة منظور بن سيار
فجر في «بمثل» ونصب «مثل أسرة إلخ» . وهذا بابٌ واسع. وجليٌّ أن بيت زهير «سألنا فأعطيتم» من الاختتام ببيت مفرد قوي الدلالة على ذلك.
هذا وقول الحارث بن حلزة اليشكري في همزيته أم علينا جرا حنيفة أم علينا جرا قضاعة الأبيات إلى قوله:
ثم خيلٌ من بعد ذاك مع الغلاق لا رأفةٌ ولا إبقاء
وهو الرب والشهيد على يوم الحيارين والبلاء بلاء
هو آخر القصيدة عند الزوزني. ويبدو لي أنه في أوساط القصيدة كما روى ابن الأنباري والتبريزي في كتابيهما. ويجوز أن تكون كلمة «الرب» ههنا مما أوهم أن البيت خاتمة وعني به عمرو بن هند الملك. وآخر القصيدة فيما أرجح الأبيات التي ذكر فيها بلاء قومه مع عمرو بن هند، وما بينهم من القرابة والرحم والصهر وإن ذلك مما يستخرج النصيحة الصادقة، فهذا أشبه بأن يكون هو الآخر والنهاية لأبيات الخصومة وأن مكانه بعدما تقدمها من أبيات الاحتجاج «أم علينا» «أم علينا» التي
تقدمت الإشارة إليها، قال:
ما جزعنا تحت العجاجة إذ ولت بأقفائها وحر الصلاء
وولدنا عمرو بن أم أناسٍ
…
من قريبٍ لما أتانا الحباء
عمرو هذا هو جد الملك لأمه هند بنت عمرو بن حجر وأم أناس هذه أمه وهي من رهط الحارث بن حلزة فهذه الرحم وهذا هو الصهر:
مثلها تخرج النصيحة للقو
…
م فلاةٌ من دونها أفلاء
أي مثل هذه القرابة تخرج النصيحة خالصة، تخرجها فلاةٌ من بعدها فلوات نجتازها إليك لا تعدونا مشقتها ولا هولها حتى نصل إليك أيها الملك بها صادقة ناضجة وزعم ابن الأنباري أن الفلاة مرفوعة على التكرير أي مثلها فلاة وإن المعنى: يعني نصيحة واسعة مثل الفلاة التي دونها أفلاء كثيرةٌ والتكلف في هذا لا يخفى. وقال الزوزني: «مثل هذه القرابة تستخرج النصيحة للقوم الأقارب قرب أرحامٍ يتصل بعضها ببعض كفلوات يتصل بعضها ببعض» -وهذا ينظر إلى شرح ابن الأنباري والمعنى الأقرب من هذا وأيسر مثالًا وهو ما قدمنا من تجشم قطع فلاة بعد فلاة ليصلوا بالنصيحة إلى الملك. وتكون فلاة فاعلًا لقوله تخرج إن نصبت مثلها وإن رفعتها، تأويل ذلك مثلها تخرجه ثم حذفت الهاء إذ هي فضلة، ولك أن تجعل فاعل تخرج ضميرًا يعود على مثلها «وأنث الفعل لتأنيث» «ها» وفلاة فاعل لفعل مقدر، أي تخرجها فلاة، وهذا أقرب من:
سقى الإله عدوات الوادي
…
وجوفه كل ملثٍ غادي
كل أجش حالك السواد
بنصب كل الأولى ورفع الثانية أي سقاه كل أجش، وقال الآخر:
قد سالم الحيات منه القدما
…
الأفعوان والشجاع الشجعما
برفع الحيات ونصب الأفعوان، أي سالم قدمه الأفعوان.
هذا والتقديم والتأخير الذي وقع في هذه القصيدة مما يقوى ما يذكر من خبر ارتجالها وغمز أبو عثمان الحارث بأنه عمد إلى الفخر وأشعر بأن قومه مع ذلك لا ينتصفون من عدوهم، وما أحسبه غاب عن أبي عثمان أن الحارث قد كان أحرص على الانتصار على خصمه باكتساب جانب الملك، فعسى أن يكون هذا هو السبب في اتخاذ مظهر المظلوم وإلباس خصمه مظهر الظالم.
وذكر صاحب التراتيب الإدارية في باب في اعتناء الصحابة بحفظ وضبط ما كانوا يسمعون منه عليه الصلاة والسلام وكيفية ذلك قال: «أخرج أبو نعيم عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه عند صلاة العشاء فقال احتشدوا للصلاة غدًا فإن لي إليكم حاجة فقال رفقة منهم دونك أول كلمة يتكلم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت التي تليها وأنت التي تليها لئلا يفوتكم شيء من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم» أ. هـ. قال الشيخ عبد الحي الكتاني المغربي رحمه الله صاحب الكتاب المذكر (طبع سنة 1346 هـ بالرباط ثم صور بعد ببيروت وانظر 2 ط 236 - 237): «قلت: هذه أصول علم الاختزال اليوم» أ. هـ. وإنما سقنا هذا التنبيه على أنه إن يكن الحارث قد ارتجل الهمزية، وهو الخبر المروي فيكون حفضها لتروى قد كان على نحو من هذا المنهج الذي نبه عليه الشيخ عبد الحي الكتاني رحمه الله، ثم قد كان أهل الحيرة يكتبون وجاءت الخبار بأن ملوكهم كانوا يدون لهم ما يمدحون به. وليس تدوين كلمة الحارث كتابة بمسلمها من ان يقع فيها التقديم والتأخير، ولو قد كانت رويت أولًا على طريقة الحفظ والغناء الركباني فلربما كان ذلك أضبط لها.
هذا، وقصيدة امرئ القيس المعلقة ربما إنها ليست بذات انتهاء واضح. قال ابن رشيق في أواخر باب المبدأ والخروج والنهاية: «ومن العرب من يختم القصيدة فيقطعها والنفس بها متعلقة وفيها راغبة مشتهية ويبقى الكلام مبتورًا كأنه لم
يتعمد جعله خاتمة، كل ذلك رغبة في أخذ العفو، وإسقاط الكلفة، ألا ترى معلقة امرئ القيس كيف ختمها بقوله يصف السيل عن شدة المطر:
كأن السباع فيه غرقي غديةً
…
بأرجائه القصوى أنابيش عنصل
فلم يجعل لها قاعدة كما فعل غيره من أصحاب المعلقات وهي أفضلها».
قلت ويستفاد من قوله هذا أن المعلقات الأخريات لهن مقاطع ظاهرة الدلالة على الاختتام وهو ما ذهبنا إليه آنفًا، كما يستفاد منه أيضًا أن قول امرئ القيس هذا خاتمة ومقطع وإن بدا أول الأمر أنه ليس كذلك وإن امرأ القيس كأنه لم يتعمد جعله خاتمة فقطع وفي النفس رغبة وبقي الكلام كأنه مبتور. ولا يخفى أن في هذا البيت الذي ختم به وصف السيل كالرجعة إلى معنى البداية التي استهل بها. المتأمل يجد أن امرأ القيس قد جعل أبيات البرق والمطر والسيل نهاية، إذ تتبع الذكريات المشرقة، ذكر الرباب وأم الحويرث وعنيزة وفاطمة وبيضة الخدر التي لا يرام خباؤها، وكل ذلك صار به إلى قوله:
تسلت عمايات الرجال عن الصبا
…
وليس فؤادي عن هواك بمنسل
ألا رب خصمٍ فيك ألوى رددته
…
نصيح على تعذاله غير مؤتلى
وليل كموج البحر أرخى سدوله
…
علي بأنواع الهموم ليبتلي
وصار إلى ذكر ليل اليأس والحزن والهموم وإلى الإصباح الذي ليس منه بأمثل. وكما قد مر به من قبل ليل بيضة الخدر ولهوها غير المعجل، ويوم دارة جلجل وذكريات أولئك الحسان العذبات المجلس والأنس، مر به أيضًا أيام من قبل كان يغتدى في فجرهن إلى الصيد والطير وفي كناتها، وليال كان يدلج فيهن مع الصعاليك يتصعلك فتوةً وأشرًا معهم، وقد جعل عصام القربة على كاهل منه ذلول مرحل. ولم يكن الليل من تلك الليالي على خشونتهن بليل يأس يتمطى بصلبه وليالٍ منهن ليل
قعد مع صحبته يشيم البرق:
قعدت له وصحبتي بين ضارجٍ
…
وبين العذيب بعد ما متأمل
وفي البرق معنى الشوق والذكرى. وقد نتعلم أنه لقد وقف واستوقف في البداية من أجل الشوق والحنين والذكرى. وقد صار بعد شيم البرق إلى المطر والسيل الذي غمر ولم يدع إلا ذرا رأس المجيمر وجوانب ثبير ومن الأطم المشيد بالجندل، ولعله لم يكن ثم أطم مشيد بجندل أو لبن ولكن هذا زعم زعمه الشاعر وجعله مثلًا أنه لو كان ثم أطمٌ غير مشيد بجندل لا جتيح، إذ لم يبق لشيءٍ من أثر غير غناء الطير الصادح وغير أطراف جثث السباع، أطراف جثث السباع هذه التي كأنابيش العنصل أي البصل البري، كأنها صدىً يجاوب: وقوله في أوائل القصيدة:
ترى بعر الآرام في عرصاتها
…
وقيعانها كأنها حب فلفل
كلا التشبيهين مأخوذان من أشياء يومية ومشاهدة.
والسيل فيه معنى من الرمز يومئ إلى دموع الشاعر حيث قال:
ففاضت دموع العين مني صبابة
…
على النحر حتى بل دمعي محملي
وقوله:
كأن السباع فيه غرقى عشيةً
…
بأرجائه القصوى أنابيش عنصل
يصلح بعده أن تنشد:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
…
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فترد آخر القصيدة إلى أولها. فهذا لعله مما يوضح ويشرح قول ابن رشيق: «فلم يجعل لها قاعدةً كما فعل غيره» ، فقوله «قاعدة» مأخوذ من ألفاظ الحساب والرياضيات أو منظور فيه إليها، وليست للدائرة قاعدة، وقول ابن رشيق «ويبقى
الكلام مبتورًا كأنه» قد سبق التنبيه منا على أنه يثبت ان للقصيدة مقطعًا ولكنه دقيق -ولذلك صح له أن يقول: «كما فعل غيره من أصحاب المعلقات وهي أفضلها» .
هذا وقد نظر ذو الرمة نظرًا شديدًا إلى امرئ القيس في اختتامه لبائيته الطويلة: «ما بال عينك منها الماء ينسكب» وذلك قوله يصف أفرخ النعام وقد خرجن من البيض:
كأن أعناقها كراث سائفةٍ
…
طارت لفائفه أو هيشرٌ سلب
أي كأن أعناق الفروخ لخلوها من الريش نبات طار ورقة عن أغصانه فصارت الأعواد التي كان عليها الورق سليبات. وقوله الكراث ولفائفه فيه معنى من أنابيش العنصل ومحاكاة التشبيه الذي جاء بها امرؤ القيس فيه، والخاتمة الغيلانية «نسبة إلى غيلان وهو ذو الرمة» كأنها انبتار لما تقدم والنفس مشتهية مزيدًا منه، وكأنها لا قاعدة، إذ هي تدور بك إلى أول كلام ذي الرمة. وذلك أنه جعل مدار قصيدته على معنى الشوق إلى مية والبكاء حنينًا إليها، وكأنه ينظر إلى مذهب علقمة في الميمية:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم
…
أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم
أم هل كبيرٌ بكى لم يقض عبرته
…
أثر الأحبة يوم البين مشكوم
ثم لم ير اللحاق بالمحبوبة كما صنع علقمة حيث قال:
هل تلحقني بأخرى الركب إذ شحطوا
…
جلذيةٌ كأتان الضحل علكوم
إذ قد زعم أن عهد مية قد كان في زمانٍ مضى.
ليالي اللهو يطبيني فأتبعه
…
كأنني ضاربٌ في غمرة لعب
وأنه زاره طيف الخيال وهو مسافر فهاجه -مسافر لأنه قد انصرف عن زمان الهوى
إلى زمان الجد، فصاحبته هذه الناقة، مع أصحاب له منصلتين، لعلهم قاصدو الحج يؤمون البيت الحرام.
والعيس من عاسج أو واسج خببًا
…
ينحزن من جانبيها وهي تنسلب
فشبهها بالحمار الوحشي ثم قص قصة هذا وهو يحدو نحائصه أي أتنه التي لم تلد ولم تحمل بعد، حتى صرن إلى عين عندها رامٍ من بني جلان، فأخطأهن.
رمى فأخطأ والأقدار غالبة
…
فانصعن والويل هجيراه والحرب
ثم بالثور الوحشي ثم قص قصته كبقرة لبيد هاجت له الكلاب والصياد فاستبسل وقاتلها حتى مزقها ثم مضى يستن:
كأنه كوكبٌ في إثر عفريةٍ
…
مسومٌ في سواد الليل منقضب
ثم بالظليم وقص قصته هو زوجته حتى صارا إلى البيض فوجدا الأفرخ قد خرجن منه- ونظر ذو الرمة هنا في آخر كلامه إلى علقمة كما قد نظر إليه في أوله، وتنتهي القصيدة وهو أخو سفر وتنائف قد ألم به الخيال ثم بكى، فهذا الشعر هو دموعه.
ولا يقدح زعمنا أنه حاكى علقمة في الذي ذكرنا من أنه نظر في خاتمة كلامه إلى امرئ القيس، ومما يشهد بتأثره علقمة عن قصدٍ بحر ميميته المشهورة ورويها:
أأن ترسمت من خرقاء منزلةً
…
ماء الصبابة من عينيك مسجوم
وقد انتقل في هذه الميمية من الغزل إلى الرحلة وجعلها عمود كلامه:
قد أعسف النازح المجهول معسفه
…
في ظل أغضف يدعو هامه البوم
وختم وهو في طريقه لتلحقه الناقة بخرقاء بتشبيهها أولًا بالثور ثم بالحمار الوحشي وأتنه والصائد من بني جلان، ولكنها تنجو منه:
وقام يلهف مما قد أصيب به
…
والحقب ترفض منهن الأضاميم
وكأنهن جماعات الركب اللذين كان هو معهم في طريق اللحاق بخرقاء:
هيهات خرقاء إلا أن يبلغها
…
ذو العرش والشعشعانات الشغاميم
بيت الأضاميم مقطع ولكنه ليس بقاعدة، إذ فيه رجعة إلى أول القصيدة وكالبتر الذي ذكره ابن رشيق. وعندي إن هذا لم يقع اتفاقًا من ذي الرمة، ولكنه نظر فيه إلى مذاهب القدماء. والذي جاء به علقمة في آخر الميمية ضرب من عند قوله:
وقد أقود أمام الحي سلهبةً
…
يهدى بها نسب في الحي معلوم
إلى قوله:
يهدي بها أكلف الخدين مختبرٌ
…
من الجمال كثير اللحم عيثوم
ولنا وقفة من بعد عند هذه الميمية إن شاء الله.
وكذلك ضربٌ منه آخر بائية عبيد بن الأبرص وما أحسب أن مكانها قد خفي عن ابن رشيق ولكنها كانت مما عابه بعضهم وقد تقدم منا القول في ذلك، هذا وقال جرير في داليته التي أولها:
غدًا باجتماع الحي نقضي لبانةً
…
وأقسم لا نقضي لبانتنا غدا
ومنها قوله:
أقول له يا عبد قيسٍ صبابةً
…
بأي ترى مستوقد النار أوقدا
فقال أرى نارًا يشب وقودها
…
بحيث استفاض الجزع شيحًا وغرقدا
أحب ثرى نجدٍ وبالغور حاجةٌ
…
فغار الهوى يا عبد قيسٍ وانجدا
ثم قال في آخر القصيدة يذكر الحجاج بن يوسف وعبد الملك ويختم ببيت هو
مقطع حسن ضمنه هجاء الفرزدق والخنزير يعني به الأخطل:
أرى الطير بالحجاج تجري أيامنا
…
لكم يا أمير المؤمنين واسعدا
رجعت لبيت الله عهد نبيه
…
وأصلحت ما كان الخبيبان أفسدا
لأن ابن الزبير رضي الله عنه كان قد أدخل الحجر في البنية ولم تكن الحال على ذلك أيام النبي صلى الله عليه وسلم وخبر ابن الزبير وحديث أم المؤمنين في هذا رضي الله عنهما معروف.
فما مخدرٌ وردٌ بحفان زأره
…
إلى القرن زجر الزاجرين توردا
بأمضى من الحجاج في الحرب مقدما
…
إذا بعضهم هاب الحياض فعردا
تصدى صناديد العراق لوجهه
…
وتضحى له غر الدهاقين سجدا
وللقين والخنزير مني بديهة
…
وإن عاوداني كنت في العود أحمدا
وإشعار هذا بالختام لا يخفى.
وقال فأحسن الختام في الدالية التي فضله بها عبيدة بن هلال:
إنا وإن رغمت أنوف مجاشعٍ
…
خيرٌ فوارس منهم ووفودا
نسري إذا سرت النجوم وشبهت
…
بقرًا ببرقة عالجٍ مطرودا
قبح الإله مجاشعًا وقراهمو
…
والموجفات إذا وردن ورودا
قوله والموجوفات قسم والموجفات هن الإبل والنفحة القرآنية جلية ههنا، يأخذ من أقسام القرآن نحو والعاديات ضبحا، والموجفات استمرار وتكملة لقوله نسري إذا سرت النجوم- ثم ههنا كالدورة والرجعة إلى المطلع:
أهوىً أراك برامتين وقودا
…
أم بالجزيرة من مدافع أودا
وآخر الحائية التي في عبد الملك مقطع واضح حسن:
رأى الناس البصيرة فاستقاموا
…
وبينت المراض من الصحاح
وكذلك آخر الجيمية التي في الحجاج:
إني لمرتقبٌ لما خوفتني
…
ولفضل سيبك يا ابن يوسف راجي
ولقد كسرت سنان كل منافقٍ
…
ولقد منعت حقائب الحجاج
وكذلك آخر البائية التي في مدحه وأولها:
سئمت من المواصلة العتابا
…
وأمسى الشيب قد ورث الشبابا
ثم يقول في آخرها:
كأنك قد رأيت مقد ماتٍ
…
بصين ستان قد رفعوا القبابا
جعلت لكل محترسٍ مخوفٍ
…
صفوفًا دارعين به وغابا
وآخر البائية التي في الهجاء:
أقلي اللوم عاذل والعتابا
…
وقولي إن أصبت لقد أصابا
ظاهر جليٌ أنه نهاية:
إليك إليك عبد بني نميرٍ
…
ولما تقتدح مني شهابا
إليك أي تنح وابتعد وذكر صاحب الكتاب يرويه عن أبي الخطاب أنه سمع من العرب من يقال له إليك فيقول إلي كأنه قيل له تنح فقال أتنحى، ذكر هذا في بابٍ من الفعل سمي فيه الفعل بأسماء مضافة ليست من أمثلة الفعل الحادث وهو ما يسميه النحاة اسم الفعل، فكأن الراعي النميري بقوله لما سمع بيت جرير «يقولون شرًّا» قد قال كهذا العربي «إلي» إذ لم يرووا أنه أجاب جريرًا.
ومن لطيف ما جعله جرير خاتمة لمدائحه قوله في كلمته يمدح بها جد عبد الرحمن الداخل وهو معاوية بن هشام.
ماذا ترى في عيال قد برمت بهم
…
لم تحص عدتهم إلا بعداد
كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية
…
لولا رجاؤك قد قتلت أولادي
والبيتان مما يستشهد بهما النحويون من شراح الألفية وغيرهم وذكرهما صاحب المغنى في أن «أو» قد تكون للإضراب عند الكوفيين وغيرهم وأشار إلى قول الفراء في آية الصافات: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} أو هاهنا في معنى بل، كذلك في التفسير مع صحته في العربية. أ. هـ. قلت والتي في بيت جرير إنما على التي في سورة الصافات حذيت، يدلك على ذلك أن جريرًا كان قرآنيًّا، يكثر من الإشارة إلى الآي والحذو عليها كقوله:
نال الخلافة إذ كانت له قدرًا
…
كما أتى ربه موسى على قدر
وقوله: أما البعيث فقد تبين أنه
…
عبدٌ فلعلك في البعيث تمارى
فهذا نهج قرآني، قال تعالى:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ} الآية، وقال تعالى:{فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ} الآية وكلتاهما في سورة الكهف.
وقوله:
إن البعيث وعبد ءال مقاعس
…
لا يقرآن بسورة الأحبار
وعبد آل مقاعس هو الفرزدق في زعمه وقيد نفسه ولم يحفظ القرآن مع ما كان يجيء به من الاستشهاد بالآي والإشارة إليها، فعيره جرير ذلك، وسورة الأحبار هي المائدة وفي حفظها شدة فيكون جرير عني ذلك مع ما فيها من عظة وتحريم، وكان الفرزدق يعاقر وآية المائدة في ذلك هي الوارد بها التحريم وفي هامش تعليق الأستاذ الصاوي:«وسورة الأحبار» هي سورة المائدة لقوله تعالى فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} قلت وهذا أولها والذي ذهب إليه الأستاذ الصاوي يحتمل والذي ذكرناه أحسبه أشبه بالمراد والله أعلم.
وقوله:
قامت سكينة للفحول ولم تقم
…
بنت الحتات لسورة الأنفال
يشير به إلى قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} وذلك بدليل قوله إن جسمها المجرد كجسم البغل.
من كل آلفة المواخر تتقي
…
بمجردٍ كمجرد البغال
ومن خواتيم الفرزدق، قوله في آخر كلمة هجا بها الأمير عمر بن هيبرة الفزاري:
إن الضجاج لكم شؤم وإن لكم
…
عندي نواقر صمًّا تفلق الحجرا
وهذا قريبٌ في جوهر المعنى من قول جرير: «إليك إليك عند بني نمير» الذي مر الاستشهاد به.
وختم الفرزدق رائية له في يزيد بن عبد الملك بنحو مما ختم به جريرٌ داليته يعرض به وبالخنزير، فقال بعد أن فخر بنفسه قائلًا:
ما حملت ناقةٌ من سوقةٍ رجلًا
…
مثلي إذا الريح لفتني على الكور
أكرم قومًا وأوفى عند معضلة
…
لمثقل من دماء القوم مبهور
أي أثقلته الديات فهم يحملونها عنه.
ألا قريشًا فإن الله فضلها
…
مع النبوة بالإسلام والخير
وبعد أن مدح بني مروان وبني أمية:
حربٌ ومروان جداك اللذا لهما
…
من الروابي عظيمات الجماهير
الضاربين على حقٍّ إذا ضربوا
…
يوم اللقاء وليسوا بالعواوير
وبعد أن سخر من آل المهلب إذ خرجوا على يزيد بن عبد الملك فهزمهم العباس وعمه مسلمة بن عبد الملك:
لقد عجبت من الأزدي جاء به
…
يقوده للمنايا حين مغرور
حتى رآه عباد الله في دقلٍ
…
منكسًا وهو مقرون بخنزير
هكذا ذكروا أن يزيد بن المهلب صلب بعد مقتله يوم العقر.
للسفن أهون بأسًا إذ تقودها
…
في الماء مطلية الألواح بالقير
وذلك أن أزد عمان كانوا قومًا بحريين.
وهم قيامٌ بأيديهم مجاد فهم
…
منطقيين عراةً في الدقارير
أي في تبابين النوتيين أي سراويل البحاريين وهن قصيرات. ثم بعد هجاء الأزد ومدح آل أبي العاصي ختم بالتفاتة إلى جرير.
اخسأ كليب فإن الله أنزلكم
…
قدمًا منازل إذلالٍ وتصغير
ومن جيد ما ختم به آخر لاميته التي فر بها إلى سعيد بن العاص:
ترى الشم الجحاجح من قريش
…
إذا ما الأمر في الحدثان عالا
بني عم النبي ورهط عمرو
…
وعثمان الذين علوا فعالا
قيامًا ينظرون إلى سعيد
…
كأنهم يرون به هلالًا
ضروب للقوانس غير هدٍ
…
إذا خطرت مسومة رعالا
المسومة الرعال هنا خيل الحرب -وصفه إذ يقوم الناس له بالسيادة ثم أتبع ذلك وصفه بالفروسية والإقدام وجعل ذلك خاتمة لما أمله من ملجأ عنده وجوارٍ من زيادٍ لدى كنفه.
ومن جيد خواتيمه آخر الكلمة التي رثى بها ابنين له وهي مما اختاره المبرد في الكامل، وأولها:
بفي الشامتين الترب إن كان مسني
…
رزية شبلي مخدرٍ في الضراغم
وفي آخرها:
فما ابناك إلا من بني الناس فاصبري
…
فلن يرجع الموتى حنين المآتم
وفي آخر مرثيته للحجاج:
يقولون لما إن أتاهم نعيه
…
وهم من وراء النهر جيش الروادف
شقينا وماتت قوة الجيش والذي
…
به تربط الأحشاء عند المخاوف
فإن يكن الحجاج مات فلم تمت
…
قروم أبي العاصي الكرام الغطارف
ولم يعدموا من آل مروان حيةً
…
تمام بدور وجهه غير كاسف
له أشرقت أرض العراق لنوره
…
وأومن إلا ذنبه كل خائف
وهذا مقطع حسن واف كما ترى ولولا خشية الإطالة وإن لنا إلى الفرزدق عودة إن شاء الله لاستشهدنا له بخواتيم أخر.
وقال عمر بن أبي ربيعة في آخر الرائية المعروفة يصف الناقة:
فسافت وما عافت وما رد شربها
…
عن الري مطروق من الماء أكدر
الشين من شربها مثلثة. وأول هذه الأبيات جاء به بعد آخر الغزل حيث قال وقد نجا بعد أن خرج متنكرًا:
فلما أجزنا ساحة الحي قلن لي
…
ألم تتق الأعداء والليل مقمر
وقلن أهذا دأبك الدهر سادرًا
…
أما تستحي أو ترعوي أو تفكر
إذا جئت فامنح طرف عينك غيرنا
…
لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظر
فآخر عهد لي بها حين أعرضت
…
ولاح لها خدٌّ نفقي ومحجر
سوى إنني قد قلت يا نعم قولةً
…
لها والعتاق والأرحبيات تزجر
هنيئًا لأهل العامرية نشرها
…
اللذيذ ورياها التي أتذكر
وقمت إلى عنسٍ تخون نيها
…
سرى الليل حتى لحمها متحسر
ثم أخذ يصف الناقة والبئر والماء والآجن بالصحراء:
به مبتنى للعنكبوت كأنه
…
على طرف الأرجاء خامٌ منشر
وردت وما أدري أما بعد موردي
…
من الليل أم ما قد مضى منه أكثر
فقمت إلى مغلاة أرضٍ كأنها
…
إذا التفتت مجنونة حين تنظر
مغلاة الأرض هي الناقة جعلها كالمغلي بكسر الميم وهو السهم الذي يرمى به في تقدير المسافات.
تنازعني حرصًا على الماء رأسها
…
ومن دون أن تهوى قليب معور
أي بئر أفسد ماؤها بردم أو نحوه.
محاولة للماء لولا زمامها
…
وجدني لها كادت مرارًا تكسر
فلما رأيت الضر منها وأنني
…
ببلدة أرضٍ ليس فيها معمر
قوله كادت مرارًا تكسر أي تتكسر والضمير يعود على نواحي الحوض الذي يستقي عنده عند جانب البئر، لم يذكره من قبل ولكن موضع الضمير لا يخفى، كقوله تعالى:{حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} في سورة صاد أي الشمس، ولم يسبق لها ذكر لمكان العلم بها والمعصر ما يعتصر به وينتفع ومن فسر المعصر بالملجأ فقد يكون له وجه وما ذكرنا أضوب إن شاء الله وصيغة افتعل يجيء فيها فعل بتشديد العين مفتوحة ويجوز في الفاء الفتح والكسر وهي لقريش لغة ومنها في القرآن حرفان في يونس ويس.
قصرت لها من جانب الحوض منشأً
…
جديدًا كقاب الشبر أو هو أقصر
أي حتى لا يتكسر جانب الحوض بجذابها وح لا يضربها العطش. وذلك أن القليب كان معورًا فأنشأ حوضًا صغيرًا، واحتفر ما كان مدفونًا من القليب واستقى منه بقعب جعله كالدلو وجعل حبله بعض سيور الرحل والزمام، قالوا والإبل تعاف الماء المتغير الكريه، فهذه الناقة لضرها لم تعف.
إذا شرعت فيه فليس لملتقي
…
مشافرها منه قدى الكف مسأر
مسأر من أسأر أي أبقى وترك فضلة في الإناء، يصف بهذا قلى الماء وضحالته فالحوض الذي أنشأ لهات مع شدة عطشها.
ولا دلو إلا القعب كان رشاءه
…
إلى الماء نسع والأديم المضفر
القعب إناء أظنه ههنا من خشب أو قرع والنسع بكسر النون السير والأديم الجلد وعني بالجلد المضفور هنا سيور الرحل ونحوها.
فسافت وما عافت وما رد شربها
…
عن الري مطروق من الماء أكدر
وهذا بيت الختام الذي ذكرناه من قبل وينظر فيه، كالإشارة، إلى قول علقمة وكان عند العرب وعند قريش مرويًّا:
ترادى على دمن الحياض فإن تعف
…
فإن المندى رحلةٌ فركوب
وعلقمة صنع هذا بناقته إذ كان قد أعلمها في أمر من أمور الجد، فابن ربيعة عد غزوة الغواني لها مثل هذا المقدار من الجد حتى إنها قد أفنت لحم ناقته وشحمها -ولا يعقل أن بعد مضارب حسنائه كان كبعد ديار الحرث الغساني بالشام من اليمامة والدهناء وديار بني تميم التي منها بدأ علقمة رحلته.
وأوردنا أبيات عمر هذه لننبه على وصفه للناقة والورد وإنه قد جعله نهاية وخاتمة وأن موضع ذلك حيث وضعه صحيح، إذ عادة الشعراء أن يجعلوا الرحلة بعد الغزل، إما باللحاق بالمحبوبة التي بانت وأما للتسلي عن الحب الذي فات أو أنه كما صنع علقمة:
فدعها وسل الهم عنك بجسرةٍ
…
كهمك فيها بالرادف خبيب
واما ليجزي هجرانًا بهجران كما فعل لبيد في المعلقة:
فاقطع لبانه من تعرض وصله
…
ولشر واصل خلةٍ صرامها
وأحب المجامل بالجزيل وصرمه
…
باقٍ إذا ضلعت وزاغ قوامها
بطليح أسفار تركن بقية
…
منها فأحنق صلبها وسنامها
وقد قضى الشاعر ههنا لبانته من الحب فلم يبق إلا أن يصبح الحي ويعرف مكانه وفي ذلك المكروه، أو ينجو، والنجاء بالناقة، صنع ذلك عبد بني الحسحاس في اليائية.
عميرة ودع إن تجهزت غاديا
…
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
واتبع مذهبه ابن أبي ربيعة ههنا. ومن الخير أن يتنبه إلى وصف ابن أبي ربيعة للناقة والمشرب والرحلة ههنا من عسى أن يحسب أن صاحب مغامرة:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر
…
غداة غدا أو رائح فمهجر
لا يعقل أن يكون زارها على ناقة أو بعير، ومن يسارع فيزعم أن وصف ناقة طرفة كله منتحل، انتحله المسجديون في البصرة والكوفة ونحو ذلك.
هذا وقد اتبع ذو الرمة طريقة عمر -وقد ذكرنا أنه اتبع طريقة الحسحاسي على أن أصل المذهب قديم، تجد منه عند المرقشين -وذلك عند القافية حيث جعل آخر كلامه شربًا وورودًا كما صنع عمر وهو قوله:
فأدلى غلامي دلوه يبتغي بها
…
سقاط الصدى والليل أدهم أبلق
سقاط الصدى أي ما يسقط الصدى أي يبل العطش، ويروي شفاء الصدى.
فجاءت ينسج العنكبوت كأنه
…
على عصويها سابريٌّ مشبرق
وقد ذكر ابن أبي ربيعة مبتنى العنكبوت كما رأيت. وجعل ذو الرمة الشرب والورود ههنا لنفسه وغلامه والناقة واقتصر ابن أبي ربيعة على الناقة إذ لا يخفى إنه قد صدر ريان من عند الحبيبة، فما أصاب من ظمأ في الصحراء ينسبه إلى الناقة إذ لا يحسن أن ينسبه إلى نفسه وإن يك قد أحس به.
والذين استشهدنا بمقاطع أشعارهم من الإسلاميين منبئون عن غيرهم ولا سيما جرير والفرزدق فهما العمود، أي ما يعمد إليه ويجعل أساسًا، وهذا من ألفاظ الجاحظ والمتقدمين من أدباء القرن الثاني وما بعده. ومما عسى أن يحسن أن نجعله كالخاتمة لهذا الفصل قول الفرزدق في هجاء إبليس في آخر الميمية التي تحدث فيها بهجائه:
وإن ابن إبليس وإبليس ألبنا
…
لهم بعذاب الناس كل غلام
لهم أي للناس.
هما تفلا في في من فمويهما
…
على النابح العاوي أشد رجام
وفي طبعة الديوان «أشد لجامي» وأحسبه تصحيفًا إذ هيئة الراء مما تشتبه باللام كثيرًا والبيت من شواهد الكتاب في باب الإضافة.
وقال في الرائية التي كاد يحد من قوله فيها على الزنا وعيره ذلك جرير، وهو مقطعهما ودلالته على ذلك واضحة:
ويحسبها باتت حصانًا وقد جرت
…
لنا برتاها بالذي أنا شاكره
فيا رب أن تغفر لنا ليلة النقا
…
فكل ذنوبي أنت يا رب غافره
هذا ونهاية عمر التي انتهى بها ونهايات ذي الرمة فيهن جميعًا كالدوران وشبه البتر على نحو من مذهب امرئ القيس.
ومما يذكر، كالملحق بهذا الباب، وليس منه، ولكنه ويثق الصلة به، ونجعله تمهيدًا للحديث عن مقاطع المولدين قول أبي تمام في آخر البائية التي مدح بها عبد الله بن طاهر:
إذا ما امرؤ ألقى إليك برحله
…
فقد طالبته بالنجاح مطالبه
فهذا مشعر بالنهاية دال عليها، ثم في ذكره النجاح والمطالبة كالرجعة والإشارة إلى بيت المطلع وهو قوله:
هن عوادي يوسف وصواحبه
…
فعزمًا فقدمًا أدرك النجح طالبه
والوقفة عنده نريد لقوة صلة مذهب أبي تمام فيه بما قدمناه من عادة الشعراء أن يذكروا الناقة والرحلة بعد النسيب والغزل سواء أكان ذلك للحاق أم لاستمرار الهجر أم للتسلي أم لأرب من آراب الجد أم كالنهاية لما تقدم من قصة الحب كما رأيت عند ابن أبي ربيعة وما أشبه هذا بما صار إليه مؤلفو ألف ليلة وليلة من بعد حين يقولون بعد الخاتمة «حتى أتاهم هادم اللذات وهازم المسرات» ، تأمل قول عمر بعد أن قال «هنيئًا لأهل العامرية إلخ»:
وماءٍ بموماة قليلٍ أنيسه
…
بسابس لم يحدث به الصيف محضر
أليس هذا بؤسًا بعد نعيم؟
هذا وبيت أبي تمام الذي قدمنا من فخمات مطالعه ولم يبال أن يركب فيه الخرم على مذهب القدماء إذ ذلك مما يقع فنظمهم. وزعم الآمدي إن هذا من رديء ابتداءاته من أجل الإضمار قبل الذكر ومن أجل ما يبدو من شبه خفاء المعنى. قال التبريزي وانتصر لأبي تمام وأحسب أن هذا قد كان فرعًا من انتصار شيخه أبي العلاء لأبي تمام، قال: «وليس الإضمار قبل الذكر بعيبٍ إذا كان المعنى مفهومًا، لأن هذا المعنى مأخوذٌ من الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في مرضه الذي مات فيه وهو يعني النساء: انكن صويحبات يوسف. قالوا وكان أبو سعيد الضرير وأبو العميثل العرابي على خزانة الأدب لعبد الله بن طاهر بخراسان، وكان الشاعر إذا قصده عرض عليهما شعره، فإن كان جيدًا عرضاه أو دعي به فأنشده، وإن كان رديئًا نبذاه ودفع إلى صاحبه البرد على غير الشعر فلما قدم أبو تمام على عبد الله قصدهما ودفع القصيدة إليهما فضماها إلى أشعار الناس، فلما تصفحا الأشعار
مرت هذه القصيدة على أيديهما، فلما وقفا على هذا الابتداء طرحاها على الشعر المنبوذ، فأبطأ خبرها على أبي تمام، فكتب إلى أبي العميثل أبياتًا يعاتبه فيهما (كذا) ويقول:
وارى الصحيفة قد علتها فترةٌ
…
فترت لها الأرواح والأجسام
ثم لقيهما فقالا له: لم لا تقول ما يفهم؟ فقال: ولم لا تفهمان ما يقال؟ فاستحسن هذا الجواب من أبي تمام. فلما دخل على عبد الله أنشده، فلما بلغ إلى قوله:
وقلقل نابي من خراسان جأشها
…
فقلت اطمئني أنضر الروض عازبه
والأبيات التي بعده، صاح الشعراء وقالوا: ما يستحق مثل هذا الشعر إلا الأمير. فقال شاعر منهم يعرف بالرياحي: ولي عند الأمير أعزه الله جائزة وعدني بها وهي له جزاءً عن قوله، فقال الأمير: بل نضعفها لك ونقوم بالواجب له جزاء عن قوله. فلما فرغ من القصيدة نثر عليه ألف دينارٍ فلقطها الغلمان ولم يمس منها شيئًا، فوجد عليه المير وقال: يترفع عن بري ويتهاون بما أكرمته به. ثم بلغ بعد ذلك ما أراد منه» أ. هـ. هكذا آخر الخبر في شرح التبريزي لديوانه الذي حققه الدكتور محمد عبده عزام وفي أخبار أبي تمام للصولي «فما بلغ بعد ذلك ما أراد منه» وما أشبه أن يكون وقع ههنا تحريف لأن لأبي تمام في عبد الله بن طاهر بعد هذه البائية شعرًا يدل على حظوة وجدها عنده والله تعالى أعلم.
وإنما سقنا هذا الخبر بتمامه لكيلا نجيء بقوله: «ولم لا تفهمان ما يقال؟ » مبتورًا، ولأنه يشع ضوءً على مكا كان عليه أبو تمام من لين الجانب وعزة النفس معًا وقوله:«ولم لا تفهمان ما يقال» ليس بمجرد لعب لفظي، لما فيه من الإشارة إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم ثم لأن اوصاف النساء والغزل مما يتبعه الشعراء وصف الرحلة والسير والراحلة. فالمعنى إذن، أنت تعلم إنهن، أي النساء، قد جاء