الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السنة لانتصاره لمذهبهم على النظام، وعند من ذكرنا من المستشرقين لظنهم انحرافه عن الإسلام والعربية، وعند بعض القوم من المعاصرين إذ عندهم أن هذا مدنيه من التجديد وبذلك عظم أمره عندهم جدًّا. ولله در أبي العلاء إذ يقول:
إذا صدق الجد افترى العم للفتى
…
مكارم لا تكرى وإن كذب الخال
أندرو مارفيل وأبو الطيب:
أندرو مارفيل من طبقة الشعراء الإنجليز الذين كان يقال لهم «الميتافيزيقيون» The Metaphysical Poets- أي شعراء ما وراء الطبيعة. وهم طبقة من شعرائهم جمعوا بين مذهب من تعمق الأخيلة والمعاني مع نفس ديني تعبدي أو شبيه بالتعبدي. وقد ولد أندرو مارفيل هذا سنة 1621 م (1029 هـ) ومات سنة 1678 م (1087 هـ). تخرج من جامعة كمبردج وعمل مع الشاعر الشهير جون ملتون مساعدًا له إذ كان يتولى أحد دواوين دولة أوليفر كرومويل. كان أندرو مارفيل من أصدقاء جون ملتون ومن مناصري ثورة أوليفر كرومويل ومن رجالات السياسة، وكان من أعضاء البرلمان إلى وقت وفاته. واهتم بشعره النقاد المعاصرون كثيرًا، وكان الشاعر الكاتب الناقد ت. س إليوت معجبًا به منبهًا على إحسانه.
أول العهد بمعرفة هذا الشاعر كان في أوائل الأربعين من هذه المائة الميلادية إذ كنا بالمدارس العليا بالخرطوم فاختار لنا أستاذ الإنجليزية من حديقته ومن سيدته الخجول - (بالإنجليزية The Garden و To His Coy Mistress) فبدا، وكنت في تلك الفترة أقرأ شعر العقاد واستحسن، وما زلت، منه غير قليل، أن هذا أي العقاد قد نظر في شعر مارفيل وأضرابه الميتافيزيقيين وأخذ منهم، كقوله مثلًا:
لمن الجمال تعده
…
أتعده للناهبينا
أم للذين تسللوا
…
ختلا فطوبى للذينا
ونحو قوله:
ربيع زماننا ولى
…
أمن أعطافك النشر
وأنظر لا أرى بدرا
…
أأنت الليلة البدر
وإذ الشيء بالشيء يذكر فقد اتفق آنئذ أن قدم العقاد إلى الخرطوم. وكان رحمه الله كالمنفرد بين أكثر مفكري العرب ومثقفيهم المعدودين بكراهية هتلر وموسوليني ودكتاتوريتهما صريحا في مدح الديمقراطية وذم كل حكم مطلق. فكان بعض من لا يعلم صدقه وأصالته في ما كان يقول به يتهمه بما لا يجوز في حق مثله. ولم يخل العقاد رحمه الله حين قدم الخرطوم من استشعار تهيب لحرارة جوها وما كان يغلب على فهم أكثر الناس في بلاد العربية أن ثم توحشًا أو وحوشًا. وقد حمد العقاد أيامهم القليلة التي أقام بها إذ وجد حوله نخبة من الأدباء رواة شعره يحفظونه ويتغنون به ويفهمون معانيه فسره ذلك سرورًا عظيمًا.
هذا وكأخذ العقاد ما أخذه -إن كان قد فعل ذلك- من أندرو مار? ـيل وغيره من الميتافيزيقين وسواهم من شعراء الإنجليز، أخذ أندرو مار? ـيل وآخرون غيره من المتنبي ومن شعراء العرب، وتلك الأيام نداولها بين الناس، وإلى الله المصير.
كلمة أندرو مارفيل التي عنوانها الحديقة The Garden أو أفكار في حديقة Thoughts in a Garden نصها كما يلي، -وهو هنا مأخوذ من المختارات التي يقال لها الخزينة الذهبية The Golden Treasury ورقمها ثم 111 ص 92 من طبعة مطبعة جامعة أكسفورد سنة 1964 وروجع على نص كتاب أكسفورد لشعراء القرن السابع عشر طبعة 1968 م ص 751:
THOUGHTS IN A GARDEN
How vainly men themselves amaze
To win the palmi the oaki or bays،
And their incessant labours see
Crown'd from some single herb or tree،
Whose short and narrow-verged shade
Does prudently their toils upbraid;
While all the flowers and trees do close
To weave the garlands of Repose.
Fair Quiet، have I found thee here،
And Innocence thy sister dear?
Mistaken long، I sought you then
In busy companies of men;
Your sacred plansi if here below،
Only among the plants will grow;
Society is all but rude
Tot this delicious solitude.
No white nor red was ever seen
So amorous as this lovely green.
Fond loversi cruel as their flame،
Cut in these trees their mistress' name;
Little، alas، they know or heed
How far these beauties her exceed!
Fair trees! Whereso'er your barks I wound،
No name shall but your own be found.
When we have run our passion's heat
Love hither makes his best retreat;
The gods، who mortal beauty chase،
Still in a tree did end their race;
Apollo hunted Daphne so
Only that she might laurel grow;
And Pan did after Syrinx speed
Not as a nymph، but for a reed.
What wondrous life is this I lead!
Ripe apples drop about my head;
The luscius clusters of the vine
Upon my mouth do crush their wine;
The nectarine and curious peach
Into my hands themselves do reach;
Stumbling on melons، as I pass،
Ensnared with flowersi I fall on grass،
Meanwhile the mind from pleasure less
Withdraws into its happiness;
The mind، that ocean where each kind
Does straight its own resemblance find;
Yet it createsi transcending these،
Far other worlds، and other seas;
Annihilating all that's made
To a green thought in a green shade.
Here at the fountain's sliding foot
Or at some fruit-tree's mossy root،
Casting the body's vest aside
My soul into the boughs does glide;
There، like a bird it sists and sings،
Then whets and claps its silver wings،
And، till prepared for longer flight،
Waves in its plumes the various light
Such was that happy Garden-state
While man thre walk'd without a mate:
After a place so pure and sweet،
What other help could yet be meet!
But 'twas beyond a mortal's share
To wander solitary there:
Two paradises 'twere in one،
To live in Paradise alone.
How well the skilful gardener drew
Of flowers and herbs this dial new!
Where، from above، the milder sun
Does through a fragrant zodiac run:
And، as it works، th' industrious bee
Computes its time as well as we.
How could such sweet and wholesome hours
Be reckon'd، but with herbs and flowers!
A. Marvell
في بعض نسخ هذه المنظومة اختلاف يسير عما ههنا، مثلًا في إحداها Annihilating all that is made مكان: that's made.
كما أنه في طريقة الرسم أحيانًا اختلاف. على أن ذلك كله ليس بالخلاف الكبير كما تقدم. وفيما يلي تقريب لمعنى هذا النص، وقد تعلم مقال الجاحظ أن ترجمة الشعر مما لا يستطاع، وإن يك في قوله أن شعر الأمم الأعجمية غير داخل في حقيقة الشعر عند العرب:
ضلة للناس يوقعون أنفسهم في لبس شديد
ليكسبوا ورقة بلوط أو غصن غار أو جائزة جريد
وليشاهدوا تدأبهم الملح من غير نظرة
له إكليل من عشبة ما أو شجرة
ظلها المحرف الدقيق وليس بممدود
يلومهم بحكمةٍ بالغة على ذلك المجهود
على حين قد أطبقت الزهرات كلها والشجرات
ألا ينسجن إلا للراحة القلادات
يأيها الهدوء الجميل، هل حقًّا أنا
وجدتك مع السذاجة، أختك الحبيبة ههنا؟
قد طالما أخطأت لما كان مني الطلب
للقائكما بين الجماعات ذات الصخب
لو غرسكما المقدس هنا في الأرض لا في السماء
لم يكن له إلا بين صنوف النبات من نماء
ما هي إلا شيء فظ كل الصحبة
بالنسبة إلى هذه الوحدة العذبة
إنه لم ير يومًا لون أبيض أو أحمر
يرمز إلى العشق كهذا الحلو الأخضر
أهل الغرام العشاق قساة مثل لهيب ضرامه
إذ ينحت كل منهم في الشجر اسم فتاة أحلامه
قلما يا للأسف يفطن أحدهم أو يعلم
أن حسن هؤلاء من حسنها أعظم
فيأيتها الشجرات الحسان لو أبدًا أتيح لي جرح لحائكنه
فلن يوجد ثم فيه من اسم غير أسمائكنه
ومتى تجاوزنا حرارة لوعة الهوى
وجد الحب خير ما يرجع إليه ههنا فأوى
ومن الآلهة من ازدهاهم جمال البشر الفان
فانتهت عند شجرة مطاردتهم للغوان
أبولو إذ اشتد وراء دافني بإصرار
ما فعل ذلك إلا لتتحول شجرة غار
وبان لم يعد وراء سرنجة بإسراع
من أجل الحورية نفسها ولكن من أجل اليراع
ما أعجب هذه الحياة التي أحياها
التفاحة الناضجة حول رأسي يساقط جناها
وعناقيد العنب اللذيذ
تعصر في فمي منها النبيذ
وضروب من الدراق مع الخوخ العجب
تمد بأنفسها إلى يدي من كثب
وأعثر بالبطيخ في أثناء المرور
فأسقط على الحشيش من شرك الزهور
وبينما أنا كذلك ينصرف العقل من سرورٍ هو أدنى
إلى سعادة نفسه التي هي أسنى
العقل ذلك البحر الذي كل نوع فيه
يجد مباشرة ما هو به شبيه
لكنه يخلق فيتجاوز كل هذا المقدار
ضروبًا من دنياوات مختلفات عنه وبحار
مفنيًّا كل شيء مصنوع مصور
عند فكرة خضراء في ظل أخضر
هنا عند قاعدة النافورة المنحدرة
عند أصل فاكهة أعالي جذورها خضرة
تنزع الروح جانبًا قميص الأبدان
ثم تنساب فيما بين الأفنان
وهناك مثل الطائر تجلس وتصفر
وتمسح أجنحتها الفضية وتنقر
وحتى تستعد وإلى طيران أبعد تجمع
تظل تموج في ريشها الضوء المتنوع
هكذا كانت تلك الجنة من بهجة
إذ كان آدم يهيم فيها بلا زوجة
وبعد هذا المكان الحلو الصاف
ماذا يراد أن يلفى من إسعاف
كلف فوق وسعه ابن آدم الضعيف
أن يكون وحده هنالك يطيف
وإذن لأصاب جنتين في جنة
لو قد بقي في الفردوس بلاكنة
ثم ما أبدع ما خط البستاني الماهر
هذه المزولة الجديدة من عشب وأزاهر
حيث من فوقها الشمس معتدلة المزاج
تجري في فلك عطر الأبراج
والنحلة المجتهدة إذ هي تعمل
تحسب مدات وقتها تمامًا كما نحن نفعل
هل ما هو هكذا عطر ونقيٌّ من الساعات
يستطاع حسابه إلا بالعشب الزاكي والزهرات؟
حديثه عن دافني وأبولو يشير به إلى الأسطورة اليونانية القديمة التي تزعم أن أبولو -وهو من ألهتهم- قد شغفته دافني، وكانت بارعة الجمال، حبًا فعدا يطلبها وولت منه هربًا، حتى إذ اأدركها أو كاد ما أنجاها منه إلا أن تحولت شجرة غار. فصارت أحب النبات إليه فيما ذكروا. وأما بان فكان في ما زعموا إله المرعى وكانوا يصورونه بساقي تيس ولحيته وقرنيه، فأعجبته سرنجة فعدا يطلبها فاختفت
في قصباء فصارت قصبة فأخذها بان واتخذ منها نايًا. والكنة بفتح الكاف وتشديد النون الزوجة وكذلك الحنة بالحاء المهملة، وقد مر بك قول المعري في درعياته:
فحن إلى المكارم والمعالي
…
ولا تثقل مطاك بعبء حنة
نظم أندرو مارفيل هذه الكلمة الحسنة أول شيء باللاتينية ثم بالإنجليزية ويذكر شراحه أن آخر سطرين من القسم الثامن من المنظومة، وأقسامها تسعة، لم يكونا في نصه اللاتيني. ومهما يكن من شيء، فدلالة ذلك على الصناعة ظاهرة، ونتساءل هل كان أندرو مارفيل يعلم شيئًا من العربية يقوى به على قراءة مشهورات دواوينها كديوان أبي الطيب وأبي تمام والمعري؟ أو هل اطلع على ترجمات لاتينية أو فرنسية أو إنجليزية لأشعار هؤلاء الثلاثة وغيرهم من مشهوري شعراء العرب كأصحاب المعلقات مثلًا؟ أو هل أتيح له أن يأخذ ممن له علم بها؟
والذي يدعونا إلى هذا التساؤل هو أن هذه الكلمة من شعر أندرو مارفيل -وغيرها من شعره- تحمل ألوان شبه قوية بشعر أبي الطيب خاصة ثم بشعر المعري وأبي تمام وعنترة وغيرهم مما لا تطمئن معه النفس إلى أن هذا توارد خواطر ووقوع حافر على حافر (1).
قول مارفيل في القسم الأول يسخر من اجتهاد الناس ودأبهم الموصول ليكسبوا جوائز من جريد النخل وهو رمز النصر في ما زعمه شراح هذه القصيدة وورق بلوط وهو رمز الرياسة والسلطان وأغصان الغار وهي رمز الشعراء، فيه روح كتشاؤم المعري إذ يقول:
تعب هذه الحياة فما أعـ
…
ـجب إلا من راغبٍ في ازدياد
(1)() في كتاب Un Poete Arabe لبلاشير ما يفيد أن ديوان المتنبي كان معروفًا في أوروبا وترجم سنة 1625 وبلغني ممن اطلع على ذلك أن يوربديز الهولندي مدح شعر المتنبي مدحًا عظيمًا في محاضرة له ألقاها بليدن سنة 1621 هـ فتأمل. فإعجاب هذا سابق لإعجاب فون هامر الألماني.
إلا أن جانب خفة الروح والفكاهة أقوى عند مارفيل من ثقل التشاؤم الذي في بيت أبي العلاء هذا.
وقول أندرو مارفيل في القسم الثاني أن الصحبة وخلاط الناس شيء فيه فظاظة وغلظ بالنسبة إلى الوحدة وعذوبتها ونقائها فيه روح كقول أبي العلاء.
ذريني وكتبي والرياض ووحدتي
…
أكون كوحشي بإحدى الأمالس
يسوف أزهار الربيع تعلة
…
ويأمن في البيداء شر المجالس
وقول مارفيل في الوحدة من مأثور كلامه ومشهوره.
ارتباط الوحدة بالزهر والنبات وصلة الراحة، راحة الانفراد والبعد من صخب الناس، بالرياض والخضرة، عند مارفيل شديد الشبه بارتباطهما عند المعري في بيتيه هذين.
وحديث مارفيل عن الشمس المعتدلة المزاج لما يحيط بضوئها والمألوف من وهجها من زهر وأعشاب، كأنما أخذ أخذًا من قول أبي تمام:
تريا نهارًا مشمسًا قد شابه
…
زهر الربا فكأنما هو مقمر
ههنا ما هو أقرب إلى التوليد منه إلى وقع الحافر على الحافر؛ لأن مارفيل في قوله:
هذه المزولة الجديدة من عشب وأزاهر
حيث من فوقها الشمس معتدلة المزاح
تجري في فلك عطر الأبراج
يعلل اعتدال مزاج الشمس بما قدمنا ذكره من إحاطة الزهر والنبت بضوئها ثم يفرع من ذلك أنها صارت تجري في فلك عطر- طريقة سياق الصورة ههنا ينبئ
بروح متخد نموذجه وصف أبي تمام، وإلا فإن هذا يكون من غرائب اتفاق الخواطر، لتجاوزه عموم فكرة، وإجمالها إلى تفصيل دقيق.
ومما يقوي عندنا زيادة احتمال أن يكون مارفيل قد اطلع على كلام أبي تمام مباشرة أو من طريق غير مباشر (1) قوله:
عند فكرة خضراء في ظل أخضر
فهذه فيها شبه خفي الصنعة لقول أبي تمام:
تريا نهارًا مشمسًا قد شابه
…
زهر الربا فكأنما هو مقمر
زهر الربا هذا الذي يشوب ضوء الشمس ظل أخضر، وهو الذي سبب اعتدال مزاجها.
مع هذا لقائل إن يلزم قولًا بأن ههنا مجرد اتفاق خواطر على قوة الشبه وتجاوزه محض العموم إلى نوع تدقيق وتفصيل.
وفي القسم الأخير أيضًا وصف مارفيل للنحلة المجتهدة، وذلك حيث يقول:
والنحلة المجتهدة إذ هي تعمل
تحسب مدات وقتها تمامًا كما نحن نفعل
أهذا مأخوذ من قول عنترة؟
وخلا الذباب بها فليس ببارح
…
غردا كفعل الشارب المترنم
هزجًا يحك ذراعه بذراعه
…
قدح المكب على الزناد الأجذم
(1)() أما شعر المتنبي فنعلم أنه كان مترجمًا باللاتينية منذ سنة 1625 م فما أشبه أن يكون شعر أبي تمام كذلك قد ترجم. ونظم مارفيل باللاتينية أول الأمر عسى أن يدل على أن النموذج الذي أخذ عنه ترجمة لاتينية لمغني الطيب.
الذباب مما يطلق على النحل والزنابير. وقال المثقب:
وتسمع للذباب إذا تغنى
…
كتغريد الحمام على الوكون
قيل فيه أن الذباب هو حد نابها وقيل هو ذباب الرياض كما قال عنترة، وفي شرح ابن الأنباري إن هذين القولين كليهما مرويان عن الأصمعي. ومما روى الجاحظ أن إعرابيًّا دخل على الفضل بن سهل فوجد عنده إناء فيه عسل فيه نحلات غريقات وإنما جيء بذلك ليراه لأنه كان قد طلب طعامًا يصنع بعسل، فظن الأعرابي إن ذلك من ذباب الوحوش فاستقذره وكان دار في حديث مجلس ذلك الأمير أمر أكل العرب الضب فعابه، قالوا فقال الأعرابي:
وعلج يذم الضب لؤمًا وبطنةً
…
وبعض طعام العلج هام ذباب
ومع هذا بيت آخر نضرب عن ذكره.
وصف عنترة هذا مما نبه الجاحظ على جودته وإنه من التشبيهات العقم، فلا تستبعد أن يصل ذرء من ذلك من سبيل ترجمة كلا من الجاحظ أو كلام الناقلين عنه وما أكثرهم إلى شيء مما اطلع عليه مارفيل مترجمًا أو منقولًا. والشبه قوي بين طريقة صفة عنترة للذبابة وحكها ذرعًا بذراع وأنها طربة للروضة بخصبها وعطرها (لا ننس أن عنترة إنما جاء بنعت الروضة ليوضح ويقوي به معنى طيب أنفاس عبلة وإنها كفارة تاجر أو روضة أنف) وطريقة وصف مارفيل لاجتهاد النحلة وعدها ساعاتها بمزولة عطرة في روضة عطرة. وإنما تعد ساعاتها بحركة ذراعيها كما نعد نحن الساعات بحركة ذراع المزولة ههنا فكرة قول عنترة:«هزجًا وغردًا يحك ذراعًا بذراع» ثم في كلام مارفيل من معدن كلام عنترة قوله:
هل ما هو عطر ونقى هكذا من الساعات
يستطاع حسابه إلا بالعشب الزاكي والزهرات؟
إذ يذكر عنترة في صفته روضته الأنف إنها تضمن نبتها:
غيث قليل الدمن ليس بمعلم
أي نقي لا دمن فيه، وقليل هنا تفيد النفي.
مع هذا قد لا يدع قائل قوله إن كل هذا مجرد اتفاق، إذ معدن البشر واحد فخواطرهم مما تتفق.
على أن الأخذ من بعيد أو قريب لا بد أن يجزم به في القسمين السادس والسابع أنه من كلام الفلاسفة. وقد ادعى لمارفيل وأصحابه إنهم شعراء فلسفيون وسموا من أجل ذلك ميتافيزيقين -أي وراء الطبيعة- Metaphysical Poets كما يعلم القارئ الكريم أصلحه الله. وإن يكن قوله اللذات التي هي أدنى واللذات الفكرية التي هي أسمى، كل ذلك مأخوذ من مذاهب السعادة واللذة عند مدارس ما بعد أرسطو من فلاسفة يونان فإن تصوير الروح تصويرًا شعريًّا بالطائر من مشهور مانعتها به ابن سينا حيث قال:
هبطت إليك من المحل الأرفع
…
ورقاء ذات تعزز وتمنع
وهو مطلع عينيته المشهورة في الروح. وابن سينا كان من أعلام الفلسفة المعروفين في أوروبا القرون الوسطى وعصور النهضة وما بعد ذلك. وأندرو مارفيل لم يكن من آخذي الفلسفة عن سماع مجالسي عابر ولكن كان من أعمق أهل عصره ثقافة وكان في فرنسا وإنجلترا وغيرهما في كبريات الجامعات كراسي لدرس العربية وما كان هو بحكم تمكنه الثقافي عن كل ذلك بمعزل.
وإن يكن مارفيل أخذ من ابن سينا مباشرة أو كالمباشرة -أي من طريق ترجمة عينيته مثلًا- أفتستبعد أن يكون وقف في الاطلاع على مترجمات العربية والفارسية - (وفيها أخذ من شعر كبار شعراء العربية كثير) - عند ابن سينا وابن
رشد والفلاسفة وحدهم؟ فكيف نفسر إذن إقدام الاستشراق في القرن السابع عشر بعد وفاة مارفيل بحين غير جد طويل على ترجمة الحماسة ونشر المقامات وهلم جرا؟ هل يعقل أن هذا الإنتاج الكبير كأنما هو انفجار فكري لم تسبقه إرهاصات ترهص به على زمان مارفيل، وخاصة أن تذكرنا أن القرن الخامس عشر والرابع عشر قبله والثالث عشر كل أولئك كان الأخذ فيهن عن العربية طريقًا مطروقًا وبه قامت الحركة المسماة بالنهضة؟ -ثم إن هذا باب واسع فلا ينبغي أن نطيل فيه- ونعوذ بالله من مثل قضية المتنبي حيث قال وضمنه معنى من معاني الاستعاذة:
أرى الأجداد يغلبها كثيرًا
…
على الأولاد أخلاق اللئام
ولست بقانع من كل مجدٍ
…
بأن أعزى إلى جد همام
عجبت لمن له حد وقد
…
وينبو نبوة القضم الكهام
على أنه، حتى بعد هذا كله، قد يأبى القائل إلا أن هذا كله اتفاق خواطر، ووقوع حافر على حافر، إذ مذاهب الفلاسفة ميراث للبشر مشترك. وقد ادعى الحاتمي في القرن الرابع أن أبا الطيب قد أخذ حكمته من أرسطوطاليس وافتتن الدكتور زكي مبارك رحمه الله على حذقه بمقالة الحاتمي، وليس مع ذلك ما قاله الحاتمي بكبير شيء. وأغرب أحد المعاصرين فزعم أن أبا العلاء أخذ غفرانه من ضفادع أرسطفان الكوميدي اليوناني، وذلك لأن أرسطوفان جاء في ضفادعه بشاعر قد هلك فأقاله شعرًا وتناوله بالنقد. وطريقة أرسطوفان من طريقة أبي العلاء -في هذا الذي نقلوه من نظمه بلغات العصر وذكره نقاده وشراحه- بعيدة جدًّا. وقد كان المجيء بشاعر حديث عهد الوفاة في الكوميديا مذهبًا ليحاكي الكوميدي أساليبه بغرض السخرية من أشياء معاصرة، لا بغرض نقده أو محض الإمتاع الأدبي بالرجعة إلى الأدب القديم والنظر فيه.
مع هذا، مع تقدير التسليم جدلًا بأن بين مذهب أرسطوفان ومذهب أبي
العلاء تشابهًا، فأبو العلاء إنما أخذ من مصادره الأصلية. ولم يكن أول من أخذ منها على سبيل الافتتان في التخيل. ولو نظر صاحب هذه المقالة في كتاب الموشح للمرزباني وهو من متداولات «الأطاريح (1)» لوجد فيه أن أحد أعراب زمان جيل نحاة الكتاب قد عاده جماعة ممن يأخذون الشواهد عنه في مرض ألم به، فسخر منهم في سياق خبر زعم به أنه اطلع على أهل النار فوجد أكثر النحاة هناك. ولا ريب أنه أخذ من آيات الصافات:{قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} الآيات. وفي سورة الأعراف قصة نداء أصحاب الجنة أصحاب النار ثم خبر أصحاب الأعراف وحديثهم ثم نداء أصحاب النار أصحاب الجنة -ومشاهد الجنة والنار في القرآن عدد. وفي حديث المعراج قصص ومشاهد مفصلة وقد نبه بعض جهابذة نقاد أوروبا على أن دانتي أخذ منها، فأن يأخذ أدباء المسلمون من معينها أولى والأخذ منها بين أدباء المسلمين كثير متواتر منذ زمان الوعاظ والقصاص. ورسالة التوهم للحارث بن أسد المحاسبي من رجال القرن الثالث نص ثابت في هذا المعنى. وأخبار الجن مما روى الإخباريون والشعراء غير بعيدة في وادي التخيل من تصور مشاهد الآخرة؛ لأنها ذات عنصر غيبي. وقد أخذ المعري منها كما أخذ ابن شهيد الأندلسي وقصص الجن في كلتا رسالتيها مذكور وأمر التشابه بين ابن شهيد وأبي العلاء مقطوع به من حيث أن كليهما بني قصته على التوهم والخيال. وقد طال هذا الاستطراد فنعود إلى ما كنا فيه، وبالله التوفيق.
أول ما لفت نظري من أمر الشبه بين كلام مارفيل ونونية أبي الطيب «مغاني الشعب طيبًا في المغاني» - قول هذا ما ترجمته فيما قدمنا:
عناقيد العنب اللذيذ
(1)() أي الطلبة الذين يكتبون الرسائل المدرسية يتداولونه. أطاريح جمع أطروحة وهي كلمة هجينة. وأصل ذلك أن يك من المطارحة فشتان ما بين رسائل المدارس الجادة ومطارحات الكلام.
تعصر في فمي منها النبيذ
وضروب من الدراق مع الخوخ العجب
تمد بأنفسها إلى يدي من كثب
هذا شديد الشبه جدًّا يقول أبي الطيب:
لها ثمر تشير إليك منه
…
بأشربةٍ وقفن بلا أواني
كلام أبي الطيب مصور بارع التصوير، قوي العبارة، موجز، أخاذ، مذهل، إن يك الشاعر مارفيل قد أصاب ذرء ترجمة منه -أو اطلع عليه إن كان له علم بالعربية (وليس ذلك مما نستبعده) - فقد أخذ كلامه منه. قوة الشبه ههنا أبعد غورًا من مجرد توافق الخواطر.
وأعدت قراءة حديقة مارفيل -فلفت نظري معنى آخر، وهو أيضًا عند أبي الطيب في هذه النونية- معنى فراق آدم للجنة، وقد جعله مارفيل بسبب المرأة حيث قال في القسم الذي قبل خاتمة منظومته وهو الثامن:
هكذا كانت حال تلك الجنة من بهجة
إذ كان آدم يهيم فيها بلا زوجة
وبعد هذا المكان الحلو الصاف
ماذا يراد أن يلفي من إسعاف
كلف فوق وسعه ابن آدم الضعيف
أن يكون وحده ثم يطيف
وإذن لأصاب جنتين في جنة
لو بقي في الفردوس بلا كنة
وقول أبي الطيب الذي هذا من مقال أندرو مارفيل يشبهه هو:
يقول بشعب بوان حصاني
…
أعن هذا يسار إلى الطعان
أبوكم آدم سن المعاصي
…
وعلمكم مفارقة الجنان
ههنا عند أبي الطيب الإيجاز وإصابة كبد المعنى والحكمة والتأمل، كل أولئك معًا، المعنى الذي عند الشاعرين كليهما إنساني قديم وثيق الارتباط بالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن جميعًا، فادعاء أن يكون شاعر نصراني أخذه من مسلم أو العكس، من حيث هو معنى، أمر لا نقول به، ولكن قوة الشبه في طريقة الأداء، بحيث يبدو كلام مارفيل كأنما هو بسط وشرح، لا لقضية خروج آدم من الجنة وهو المعنى الديني، ولكن لبيتي أبي الطيب هذين والمعنى المتضمن فيهما. ولكأنه قد اطلع عليها في قوة عبارتهما وإيجازها وما تضمنته من الحكمة ومن روح التأمل الساخر، فعمد إلى بسط ذلك والافتنان في تفسيره. تأمل قوله:
After a place so pure and sweet
What other help could yet be meet?
وترجمناه بقولنا:
وبعد هذا المكان الحلو الصاف
ماذا يراد أن يلفى من إسعاف؟
والمكان الحلو الصاف هو الجنة. والسؤال الذي سأله مارفيل، مع الصفة التي وصف به الجنة هو عين سؤال أبي الطيب الذي افتن فيه فجعله على لسان حصانه حيث قال:
يقول بشعب بوان حصاني
…
أعن هذا يسار إلى الطعان
وقول مارفيل:
But it was beyond a mortal's share
To wander solitary there.
أي، كما ترجمنا:
كلف فوق وسعه ابن آدم الضعيف
أن يكون وحده هنالك يطيف
وهنالك أي في الجنة- هذا هو بعينه قول أبي الطيب:
أبوكم آدم سن المعاصي
…
وعلمكم مفارقة الجنان
قوله سن المعاصي أي جعلها سنة في كل الآدميين- وهذا بسطه مارفيل في قوله:
كلف فوق وسعه إلخ أو كما قاله:
وقول مارفيل في أول هذا القسم الثامن:
Such was the happy garden-state
When man there walked without a mate
أي، على وجه التقريب، كما مر:
هكذا كانت حال تلك الجنة من بهجة
إذ كان آدم يهيم فيها بلا زوجة
ليس بزائد على مضمون بيتي أبي الطيب، ولكنه بسط وشرح لقوله:«أعن هذا» وأبي اسم الإشارة إلا أن يجد لنفسه صدى في عبارة أندرو مارفيل such was وبقيت في عبارة أبي الطيب زيادة هي قوله: «إلى الطعان» ؟ - ولم يذكر أبو الطيب الزوجة تصريحًا ولكنها مضمنة تضمينًا كالتصريح في قوله «سن المعاصي» لأن
عصيان آدم وحواء هو الذي أبدى لهما سوءاتهما وجر عليهما الهبط- (قال المعري يذكر خروجه عن بغداد وكان بعد إذ سار عنها مما يذكر حنينًا إليها:
وما سار بي إلا الذي غر آدما
…
وحواء حتى أدرك الشرف الهبط
يشير إلى قوله تعالى: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} والهبط بفتح فسكون كالهبوط).
مزيد من تأمل حديقة مارفيل يرينا أنه هناك سوى هذين المعنيين: «لها ثمر تشير إليك منه إلخ» و «يقول بشعب بوان حصاني إلى قوله مفارقة الحنان» معانٍ أخر كثيرات مشتركة اشتراكًا يرجح بالذي نزعمه من أن مارفيل حاكى أبا الطيب رجحانًا على كل شك حتى لقد يصل به إلى جزم ويقين.
أول قصيدة أبي الطيب:
مغاني الشعب طيبًا في المغاني
…
بمنزلة الربيع من الزمان
ولكن الفتى العربي فيها
…
غريب الوجه واليد واللسان
ملاعب جنة لو سار فيها
…
سليمان لسار بترجمان
طبت فرساننا والخيل حتى
…
خشيت وإن كرمن من الحران
فيه مدح الشعب بالبهجة الفائقة. ثم انفراد أبي الطيب مع هذه البهجة وغربته التامة عمن حوله إلا عن هذا الشعب ثم كون هذا الشعب عالمًا مسحورًا إنما هو كملاعب جنة يعيا بها سليمان ثم حتى الخيل والفرسان الذين معه قد ذابوا في الشعب وازدهاهم فكما انفرد عنهم أبو الطيب كذلك انفرد كل منهم عنه، وكذلك الخيل حتى هي قد انفرد كل منها عن فارسه، وهذه حالة يخاف معها الحران ومع الحران يكون سقوط الفارس عن فرسه -والأبيات كلها يهيمن عليها معنى التعجب الذي عبر عنه «بملاعب جنة» ومعه الإعجاب- ومع ذلك الوحدة اللذيذة التي يخاف
معها الحران والغربة التي لا ريب يخالطها شعور من الحزن في قوله «ولكن الفتى العربي فيها- البيت» .
أول وصف مارفيل للحديقة عبر فيه تعبيرا مباشرًا عن التعجب والإعجاب:
ما أعجب هذه الحياة التي أحياها
ليكن هذا توارد خاطر مع الخاطرين اللذين تقدما فصارت ثلاثة خواطر -ثم الحران الذي خافه أبو الطيب، أليس هذا يشبه عثور مارفيل بالبطيخ وسقوطه على الحشيش بسبب الشرك الذي نصبته له الأزهار- ثم هذا الشرك الذي نصبته الأزهار أليس يشبه قول أبي الطيب:«طبت فرساننا والخيل إلخ» - أبو الطيب لقوة شعوره بسحر الشعب نسب مثله إلى من كانوا معه ولو قال طبتني وطبت حصاني لكان التعبير أضعفن إذ قوله «فرساننا» فيه دلالة على أن طبيعتهم الصرامة ومع ذلك طباهم شرك سحر الشعب وازدهاهم، ومراد أبي الطيب نفسه؛ لأنه أول انطباعة انطبعها الشعب في نفسه أنه جميل جدًّا بمنزلة الربيع من الزمان ولكنه من أجل شذوذه عن الذين معه غريب وجهًا ويدًا ولسانًا فهذا أشد لحزمه وصرامة نفسه، مع هذا طباه الشعب بشرك سحره فلها عن هذه الصرامة بجمان الأغصان ودنانير الضوء وأشربة الفواكه التي تشير بها إليه.
هنا خاطران آخران متفقان، مع ما يغشى ذلك من غشاوات الخفاء- شرك جمال طبيعة الخضرة والنبات والرياض ومعنى العثور والحران والسقوط- فهذه خمسة خواطر.
ثم يقول أبو الطيب:
غدونا تنفض الأغصان فيها
…
على أعرافها مثل الجمان
والجمان من معانيه اللؤلؤ تصنع من الفضة. ليس في حديقة
مارفيل حصان ومعرفة حصان، ولكن فيه طائر ينفض جناحه الفضي في الأغصان، وهو الروح التي شبها الشاعر بطائر في القسم السابع.
وهناك مثل الطائر تجلس وتصفر
وتمسح أجنحتها الفضية وتنقر
وإنما يكون جناح الطائر فضيًّا بسبب ما تنفضه الأغصان عليه من القطرات التي يلمع عليها الضوء- فهنا خاطر متفق، ولعلك أيها القارئ الكريم لحرصك على قطع كل سبب للشك أن تقول إننا لم نصب حقيقة هذا الخاطر بيسر ولكن بعد كد منا وعمل. وهذا لا يقدح في الذي صنعناه؛ لأن الشاعر عندما يأخذ متأثرًا بشاعر آخر، ربما تعمد الإخفاء، وربما وقع له الإخفاء ناشئًا من نفس طبيعة الأخذ والتوليد وقدرة الملكة التي هي عنده. مع هذا إننا لم نصل إلى حقيقة هذا الخاطر بتعمل وتكلف. فإن مارفيل قد جعل طائر روحه «ينساب بين الأفنان» فلن تسلم أجنحته من قطرها. ثم قد جعل طائره يموج ريشه في الضوء المتنوع- فهذا يظهر لون القطرات التي يصير بها جناحه فضيًّا.
وقوله «تموج في ريشها الضوء المتنوع» أي الروح التي صارت طائرًا، قد نشر فيه الجناح الفضي فظهرت ريشاته بأضواء متنوعة -هذا شبيه بقول أبي الطيب:
وألقى الشرق منها في ثيابي
…
دنانيرًا تفر من البنان
كلمتا مارفيل The various light - الضوء المتنوع- هما تعبير يحمل نفس دلالة حركة الأضواء المستديرة السريعة التي تنفلت على الثياب انفلاتًا وهن متتابعات ومتلاحقات- هذا أيضًا خاطر، وبالتنبه إليه يتضح الخاطر الذي أشرنا إليه قبله- فصارت الخواطر سبعة.
وقبل قول أبي الطيب «وألقى السرق إلخ» قوله في الأغصان:
فقمن بما يرد الشمس عني
…
وجئن من الضياء بما كفاني
فهذا هو عين معنى اعتدال مزاج الشمس الذي في قول مارفيل بحسب ترجمتنا التقريبية له في القسم التاسع:
حيث من فوقها الشمس معتدلة المزاج
أي من فوق الأزهار والأعشاب. فهذا خاطر ثامن.
وقد سبق أن قلنا أن هذا الخاطر متفق مع قول أبي تمام:
تريا نهارًا مشمسًا قد شابه
…
زهر الربا فكأنما هو مقمر
وهو كذلك. ولكن عندنا أن مارفيل تتبع معاني أبي الطيب ثم ضم إليها معاني غيره على سبيل التحسين والتجويد. وقد ذكرنا أنه نظم حديقته أولًا باللاتينية ثم بالإنجليزية والتوفر على الصنعة والتجويد والتوليد مع هذا مما لا يستبعد بل هذا دال أقوى دلاله عليه. ثم إن أبا الطيب قد نظر إلى معاني أبي تمام ولد منها فكون أبي تمام أصلًا لا ينفى أن أبا الطيب قد جود وأبدع. وكون أبي الطيب أصلًا لمارفيل لا ينفى عن هذا ما قد أصابه من إحسان، ولكن تتبعه لأداء أبي الطيب ومعانيه وأخيلته شديد ملح. قد صارت الخواطر الآن ثمانية.
هذا وأخذ مارفيل معنى الضوء المعتدل من نونية أبي الطيب يرجح ما ذهبنا إليه أولًا من نظره إلى أبي تمام- وقد ترك أبو تمام طابعه في الأزاهر والأعشاب لأن اعتدال شمس أبي الطيب إنما كان بسبب أغصان الشجر، لكن اعتدال شمس أبي تمام من أجل اختلاط ضوء الشمس بزهر الربا- هذا المعنى هو الذي احتفظ به مارفيل بعد تلفيق الصورتين.
وقال أبو الطيب:
وأمواه تصل بها حصاها
…
صليل الحلي في أيدي الغواني
إذا غنى الحمام الورق فيها
…
أجابته أغاني القيان
ومن الشعب أحوج من حمام
…
إذا غنى وناج إلى البيان
وقد يتشابه الوصفان جدا
…
وموصوفاهما متباعدان
قبل هذه الأبيات: «لها ثمر تشير إليك منه إلخ» وقد نبهنا إلى شدة شبه كلام مارفيل في قسمه الخاص به من حيث قال: «التفاحة الناضجة حول رأسي يساقط جناها إلى قوله تمد بأنفسها إلى يدي من كثب» وأنه أول ما استرعى انتباهنا أن هذا ليس مجرد توارد خواطر ولكنه أخذ ومتابعة.
لم يدع أندرو حديقته بلا ماء، وقد جعله نافورة Fountain- وهذه قد تكون نبعًا طبعيًّا أو مصنوعًا. ونبع أبي الطيب طبعي غير أن فيه معنى الشلال والنافورة ذات الخرير والماء الصاعد المنحدر. وأجاد أبو الطيب نقل الصوت في قوله:«تصل بها حصاها صليل الحلى إلخ» والتشبيه بصليل حلي الغواني يحمل صورة الفتيات الفارسيات اللاتي كن يغنين هناك- حديقة مارفيل كما فيها النبع لم يخلها من الغواني، فجاء بدافني وسيرنجة من أساطير يونان وأقحمهما إقحامًا في القسم الرابع.
ومن أدق النظر والتأمل في عجائب معاناة الشعراء لم يخف عليه أن حديقة مارفيل قد صارت ضربًا من «ملاعب جنة» بدخول أبولو وبان وسرنجة ودافني فيها. وآلهة أهل الشرك عند أهل الديانات السماوية من الشياطين ومن الجن، فتأمل.
وطائر ابن سينا ورقاء، وهو قوله: ورقاء ذات تعزز وتمنع، ولا ريب أن طائر
مارفيل الذي هو روحه معنى فلسفي راجع إلى الفلاسفة ومنهم ابن سينا. فإن كان مارفيل قد اطلع على نونية أبي الطيب في الأصل أو مترجمة فورقاؤه هي التي قربت إليه فكرة ورقاء ابن سينا التي هر روح.
عند أبي الطيب ورقاء تتغنى في ورق. وعند مارفيل طائر روحي هو ورقاء ابن سينا.
إلى هنا ثلاثة خواطر فرعية تضاف إلى الثمانية المتقدمات. ثم في قول أبي الطيب: وقد يتشابه الوصفان جدًا وموصوفاهما متباعدان فكرة التشابه مع الاختلاف والتباعد.
بحر مارفيل الذي شبه به البحر قال فيه:
العقل ذلك البحر الذي كل نوع فيه
يجد مباشرة ما هو به شبيه
وهذا الذي به شبيه مختلف عنه بالضرورة؛ لأنه كائن بحري مختلف عما هو في البر من الأنواع المشابهة له، -فهذا غير جد بعيد من قول أبي الطيب:
فقد يتشابه الوصفان جدًا
ومع التشابه:
وموصوفاهما متباعدان
فههنا خاطران آخران يضافان إلى الخواطر الأحد عشر اللاتي مضين.
ثم إن أبا الطيب يقول:
ولو كانت دمشق ثني عناني
…
لبيق الثرد صيني الجفان
يلنجوجي ما رفعت لضيف
…
به النيران ندى الدخان
تحل به على قلب شجاع
…
وترحل منه عن قلب جبان
منازل لم يزل منها خيالٌ
…
يشيعني إلى النونبذجان
هذا من ذروات أبي الطيب التي لا تنال. ولعمري لئن تقزز منها نيكلسون وآخرون منها مثله، فتلك لهم خسارة لا ربح. وليس منهم أندرو مارفيل، إن يك صحيحًا -وهو إن شاء الله صحيح- ما نقول به من أتباعه أبا الطيب ومحاكاته.
بدأ أبو الطيب فيما بدأ به بقوله:
ولكن الفتى العربي فيها
…
غريب الوجه واليد واللسان
وهي وثبة مذهلة بعد قوله:
مغاني الشعب طيبا في المغاني
…
بمنزلة الربيع من الزمان
أشعرتنا بوحدة وعزلة وأسى عميق -هذا الأسى العميق الذي صحب انطباعة منظر الشعب الرائع في نفسه يقلقنا شيئًا ونحن نتابع وصفه. ونصحبه وهو يتحلل من عزوف نفس العربي وشعوره بالغربة وانقباضه:
غريب الوجه واليد واللسان
إلى أنس لذيذ وارتياح إلى عزلته إلى المكان- كنى عن نفسه بالفرسان وبالخيل كما قدمنا، خاف على الفرسان أن يشغلهم دعاء المكان وازدهاؤه لهم عن واجب القيام بتنبه الفارس، وعلى الخيل مع كرمها وعتقها وطاعتها أن تحرن وفارسها غافل عنها فيسقط.
مع التحلل لا زالت في العزوف بقية قوله: خشيت إلخ مشعر بها.
ثم غدت الأغصان تنفض طلها عليه. وها هو ذا في ضيافتها ترد الشمس عنه وتجيئه من الضوء بما يكفيه. وها هو ذا يميل إلى إغرائها إذ هذه دنانيرها تنتثر
على ثيابه وهو يمد إليها وهي تفر منه. ثم هذه الثمار ترقرق أضواء عصيرها من أغشينها الشفافة، فمن شدة إغرائها كأن أشربتها واقفة بلا أوان. كأن قد انعصرت برحيقها في فمه. وهذه الأمواه ذات صليل وحصى لماع كلمع الذهب في معاصم القيان يجاوبن الحمام الصداح.
وفجأة انحلت عقدة انقباضة الشاعر الغريب- حلتها نغمة الطاء وصليل الماء وصليل الحلي في أيدي الغواني وسائر سحر الشعب الأخاذ من أغصان وقطرات وضوء متنوع وحصى وماء.
تجاوز عقل أبي الطيب جميع ما حوله بخياله الوثاب إلى غوطة دمشق ومناظر الشام والحصى الذي نعته إذ قال:
وليل توسدنا الثوية تحته
…
كأن ثراها عنبر في المرافق
بلاد إذا زار الحسان بغيرها
…
حصى تربها ثقبنه للمخانق
ولله در الأندلسية إذ نطرت إليه فقالت:
كفانا لفحة الرمضاء وادٍ
…
سقاه مضاعف الغيث العميم
نزلنا دوحه فحنا علينا
…
حنو المرضعات على الفطيم
وأسقانا على ظمإٍ زلالًا
…
ألذ من المدامة للنديم
يروع حصاة حالية العذارى
…
فتلمس جانب العقد النظيم
أحسب العقاد رحمه الله عاب هذا البيت أن فيه صناعة وتكلفًا، والبيت فيه دقة إحساس وظرف وأخذ حسن وإشارة إلى أبي الطيب.
وهذا التجاوز إلى الديار الحبيبة والأحبة الذين بها من «شادن وضيغم» هو الذي أزال عنه الغربة وأشعره باتحاد تام مع الشعب وأنه به في وطن وفي جنة، أول شيء طرب إلى غناء الحمام وليس هو معهن بغريب. قبله هيجن قلوب الشعراء إلى
بلادهم بالحنين. ثم غناء الفارسيات أطربه وإن كان عنده غير مبين. ما زالت غربة العربي معه. ولكنه طرب إليهن وهجن قلبه كالحمام.
وقد يتشابه الوصفان جدًّا
…
وموصوفاهما متباعدان
ثم ها هو ذا يثب إلى ذكرى دمشق.
وينصرف من الشعب وهو في الشعب بما أثاره في نفسه إلى «لبيق الثرد إلخ» وإلى النار التي ترفع بالندواليلنجوج للأضياف. النار التي ترفع للأضياف نار كرم العرب. والنار التي توقد باليلنجوج نار غزل العرب وعشقهم.
لقد أسره الشعب بعد أن كان طباه؛ لأن عقله- ذلك البحر، تجاوزه، وخلق من كل نوع يشبه فيه دنياوات أبعد وبحارًا أبعد.
فكرة تجاوز العقل للأشباه والنظائر التي في بحره، وهي عند مارفيل، قوية الشبه بما عند المتنبي ههنا.
وقد أكد المتنبي أسر الشعب له واحتواءه على نفسه بقوله:
تحل به على قلب شجاع
…
وترحل منه عن قلب جبان
وقد أكد تجاوزه له بعقله مرتين- مرة بقوله: «ولو كانت دمشق إلخ» وتوهمه أنه هناك مع الثرد والجفان واليلنجوج. وأخرى بخياله الذي اصطحب هذا الشعب المسحور بما قد امتزج معه من صور الشام إلى النونبذجان.
فكرة تجاوز العقل لما حوله من طريق الأوصاف المتشابهة المختلفة الموصوفات إلى دنياوات أبعد -دمشق مثلًا والنوبنذجان، خاطر متفق عند الشاعرين ولم يذكر المتنبي البحار، ولكن مارفيل ذكرها لأنه افتن بإدخال المعنى الفلسفي الذي يزعم أن البحر فيه كل أنواع البر. فالبحار التي عند مارفيل فرع
من الدنياوات إذ لا تتصور دنيا بلا بحر. ولو كان قد قال إلى أرضين أخرى وبحار لكان قد طابق أما قوله:
Far other worlds، and other seas فقوله seas دعته القافية وهو إطالة غير معيبة لأن منها إشعارًا بتخصيص البحار لدلالتها على الأفكار والعقل والخيال الذي ذكره أبو الطيب حيث قال:«لم يزل منها خيال» إلخ.
فصارت الخواطر خمسة عشر خاطرًا إذ قد ذكرنا من قبل ثلاثة عشر. ثم قد مهد أبو الطيب بقوله:
تحل به على قلب شجاع
…
وترجل منه على قلبٍ جبان
لقول حصانه له، يلومه «أعن هذا يسار إلى الطعان» وفي لوم الحصان كما ترى رنة إشفاق ورفق. وحول مارفيل اللوم من لسان الحصان الذي زعمه أبو الطيب إلى لسان حال الأعشاب وضروب النبات التي تلوم Prudently أي (بحكمة لبقة) الناس على تعبهم بدلًا من أن يستمتعوا بهن ويرتاحوا. هنا خاطران متفقان- وعندنا أن هذا أخذ لا ريب فيه- وهما اللوم وكونه بحكمة ورفق وصارت الخواطر سبعة عشر.
ثم لا ننس -أيها القارئ الكريم- قول أبي الطيب -لا بل حصان أبي الطيب- «الطعان» من قولته: «أعن هذا يسار إلى الطعان» ؟ والطعان جهد ونصب، فهذا يشبه أول كلام مارفيل حيث زعم أن نصب الناس وفرط جهدهم ليحصلوا على كسب الجوائز من كذا وكذا ضلال. ثم قد بدأ رموز جوائزه بالنخل وهو شجر عربي لا ينبت في بلاده، زعموا أنه ذكره لأنه رمز للنصر. والنصر إنما يكون بعد الضراب والطعان فأبت قولة المتنبي:
أعن هذا يسار إلى الطعان
إلا أن تثبت في نخلة عند مارفيل. وقد زعم أن الآلهة - (وهم عندنا شياطين) - يطاردون الأبكار الحسان فتكون غاية طرادهم لهن أن يتحولن إلى نبات وشجر وقصب وهلم جرا- وقد طارد إلهه الذي هو شيطان شعره بكرًا من معني أبي الطيب، وهي:
يقول بشعب بوان حصاني
…
أعن هذا يسار إلى الطعان
متضمنه في قوله إلى الطعان، فصيرها نخلة، ثم قرنها بالغار والبلوط وهن من شجرات الإفرنج والروم واليونان.
فصارت الخواطر ثمانية عشر. ولو وقفنا عند هذا العدد وقسمناه على أقسامه التسعة لكان لكل منها خاطران، فكأن كل بيتين من أبي الطيب تضمن خواطرهما قسم من أقسام مارفيل التسعة.
ثم هن -أي الخواطر- أكثر من ذلك، منهن خاطر العشق ولهيبه وأحوال أصحاب الغرام ومنهن خاطر الحذق والمهارة الذي في آخر كلمة مارفيل ونأمل أن نلم به من بعد إن شاء الله.
بعد هذا الذي ذكرناه نزعم أننا لا نشك أن مارفيل وهو مقتدر صناع قد بنى حديقته على حذو معان احتذى بها طريقة أبي الطيب وخواطره وإبداعه. أول شيء بنى عليه هو حديث حصان أبي الطيب، هذا هو الأصل الذي احتذاه مارفيل. والقسم الأول من قصيدته شرح لهذا المعنى؛ لأنه يعذل الناس على طلب النصر بدلًا من طلب الدعة والاستمتاع بالحديقة- هذا هو عين قول الحصان: أعن هذا يسار إلى الطعان. ثم فكرة الدعة والراحة اجتذبت معها فكرة العزلة والوحدة. وهذه نفسها تفريع من قصة حديث حصان أبي الطيب في قوله:
أبوكم آدم سن المعاصي
…
وعلمكم مفارقة الجنان
فأدخل مارفيل قصة حواء. وزعم أن آدم لو كان ظل واحدًا ولم تخلق حواء له ومنه لكان أفضل منه ولكان له من ذلك جنتان لأنه كان سيكون بمعزل من الخطيئة.
نص الشراح الذي ذكروا لنا به أن بيتي مارفيل لم يكونا في الأصل اللاتيني الأول:
The paradises't were in one
To live in paradise alone
وإذن لأصاب جنتين في جنة
لو قد بقي في الفردوس بلا كنة
هذا نص مهم لأنهما كما ترى إضافة عن روية. وما أشك أنه أخذ معنى الجنتين من القرآن وقد ترجم القرآن إلى اللاتينية في القرن الميلادي الحادي عشر ومثله لا يخفى عن مارفيل. وذلك قوله تعالى {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} ومن خاف مقام ربه هو من لم يعصه، هو آدم الذي فرضه مارفيل على وجه التمني، وأضرب عن الفرض لاستحالته.
مع أن أصل فكرة الوحدة من حديث الحصان وهو ديني جنسي كما ترى، قد زيد فيه من معاني وصف انفراد المتنبي - (غريب الوجه واليد واللسان) وأنسه في هذه الغربة إلى شعب بوان.
وعندي أن أبا العلاء أخذ قوله:
ذريني وكتبي الرياض ووحدتي
…
أكون كوحشي بإحدى الأمالس
يسوف أزهار الرياض تعلةً
…
ويأمن في البيداء شر المجالس
من بوانية أبي الطيب هذه، وكأنه يشرح بهذين البيتين حالة شعور أبي
الطيب وقد كان بشعره عالمًا وله متذوقًا. ولكأن الوحشي بإحدى الأمالس إن هو إلا أبو الطيب. وقد وصف المعري نفسه بأنه أنسي المولد وحشي الغريزة. ولئن صدق هذا الوصف عليه لهو على أبي الطيب أصدق. وإن يك مارفيل قد نظر في شعر أبي الطيب ولقد نظر، فما أحسبه عزب عنه قول أبي العلاء هذا فيكون منه قد أخذ أيضًا. وقد سبق منا تقديم هذا القول.
القسم الثاني من كلام مارفيل في مدح الوحدة والهدوء والعزلة. وكونه فرعًا من المعنى الأول لا يخفى- وقول أبي الطيب «طبت فرساننا إلخ» مضمن في خلاصته في قول مارفيل: To this delicious solitude ويوقف عند كلمة delicious المنبئة باللذة والمتعة وهي التي دل على مثلها أبو الطيب بقوله: «طبت» وطبا يطبو ويطبي أي دعا بإغراء. وإنما هي وحدة لذيذة لما يخالطها من دعوة النبات ولقائه.
القسم الثالث الذي فيه ذكر العشق فيه نفس من التهكم بالعشاق شبيه بقول أبي الطيب:
مما أضر بأهل العشق أنهم
…
هووا وما عرفوا الدنيا وما فطنوا
تفنى عيونهم دمعًا وأنفسهم
…
في إثر كل قبيح وجهه حسن
فإن يكن مارفيل لم يطلع قط على شيء من كلام أبي الطيب مترجمًا أو غير مترجم فهذا من باب توافق الخواطر ووقع الحافر العجيب حقًّا؛ لأن ههنا مع التهكم بأهل العشق -وهو أمر توافق الخواطر فيه سبيل سابلة- الزعم بأن المعشوق الحسن الوجه هو في حقيقة باطن أمره قبيح. وقد ذهب مارفيل إلى نحو من هذا المعنى حيث زعم أن الشجرات التي تنحت عليها الأسماء هي حقًّا أجمل من ذوات الأسماء -كأنه يقول هن شيء بالنسبة إليهن قبيح وإن ظنه العاشق حسنًا.
ولئن يك مارفيل قد اطلع على أبي الطيب وهو ما نقول به استنادًا على شدة المشابهة في الآراء والأداء في هذه القصيدة الواحدة (الحديقة) بينها وبين قصيدة واحدة لأبي الطيب هي «مغاني الشعب طيبًا في المغاني» ولا أراني أغلو إن زعمت أن مارفيل على انتفاعه بالبيتين المتقدمين «مما أضر بأهل العشق إلخ» : إنما أصل تناوله موضوع العشق من قول أبي الطيب في «مغاني الشعب» يذكر بلاد عضد الدولة - (وقد جعلها في مدحه له كأنما هي امتداد للشعب كما في خياله قد جعل الشعب امتدادًا لدمشق ونيران قراها ونيران يلنجوجها، وقد زعم قوم أنه كان يتعشق خولة أخت سيف الدولة ولا نقول به ولكنا نقول إنه كان شاعرًا وينبغي أن يكون قد أحب ويفيده قوله:
رحلت فكم باك بأجفان شادن
…
علي وكم باك بأجفان صنيغم
وقد ذكر في مصر أنه يحن إلى أهله وهذا حب لا ريب فيه:
أحن إلى أهلي وأهوى لقاءهم
…
وأين من المشتاق عنقاء مغرب
وقد يكون ربما اتسع قلبه لأكثر من حب واحد والله أعلم بسرائر القلوب) قال:
أروض الناس من تربٍ وخوفٍ
…
وأرض أبي شجاعٍ من أمان
تذم على اللصوص لكل تجرٍ
…
وتضمن للصوارم كل جاني
أي تعطي ذمتها بالأمان من اللصوص لكل التجار أو كما نقول في عصرنا هذا «تؤمن ضد السرقة» لا بمال يدفعه التاجر لتاجر مثله ولكن بسيف الأمير وتدبيره المرهوب.
فلو طرحت قلوب العشق فيها
…
لما خافت من الحدق الحسان
أي لو أن القلوب الرقيقة (وهي قلوب العشاق) طرحت في أرض هذه البلاد
الجميلة لنالت الأمان ولم تخف من لصوص القلوب وهن عيون الحسناوات. ههنا تهكم بأهل العشق واستهانة بجمال النساء. فهذا المعنى لا يعسر على الحاذق الالتواء به لتوليد معنى مواز له مجار لمذهبه. لو عمل العشاق الحقيقة لم ينحتوا اسم محبوبة على لحاء شجرة؛ لأن قلوبهم ستستحوذ على مودتها الشجرة لأنها أجمل من كل محبوبة، كما أرض أبي الطيب هنا، لحسنها واستيلاء الأمن عليها، تستحوذ بهواها على القلوب فلا تقدر عيون الحسان على اختطافها بفتنة وإغواء غرام -هذا مجرد تقريب للطريقة التي يمكن بها توليد المعنى الذي جاء به مارفيل من المعنى الذي عند أبي الطيب. فحين ينضاف إلى ذلك البيتان المتقدما الذكر يسهل أمر التوليد والأخذ جدًّا لصيرورة الحسن فيهما قبحًا لوصف العشاق بالجهل والغباء فوصف قلوبهم بالقساوة من ذلك قريب، ولا سيما حين نذكر أن مارفيل شبهها في قساوتها بلهيب الغرام وقد جعله أبو الطيب هو أصل جهل العشاق وعدم فطنتهم، فتأمل.
ويوقف شيئًا عند التمهيد الذي مهد به أندرو مارفيل لاطرائه حسن النبات وهو قوله -كما ترجمناه على وجه التقريب:
أنه لم ير يومًا لون أبيض او أحمر
يرمز إلى العشق كهذا اللون الأخضر
واللون الأبيض والأحمر من أوصاف الجمال ومعانٍ تتصل به عند كثير من الأمم، وقالت العرب الحسن أحمر وسمت النساء البيض وقالوا لم يعنوا بذلك لون البشرة ولكن طيب الحسن ونقاءه، ومن أين جاء مارفيل بالخضرة فجعلها أولى بأن تكون للجمال رمزًا؟ وقد تعلم أن الخضرة من نعوت جنة الخلد وثياب المنعمين فيها -قال تعالى:{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} وقال تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} -فههنا البياض والحمرة والخضرة جميعًا من أوصاف نعمة الجنة- بياض
الفضة وحمرة الذهب وخضرة السندس. هل أخذ مارفيل معنى ارتباط الخضرة بالحسن من ههنا- من القرآن ومن مذهب العربية؟
ثم تعميم العرب معنى الخضرة على الحسن، ولا عجب فهم أهل صحراء، الخضرة عندهم لون الخصب والرخاء والغيث والربيع، قالوا: خضراء الدمن، يعنون الحسناء في منبت السوء. وقالوا إياكم وخضراء الدمن وهو في الأثر وأحسب قول أبي الطيب:
في إثر كل قبيحٍ وجهه حسن
مرده إليه.
وقال أبو الطيب في مغاني الشعب:
كأن دم الجماجم في العناصي
…
كسا البلدان ريش الحيقطان
وهذا من افتنان أبي الطيب، لم يشأ أن يغادر محاسن الشعب حتى بعد أن سار عنها إلى الطعان، فجعل دم الجماجم في شعورهن في مكان القتال وقد كان في أرض خضراء كهذا الطائر قد تناثر ريشه المحمر على خضرة النبات. لا أستبعد أن يكون مارفيل قد تقزز من الحمرة هنا فأنكر أن تكون علمًا للحسن كما الخضرة التي شوهتها علم لها. وغير خاف أن المتنبي قد تقزز من المنظر الذي فر منه إلى جمال الشعب الذي اختزنه خياله إلى النوبنذجان.
وقد مرت الإشارة إلى القسم الرابع من منظومة مارفيل أن أصل الفكرة فيه من قول أبي الطيب: «ملاعب جنة» -وقد جعل مارفيل دنيا النبات كلها- من أجل مدحه لحديقته ملاعب لأبولو وبان ودافني وسرنجة وأغصان الغار ونايات الغناء.
هذا والشعراء مما يأخذون الألفاظ ورناتها كما يأخذون المعاني وقد جاء
لفظ الغربة والغرابة ومدلول ذلك في أول كلام أبي الطيب حيث قال: «غريب الوجه واليد واللسان» -فليت شعري هل في قول مارفيل - curious- الذي نعت به فاكهة ضرب من الخوخ أو الدراق يقال لها بالإنجليزية nectarine تأثر بغريب الوجه واليد واللسان؟ هل فقط طلب إقامة الوزن هو الذي جاء بكلمة curious فإن فيها دلالة على الغرابة أن لا على الغربة ولمما يترافقان وفي قاموس أكسفورد أنها تدل على الغريب والمدهش والعجيب، فعن عمدٍ تخيرها الشاعر.
وقد مر الحديث عن القسم الخامس وهو أخذ من أبي الطيب يشعر باطلاع مباشر على أصل النص أو ترجمة له لاتينية، وعل هذا هو الصواب، لصياغة أندرو مارفيل منظومته باللاتينية أول الأمر، فجعل النظم باللاتينية درجة يتدرج بها إلى ما ولده آخر الأمر في لغته، وحتى هذا قد تعهده بالمراجعة. وحتى عنوان القصيدة تجده أحيانًا:
The Garden أي الحديقة
وأحيانًا تجده:
Thoughts in a Garden أي أفكار في حديقة
وإنما هو للمتأمل: «أفكار في شعب بوان ومستقاة مستفادة من «مغاني الشعب طيبًا في المغاني» .
وفي القسم السادس قصة التفلسف بمشابهة أنواع البر لأنواع البحر وتشبيه العقل بالبحر وقد فصلنا في ذلك ونبهنا إلى أصله في أبيات مغاني الشعب حيث ذكر أبو الطيب الورقاء وغناء القيان وتشابه الوصفين اللذين موصوفاهما متباعدان ثم تجاوزه بخيال عقله مناظر الشعب إلى دنياوات أبعد منها.
وفي هذا القسم قولة مارفيل المأثورة:
Annihilating all that's made
To a green thought in a green shade
مفنيًّا كل شيء مصنوع مصور
عند فكرة خضراء في ظل أخضر
وقد ألمعنا إلى شبهه بقول أبي تمام
تريا نهارًا مشمسًا قد شابه
…
زهر الربا فكأنما هو مقمر
وقصيدة أبي تمام أصل ما زال الشعراء ينظرون إليها ويأخذون منها من لدن سمعوها وأبو الطيب منهم لاطلاعه وشدة تأثره بأبي تمام، غير أنه قد أربى عليه بشدة غرفه من بحر تجاربه غرفًا يأخذ من الأعماق بنفس اليسر الذي يأخذ به من الغوارب.
وأصل هذا المعنى مولد من مغاني الشعب ثم صقله النظر إلى أبي تمام مع التأمل الفلسفي «الميتافيزيقي» ذي الطريقة الذكية مع الصنعة الرشيقة السمحة التي امتاز بها أندرو مارفيل في لغة قومه، -وذلك أن حديثه عن حديقته قد جعله حديثًا عن أفكارٍ في حديقة (كما في أحد عنوانيه). والفكر ضوء. فإذا كان فكرًا في حديقة كان ضوءًا أخضر كهذا الضوء الذي وصفه أبو الطيب فقال:
فقمن بما يرد الشمس عني
…
وجئن من الضياء بما كفاني
اللاتي جئن من الضياء بما كفاني من الأغصان الخضر فالضوء المار بهن مشوب بالخضرة كما زعم أبو تمام -وهذا المعنى فصله مارفيل في وصف المزولة حيث جعل ضوء الشمس معتدلًا لأن الزهر والعشب خالطاه.
والدنانير التي ألقاها الشرق في ثياب أبي الطيب وتفر من البنان -هي أيضًا
أضواء شابتهن الخضرة- ومعهن ظلال من الخضرة، وهذا الذي جعلهن دنانير متحركات بحركة الورق والأغصان.
هذه الظلال الفاصلة بين الأضواء الخضر هي أيضًا في لونها ظلال خضر فتشابه الضوء والظل في أن الخضرة تجمع بينهما.
وتشابها في أن الضوء رمز الفكر والخضرة رمز الراحة وسعادة الدعة ونعمتها. ومع هذا التشابه بينهما اختلاف- الضوء من طبع الشمس والنهار، والظل من طبع الليل والراحة.
وقد يتشابه الوصفان جدًّا
…
وموصوفاهما متباعدان
ومما يدلك على أن هذا الذي نزعمه ليس ببعيد متصيد قول مارفيل في نعنته للطائر إنه يموج ريشه في الضوء المتنوع The various light وقد نبهنا أن هذا هو معنى الدنانير التي تفر من البنان في نعت أبي الطيب لحركة الضوء والأغصان عليه وهو متحرك أيضًا.
وقد سبق الحديث عن القسم السابع وهو الذي فيه طائر الروح والضوء المتنوع والنافورة يستمع الشاعر إلى صليل أمواهها وهو عند أصل فاكهة تعلو جذورها الخضرة.
وقد سبق الحديث عن القسم الثامن وهو أصل أفكار مارفيل في حديقته ومنه انتقل إلى نعت حديقته وقد جعله مارفيل خاتمة لأفكاره، ولنعته كما قد جعل أبو الطيب بيتيه:
يقول بشعب بوان حصاني
…
أعن هنا يسار إلى الطعان
أبوكم آدم سن المعاصي
…
وعلمكم مفارقة الجنان
خاتمة لأفكاره وتأملاته ونشوته ونعته لشعب بوان.
أليس ههنا توافق عجيب في أسلوب الأداء؟ مثل هذا هو الذي يجعلنا نجزم جزمًا بالأخذ وليس علينا أن نقدم الأصل أو الترجمة أو الاقتباس الذي اعتمد عليه مارفيل، فذلك على غيرنا وهم قادرون عليه إن شاء الله، ومن حجر في باب النقد الأدبي أن يعتمد الناقد على الملابسات فيبني على النتائج فقد حجر الواسع.
على أن لقائل أن يقول أن هذا القسم الثامن ليس هو بآخر منظومة مارفيل فإن بعده وصف المزولة وبستانيها الحاذق. ومن تأمل وجد أن هذا القسم التاسع كأنه استدراك من مارفيل لشيء حسب أنه فاته، وأن مكانه أن يقع بعد القسم السابع فيكون هو السادس أو بعد السادس فيكون هو السابع. على أن مارفيل لو كان فعل شيئًا من هذا لكان قد انفصم ترابط ما بين القسم الخامس والقسم السادس الذي ينصرف فيه عقله إلى التأمل أو ما بين القسم السابع والثامن الوثيق الرباط بنعت حال الجنة قبل «أن يدرك الشرف الهبط» على حد تعبير أبي العلاء -وليس في القسم التاسع كبير زيادة إلا ذكر حذق البستاني، واعتدال مزاج الشمس هو عين الفكرة الخضراء والظل الأخضر وتفسير له ونعت النحلة الذي إنما هو امتداد لتمشيط الطائر لجناحيه- إنه امتداد من بنية المنظومة إلى معان منها لاحقة ملحقة بها -وقد احتال مارفيل على هذا الاستدراك بزعمه أن المزولة جديدة، فصرفه ذلك إلى ذكر البستاني الحاذق الذي قد فرض نفسه عليه مع أنه في وحدته اللذيذة.
هل تأثر مارفيل بامتداد نفس أبي الطيب بعد وصفه للشعب إلى مدحه عضد الدولة، واستدراكه في هذا الوصف جوانب مما لم يفصله في الأبيات التي نهايتها حديث الحصان، مثل أبيات الحيقطان -ومثل رده على الحصان حيث قال:
فقلت إذا رأيت أبا شجاع
…
سلوت عن العباد وذا المكان
له علمت نفسي القول فيهم
…
كتعليم الطراد بلا سنان
فانصرف عن الشعب إلى عضد الدولة كما انصرف بعد مارفيل من وحدته اللذيذة إلى صحبة البستاني الفظة، وقد وصف نفسه بالحذق في بيته «له علمت نفسي القول فيهم» أم هل يا ترى عني مارفيل في أعماق نفسه بالبستاني أبا الطيب الذي منه أخذ بانصراف عقله المتأمل إليه إذ هو ينظر ويعثر ومن نبيذ العنب يعصر -وهذه صحبة من معدن وحدته ليست فيها فظاظة، وهو أيضًا بستانيٌ حاذق بهذه الصناعة البيانية الرشيقة يحاكي بها من حيث لا يعلم ذلك أخد بستانيي بيان العرب المبدع، فيكون أيضًا هو مبدعًا.
وحسبنا هذا القدر فقد طال فيه الحديث وإنما فصلناه ليتتبعه من عسى أن يرتاب في القول إن أجملناه، وقد صنعنا ذلك في كلمتنا عن الطبيعة عند المتنبي. وقد أشرنا فيها إلى أخذ مارفيل من:
ما لنا كلنا جو يا رسول
…
أنا أهوي وقلبك المتبول
في منظومته التي عنوانها To His Coy Mistress «أي إلى سيدته الخجول والمعنا إلى أخذه من مدح المتنبي لسيف الدولة ومدح أبي تمام للمعتصم في المنظومة التي مدح بها أوليفر كرومويل، فليرجع إليه في موضعه إن شاء الله (1).
ومن أوصاف أبي الطيب الرائعة أسديته وقد ذكرناها في معرض الحديث عن الطويل ووازنا بينها وبين بائية البحتري. وهذه أفضل عندنا في المدح لكن لامية أبي الطيب أجود بلا شك في الوصف، وقد قارب أن يهجو فيها ممدوحه إذ لا ريب أنه فضل الأسد عليه وكأن قوله:
قصرت مخافته الخطا فكأنما
…
ركب الكمي جواده مشكولا
(1)() نشر مقا لعن السيدة الخجول في عدد التكريم للأستاذ الأديب العلامة محمود محمد شاكر بمناسبة بلوغه السبعين بعنوان إلى ليلاه الخجول- (القاهرة 1403 هـ ص 373 - 386).
فيه تعريض ببعض ما كان هناك من فزع وارتياع. وهل هذا الكمي هو بدر ابن عمار الممدوح؟
هذه اللامية أخذها وليم بليك أخذًا، وعند الناس أن وليم بليك في منظومته:
Tyger، Tyger، burning bright
In the forests of the night
إنما وصف النمر ذا الخطوط الذي يقال له «تيقر» ولم تكن تعرفه العرب وعرفه البريطانيون إذ حكموا الهندـ، قال وليم بليك:
Tyger، Tyger، burning bright
In the forests of the night،
What mortal hand or eye
Could frame thy fearful symmetry?
In what distance deeps or skies
Burnt the fire of thine eyes?
On what wings dare he aspire?
What the hand dare sieze the fire?
And what shoulder and what art
Could twist the sinews of thy heart?
And when thy heart began to beat
What dread hand? And what dread feet?
What hammer? What the chain
In what furnace was thy brain?
What the anvil? what dread gasp?
Dare its deadly terrors clasp?
When the stars threw down their spears،
And water'd heaven with their tears،
Did he smile his work to see?
Did he who made the lamb make thee?
Tyger! Tyger! burning bright
In the forests of the night،
What immortal hand or eye،
Dare frame thy fearful symmetry?
ترجمة هذه المنظومة، على وجه التقريب:
يا نمرًا يا نمرًا باهرًا باللظى
في غابات الدجى
أي يد لا بشرية وبصر
هيأ توازنك الذي ذعر
في أي أغوار بعيدة أو أفلاك
تلظت بالنيران عيناك
وعلى أي الأجنحة جسر فطمح
وأي يد قبضت لهبك إذ لفح
وأي منكبٍ وأية مهارة
استطاعت لي عضلات قلبك الجبارة
وعندما أخذ قلبك في الوجيب
يا للساعد المخيف ويا للقدم الرهيب
أي سندانٍ وأية سلسلة
وفي أي كان دماغك من التنانير المشعلة
أية مطرقة وأية قبضة هائلة
قدرت فأمسكت مخاوفك القاتلة
وحين النجوم ألقت بالرماح
وأسقت السماء بدمع سحاح
هل تبسم هو إذ رأى ما صنع
هل سواك من سوى الحمل فرتع (1)
يا نمرًا يا نمرًا باهرًا باللظى
في غابات الدجى
أي يد لا بشرية وبصر
جسر فهيا توازنك الذي ذعر
هذه ترجمة تقريبية وفي الأصل لفظ التنور Furance مفرد ولكن فيه معنى العموم والحمل مجرد حملٍ ولكنه بحرف اللام الكبير Lamb ورأينا ألا نترجمه بالحمل الوديع وتكون مساجعة لكلمة صنيع قبلها - «ما صنع من صنيع» مثلًا فهذا وجه من وجوه الشرح والذي صنعنا في حيز عبارة وليم بليك وللحمل عند أهل الكتاب الثاني لون دلالة قدسية إذ يكنى به عن المسيح.
وليم بليك من شعراء القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلادي (1757 -
(1)() انظر كتاب The Penguin Book of English Romantic Verse للنص ومواضع من كتب شتى منها ديوان الشاعر واختيارات أكسفورد طبع 1981 ص 74.
1827 م) وكان من رواد الحركة الرومنتيكية وفي نظمه أغراب وأخذ من مذاهب التصوف ولشراحه افتنان في تأويل كلامه وحمل تشبيهاته واستعاراته محامل شتى من الرمزية. وكان ربما أغرب وعمى. وكان غير مرموق المكان أول أمره حتى ضربت الرومانتكية بجران فانتبهوا لمكانه. غير أن منظومته عن «التيقر» (النمر) وجدت سيرورة في زمان مبكر.
زعم الأستاذ هاردنق (D.W. Harding) في كلمته بعنوان اسم هذا الشاعر وليم بليك William Blake بمعرض الوجوه الكثيرة التي قد يوجه إليها كلام وليم بليك، أن القسم الخامس قد يتسع تأويل كلماته الواسعة مدى الأصداء في كل عقل حسب فهمه لها ولكن المعنى الجوهري الأساسي واضح لا غموض ولا لبس فيه. قال ما فحواه أن بليك يسأل كأن سؤاله يمازجه إنكار مرتاع، هل الخالق تبسم راضيًّا عما صنع في الحين الذي كانت فيه قوة هذا الذي صنعه بالغة الشراسة حتى أن النجوم قد ألقت بسلاحها العالي وانهارت تنهمر بمدامع البكاء وقال الأستاذ هاردنق أن لفظ الرماح اقترحته على الشاعر لمعة النجوم الحديدية (1).
قلت لله در أبي الطيب إذ يقول:
ولكن تأخذ الألباب منه
…
على قدر القرائح والفهوم
وقد كان لوليم بليك إلمام بأساطير الأمم والهيات الشرق وأشياء من التصوف وغير ذلك. وجلي واضح - (مع تسليمنا بأن كل ذي فهم فله فهمه، وفهم أهل لغة ذلك الرجل أولى بالتقديم، إلا أنه لسعة ما طلع عليه من الأقاويل ربما خفي عن
(1)() من كتاب The Pelican Guide to English Literature طبعة 1979 م. في القسم الثالث D.W. Harding Part III ص 69.
أهل لغته بعض أمرها فعلمه من ألم بشيء منها) - جلي واضح أن النجوم منها رامح وأعزل، قال المعري:
سكن السماكان السماء كلاهما
…
هذا له رمحٌ وهذا أعزل
ثم الشهب ذوات قذفٍ كما يقذف بالرماح وبالسهام- هذا كله في العربية معروف. ففكرة إلقاء النجوم رماحها من ههنا لا من أن لها لمعات فولاذية فهذا بعيد إذ لمعاتها ضوء ثاقب ولا كذلك الحديد. هذا شيء توهمه الكاتب إذ لم يجد وجهًا غيره. وبعد هذا الذي ذكرناه يتسع لمن شاء مجال التأويل. وأما انهمال الدمع، فارتباط النجوم والأنواء بالمطر المعروف. أيضًا من ههنا أصل كلام وليم بليك. الفكرة أي شيء من الرمز كان مراده مصدر أصلها عربي، فتأمل.
وقال فيما قاله إن وصف وليم بليك للأسد بأنه يتلظى باهرًا burning bright يثير مسائل مهمة إذ يجعلنا أولًا نفكر في «عينين اثنتين متلهبتين في الظلماء» والعبارة بعد، كما قال، تجعل من النمر كله رمزًا لصفة متلهبة- الغضب، حرارة العاطفة، الحمية مثلًا. ولكن الكلمة bright (باهرًا) تخفف من حدة هذا -تدخل فيه معنًى من الضوء والإشعاع مع معنى المارج الأبيض الوهاج.
مهما يكن من شيء، لا ريب أن قوله «يا نمرًا يا نمرًا باهرًا باللظى» أو يلتهب باهرًا مع ما أوله الأستاذ هاردنق من تأويلاته وما عسى أن يضاف إلى ذلك هو عين مقال أبي الطيب:
ما قوبلت عيناه إلا ظنتا
…
تحت الدجى نار الفريق حلولا
«نار الفريق فيها معنى bright» تحت الدجى فيها معنى قوله «في غابات الدجى In the forests of the night- على أن تأويل ذلك أن الدجى غابات من ظلمة كما على تأويل ذلك أن بريق عينيه يبدو مع ظلمة الليل من ظلمة الأجمة التي
هو فيها، وفي نار الفريق معنى البريق والحرارة والضوء الباهر والإشعاع. وقول أبي الطيب قبل هذا البيت مباشرة ولنأت بالبيتين معًا:
متخضب بدم لفوارس لابس
…
من غيله في لبدتيه غيلا
ما قوبلت عيناه إلا ظنتا
…
تحت الدجى نار الفريق حلولا
الأسد الذي نعته المتنبي في غابات الدجى -غاية من غيله أي الأجمة التي هو فيها وغابة من لبدتيه وهذا الدجى بظلمته الشاملة والعينان- ثم الهول الرهيب في قوله: متخضب بدم الفوارس وكأن دمهم يشع من عينيه موقد أثبت الهول من قبل بذكر الزئير.
ورد إذا ورد البحيرة شاربا
…
ورد الفرات زئيره والنيلا
وفي ورد معنى الحمرة -وزمجرة هذا الأسد كونية تخترق الآفاق. وحديث بليك عن التوازن الرهيب «Thy fearful symmetry» هو عين قول أبي الطيب.
مال زال يجمع نفسه زوره
…
حتى حسبت العرض منه الطولا
أن يصير العرض طولًا تربيع ينشأ منه توازن مخيف أو قل تدوير ينشأ منه توازن مخيف إن أولت ذلك على أن طوله صار لا يميز من عرضه لا أنها قد تساويا -الشيء الذي في كلام بليك وليس في كلام أبي الطيب هو قول بليك:
«أي يد لا بشرية وأي بصر إلخ» -فإن يكن بليك من عني إلا أن يد الأسد لا بشرية المعدن وكأنها إلهية، وأن عينه كذلك، فهو لم يخرج عن نطاق نعت المتنبي. وقد خلع المتنبي على الأسد سطوة ماردٍ من الجن أو رب من أرباب الأساطير الوثنية.
وعلى تقدير أن بليك لم يرد باليد والعين إلا يد الإله الأسطوري -كما في سياقه أي قد جسده- الذي صنع النمر فهذا غير مخرجه عن نطاق نعت المتنبي
أيضًا ونورد أبيات المتنبي في نعت الأسد حتى تسهل على القارئ الكريم الموازنة:
أمعفر الليث الهزبر بسوطه
…
لمن ادخرت الصارم المقولا
وقعت على الأردن منه بلية
…
نضدت لها هام الرفاق تلولا
ورد إذا ورد البحيرة شاربا
…
ورد الفرات زئيره والنيلا
متخضبٌ بدم الفوارس لابس
…
من غيله في لبدتيه غيلا
ما قوبلت عيناه إلا ظنتا
…
تحت الدجى نار الفريق حلولا
في وحدة الرهبان إلإ أنه
…
لا يعرف التحريم والتحليلا
يطأ الثرى مترفقا من تيهه
…
فكأنه آس يجس عليلا
وتظنه مما يزمجر نفسه
…
عنها لشدة غيظه مشعولا
قصرت مخافته الخطا فكأنما
…
ركب الكمي جواده مشكولا
ألقى فريسته وبربر دونها
…
وقربت قربا خاله تطفيلا
فتشابه الخلقان في أقدامه
…
وتخالفا في بذلك المأكولا
أسدٌ يرى عضويه فيك كليهما
…
متنًا أزل وساعدًا مفتولا
في سرج ظامئة الفصوص طمرة
…
يأبى تفردها لها التمثيلا
نيالة الطلبات لولا أنها
…
تعطى مكان لجامها مانيلا
تندى سوالفها إذا استحضرتها
…
ويظن عقد عنانها محلولا
ما زال يجمع نفسه في زوره
…
حتى حسبت العرض منه الطولا
ويدق بالصدر الحجار كأنه
…
يبغى إلى ما في الحضيض سبيلا
وكأنه غرته عينٌ فادني
…
لا يبصر العدد الكثير قليلا
والعار مضاض وليس بخائف
…
من حتفه من خاف مما قيلا
سبق التقاءكه بوثية هاجم
…
لو لم تصادمه لجازك ميلا
خذلته قوته وقد كافحته
…
فاستنصر التسليم والتجديلا
قبضت منيته يديه وعنقه
…
فكأنما صادفته مغلولا
سمع ابن عمته به وبحاله
…
فنجا يهرول منك أمس مهولا
وأمر مما فر منه فراره
…
وكقتله ألا يموت قتيلا
تلف الذي اتخذ الجراءة خلةً
…
وعظ الذي اتخذ الفرار خليلًا
نقول إن ذلك عير مخرجه عن سياق أبي الطيب؛ لأن أبا الطيب يذكر ممدوحًا زعم أن له متنا كمتن الأسد وساعدا كساعد الأسد -فنقل بليك هذه الصفة من قرن الأسد البشري إلى التساؤل عن صانع لتيقره (لنمره) لا بشري.
في القسم الثاني يذكر بليك عيني تيقره (نمره) تصريحًا بعد أن أجمل الصورة في قوله «burning bright» «يتلظى باهرًا إلخ» . ويهول في نعت حمرة بريقهما وإشعاعهما بإعطاء ذلك بعدًا شاهقًا يصل إلى مراقي الأفلاك وعمقًا إلى أقصى أغوار البحار ثم يرجع إلى فكرة الصانع المفترض من جانبه هو فجعل له أجنحة يطير بها ويدًا عاتية يمدها ليستطيع نيل النار التي تتأجج في عيني التيقر.
ما خرج القسم الثاني في جملته وتفصيله عن تكرير فكرة هول العين المتقدة والساعد الأزل. وجاء بالجناح زيادة على نعت أبي الطيب لأسده ولقرنه الممدوح المنازل له، وقد جعل بليك في مكانه الصانع اللاهوتي.
فكرة الأجنحة مأخوذة من فكرة فرس ممدوح المتنبي؛ لأن القرن الذي نازل الأسد هو هذا الأسد البشري على فرس وثابة نيالة الطلبات، وكأنها -بحسب وصف المتنبي لها- تطير. كلمة طمرة فيها معنى العلو الوثاب. وقوله «يأبى تفردها لها التمثيلا» يضفي عليها صورة الأساطير- ومن الأساطير ما يجعل بعض الخيل مجنحة.
صورة ساعد الأسد وعينه مما كرره أبو الطيب في وصفه وصب عليه تركيز تهويله ولم يخرج بليك عنه ههنا حتى على فرض أن ذكر الجناح الذي ذكره إضافة
وزيادة ليست عند المتنبي، ولا نرى ذلك كما تقدم بل نراها صدى لطمرة ونيالة الطلبات- كأن هذا متضمن معناه في قول بليك:
In what distant deeps
…
فقوله distant منبئٌ عن البعد المطلوب واستفهامه بإنكار أن يطمح ذو جناح في الوصول إلى هذا البعد، فيه الصدى الذي ذكرناه.
والقسم الثالث من كلام بليك تساءل فيه عن الكتف والمنكب الجبار مع المهارة التي تقدر أن تلوي طرائق عضلات قلب «التيقر» -أي حين تهيئتها وصناعتها. والمهارة فيها دلالة على اليد والساعد. وههنا فكرة «متنا أزل وساعدًا مفتولًا» بقيت فكرة المهارة (Art) التي كأنها زيادة على ما عند المتنبي. وتأملة يسيرة ترينا أنها من قول أبي الطيب: «يطأ الثرى مترفقًا إلخ» والأسد يطأ بيديه ورجليه وبخلقه القوي الباطش ومتنه الأزل. وأن يصنع ذلك برفق كرفق الآسي وهو الطبيب، إذ يجس العليل، هذه مهارة.
وعندما فرغ الصانع من صنعه وجعل قلب «التيقر» يدق دقاته، يا للساعد الرهيب ويا للقدم الرهيب- ذكر الساعد والقدم ههنا منبئ عن مشية التيقر المتبخترة المخيفة مع بريق عينيه. هي نفس نعت المتنبي لأسده. لا اختلاف إلا أن هذا الذي ينعته بليك «تيقر» (Tyger- كما تهجاها بليك والتهجئة الحديثة tiger) والتيقر في ضخامة الأسد وشراسة النمر.
ولم يشر أبو الطيب في نعته إلى قلبٍ يجب، ولكنه ذكر البربرة والزمجرة ودق الحجار بالصدر والصدر فيه القلب الشجاع المقدام المرهوب المنبعثة منه نار العينين.
وفي القسم الرابع ذكر بليك السندان (بفتح السين هذه الكلمة لا كسرها) والسلسلة. ولا يخفى أنه قد لابس فكرة نار العينين عند بليك فكرة سرقة بروثيومس للنار وأنه قيده رب الألمب عقابًا له.
مع هذا فكرة السندان والمطرقة منبعثة انبعاثًا طبيعيًّا من فكرة صانع يلوي عضلات قلب التيقر وهو يصنعها وهي فولاذية وعيناه نارٌ. فهذا الصانع لما جاء بالنار من أغوارها وأفلاكها البعيدة أضرمها ليلوي عليها هذه العضلات. فكرة لي العضلات التي في القسم الثالث: «could twist
…
» من قول أبي الطيب: «وساعدًا مفتولًا» -السؤال، من فتله سهل يسير كما ترى. وكلمة (sinews) التي استعملها بليك معناها العصب الذي يربط العضل بالعظم وما أشبهه وليس في القلب عظم ولكن خيوط عضلاته ذات متانة لا يقوى على فتلها إلا ساعد مع المهارة جبار القوى.
ولا أباعد إن قلت أن فكرة السلسلة ربما تكون خلصت إلى تصور بليك وتوليده من صورة إشراف الفرس بعنقها النبيل ورأسها المتفرد عن كل تمثيل ولجامها الذي سامحت به، ولو امتنعت فلم تعط مكانه، إذن لكانت بوثبة منها وطمرة أبعد من أن تنال.
وعاد بليك بعد السلسلة والسندان إلى المطرقة وهي من الدق وأسد المتنبي يدق الحجار بصدره دقًّا يوشك به أن يخترق الأرض. وإلى الساعد واليد مرة أخرى في grasp وفي clasp أي القبضة والأخذ والإمساك- كما في الترجمة وهي تقريب:
أية مطرقة وأية قبضة هائلة
قدرت فأمسكت بمخاوفك القاتلة
ثم في القسم الخامس ما سبقت الإشارة إليه من أمر النجوم وانهمال الدموع وتساؤل بليك هل ابتسم الصانع اللاهوتي إذ رأى ما صنع؟
عندي أن فكرة ابتسام هذا الصانع الذي افترضه بليك ما هي إلا توليد من قول أبي الطيب:
أمعفر الليث الهزبر بسوطه
…
لمن ادخرت الصارم المصقولا
ذلك بأن بليك جعل فارس أبي الطيب وفرسه اللذين نازلا الأسد في مكانهما هذا الصانع الجبار الذي توهمه هو. فلابد له أن يبتسم ابتسامة انتصار عندما ينجز عملًا مفرط القوة مفرط الشراسة لاهوتيًّا مثله هو وكأنه فوق استطاعة أيما صانع مهما يؤت من مهارة ولاهوتية أن يصنعه.
وفي قولة أبي الطيب «أمعفر الليث الهزبر» نوع ابتسامة.
على أنه فيها أيضًا نوع سخرية.
ذلك بأن الأسد يصاد بأن يصطف عدد من الرجال الأشداء بأيديهم الرماح. وهذا من أمر صيد الأسد موصوف وصفًا جيدًا دقيقًا في شعر أبي زبيد الطائي، وإلى وقت قريب كان الأسد يصيده فتيان البقارة عندنا بنحو قريب الهيئة من هذا. يقف ستة عشر شابًا معًا وبأيديهم الحراب. ومعهم رجل مسن بصير مجرب يثبتهم ويأمرهم بالاستعداد وبرفع الحراب حين يحين أوان ذلك. قالوا وإذا هجم الأسد فإنه يعمد إلى أضعفهم فيجندله وينحو به إلى جانب فيأكل من بطنه على مقربة من أصحابه -يحدث هذا عندما يخالطهم فزع من الأسد وضعف. وفي الأسد بالناس في هذه الحالة ازدراء أيما ازدراء، وتهاون أيما تهاون، وهذا الذي وصفه أبو زبيد وزعم أن صاحبهم الذي أكله الأسد كان فداء للآخرين «وكان بموته فديت نفوس» . وإن كانوا رابطي الجأش، وهذا على شأنهم أغلب، فإنهم يتلقونه بحرابهم، فتقتله قوة وثبته إذ يظل على الحراب حتى يغلبه نزف الدم، فتخور قواه. وهذا ما وصفه أبو الطيب. وكأن أسد أبي الطيب تقصد بدرًا ولكن تلقته الحراب
دون بلوغه إياه فكان ذلك آخر أمره. يدل على هذا قوله:
سبق التقاءكه بوثبة هاجم
…
لو لم تصادمه لجازك ميلا
خذلته قوته وقد كافحته
…
فاستنصر التسليم التجديلا
فلا يمكن أن تخذل الأسد قوته من ضربة السوط وإن سقط منها كما يسقط من رمحة الزرافة له بحافرها ثم يثب عليها فلا يكون دون أكلها شيء. فينبغي للمتأمل أن يكون بدر وفرسه سمرهما خوف الأسد في مكانهما وبادر بدر إلى سوطه من فرط حماسة وحمية واستعداد أو فرط فزع ألم به من قرب الأسد، أنقذته منه حراب أصحابه الكثيرين كما يقول أبي الطيب:
أنف الكريم من الدنية تارك
…
في عينه العدد الكثير قليلًا
هذا- وقد جاء بليك بالحمل إذ قال: هل الذي صنع الحمل هو الذي صنعك يأيها التيقر الشرس المخيف؟
فيكون مجيء الحمل كأول ما يتبادر إلى الذهن من معاني المسيحية. ويصير الصانع الذي ذكره على هذا الوجه هو الله، ويكون في تجسيده له، ونعته لمهارته وما أشبه ضرب من زندقة، كأنه يستغفر بذكره للحمل من ذنبه؟ لأن الحمل، على كونه ضحية هو أيضًا إله، هو ابن الله عندهم؟
على أن ضربًا من الموازنة بين شيء جريء وآخر غير جريء نجده أيضًا عند أبي الطيب في موازنته بين الأسد الذي قاتل حتى قتل والآخر الذي مضى يهرول. وقد زعم أهل الصيد أن الأسود إذا قتل منها أسد في موضع فإنها تتركه.
تلف الذي تخذ الجراءة خلة
…
وعظ الذي اتخذ الفرار خليلا
أسد أبي الطيب الذي فر يهرول ليس عنده من بسالة الآخر شيء عند أبي
الطيب. ولذلك نسبه إلى أمه، هي اللبوة أخت الأسد الموصوفة مثله بالبسالة.
وهذا قول أبي الطيب:
سمع ابن عمته به وبحاله
…
فنجا يهرول أمس منك مهولا
وقد قتلت الأسد حقًّا جراءته لا قوة أعدائه. وقد خذلته قوته. وقول أبي الطيب «فكأنما صادفته مغلولا» كأن فيه نبأة بأن ضرب بدر بن عمار للأسد بسوطه إنما كان بعد أن تلقته الحراب ساعة التقاءتها له. فغلته في مكانه حتى أهمده النزيف.
وكأن بليك قد تزندق بإشعارنا بنوع ميلٍ من جانبه هو إلى جانب التيقر في قوله:
هل سواك من سوى الحمل فرتع؟
وهل حسب بليك في زندقته أن ابن مريم عليه السلام (إن يك في تكبيره لام الكلمة الدالة على الحمل Lamb رمزٌ ما إليه) ابن عمة لتيقره الإلهي؟
وفي القسم الأخير أعاد بليك الترنم بالعينين وبغابات الظلام وبالنار وبعد أن كان في القسم الأول يتساءل بإنكار هل يستطيع بصر او ساعد فوق مقدرة البشر أن يهيئ توازن هذا التيقر المخيف، أقر بأن ساعدًا وبصرًا فوق مقدرة البشر قد جسر ففعل ذلك -إذ سؤاله أيها جسر ففعل، كأنما هو تقرير لا إنكار.
أما أنا فأحس في جميع هذا صدى من كلام أبي الطيب. المعاني الرئيسية عند أبي الطيب هي ههنا عند بليك، الجراءة، الجبن، العينان، النار، الساعد الرهيب، المشية المترفقة، التوازن الرهيب، الزمجرة، الوجيب، نيل الطلبات البعيدة، الخوف، الرحمة، التفضيل الخفي للأسد على الممدوح (هنا عند بليك التفضيل الخفي للتيقر على الحمل). يبقى بعد السؤال عن الوسيلة التي اطلع بها