الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مما ألحق بهذه البائية وليس منها وليست في رواية المفضل ولا ذكرها الأنباري الكبير في شرحه وأوردها محقق الشرح في الهامش.
ومن البدء بالطير كلمة الأعشى:
ما تعيف اليوم في الطير الروح
…
من غراب البين أو تيس نطح
وإلى نحو هذا أشار الكميت في البائية. وقال عنترة فجمع بين الغراب والرحيل:
رحل الذين فراقهم أتوقع
…
وجرى ببينهم الغراب الأبقع
وذكر النابغة الغراب مع فكرة الفراق والرحيل في أوائل أبيات الدالية وهو بيت الإقواء المشهور.
وقال عبد الله بن الزبعري:
يا غراب البين أسمعت فقل
…
إنما تنطق شيئًا قد فعل
وعمق المعنى الذي أراده ابن الزبعري ههنا لا يخفى، وكان من شياطين قريس وأسلم بعد الفتح وقال في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا رسول المليك إن لساني
…
راتق ما فتقت إذ أنا بور
والأبيات التي تنازعها امرؤ القيس والتوأم يقول هذا شطرًا وهذا شطرًا بدأها بالبرق وهي مما تدل على قدم التشطير في العربية فلا يسارعن أحد بلوم المتأخرين فيه. ولعل التخميس أيضًا قديم لأنه من معادنه، والله تعالى أعلم.
المطالع والمقاطع:
نريد بهذين اللفظين ههنا اول القصيدة وآخرها. وللمطلع معان كثيرة وكذلك المقطع، وبهذا التفسير الذي فسرناه لهما ارتباط قوي بطريقة التأليف، لأن المطلع
أول ما يقرع الأسماع من الابتداء، والمقطع آخر ما يختم به عند الانتهاء. قال الجاحظ إن شبيب بن شبة كان يقول الناس موكلون بتفضيل جودة الابتداء وبمدح صاحبه وأنا موكل بتفضيل جودة المقطع وبمدح صاحبه وحظ جودة القافية وإن كانت كلمة واحدة أرفع من حظ سائر البيت وفي رواية ابن رشيق أرفع من حظ سائر البيت أو القصيدة. قال ابن رشيق وحكاية الجاحظ هذه تدل على أن المقطع آخر البيت أو القصيدة.
وبراعة الاستهلال بالمطالع الحسنة يدخل فيها كلا صنفي التأليف، ما افتتح افتتاحًا طلليًا نسيبيًا وما لم يصنع به ذلك. وأمر ما لا يبدأ ابتداء طلليًّا أو ليليًّا أو غزليًّا أو ما شاكل ذلك مما عدده الكميت واضح الخلوص من الشاعر إلى غرضه خلوصًا مباشرًا، نحو قول كعب بن مالك:
قضينا من تهامة كل حقٍ
…
وخيبر ثم أجممنا السيوفا
وأمر الابتداء النسيبي كان واضحًا للأولين، إذ كانوا يعلمون مدلولات ابتداءات الشعراء التي من هذا الضرب. وإنما جسر المرار على أن يقول:
لا حبذا أنت يا صنعاء من بلدٍ
…
ولا شعوب هوىً منى ولا نقم
ولا أحب بلادًا قد رأيت بها
…
عنسًا ولا بلدًا حلت به قدم
إذا سقى الله أرضًا صوب غادية
…
فلا سقاهن إلا النار تضطرم
لما فيه من روح السخرية بالسقيا وبالوقوف والحنين وقلب المعنى الذي يبتدئ بمثله الشعراء.
وبين مثل هذه الجسارة التي يكون بها قلب المعنى، وبين الأصل الذي عليه بناء خالص النسيب من حنين وبكاء ووقوف واستيقاف، درجات من أساليب القول يفطن من خلالها السامعون إلى أرب الشاعر وحقيقة مراده. ولقد استعجم كثير من
نقادنا فارتضخوا روح روم النصارى الذي تحدث عنهم أبو الطيب فقال:
فكلما حلمت عذراء عندهم
…
فإنما حلمت بالسبي والجمل
فخيل إليهم أن بداوة العرب ما كانت إلا سذاجة محصورة في الجمل والخيمة، وأن العربي المسكين من أجل ذلك ما كان يقدر على غير الابتداء بالطلل والمقدمة الطللية ثم يتناول بعد ذلك ما يقدر عليه من البسائط في محيط بيئته الوجدانية والعقلية والحضارية وهو محيط ساذج محدود
…
هو الجمل، ألم يقل شاعرهم:
وأحبها وتحبني
…
ويحب ناقتها بعيري
ويمكن تفسير هذا بأن مراد الشاعر الناقة التي هي هي والبعير الذي هو أنا.
والإنصاف يقتضينا أن نسلم بأن بيننا وبين زمان شعر العرب القديم القرون الطوال. وقد كان للشعر عندهم طريقة ومذهب، وكانت هذه البدايات النسيبية والطللية وما إليها عند الشعراء ما لم يستعملوا المكافحة مذهبًا يعلمه سامعوهم. وكان علم الشعراء بذلك من سامعيهم يعطيهم الثقة من أنفسهم أنهم متى حوروا في طريقة المذهب المألوف تحويرًا يرمزون به إلى ما يرومونه من غرض، فهم ذلك عنهم السامع في يسر وبلا غموض. وكانت ألوان أساليب التحوير أنفسها مما قد عهد السامعون له مشابة تمكنهم من سرعة الحدس لما يطلبه الشاعر من الإبلاغ والبيان. وقد ألمعنا إلى هذا المعنى في الباب الرابع من المرشد الثالث حيث قلنا: «ومن عجب ما يصح ذكره في هذا الباب وفي أبواب غيره مما يلي ومما تقدم أنك تقرأ المطلع من قصيدة فتجده كمطلع آخر، ثم إذا مضيت فيها وعدت إلى المطلعين مرة أخرى وجدتهما حق مختلفين خذ على سبيل المثال:
يا دار مية بالعلياء فالسند
…
أقوت ودام عليها سالف الأمد
فهذه كمطالع كثيرة أخريات:
يا دار مية بين الحزن فالجرد
يا دار عمرة من محتلها الجرعا
يا دار عبلة بالجواء تكلمي
يا دار سلمي بعيدًا ما أكلفها
وهلم جرا. ولكنك بعد ان تقرأ القصيدة كلها لا تملك أن تحس فيه وفي ما يليه من الصفات استشعارًا لمعاني العتاب فيما بين النابغة والنعمان بن المنذر فلأمر ما مثلًا اختار النابغة اسم العلياء والسند في مستهل المطلع ثم زعم أن ذلك قد أقوى ومر عليه زمن بعيد إلخ». وقال ابن رشيق في باب عمل الشعر وشحذ القريحة له، إن الشاعر إذا فتح له نسيب القصيدة فقد ولج من الباب ووضع رجله في الركاب وما جعل أول النسيب بابًا وركابًا إلا لدلالته على الغرض. ونقل ابن رشيق في العمدة عن الحاتمي أنه قال:«من حكم النسيب الذي يفتتح به الشاعر كلامه أن يكون ممزوجًا بما بعده من مدح أو ذم متصلًا به، غير منفصل منه، فإن القصيدة مثلها مثل خلق الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد عن الآخر وباينه في صحة التركيب غادر بالجسم عاهة تتخون محاسنه، وتعفى معالم جماله، ووجدت حذاق الشعراء وأرباب الصناعة من المحدثين يحترسون من مثل هذه الحال احتراسًا يحميهم من شوائب النقصان ويقف بهم على محجة الإحسان» .
وقد نقض الحاتمي بآخر كلامه أوله، لأن اتصال النسيب والطلل وما إلى ذلك بغرض الشاعر في كلام الأوائل أظهر منه في كلام حذاق المحدثين. وكأن الحاتمي نظر في هذا الذي قال به إلى كلام أرسطو طاليس عن وحدة الفعل في المأساة والملحمة وهو الذي يقول له الناس الآن الوحدة العضوية إذ أخذ على بعض غير الحذاق من شعراء قومه أنهم يديرون الوحدة في نظمهم على بطل الحكاية، يجعلون كونه واحدًا كافلًا
لوحدة لمنظومة والشعر وهذا خطأ منهم لأن الوحدة يدور أمرها على ارتباط أول الفعل بوسطه وآخره فيكون «واحدًا تامًا كالكائن الحي» ومتى كان كذلك «أنتج اللذة الخاصة به» (راجع فن الشعر ترجمة عبد الرحمن بدوي، القاهرة)(1953، ص 24 و 25 و 64 و 65 و 102 و 181 إلى 183 وهلم جرا).
فأحسب أن الحاتمي قد أخذ كلامًا مما نقل عن أرسطو وأقحمه إقحامًا على نقده هو للشعر بشاهد تشبيه القصيدة بالإنسان الذي شبهه ونسب منه إلى حذاق المحدثين. ولقد كان البحتري أبو عبادة من هؤلاء الحذاق، وما كان أكثر ما عنده من الاقتضاب الذي ظاهره يخالف هذا الذي زعمه الحاتمي، كقوله مثلًا:
إني وإن جانبت بعض بطالتي
…
وتوهم الواشون أني مقصر
ليروقني سحر العيون المجتلى
…
ويشوقني ورد الخدود الأحمر
الله مكن للخليفة جعفر
…
ملكًا يحسنه الخليفة جعفر
فكان ينبغي على الحاتمي أن يوضح لنا الصلة «العضوية» «الإنسانية» في هذا من كلام البحتري وما أشبهه منه ومن حذاق شعراء المحدثين. وسنبين ما نراه في هذا الباب في فصل يلي من بعد إن شاء الله. ولقد كان الحاتمي منحرفًا عن أبي الطيب حاول أن يجعل كثيرًا من حكمه وأمثاله سرقات من أرسطوطاليس. ولقائل أن يقول إنه كان من ضعاف النقاد كما قال ابن هشام النحوي، وكان معجبًا بأبي الطيب يستشهد بشعره كما لو كان من أهل الصدر الأول، عن ابن خالويه، وانحرافه عن أبي الطيب معروف وعداوته له، إنه كان من ضعاف النحاة، أحسبه قال ذلك في معرض الحديث عن واو الثمانية في مغنى اللبيب.
هذا، ونحن الآن متى تمثلنا الفارق الزمني بيننا وبين شعراء الجاهلية، لزمنا أن نقر على أنفسنا بالجهل لكثير من الوجوه التي كانت عليها حياتهم في قراهم وحواضرهم وبواديهم. وقد وصف لنا القرآن من أمورهم أشياء كثيرة لا نجدها في
الشعر الذي وصلنا، إما لنسيان الناس لها لما انشغلوا بالإسلام والفتوح وإما لتحريم الإسلام روايتها وأمرها كله وإما لهذين السببين معًا، مع الذي كان من ردة العرب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم واحترابها على ذلك حتى قر قرار الإسلام وألقى بجران.
يذكر القرآن الوأد ولا نجد من ذكره شيئًا في الشعر رثاء أو نحوه، وعسى أن يكون منه قول الفند الزماني:
أيا طعنة ما شيخ
…
كبير يفنٍ بالي
تقيم المآتم إلا على
…
على جهدٍ وإعوال
كجيب الدفنس الورها
…
ء ريعت بعد إجفال
فمثل هذه ربما كان يوأد وقرب ما بين الدفن والدفنس لا يخفى والسين من حروف الزيادة والدفنس هي الورهاء الناقصة العقل.
وقريب من هذا قول الآخر:
وقد اختلس الطعنة
…
لا يدمي لها صلي
كجيب الدفنس الورها
…
ء ريعت وهي تستفلى
وما الذي راعها
…
لعله الوائد.
ويذكر تقربهم إلى الله بالأصنام وضروبًا من عقائدهم ولا نجد لشيء من ذلك إلا الذكر اليسير كقول النابغة:
فلا لعمر الذي مسحت كعبته
…
وما هريق على الأنصاب من جسد
وذكروا من عقائدهم وعاداتهم أشياء واستشهدوا عليها بالمفردات من الأبيات كما في أصنام ابن الكلبي ولا ريب أن ما قيل في ذلك أكثر مما وصلنا. وقد روى الجاحظ قطعًا مفيدة من أشعار أمية بن أبي الصلت كخبر منادمة الديك والغراب أو كما قال:
بآية قام ينطق كل شيء
…
وخان أمانة الديك الغراب
وكاستسقاء العرب في السنين المجدبة بعقد الشعل على أذناب البقر وإرسالها تتعادى.
سلع وما مثله عشر ما
…
عائل ما وعالت البيقورا
البيقور، أي البقر وزعم الجاحظ في الحيوان أن الأصمعي صحف هذه الكلمة ومتى آنسنا فكرة بعد الزمن وأنم بداوة الجاهليين وحضارة حواضرهم، كلا ذينك لم يكن أمرًا جغرافيًّا فقط، ولكنه قد كان أمرًا تأريخيًّا، نحتاج إلى طول درسي وتأمل حتى ندرك حقيقة كنهه.
ومن الأمثلة التي قد تعين في هذا الصدد أن نتناول شعرًا مشهورًا كالمعلقات وننظر في أوائله ونتحسس هل لها من دلالة على موضوعاتها وضروب معانيها، فإن أصبنا من ذلك ما يقوى هذا الوجه حاولنا مثله في غيرها، وهكذا حتى نستطيع الوصول إلى رأي قوي الاحتمال في هذا الباب.
معلقة امرئ القيس تبدأ بقوله:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
…
بسقط اللوى بقين الدخول فحومل
ولا نحتاج ههنا إلى كبير تأمل لنذهب إلى أن هذا المطلع ينبئ بأن موضوع القصيدة ذكريات وأشجان من زمان ماض.
ومعلقة طرفة تبدأ بقوله:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد
…
تلوح كباقي الوشم من ظاهر اليد
ههنا الأطلال مقطوع بوجودها، ليست ذكرى ومواضع يتحسس الشاعر أماكنها كما صنع امرؤ القيس. وهذه الأطلال لم تخف آثار بعضها لاختلاف الرياح عليها، كما توهم الشاعر أم لعلها خفيت. هذه الأطلال التي يذكرها طرفة تلوح كبقية وشم على يد هيئتها ظاهرة متمثلة
…
لن نباعد إن وضعنا أنفسنا في مكان سامعي
الشاعر على زمانه وتوقعنا من مطلع كلامه أنه يتحدث عن علاقة أدركها الوهي وما زالت معالمها وآثارها ظاهرة.
ومعلقة زهير أولها:
أمن أم أوفي دمنة لم تكلم
…
بحومانة الدراج فالمتثلم
هنا بدأ الشاعر بسؤال عن دمنة. والدمنة مكان الأزبال ويكنى بها عن الضغينة، وغرض الشاعر حديث عن أضغان يراد دفنهن بإصلاح ذات البين وفي القوم من عسى ألا يريد ذلك
…
طريقة السؤال وما يتبعه من تأكيد الشك وتطويل المدة وتبدل المعالم:
ودار لها بالرقمتين كأنها
…
مراجيع وشم في نواشر معصم
الوشم ههنا ليس بقية من العمل الأول كما في مطلع طرفة ولكنه عودة فيه بعد خفائه وإمحائه، وليس الوشم على ظاهر اليد ولكن على نواشر المعصم، ونواشر المعصم من ظواهر اليد، ولكن ظهور العروق مع المعصم في ذكرهن هنا نوع من تبعيد.
بها العين والآرام يمشين خلفة
…
وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
امرؤ القيس لم ير إلا بعر الآرام وهو أثر يدل على خبر. أما طرفة فقد رأى المحبوبة ترحل ورأى حدوجها كالسفينة يجور بها الملاح ويهتدي وهي تشق عباب الماء وظبيته ليست وحشًا صار بديلًا من الأحباب كما عند زهير ولا آثار وحش كما عند امرئ القيس، ولكنها كائن حي نشط:
وفي الحي أحوى ينفض المردشادن
…
مظاهر سمطي لؤلؤ وزبرجد
هذا أشبه بشبابه ومعانيه. ولكن البطء وثقل الحركة أشبه بمعاني زهير التي كان إليها يقصد.
وقفت بها من بعد عشرين حجة
…
فلأيًا عرفت الدار بعد توهم
وقد زعموا أن حرب داحس والغبراء استمرت أربعين سنة فالعشرين ههنا تنبئ عن شيء من ذلك. وما أشبه أن تكون قد استمرت عشرين سنة لأنه شبها قيس بن زهير وتم الصلح بعد منفاه.
وأول معلقة عنترة قوله:
هل غادر الشعراء من متردم
…
أم هل عرفت الدار بعد توهم
يا دار عبلة بالجواء تكلمي
…
وعمي صباحًا دار عبلة واسلمي
فعلم من تساؤله أول ما بدأ أنه يريد أن يقول شعرًا يجلي به عن نفسه، ثم أتبع ذلك أنه سيتحدث عن الطلل جريًّا على عادة الشعراء وليكن الطلل لعبلة وهي محبوبة وهمية أهلها من الأعداء الذين سيقتلهم لينالها
…
وأبت الأساطير إلا أن تجعلها ابنة عمه، أو هي من قومه وأبى مذهب اتباعه عادة الشعراء إلا أن تكون من العدو. وقد جلي عنترة عن نفسه في هذه الميمية. وهي الرابعة في ترتيب ابن الأنباري للسبعة الطوال. وقال عمرو بن كلثوم في أول طويلته:
ألا هبي بصحنك فاصبحينا ولا تبقي خمور الأندرينا
وقد ذكرنا مذهب العرب في الشراب إذ نالوا الثأر، قال امرؤ القيس حين ظن أنه أدرك ثأره من بني أسد.
فاليوم أشرب غير مستحقب
…
إثمًا من الله ولا واغل
وقد سبق التنبيه إلى أن نونية عمرو تنبئ عن نشوة انتصار وهذا تستفاد دلالته من روح المطلع.
وقال الحارث بن حلزة:
آذنتنا ببينها أسماء
…
رب ثاو يمل منه الثواء
فإن تكن أسماء محبوبة، فهل المحبوبة يمل ثواؤها؟ ولكنما كني الحارث عن حال قومه وحال إخوانهم من بني تغلب، إن أرادوا الصلح فذلك المراد وإن أبوا إلا الشنآن والفراق، فعلى آثارهم العفاء.
أجمعوا أمرهم بليل فلما
…
أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
ومن مناد ومن مجيب ومن تصـ
…
ـهال خيلٍ خلال ذاك رغاء
أيها الناطق المرقش عنا
…
عند عمرو وهل لذاك بقاء
لا تخلنا على غراتك إنا
…
قبل ما قد وشى بنا الأعداء
فبقينا على الشناءة تنميـ
…
ـنا حصون وعزة قسعاء
وإلى قول الحارث «رب ثاوٍ يمل منه الثواء» ، نظر كثير، فجعل عزة هي التي تمل وهذا أشبه بكلام العشاق، ولم يرد الحارث معنى ما يريده العشاق وقول كثير هو:
نريد الثواء عندها وإخالها
…
إذا ما أطلنا عندها المكث ملت
وبنحو هذا قد يستدل من يطعن في صدق صبابة كثير، لما فيه من المنافاة الخفية لمذهب الصبابة العذرية.
وقال لبيد، وأحسب أن رواية ابن الأنباري جعلتها سابعة الطوال لأن لبيدًا كان من المخضرمين، وهي على جودتها وشدة أسرها تمثل طورًا تاليًّا لأطوار الضرب الأول من قصائد الجاهلية، وهذا باب سنعرض له في بعض ما يلي إن شاء الله تعالى.
عفت الديار محلها فمقامها
…
بمني تأبد غولها فرجامها
فمدافع الريان عرى رسمها
…
خلقًا كما ضمن الوحي سلامها
دمن تجرم بعد عهد أنيسها
…
حجج خلون حلالها وحرامها
رزقت مرابيع النجوم وصابها
…
ودق الرواعد جودها فرهامها
فذكر الشاعر في مطلعه عفاء الديار وعين مواضعها وجعلها ذوات آثار بالية كآثار نقوش القدماء ثم ذكر الدمن وقد نبهنا إلى ما في ذلك من كناية عن الضغينة والحقد ثم ذكر المطر المتتابع وحلول الوحش مكان الأنيس.
فعلا فروع الأيهقان وأطفلت
…
بالجلهتين ظباؤها ونعامها
وهذا المطلع فيه شبه بمطلع زهير إلا أن زهيرًا يتساءل. وفيه شبه بمطلع الحارث إلا أن الحارث كأنه لا يبالي:
رب ثاو يمل منه الثواء
وقصيدة لبيد فيها مع ظاهر الصرامة ميل إلى وصل الحبال:
فاقطع لبانة من تعرض وصله
…
ولشر واصل خلة صرامها
وأحب المجامل بالجزيل وصرمه
…
باق إذا ضلعت وزاغ قوامها
وهذا المعنى تجده كأنه تمهيد لما صرح به من بعد حيث قال:
وكثيرة غرباؤها مجهولة
…
ترجى نوافلها ويخشى ذامها
غلبٍ تشذر بالذحول كأنها
…
جن البدى رواسيا أقدامها
أنكرت باطلها وبؤت بحقها
…
عندي ولم يفخر علي كرامها
وفي مقال لبيد روح اعتداد وتحد. وفي مقال الحارث إظهار تظلم وشكوى. وكلا وجهي مقالهما مستمدان من طبيعة مطالعهما. لبيد يتحدث عن مضي السنين بعد عهد الأنس وإعقاب ذلك العفاء. ويقف من المحبوب موقف الند يجزيه صرمًا بصرم ووصلًا بوصل إن آب إلى المودة. والحارث يزعم أن المحبوب هو الذي آذن بالبين، وإن يبن فعسى القلب حقًّا أن يكون قد مله، فهذه شكوى في الظاهر تتضمن عدم المبالاة.
ولله در الجاحظ إذ قرن بين خبري لبيد والحارث بن حلزة في باب الخصومة ثم
بعد أن ساق خبر لبيد مع الربيع بن زياد وانتصافه منه قال: «والعربي يعاف الشيء ويهجو به غيره فإن ابتلي بذلك فخر به ولكنه لا يفخر به لنفسه من جهة ما هجا به صاحبه فافهم هذه، فإن الناس يغلطون على العرب ويزعمون أنهم قد يمدحون الشيء الذي قد يهجون به وهذا باطل فإنه ليس شيء إلا وله وجهان وطرفان وطريقان فإن مدحوا ذكروا أحسن الوجهين، وإن ذموا ذكروا أقبح الوجهين. والحارث بن حلزة فخر ببكر بن وائل على تغلب. ثم عاتبهم عتابًا دل على أنهم لا ينتصفون منهم» أ. هـ. قلت وهذا نص في معنى ظاهر الشكوى الذي قدمناه. ثم ساق الجاحظ أبياتًا من الهمزية وقال الأعشى:
ودع هريرة إن الركب مرتحل
…
وهل تطيق وداعًا أيها الرجل
ونفس البداية مع كونه يذكر وداعًا ورحيلًا وأنه لا يطيق ذلك فيه خفة ومرح مصدره قوله: «وهل تطيق وداعًا أيها الرجل» . روح هذا الخطاب هي المشعرة بمذهب الفكاهة والقصيدة من بعد تخاطب رجلًا وتقول له:
أبلغ يزيد بني شيبان مألكة
…
أبا ثبيت أما تنفك تأتكل
وقال النابغة:
يا دار مية بالعلياء فالسند
وقد سبق الحديث عن هذا المطلع والأبيات التي بعده ويلاحظ أن اسم المحبوبة ههنا «مية» كما هو في المتجردة. وقد قيل إن كلمته.
أمن آل مية رائح أو مغتدي
…
عجلان ذا زاد وغير مزود
كانت سبب مفارقته النعمان إذ خاف من الوشايات وعواقبها وكان رجلًا عربيًّا حازمًا، وكان النعمان في أخبارهم سريعًا إلى سفك الدماء. ومن الشعر المأثور وليس من هذا الباب، ولكن الشيء بالشيء يذكر قول صاحب ابن عمار الطائي. الذي
نهاه عن منادمة النعمان ثم لما قتله رثاه فقال:
إني نهيت ابن عمار وقلت له
…
لا تأمنًا أحمر العينين والشعرة
إن الملوك متى تحلل بساحتهم
…
تطح بنارك من نيرانهم شررة
يا جفنة كإزاء الحوض قد هدموا
…
ومنطقًا مثل وشي اليمنة الحبرة
وإلى هذه البيات أشار الأندلسي في رثاء دولة بني الأفطس حيث قال:
وألحقت بعديٍّ بالعراق على
…
يد ابنة أحمر العينين والشعر
هذا وأول كلمة عبيد بن الأبرص يشبه أول كلمة امرئ القيس في ضرب عموميته، غير أنه تحدث فيه عن الإقفار ولم يتذكر ماضي ذكريات ويستوقف عند منزل أو حبيب، فأشعرك منذ البدء أن حديثه مخالطه لون أسىً وعبرة، وتأمله تجده كذلك وعلى منواله سارت القصيدة:
أقفر من أهله ملحوب
…
فالقطبيات فالذنوب
أول شيء لم ينسب إقفار الديار إلى الرياح ولكن توارثها الناس وخلت من أهلها الأولين الذين كان يعهد.
أرض توارثها شعوب
…
وكل من حلها محروب
إما قتيل وإما هالك
…
والشيب شين لمن يشيب
وإنما هذه هذا الدنيا، وما أهلها إلا الشاعر نفسه -والشيب قد نعى إليه نفسه فعلى نفسه يبكي:
عيناك دمعها سروب
…
كأن شأنيهما شعيب
تصبو وأني لك التصابي
…
أني وقد راعك المشيب
فهذه المعلقات العشر، وقال المسيب بن علس:
أرحلت من سلمى بغير متاع
…
قبل العطاس ورعتها بوداع
من غير مقلية وإن حبالها
…
ليست بأرمام ولا أقطاع
فهو الراحل كما ترى، والعلاقة بينه وبين سلمى لم تزل على عهدها واشجة، وفي السؤال كالمؤاخذة لنفسه
…
فدل من أول كلامه أن غرضه الجد، لأن جد المطالب وحده هو الذي يحمل على مفارقة الأحياء، وقد يكون من أسباب الرحيل الفزع، ولكن قول الشاعر:
أرحلت من سلمى بغير متاع
دل على أن رحيله كان إراديًّا من جانبه وأسر أمره من سلماه فهذا قوله:
«بغير متاع» ويجوز أن تكون زوجته، ولكنه قد عاد فجعلها محبوبة يكنى بها عن الرفه والراحة واللهو الذي نقيضه ما هم به من الجد:
إذ تستبيك بأصلتي ناعم
…
قامت لتفتنه بغير قناع
فرأيت أن الحكم مجتنب الصبا
…
وصحوت بعد تشوق ورواع
فتسل حاجتها إذا هي أعرضت
…
بخميصة سرح اليدين وساع
ويدلك أن الرحيل والجد مما يقترنان قول الراعي:
ما باك دفك بالفراش مذيلا
…
أقذىً بعينك أم أردت رحيلا
وقال بشامة بن الغدير في أول لاميته وهي عاشرة المفضليات:
هجرت أمامة هجرًا طويلًا
…
وحملك النأي عبئًا ثقيلا
فأشعرك من عند البداية أن غرضه الحديث عن مشاكل قريبة من القلب
وأعباء ودلالة ذلك على تصرم عهود وداد واستبدال حال سلم بحرب لا يخفى. وقال بشامة مستمرًا في غزله الذي بدأ به:
وحملت منها على نأيها
…
خيالًا يوافي ونيلًا قليلا
تأمل المفارقة بين احتمال قلبه حبها وذكراها وزيارة طيفه إياها، ثم هذا الطيف، على غير عادة الطيف، بخيل بالنوال
…
هذا الحب الذي تحمله وهم ليس وراءه طائل.
ونظرة ذي شجن وامق
…
إذا ما الركائب جاوزن ميلا
الراحل الشاعر، وهو جاد في المفارقة وفي قلبه الشجن والتفات الطرف بحزن وقد جد المسير.
أتتنا تسائل عن أمرنا
…
فقلنا لها قد عزمنا الرحيلا
تأمل علاقة الود والإنسانية ههنا.
وقلت لها كنت قد تعلمين
…
منذ ثوى الركب عنا غفولا
قدم الشاعر مع الركب عاشقًا مشوقًا فلم يجد من المحبوبة غير تغافل وإهمال ثم لما نمى إليها أن الركب مرتحل، جاءت ببقية تودد ونوع اعتذار ومع هذا لم تنله كبير شيء، ما كان عطاؤها إلا أعاليل دموع ثم هي على ما كانت عليه من الانصراف عنه:
وقلت لها كنت قد تعلمين
…
منذ ثوى الركب عنا غفولا
فبادرتاها بمستعجل
…
من الدمع ينضح خدًّا أسيلا
تبكي لما عزمت هي عليه من مصارمته ولا نواله.
وما كان أكثر ما نولت
…
من القول إلا صفاحا وقيلا
وعذرتها إن كل امرئ
…
معد له كل يوم شكولا