الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سميتهم لأنه لا خلاف في تقديمهم في صنعة الشعر ولا شك في تبريزهم في مذهب النظم، فإذا كان الاختلال يتأتى في شعرهم لاختلاف ما يتصرفون فيه، استغنينا عن ذكر من هو دونهم إلخ» -وقد مر بك إسرافه على امرئ القيس وتفضيله من دونه عليه حتى العامة. وقال (ص 25): «وقد علمت أن شعر امرئ القيس وغيره -على أنه لا يجوز أن يظهر ظهور القرآن ولا أن يحفظ كحفظه ولا أن يضبط كضبطه ولا أن تمس الحاجة إليه إمساسها إلى القرآن لو زيد فيه بيت أو نقص منه بيت، لا بل لو غير منه لفظ لتبرأ منه أصحابه وأنكر أربابه فإذا كان ذلك لا يمكن أن يكون في شعر امرئ القيس ونظرائه إلخ
…
وقد يعلم القارئ الكريم إقدام أبي بكر إقدامًا على تغيير ألفاظ امرئ القيس، وادعاء الحسن أو الصواب أو الأفضلية لما صنع فانظر إلى هذا التناقض: أليس بعد هذا لابن حزم وأبي حيان كليهما من عذر في الغضب الذي غضباه.
إن كتاب الإعجاز مشحون بالفوائد، ولكن قاتل الله الإسراف، ولكن طريق الاعتدال على أنه هو السهل والمؤدي إلى الرشاد والسداد، هو أيضًا الممتنع العسير المنال، إلا بتوفيق من الله سبحانه وتعالى وقبول منه، إنه هو الهادي إلى الصواب.
جناية التطويل على سلامة النظم:
سبق أن ذكرنا عند وقفتنا السابقة نذكر بعض آراء الناقد الإنجليزي صمويل تيلور كلردج ونوازن بينه وبين أبي تمام في بعض آرائهما عن الشعر إننا وعدنا أن نعرض لمقالة كلردج في التفرقة بين الذي سماه Legitimate Poem أي المنظومة الحقة والذي سماه Poetry أي الشعر في الموضع المناسب له. فههنا إن شاء الله موضع ذلك، إذ قد تحدثنا عن مطاعن أبي بكر بن الباقلاني على قصيدة امرئ
القيس وهي منظومة حقة مشهود لها بالتبريز والتفوق بشهادة ابن الباقلاني نفسه بالرغم من تجنيه عليها كما تقدم، وإليك بعد، بعون الله البيان.
الشعر عند كلردج معناه الخلق والإبداع. وفي هذا نظر إلى أصل الاشتقاق عند اليونان، كما فيه المعنى الذي زعمه ابن الباقلاني من أن الفلاسفة كانوا يطلقون على «حكمائهم وأهل الفطنة منهم في وصفهم إياهم بالشعر لدقة نظرهم في وجوه الكلام وطرق لهم في المنطق (ص 76)». وفي سورة الأنعام:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ذكر محمد بن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية إن هذا القائل قد قال سأنزل ما أنزل الله من الشعر -أي (وهذا التعليق منا) الذي ليس كشعر العرب على الحقيقة، يقول هذا على وجه الاستهزاء. فكانت زنادقة قريش تلغو في القرآن وتقول إنه مفترى وإنه يكتتبه عمن زعموا له ذلك- قال تعالى:{وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان] وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} [آية النحل]. وقد كنت أنبه طلبتي بجامعة الخرطوم، حرسها الله، أثناء الخمسين منذ سنة 1954 م في معرض مختارات كنا ندرسها لطلبة العربية بكلية الآداب من رسالة الغفران إلى خبث مقالة أبي العلاء على لسان الملك يزجر ابن القارح لما مدحه (راجع ص 252 من رسالة الغفران، دار المعارف تحقيق ابنة الشاطئ) بأنه يظن ما سمعه منه قرآن إبليس، كأنه يعارض بذلك مقال المولى سبحانه وتعالى:{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} بقوله هذا لسان الشيطان نفسه الذي جعله ملكًا اسمه زفر (أخذه من معنى زفير أهل النار وتميز جهنم نفسها على الأرجح) إن الشعر قرآن غير إلهي، قرآن إبليسي. ثم وجدت نص ابن جرير رحمه الله ورضي عنه في تفسير آية الأنعام فعلمت أن أبا العلاء -عفا الله عنه- من هنالك أخذ وذلك الأخذ أخبث له، كأنه يعني أن القرآن شعر إلهي، وهو القول
الذي حكاه الطبري في نقله عمن رواه عن ابن عباس رضي الله عنهما. وعنه -أي ابن جرير- نقل ابن الباقلاني في وقوله (ص 76 من الإعجاز): «وهذا يدل على أن ما حكاه» الضمير يعود على القرآن «عن الكفار من قولهم أنه شاعر وأن هذا شعر لا بد أن يكون محمولًا على أنهم نسبوه إلى أنه يشعر بما لا يشعر به غيره من الصنعة اللطيفة في نظم الكلام لا إنهم نسبوه في القرآن إلى أن الذي أتاهم به هو من قبيل الشعر الذي يتعارفونه على الأعاريض المحصورة المألوفة» أ. هـ. وههنا مغالطة لا تخفى لأن نص القرآن الصريح: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} فذكر أهل التفسير أنهم شبهوه عليه الصلاة والسلام بالنابغة والرواية عن ابن عباس واضحة صريحة. وكانوا يقولون هو شاعر حتى أنكر عليهم الوليد بن المغيرة ذلك وتابعه النضر بن الحارث وصناديدهم من بعد فقالوا سحر من القول يسحر به. قال تعالى: {الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} قرئ لساحرٌ بفتح السين بعدها ألف وبكسرها والحاء بعدها ساكنة وهذا أول سورة يونس عليه السلام.
هذا وعند كلردج إنه مع كون عناصر النظم والنثر المكونة لهما واحدة، وهذا مدلول قول صديقه الشاعر وليم وردزورث الذي استشهد هو به في كتابة الترجمة الأدبية Biographia Literaria في المجلد الثاني منه ص 45 في أوائل الفصل الذي اقتطفنا منه قبل وترجمنا وهو الثامن عشر:
There neither is or can be any essential between the language of prose and metrical composition (1) .
(1)() راجع كتاب دافيد ديتبشز Critical approaches في الفصل السادس وكتاب ألان غرانت A preface Coleridge طبع لونجمان ص 89 - 93 ومجموعة English Critical Essays ختيار ادمون جونز طبع أكسفورد 1971 ص 47 وقد سبقت الإشارة إلى كتاب الترجمة الأدبية وبلغني أنه قد ترجم إلى العربية فليرجع إلى ذلك ولم أره في الفصول المشار إليها.
مع ذلك عند كلردج بين النثر والتأليف الموزون (النظم) فرق. إذ بين صنفي النثر في الكلام والكتابة فرق وفي القراءة والمحادثة فرق. وعلى هذا ينبغي أن نتوقع وجود فرق أكبر بين تأليف الشعر المنظوم والنثر. وذلك الفرق الكبير مرده إلى أن أرب الشعر غير أرب النثر فاختلفت طريقة تأليف الكلام بسبب اختلاف الأرب (راجع نص كلردج ص 45 و 46 وراجع أيضًا من المجلد نفسه في الفصل الرابع عشر وهو أول المجلد).
من الكلام عند كلردج (راجع 2 ص 8 - 10) ما يصنع تأليفه بتكلف لا يراد منه إلا تسهيل حفظ حقائق معلومات بأعيانها أو ملاحظات أو ما أشبه، فتكون المنظومة منه لا يميز بينها وبين النثر إلا الوزن والقافية أو هما معًا. وهذا أدنى ما يطلق عليه اسم المنظومة Poem نحو قولهم:
Thirty days hath September
April، June and November
أي: «ثلاثون يومًا في سبتمبر، أبريل، يونية ونوفمبر» .
وزعم كلردج أن نحو هذا من التأليف فيه نوع مسرة وإمتاع ينشأ من توقع تكرار أصوات وكم لفظي، وأنه كل ما ضم إليه هذا الضرب من الإبهاج يمكن أن يسمى منظومة وحسبنا هذا القدر من حيث شكل النظم السطحي.
ومن الكلام ما يكون الأرب فيه إبلاغ الحقائق إما ضرب من الحقيقة المطلقة التي يمكن أن يقام عليه الدليل والبرهان كما في تأليف العلوم وأما الحقائق المستفادة من التجارب والأخبار المدونة كما في التأريخ. وقد يتأتى من بلوغ الأرب المراد إبلاغه من المتعة أرقاها وأبقاها من غير أن يكون ذلك في ذاته قد قصد إليه قصدًا مباشرًا. وقد يكون في غير ذلك من التأليف إيصال الإمتاع هو المقصود والمراد المباشر الأول المطلوب. ومع أن الحقيقة الفكرية أو الخلقية هي التي ينبغي أن تكون الضالة
المنشودة والأرب المقصود إليه، هذا أمر يتعلق بشخصية المؤلف لا بالنوع الذي يصنف فيه التأليف.
وعرف كلردج المنظومة Poem بأنها ذلك الصنف من تأليف الكلام الذي يختلف عن المؤلفات العلمية بأن يعمد إلى أن يكون الإمتاع هو إربه المباشر الأول لا عرض الحقائق. وشبه كلردج ونبه على أن من التأليف ما يجاء به منظومًا موزونًا ومع ذلك لا يكون الأرب الأول المقصود منه هو الإمتاع. وضرب لذلك مثلًا القصص وحكايات الأبطال والغرام novels and romances (راجع ص 10) ثم تساءل هل إذا نظمت أمثال هذه القصص والحكايات بأوزان مقفاة أو غير مقفاة هل يجعلها ذلك منظومات وقصائد «Poems» ؟
قوله مقفاة وغير مقفاة لأنه في الإنجليزية ضربٌ موزون غير مقفى يقال له المرسل Blank Verse ومنه فردوس ملتون المفقود وأكثر مسرحيات شكسبير وكثير مما نظمه وردزورث وشيلي وغيرهما وهذا الضرب في العربية نادر، أورد منه ابن الباقلاني مثالًا زعمه خارجًا من سبيل الموزون الذي هو أحد أقسام كلام العرب لعدم تساوي أجزائه في الطول والقصر والسواكن والحركات، وهذا شرط لم يشترط فيما نعلمه غيره، وإنما يخرج هذا المثال الذي تمثل به أنه لا قوافي له، وهو قول الآخر ولم ينسبه (راجع ص 84 من الإعجاز):
رب أخ كنت به مغتبطا
…
أشد كفي بعرا صحبته
تمسكا مني بالود ولا
…
أحسبه يزهد في ذي أمل
تمسكا مني بالود ولا
…
أحسبه بغير العهد ولا
يحول عنه أبدًا
…
فخاب فيه أملي
والمخالفة في آخر بيت (إن صحن تسميته بذلك ولعل أن نقول في آخر سطر أصح) وهو موزون يصلح أن يعد بيت شعر من ضرب مجزوء. ولعل هذه
الأشطار صنعها ابن الباقلاني ليجادل بها -وهي ضرب أسبق من محاولات عبد الرحمن شكري كما ترى، ولا جديد تحت الشمس.
في الجواب عن السؤال الذي سأله كلردج حيث قال هل يجعلها ذلك منظومات وقصائد؟ زعم أن الشيء لا يمكن ان يكون ذا إمتاع ذي صفة باقية دائمة إن لم يكن يحوي في ذات نفسه السبب الذي يبرر كينونته على هذا الشكل وهذه الهيئة التي بها هو كائن لا بغيرها.
جلي من هذا أن إضافة الوزن مقفى أو غير مقفى لا يجعلها منظومة حقة بحيث هذه كينونتها التي تحوي في ذاتها أنها على هذه الهيئة ولا يمكن أن توجد على غيرها؛ لأنها قد يجوز أن تكون، بل كانت قبل أن تنظم، منثورة، فكونها منظومة الآن إنما هو إضافة طرأت عليها لا أصل أصيل.
وللجاحظ قول شبيه بهذا في كتاب الحيوان حيث يقول في معرض الحديث عن الشعر أن فضيلته مقصورة على العرب وأن ترجمته لا تستطاع وإنه إذا ترجم نصل عنه الوزن وتقطع حسنه، قال:«والكلام المنثور المبتدأ على هذا أحسن وأوقع من المنثور الذي تحول من موزون الشعر» -ومزعمنا أنه شبيه بمقال كلردج إذ كان كلردج يقول إن الموزون المبتدأ على ذلك أحسن وأوقع من الموزون الذي تحول بإضافة الوزن إليه عن كلام كان منثورًا أولًا- فتأمل.
وعند كلردج بعد أن المنظومة تخالف ما يشبهها من التآليف ذات القصد مثلها إلى الإمتاع كالحكاية الغرامية والقصة البطولية مثلًا بأنها تأليف يطلب لنفسه أن يمتع بكله إمتاعًا مؤتلفًا متصلًا متفقًا مع الذي ينبعث من كل جزء من الأجزاء المكونة له من ضروب المسرة. الأبيات التي كل منها على حدته يسترعي الانتباه ويثير الخاطر ولكن لا يأتلف مع ما بعده وقبله ويؤلف منه كلا واحدًا ليست بمنظومة
حقة. المنظومة الحقة a legitimate poem هي ما كان كل جزء منه يعين الآخر ويسنده وينسجم معه في تحقيق الغرض والتأثير المراد من إيقاع التأليف الموزون الذي يشبه حركته في تلاحمها واتصالها حركة الحية في انسيابها، وقد كانت الحية رمز سلطان الفكر عند قدماء المصريين، وذلك أن كل إلتواءة من جسدها وإن بدا فيها نوع رجعة إلى الخلف، تمثل جانبًا جوهريًّا من حركة اندفاع انسيابها الكلي إلى الأمام. (راجع ص 11).
الشعر عند كلردج أعم من المنظومة في مدلوله لأنه خلق وإبداع. وذكر كلردج أن كتابة الفيلسوف أفلاطن فيها ما يدل على أن أصنافًا من أرقى الشعر قد تأتي من غير الوزن والخلال التي تميز المنظومة. وذكر غير أفلاطن في غير هذا المجرى ونبه إلى أن الفصل الأول من اشعياء في أسفار العخد القديم من كتابهم المقدس شعر بكل تأكيد ولكن ليس من المعقول أو المقبول أن يقال إن أرب ذلك النبي الأول المباشر كان الإمتاع لا الإبلاغ. قلت وكأن كلردج يخلط ههنا بين الشعر بمعنى الخلق والإبداع والشعر بمعنى التعبير المنفعل العاطفي الطبيعة.
هذا وأحس كلردج بأن مزعمه أن طبيعة الشعر من حيث هو خلق وإبداع تقتضي بالضرورة أن تكون المنظومة طالت أو قصرتن ليست كلها شعرًا ولا ينبغي لها يجره إلى تناقض حيث زعم أن المنظومة الحقة The legitimate poem أو كما سماها أيبضًا The just poem كل ملتئم، اتصال كله بجزئه كاتصال انسياب الحية بجزئيات التواءاتها. فزعم أن الأجزاء التي هي ليست شعرًا من المنظومة يمكن الاحتفاظ بعنصر الانسجام بينها وبين الأجزاء التي هي شعر باصطناع لغة ونظام من التأليف فيه خاصية من خواص الشعر التي لا ينفرد بها كل الانفراد- وإليك نص مقاله الذي زعم به هذا الزعم (ص 11 من ج د) In sort، whatever
SPECIFIC import we attach to t word poetry، there will be found involved
in it، as a necessary consequence، that a poem of any length neither can be، or ought to be، all poetry. Yet if a harmonious whole is to be produced، the remaining parts must be preserved IN KEEPING with the poetry; and this can be no otherwise effected than by such a studied selection and artificial arrangement as will partake of ONE، though not a PECULIAR property of poetry. And this again can be no other than the property of exciting a more continuous and equal attention than the language of prose aims at، whether colloquial or written.
ترجمة هذا على وجه التقريب لا الدقة الحرفية كما يلي:
باختصار أيما معنى ننوطه بكلمة الشعر (Poetry بمعنى الخلق والإبداع) سيوجد فيه داخلًا تبعًا لذلك بالضرورة أن المنظومة ذات أي طول (a Poem of any length) لا يستطاع لها بل لا ينبغي لها أن تكون كلها شعرًا (أي خلقًا وإبداعًا) ولكن لكيما ينشأ كل واحد ذو انسجام فإن على سائر الأجسام أن تكون ذات مناسبة والتئام مع الشعر الذي فيه، وهذا لا يمكن التأتي إلى أحد أحداثه إلا بنوع التخير المدروس والنظام المصنوع الآخذ بخاصة واحدة، من خواص الشعر (أي الخلق والإبداع) لا ينفرد هو بها كل الانفراد، وهذه الخاصة ليست هي إلا تلك التي تثير من الانتباه ما هو أكثر استمرارًا واستواء مما ترمي إليه لغة النثر الكلامي أو المكتوب. (الكلامي أي الشفهي والخطابي ونحو ذلك هذا مراد كلردج من Colloquial).
قلت كأن كلردج يعني بهذا تجويد الإيقاع والنظم الموزون مقفى أو غير مقفى ورصف الكلمات وصناعتها على ترتيب دقيق متماسك. ولا يخفى أن كل ذلك خاصة من خواص الإبداع والخلق (الشعري) غير أنه لا ينفرد بها كل الانفراد
لإمكان وجودها فيما هو غيره من التأليف المحكم الذي ليس بشعر - (بمعنى الخلق والإبداع) - ولا يخفى ما ههنا من تعمل، إذ لا يعقل أن يكتمل انسجام شعر مع لا شعر كلٍ واحد لمجرد اتفاقها في خويصة واحدة غير جوهرية. ولو قد جرح من جسد الحية شيء لشل ذلك حركتها ولم ينفعها بعد ذلك أن سائرها مشترك في خاصة واحدة وهي قشرة الجلد مثلًا التي تنزع في إبان نزعها على فرض أن ذلك يجعلها غير جوهرية. أم ليت شعري هل مثل كلردج للخلق والإبداع باندفاع انسياب الحية بها إلى الأمام وللوزن والتجويد بحركة التواءة مفاصلها بجسدها إلى الخلف قبل الاندفاع؟ أم عني بالإبداع والخلق إصابة المعاني العالية الشريفة على النحو الذي نوه به لونغينس في رسالته (Longinus) ويشبه ذلك شيئًا حديث ابن قتيبة في مقدمته للشعر والشعراء عن حسن المعنى حيث استشهد بقول الشاعر:
يغضى حياءً ويغضى من مهابته
…
فما يكلم إلا حين يبتسم
ثم استشهد بالأبيات:
ولما قضينا من منًى كل حاجةٍ
…
ومسح بالأركان من هو ماسح
وشدت على حدب المطايا رحالنا
…
ولم ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا
…
وسالت بأعناق المطي الأباطح
فهذه لما نص عليه ابن قتيبة من حلاوتها ينطبق عليها تعريف كلردج أنها منظومة حقة. ولو فرضنا منها الطول لمنعها خلوها من شرف المعنى أن تكون شعرًا على الحد الذي حده ابن قتيبة. ولا ريب -وهذا نقوله على سبيل الاستطراد- أن جودة هذه الأبيات من حلاوتها لا من تصويرها كما ذهب إليه بعض من تعقبوه، إذ نحن لا تهتز أوتار قلوبنا لصورة سيرة الأباطح بأعناق المطي فقط ولكن لحلاوة القصص ورنة نغمه. ونزعم بعد أن هذه الحلاوة هي نفسها خلقٌ وإبداع من
السهل الممتنع الذي مثله قل أن يستطاع، وهذا المراد قد وضحه ابن قتيبة كل توضيح بذكره أن الصورة الموصوفة نفسها ليس في معنى وصفها ذاته من كبير طائل، لكن الإمتاع والحلاوة ذلك هو سر جمالها الكنين.
هذا ونعود إلى ما ذكره كلردج بمعرض تعريفه للمنظومة أنها ما يكون الأرب الأول المقصود إليه فيه هو الإمتاع وأن ذلك ليبس أبدًا هو الأرب الأول المقصود إليه قصدًا مباشرًا في كل شعر حيث ذكر أن في كثير مما كتبه أفلاطن شعرًا وفي أكثر سفر اشعياء.
روعة أسلوب أفلاطن (وإنما نرى منها غيمًا لاطلاعنا على ترجمات منها بالعربية والإنجليزية) غير مدخلته في الشعر حقًّا ولا في الشعراء، وقد كان يعلم ما الشعر عند قومه. وقد ذكر أرسطو طاليس أن نظم امبدوكليس الفلسفي قد يطلق عليه اسم الشعر لأنه منظوم. وقد ذم أفلاطن الشعر وحذر من تأثيره إذ يضل القلوب ويزيغ بها عن سبل الرشد والعدل ونسبة أفلاطن إلى الشعر عند من نسبه إليه كأن ذلك ضرب من المجاز يعبر به عن الإعجاب ببلاغته أو ضرب من الكيد الذي تكاد به فلسفته، وقد كان لها أعداء من أقربهم عهدًا برتراندرسل.
فصول اشعياء عليه السلام جارية على آأساليب الموازنة في العبرانية، وقد سبق الحديث عن ذلك في الجزء الثاني بمعرض الحديث عن التقسيم، وكلام النبوة عند بني إسرائيل مقابل للشعر عند العرب وليس بشعر ولكن ما صح منه هو حكمة ونبوة. وقد أنكرت صناديد قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم النبوة ونسبوه إلى الشعر، كأنهم يزعمون بذلك أن النبوة أمر خصت به بنو إسرائيل ولا يكون من عربي إلا دعوى وافتراء. وإنما زحزحوه في زعمهم هذا إلى الشعر ليميتوا الدعوة، فأبى الله عليهم ذلك. وعلى تقدير التسليم أن أشعيا كله أو جله أو أوله شعر بكل تأكيد- أو كما قال كاردج ونص لفظه in the most emphatic sense
(2 - ص 11) - فذلك إنما يكون على أن أسلوب الموازنة في العبرانية من أساليب النظم الموزون الذي يصح أن يطلق عليه اسم الشعر، وعلى هذا لا تكون لكلردج حجة لزعمه أنه غير موزون وزن الشعر وأن الوزن ليس بشرط يكون به الكلام في ما يكون به، لا بدونه، شعرًا. وعدم تقدير التسليم أنه شعر هو الوجه الصائب لأنه من كلام النبوة. وهذا ما جعل كلردج نفسه لا يجعله من قبيل المنظومة Poem (لأنه إنما اريد به الإبلاغ الحق لا الإمتاع أول من كل شيء وهذا عند كلردج شرط لما سما المنظومة الحقة Just Poem و Legitimate Poem أطلقنا عليه لمجرد قصد التقريب لا صحة الترجمة اسم القصيدة) ولا يخفى أن ههنا في كلام كلردج نوعًا من المغالطة وهذا دأب يعسر المحيد عنه كلما أقحمت الفلسفة وطريقة المتكلمين وأهل الجدل على تذوق أساليب لشعراء ونقدها. وقد نظر كلردج فيما ذكروا إلى الفلاسفة وإلى بعض تلاميذ «كانت» على الخصوص وعنده -ذكر ذلك في آخر الفصل الثالث عشر من ترجمته الأدبية في آخر المجلد في نص قصير في صفحة 202 - أن الإبداع والخلق ينشأ من خيال الإدراك الثاني، أو قل الخيال الثاني على حد تعبيره هو The Secondary Imagination، وخيال الإدراك، أي الخيال والتصور الذي يكون به الإدراك، عنده ضربان. الضرب الأول The Primary Imagination أو كما قال:
The primary IMAGINATION I hold to be the living Power and prime Agent of all human Perception، and is a repetition in the finite mind، of the eternal act of creation in the infinite I AM. The secondary Imagination I consider as an echo of the former، co-existing with conscious will، yet still as identical with the primary in the KIND of its agency، and differing only in DEGREE and in the MODE of its operation. It dissolves، diffuses، dissipates، in order to recreate; where this process is rendered impossible، yet still at all
events it struggles to idealize and unify. It is essentially VITAL even as all objects (as objects) are essentially fixed and dead.
Fancy، on the contrary، has no other، counters to play with، but fixities and definites. the Fancy is indeed no other than a mode of Memory emancipated from the order of time and space; while it is blended with، and modified by that empirical phenomenon of the will، which we express by the word CHOICE (1) .
وترجمة هذا على وجه التقريب كما يلي:
«الخيال الأول هو القوة الحية والوكيل في الإدراك البشري بأسره وكأنه تكرار في حدود العقل الآدمي لعمل الخلق السرمدي في الكلمة «أنا كائن» التي لا تحد. والخيال الثاني هو صدى من الذي سبق، يكون مع مساوقته للإرادة المتعمدة له، كأنه هو ذات الأول في نوع وكالته مختلف عنه فقط في الدرجة وفي نوع الأداء. أنه يذيب ويبث ويبدد من أجل أن يخلق من جديد. وإن لم يتيسر له هذا فإنه يعطو نحو الكمال والوحدة بجهده على كل حال. إنه بالضرورة وكيل حي، إذ سائر الأشياء من حيث هي مجرد أشياء إنما هي ثوابت وميتات، أما التوهم Fancy فليس له مما يتعلق به إلا الثوابت المحددات، إذ ليس هو إلا ضربًا من التذكر أطلق سراحه من ربقة الزمان والمكان، وخالطته وعدلت منه تلك الظاهرة التي نعلمها بالتجربة من الإرادة، ونعبر عنها مفصحين باختيار اللفظ. ومع التذكر المألوف سواء بسواء لا يقدر التوهم إلا على أن يوافيه كل شيءٍ يبغيه مجهزًا معتدًّا من طريق قانون تداعي المعاني».
(1)(() كل كلمة كتبناها كلها بالحرف الكبير فهي في الأصل بحرف اليد المائل لتدل على نوع من التأكيد وكل ما وضعنا تحته خط وهو بالحرف الكبير وكل ما أوله حرف كبير فهو كذلك في الأصل.
في نص كلردج غموض من اصطناعه منهج الفلاسفة ومن عادته في التطويل وتعبيره عن البسائط بالمعقدات، وقد ضرب هو مثلًا لنحو من ذلك بعيني السنور اللتين تبدوان في الظلمة كالنار المشتعلة وما هما إلا مجرد بريق من انعكاس الأضواء. وفحوى كلامه أن ابن آدم يحاكي عمل الله سبحانه وتعالى في الخلق والإبداع على مرحلتين، الأولى تلقائية وهذا التي يتم له بها إدراك نظام الكون حوله. ذلك بأن ما يشاهده ابن آدم من طريق الإدراك غامض غير منتظم. فالذي يعقد النظام بينه هو امتداد ذاته إليه من طريق الخيال الأول. امتداد ذاته هكذا تلقائي عفوي مستمد من روح الله، وتكرار لامتداد حقيقة ذات الله سبحانه وتعالى حين امتدت على الفوضى والظلمة فأبدعت منها خلقًا ونظامًا. ذات الله التي صنعت هذا هي «أنا كائن» اللامتناهية، التي وردت في مقال المسيح (إنجيل يوحنا 8 - 58)«قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن» «Before Abraham Was I am» . وذات ابن آدم التي تدرك بخيال امتدادها التلقائي الذي ينشأ عنه نظام المدركات حولها، هي «أنا كائن» المتناهية أو قل «أنا المتناهية» . و «أنا اللامتناهية» هي الأصل القدمي (قلت لا يخفى أن إبداع الخلق من الظلمة ومن هيولي ليس للمسلمين بمقال، ولكن مقال المسلمين أن الله قد أوجد الكون من العدم بإرادته على غير مثال سابق وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده).
المرحلة الثانية هي تسليط «أنا المتناهية» ذات الشاعر مثلًا -بمجهود إرادي متعمد. ههنا امتداد للذات من نوع الامتداد التلقائي الأول ومن معدنه. وهذا هو الخيال الخلاق، الذي يبدد ويذيب لكي يخلق من جديد. ذلك بأنه يمتد إلى ما أدركه من نظام ليصبغه بشعوره وانفعاله وينقل هذا المعنى إلى الآخرين فيخلقه خلقًا آخر. وإن لم يقدر على هذا الخلق، اجتهد ليصل بما يحاوله إلى نوع من السمو به إلى الكمال إلى إيجاد الوحدة في ما يجده منه متفرقًا.
وقد سمى كلردج كلتا هاتين المرحلتين Imagination أي الخيال. وفرق بين هذا وبين ما سماه fancy أي التوهم، وجعله من قبيل التزيين والتحسين، وأصله من التذكر وتداعي المعاني، وعليه عنده مدار كثير من المجاز والتشبيه والمحسنات اللفظية. وغير خافٍ أن كلردج قد خلص إلى التفرقة بين الشعر والمنظومة الحقة، أنها لا تكون ولا ينبغي لها أن تكون كلها شعرًا، بسبب جعله الخلق والإبداع أساسًا في ماهية الشعر Poetry ثم لجعله الخلق والإبداع الصادر عن المقدرة البشرية أمرًا محدودًا متناهيًّا إذ اللامتناهي هو الكلمة، هو أنا اللامتناهية في مقال عيسى عليه السلام حسب رواية إنجيل يوحنا «قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن» . وانضاف إلى هذا الاعتقاد الديني من جانب كلردج عامل آخر هو طول المنظومات في أشعارهم، وقوله عن المنظومة (ذات أيما طول of any length) يدل على ذلك، غير أن جانب العقيدة الدينية هو العنصر الكبير الجوهري في الذي قال به من التفرقة بين المنظومة Poem والشعر Poetry.
هذا وعندي أن أصل مقالة كلردج في التفرقة بينهما من مقال المسلمين بأن القرآن معجزة رسولنا عليه الصلاة والسلام. وعند متكلمي أهل السنة أن إعجازه في أن نظمه في الذروة من البلاغة وأنه لا تفاوت فيه. قال ابن الباقلاني في ثالث المعاني العشرة التي فسر بها إعجاز القرآن (كتابه ص 54: وفي ذلك معنى ثالث وهو أن عجيب نظمه، وبديع تأليفه، لا يتفاوت ولا يتباين على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها، من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج وحكم وأحكام، وإعذار وإنذار، ووعد ووعيد، وتبشير وتخويف، وأوصاف، وتعليم أخلاق كريمة، وشيم رفيعة، وسير مأثورة، وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها. ونجد كلام البليغ الكامل، والشاعر المفلق، والخطيب المصقع يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور. فمن الشعراء من يجود المدح دون الهجو ومنهم من يبرز في الهجو دون
المدح. ومنهم من يسبق في التقريظ دون التأبين ومنهم من يجود في التأبين دون التقريظ. ومنهم من يغرب في وصف الإبل أو الخيل أو سير الليل أو وصف الحرب أو وصف الروض أو وصف الخمر أو الغزل أو غير ذلك مما يشتمل عليه الشعر ويتناوله الكلام، ولذلك ضرب المثل بامرئ القيس إذا ركب والنابغة إذا رهب وزهير إذا رغب، ومثل ذلك يختلف في الخطب والرسائل وسائر أجناس الكلام. ومتى تأملت شعر الشاعر البليغ، رأيت التفاوت في شعره على حسب الأحوال التي يتصرف فيها، فيأتي بالغاية في البراعة في معنى، فإذا جاء إلى غيره قصر عنه، ووقف دونه، وبان الاختلاف على شعره، ولذلك ضرب المثل بالذين سميتهم؛ لأنه لا خلاف في تقدمهم في صنعة الشعر ولا شك في تبريزهم في مذهب النظم. فإذا كان الاختلال يتأتى في شعرهم لاختلاف ما يتصرفون فيه، استغنينا عن ذكر من هو دونهم. وكذلك يستغنى به عن تفصيل نحو هذا في الخطب والرسائل ونحوها. ثم نجد من الشعراء من يجود في الرجز ولا يمكنه نظم القصيد أصلًا، ومنهم من ينظم القصيد ولكن يقصر تقصيرًا عجيبًا ويقع ذلك من رجزه موقعًا بعيدًا، ومنهم من يبلغ في القصيد الرتبة العالية ولا ينظم الرجز أو يقصر فيه مهما تكلفه أو تعلمه. ومن الناس من يجود في الكلام المرسل فإذا أتى بالموزون قصر ونقص نقصانًا بينًا ومنهم من يوجد بضد ذلك. وقد تأملنا نظم القرآن فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدمنا ذكرها على حدٍ واحد في حسن النظم وبديع التأليف والوصف، لا تفاوت فيه، ولا انحطاط عن المنزلة العليا ولا إسفاف فيه إلى الرتبة الدنيا. وكذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجوه الخطاب من الآيات الطويلة والقصيرة، فرأينا الإعجاز في جميعها على حدٍ واحد لا يختلف. وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة تفاوتًا بينًا ويختلف اختلافًا كبيرًا، ونظرنا القرآن فيما يعاد ذكره من القصة الواحدة فرأيناها غير مختلف ولا متفاوت بل هو على نهاية
البلاغة وغاية البراعة، فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر؛ لأن الذي يقدرون عليه قد بينا فيه التفاوت الكثير عند التكرار وعند تباين الوجوه واختلاف الأسباب التي يتضمن» أ. هـ.
فحوى حجة ابن الباقلاني أن القرآن معجز بنظمه الذي هو في ذروة بلاغة أساليب العربية وأنه مع ذلك لا تفاوت فيه. وقد جرت هذه الحجة ابن الباقلاني إلى أن يبرهن بكل وجه على وجود التفاوت لا بل التهافت والضعف الشنيع كما رأيت في شعر امرئ القيس وقد نبهنا على أن ابن الباقلاني قد غلب عليه في صنيعه هذا حب الغلبة ومراء الجدل وأوشك أن يحيد به عن قصده الأهم الذي من أجله وضع كتابه في الإعجاز، إذ لا يخفى أن أمر إقامة الحجة الدينية في إعجاز القرآن كان هو مطلوبه الأول لا الحجة الأدبية الذوقية وأنه هو المقصد الأهم.
أصل حجة ابن الباقلاني في عدم التفاوت -وهو عنده دليلٌ على الإعجاز- مأخوذ من قوله تعالى: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [سورة الملك] ولو أن ابن الباقلاني قد كان من شيوخ المعتزلة لاحتج لمقالته بهذه الآية. ولكن ابن الباقلاني كان من شيوخ أهل السنة ومتكلميهم معروفًا بذلك مشهودًا له فيه، وما كان أحد من أهل السنة ليقول بخلق القرآن إذ هو كلام الله المنزل القديم. وكأن ابن الباقلاني تنبه إلى أن مقالته بعدم التفاوت في أسلوب القرآن وإن المعجزة في استواء حال الحسن في وصف النظم القرآني نفسه ربما اشتم منها معنى القول بخلق القرآن فقال من بعد في آخر الفصل الذي أخذنا منه القطعة المتقدمة (ص 71) وهو الفصل الذي يتناول فيه الحديث عن جملة وجوه إعجاز القرآن (راجع من ص 48 - 71): «فإن قيل فهل تزعمون أنه معجز لأنه حكاية لكلام القديم سبحانه أو لأنه عبارة عنه أو لأنه قديم نفسه قيل لسنا نقول بأن الحروف قديمة فكيف يصح التركيب على الفاسد؟ ولا نقول أيضًا أن وجه الإعجاز في نظم
القرآن من أجل أنه حكاية عن كلام الله؛ لأنه لو كان كذلك لكانت التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله عز وجل معجزات في النظم والتأليف وقد بينا أن إعجازها في غير ذلك، وكذلك كان يجب أن تكون كل كلمة مفردة معجزة بنفسها ومنفردها وقد ثبت خلاف ذلك». انتهى.
غاب عن ابن الباقلاني أن أهل الكتاب يعدونه في الذروة من البلاغة. وترجمة الكتاب المقدس التي قامت بها دار الكتاب المقدس في العالم العربي ما حاد الآن بأسلوبها عن منهج رصانة أساليب العربية وإشراق ديباجتها إلا نوع من الحرص على محاكاة أساليب الأصول التي رأى القائمون بالترجمة إنهم لو حادوا عنها إلى منهاج العربية لأضاعوا بذلك روح قداسة الأصول التي عنها ينقلون. تأمل مثلًا ما تقدم من حكاية قول المسيح عليه السلام حسب رواية إنجيل يوحنا (80 - 85): «قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن (1)» وقول أشعيا (1 - 11)«يقول الراب اتخمت من محرقات كباش وشحم مسمنات وبدم عجول وخرفان وتيوس ما أسره» (2) وقول ابن داود الملك في أورشليم 1 و 2: «باطل الأباطيل، قال الجامعة، باطل الأباطيل، الكل باطل، ما الفائدة للإنسان في كل تعبه الذي يتعبه تحت الشمس» (3) وقول داود في رثائه طالوت وابنه (صمويل الثاني): «يا جبال جلبوع لا يكن طل ولا مطر عليكن ولا حقول تقدمات. هناك طرح مجن شاول بلا مسح بالدهن (4)» فجميع هذه الأمثلة وعلى أسلوبها نهج الترجمة كلها غير
(1)() John- 58 "Before Ibraham was، I am".
(2)
() Isaiah 4 - 1 - 11: "Saith the Lord: I am full of burnt offering of rams، and the fat of fed beasts; and I delight not in the bllod of buleocks، or of lambs or of goats.
(3)
() Eccelesiates 1،2،3: "Vanity of varities، saith the Preacher، vanity of vanities، all Is vanity. What profit has a man of all the labour which he take the under the sun.
(4)
() SAMUEL II "Ye mountains of GILBOA، let there be no dew، neither let there be rain upon you، nor fields of offerings، for there the shield of the mighty is vilely cast away، the shield of Ssaul as though he had not been annointed with oil".
مستقيمات على منهاج بلاغة الديباجة العربية وإشراقها لمراعاتهن نظم تراكيب أعجمية: تأمل «حقول تقدمات» مثلًا وقوة شبهها بالترجمة الإنجليزية nor fields of offerings وبعد ذلك من روح العربية ورصانتها ودلالة ألفاظها.
هذه النصوص التي تقدمت من الكتاب المقدس في ترجمته العربية الحديثة لو نظرت في ترجمتها الإنجليزية فإنها في الذروة من الروعة في الإنجليزية ونثبتها في الهامش إكمالًا للفائدة بحسب توالي الأرقام المذكورة في أواخرها.
ذلك أن زمان تلك الترجمة اتصلت فيه قوة عقيدة القائمين بها بقوة ملكتهم في لغتهم التي كانت حينذاك في أوج زمان نضجها ومرونتها. على أن ابن الباقلاني عنده أن الإعجاز بالنظم لا يتأتى في أية لغة كما يتأتى في العربية: (انظر ص 44) قوله: «فإن قيل فهل تقولون بأن غير القرآن من كلام الله معجز كالتوراة والإنجيل والصحف قيل ليس شيء، من ذلك بمعجز في النظم والتأليف وإن كان معجزًا كالقرآن فيما يتضمن من الخبار عن الغيوب. فإنما لم يكن معجزًا لأن الله تعالى لم يصفه بما وصف به القرآن، ولأنا قد علمنا أنه لم يقع التحدي إليه كما وقع التحدي إلى القرآن، ولمعنى آخر وهو أن ذلك اللسان لا يتأتى فيه من وجوه الفصاحة ما يقع به التفاضل الذي ينتهي إلى حد الإعجاز ولكنه يتقارب» .
قلت هذا موضع استشهادنا. ويوضح ابن الباقلاني هذه الدقيقة من رأيه بقوله بعد: «وقد رأيت أصحابنا يذكرون هذا في سائر الألسنة ويقولون ليس يقع فيها من التفاوت ما يتضمن التقدم العجيب. ويمكن بيان ذلك بانا لا نجد في القدر الذي نعرفه من الألسنة للشيء الواحد من الأسماء ما نعرف من اللغة العربية، وكذلك لا نعرف الكلمة الواحدة تتناول المعاني الكثيرة كما تناوله العربية وكذلك التصرف في الاستعارات والإشارات ووجوه الاستعمالات البديعية التي يجيء تفصيلها يعد هذا ويشهد لذلك من القرآن أن الله وصفه بأنه بلسان عربي مبين،
وكرر ذلك في مواضع كثيرة وبين ان رفعه عن أن يجعله أعجميًّا. فلو كان يمكن في لسان العجم إيراد مثل فصاحته لم يكن ليرفعه عن هذه المنزلة. وإنه وإن كان يمكن أن يكون من فائدة قوله إنه عربي مبين إنه مما يفهمونه ولا يفتقرون فيه إلى الرجوع إلى غيرهم ولا يحتاجون في تفسيره إلى سواهم فلا يمتنع أن يفيد ما قلناه أيضًا كما أفاد بظاهره ما قدمناه. ويبين ذلك أن كثيرًا من المسلمين قد عرفوا تلك الألسنة وهم من اهل البراعة فيها وفي العربية، فقد وقعوا على أن ليس يقع فيها من التفاضل ما يقع في العربية. أ. هـ.» قال ابن الباقلاني بعد هذا:(ص 46)«ومعنى آخر وهو أنا لم نجد أهل التوراة والإنجيل ادعوا الإعجاز لكتابهم ولا ادعى لهم المسلمون إلخ» وهذه الدعوى أولها غير صحيح كما قد تقدم من قولنا وقال بعد: (ص 46): «ويبين هذا أن الشعر لا يتأتى في تلك الألسنة على ما قد اتفق في العربية» وهذا مأخوذ من قول الجاحظ في الحيوان (ح 1 - ص 75 المصورة من طبعة تحقيق محمد عبد السلام هرون)«وفضيلة الشعر مقصورة على العرب وعلى من تكلم بلسان العرب والشعر لا يستطاع أن يترجم إلخ» .
هذا وقد مهد ابن الباقلاني لرأيه الذي ذكرناه آنفًا بقوله في آخر فاتحة كتابه الإعجاز (ص 8): «ولسنا نزعم أنه يمكننا أن نبين ما رمنا بيانه وأردنا شرحه وتفصيله لمن كان عن معرفة الأدب ذاهبًا وعن وجه اللسان غافلًا؛ لأن ذلك مما لا سبيل إليه، إلا أن يكون الناظر فيما نعرض عليه مما قصدنا إليه من أهل صناعة العربية، وقد وقف على جملٍ من محاسن الكلام ومتصرفاته ومذاهبه، وعرف جملةً من طرق المتكلمين، ونظر في شيء من أصول الدين. وإنما ضمن الله عز وجل فيه البيان لمثل من وصفناه فقال: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} وقال: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}» انتهى. قلت: هنا قد أثبت أبو بكر بن الباقلاني رحمه الله جانب الكلام وحجة المعتقد الديني وذلك مقصده الأول ودافعه
الذي حداه إلى تأليف كتابه وهو بذكر هذا الذي ذكره من التمهيد في فاتحته منصف.
على أنه معدن حجة ابن الباقلاني لمن تأمله من كلام المعتزلة. أهل السنة وهو منهم ينكرون القول بخلق القرآن كما ينكرون ما اشتهر من قول المعتزلة بالصرفة أي أن الناس صرفوا عن الإتيان بصارفٍ من الله سبحانه وتعالى ولو لم يصرفوا فربما قدروا على الإتيان بمثله. وهذا قول مغالطة ضعيف ولا يخلو من أنفاس زندقة والعجب لابن خلدون حيث أخذ بطرف منه في المقدمة في معرض الحديث عن تعليم الصبيان. كان الجاحظ يقول بإعجاز القرآن بنظمه وله كتاب في ذلك ذكرنا إشارة ابن الباقلاني إليه وأن الجاحظ ذكر منه موجزًا في الحيوان (الجزء السادس) وذكر الجاحظ مقالة في الصرفة كأنه قد احتفظ بها على أنها علامة من علامات اعتزاله، (ولعل الجاحظ والله أعلم بالسرائر) قد كان من أهل السنة في السر وكأنه منفردٌ بها بين القائلين بالصرفة وهي في الجزء الثالث من الحيوان وفحواها أن العرب لو لم يصرفوا بصارف من الله سبحانه وتعالى لكانوا قد شوشوا بتشويشات مفتريات ولكان ذلك قد أحدث فتنة ولكابر به مكابروهم. وهذا الوجه الذي قال به الجاحظ ضعيف ينقضه ما ورد في القرآن من وقوع تشويش المشركين بالفعل على النبي صلى الله عليه وسلم وبالقول وقبولهم تحدي القرآن وانبرائهم لمباراتهم قال تعالى [سورة الأنعام]:{وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} قال تعالى [سورة فصلت]: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} هذا عين المعنى الذي تمسك به أبو عثمان للدفاع عن صرفته، ولعل هذا القول الضعيف الذي مرض به الجاحظ لاعتزاله هو الذي وقع عند ابن خلدون موقعًا وغالط به حيث ذكره في المقدمة وهو من زلاته والكمال لله وحده سبحانه وتعالى علوًّا كبيرًا.
ولد ابن الباقلاني حجته من كلام الجاحظ والبيانيين في النظم إذ لا نشك أن الجاحظ رحمه الله قد سبق إلى ما قاله. وكلام البيانيين مضمن في كثير من شعر الشعراء وخاصة شعر أبي تمام وقد جمع ذلك البحتري في أجود صياغة في قصيدته التي مدح بها ابن الزيات ومطلعها:
بعض هذا العتاب والتفنيد
…
ليس ذم الوفاء بالمحمود
ولم يخل في الذي صنع من نظر إلى نعت أي تمام للقلم في كلمته التي أولها:
متى أنت عن ذهلية الحي ذاهل
…
وقلبك منها مدة الدهر آهل
وأبيات البحتري هي قوله:
في نظام من البلاغة ما شك امرؤ القيس أنه نظام فريد
وبديع كأنه الزهر الضاحك في رونق الربيع الجديد
مشرق في جوانب السمع ما يخلقه عوده على المستعيد
حجج تخرس الألد بالألفاظ فرادى كالجوهر المعدود
حزن مستعمل الكلام اختيارًا وتجنبن ظلمة التعقيد
وركبن اللفظ القريب فأدركن به غاية المراد البعيد
وقد استشهد ابن الباقلاني بهذه الأبيات على أنها في وصف بلاغة الشعر وهو يعلم أنها في وصف بلاغة نثر ابن الزيات إذ مقدمتها:
لتفنت في الكتابة حتى
…
عطل الناس فن عبد الحميد
وعبد الحميد إنما كان كاتبًا وعمي عن اسم ابن الزيات بقوله وعلى ما وصفه عن بعض الكتاب (ص 174) فتأمل، هذا مع استشهاده بأبيات من قصيدة أبي تمام اللامية وهي أيضًا في ابن الزيات (162) وفيها نعته للقلم الذي أشرنا إليه وأوله:
لك القلم الأعلى الذي بشبابه
…
يصاب من الأمر الكلى والمفاصل
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه
…
وأري الجني اشتارته أيدٍ عواسل
إذا ما امتطى الخمس اللطاف وأفرغت
…
عليه شعاب الفكر وهي حوافل
وكأن أبا تمام هنا يصف قلمه هو لا قلم ابن الزيات.
ما من حجة ذكرها ابن الباقلاني في نظم القرآن إلا قد أخذها، مع علمه بأقوال البيانيين والجاحظ على الخصوص، أخذ انتزاع من أبيات البحتري هذه لمجيئها مرتبة الحجج منسوقتها نسقًا رشيقًا واضحًا. وقد جزاه على ما ذكر من استحسانه لديباجته وتفضيله فيها على ابن الرومي إن غض مع ذلك من قدره وزعم أن أهل الصنعة قد اتفقوا على تقصيره «مع جودة نظمه وحسن وصفه (أحسبها رصفه) في الخروج من النسيب إلى المديح» (ص 56) وقال (ص 46 (1)) «وهو غير بارع في هذا الباب وهذا مذموم معيب منه» وعندنا أن هذا مذهب من مذهبه له ما يبرره وسنعرض له في بابه إن شاء الله. وتتبع ابن الباقلاني لاميته التي مطلعها:
أهلًا بذلكم الخيال المقبل
…
فعل الذي نهواه أم لم يفعل
وبعد أن وصفها بأنها أجود شعره- وقال (ص 333)«فنتكلم عليها كما تكلمنا على قصيدة امرئ القيس ليزداد الناظر في كابتنا بصيرة» ومحقق الكتاب السيد أحمد صقر مع شدة إعجابه بالباقلاني وازدياد بصيرته بلا شك في كتابه لما أدمن عليه من درسه لم يعفه في الذي تناول به البحتري من تهمة التجني وأنه حاد عن الجادة. انظر المقدمة من 92 - 95. ومن أمثلة تتبع ابن الباقلاني للبحتري قوله: «البيت الأول في قوله ذلكم الخيال ثقل روح وتطويل وحشو وغيره أصلح
(1)() ص 227 من الطبعة الرابعة.
له وأخف منه قول الصنوبري:
أهلًا بذاك الزور من زور
…
شمس بدت في فلك الدور
وعذوبة الشعر تذهب بزيادة حرف أو نقصان حرف فيصير إلى الكزازة وتعود ملاحته بذلك ملوحة، وفصاحته عيًّا وبراعته تكلفًا وسلاسته تعسفًا وسلاسته تلويًّا وتعقدًا فهذا فصل (ص 335)».
قلت ومع كون هذا المطلع من البحتري ليس من روائع مطالعه (لا ولا هذه القصيدة كلها من درجاته الأولى التي هي في الذروة) ومع أن عجز البيت:
فعل الذي نهواه أو لم يفعل
ضعيف كما ذكر ابن الباقلاني، لا ريب بيت الصنوبري الذي أورده أضعف وآخره آبدة.
قال الأستاذ صقر (ص 93 من المقدمة)«ولست أشك في أن الباقلاني قد حاد عن جادة الصواب عندما حكم بأن بيت الصنوبري أخف من بيت البحتري وغني عن البيان أن بيت الصنوبري ثقيل بالغ الثقل. وحسبه أن يجتمع في شطره الأول «الزور من زور» وأن يكون في شطره الثاني كلمة «الدور» ليأخذ سبيله إلى مستقره في حضيض الشعر الأوهد» أ. هـ. قلت ليس بيت الصنوبري في الحضيض الأوهد. ولكنه مولد من صدر بيت البحتري وعجز بيت لأبي تمام «بشمس لهم من جانب الخدر تطلع» -وهو ظريف بضم الظاء وتشديد الياء ولكن ليس بكبير شيٍء. وكذلك سائر شعر الصنوبري وكان مع ذلك محظوظًا لا يخلو شعره من أن يستشهد به في بعض المواضع- كاستشهاد المعري في رسالة الغفران مثلًا ببيته:
تخليه ساطعًا وهجه
…
فتأبى الدنو إلى وهجه
وعرض ابن الباقلاني لبيت البحتري التالي للمطلع:
برقٌ سرى في بطن وجرة فاهتدت
…
بسناه أعناق الركاب الضلل
فقال: «فأما بيته الثاني فهو عظيم الموقع في البهجة وبديع المأخذ حسن الرواء أنيق المنظر والمسمع يملأ القلب والفهم ويفرح الخاطر وتسري بشاشته في العروق، وكان البحتري يسمى نحو هذه الأبيات عروق الذهب وفي نحوه ما يدل على براعته في الصناعة وحذقه في البلاغة» قلت وبعد هذا الإطراء كله أضاف قوله: «ومع هذا كله فيها ما نشرحه من الخلل مع الديباجة الحسنة والرونق» وأخذ بعد في شرح الخلل من حشو وغلو ثم تكرم فأثنى على البحتري بأنه حدد البرق بموضع واحد وهو وجرة ولم يحدده بأربعة حدود كما فعل امرؤ القيس «الدخول فحومل فتوضح فالمقراة كأنه يريد بيع المنزل» (ص 337) وهذه من ابن الباقلاني على طريقة أسلوبه في تناوله الشعراء عبارة سوقية وكأنه شعر بذلك فحاول أن يتلافى سوقيتها بضرب من التفقه فقال «فيخشى إن أخل بحد أن يكون بيعه فاسدًا وشرطه باطلًا، فهذا باب -وليس كما قال البحتري ألمًا فات تلاف-» الإشارة إلى قوله:
ألما فات من تلاقٍ تلاف
…
أم لشاكٍ من الصبابة شافي
حسبنا هذا القدر من تجني ابن الباقلاني على البحتري وسوء جزائه له على أخذه منه. من أمثلة أخذه منه قوله (63/ 64)«ومعنى ثامن وهو أن الكلام يتبين فضله ورجحان فصاحته بأن تذكر الكلمة منه في تضاعيف كلام، أو تقذف ما بين شعر، فتأخذها الأسماع وتتشوف إليها النفوس ويرى وجه رونقها باديًّا غامرًا سائر ما تقرن به كالدرة التي ترى في سلك من خرز أو كالياقوتة في واسطة العقد» . هذا من قول البحتري: «نظام فريد» وقوله: «بألفاظ فرادى كالجوهر المعدود» وقال ابن الباقلاني وقد مر ذكرنا له: «وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة القصة تفاوتًا بينًا ويختلف اختلافًا كبيرًا، ونظرنا في القرآن فيما يعاد ذكره
من القصة الواحدة فرأيناه غير مختلف ولا متفاوت بل هو على نهاية البلاغة وغاية البراعة فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر لأن الذي يقدرون عليه قد بينا فيه التفاوت الكثير عند التكرار وعند تباين الوجوه واختلاف الأسباب التي يتضمن»: هذا أصله من قول البحتري:
مشرق في جوانب السمع ما يخلقه عوده على المستعيد
وقد غلا البحتري في صفته بلاغة ابن الزيات غير أنه احترس بأن جعل رسائله، وهي التي يصف فاقدة لنظام الشعر ولو وجدته لهجنت شعر الفحول:
ومعان لو ضمنتها القوافي
…
هجنت شعر جرول ولبيد
فكأنه دل بهذا أن بلاغتها دون بلاغة الشعر -واكتفى بجعلها في باب الرسائل قمة أو كقمة:
لتفننت في الكتابة حتى
…
عطل الناس فن عبد الحميد
أبيات البحتري فيها بعد -إلا هذا الذي احترس به من تفضيل الشعر من طرفٍ خفي- نعتٌ لما يكون من أعلى ذرا البلاغة ولذلك اعتمدها ابن الباقلاني وولد منها ما ولد من حجج في معاني الإعجاز -على أنه حرصًا على إخفائه الانتفاع بها والأخذ منها -والله أعلم- حذف مما استشهد به منها البيتين اللذين اعتمد عليهما أكبر الاعتماد وهما:
مشرق في جوانب السمع ما يخلقه عوده على المستعيد
حجج تخرس الألد بألفاظ فرادى كالجوهر المعدود
اللهم إلا أن يكون سقوطهما من كتابه من زلل النساخ وسهوهم.
قول ابن الباقلاني بإعجاز النظم يعارض به كما لا يخفى قول المعتزلة بالصرفة. وقوله بعدم التفاوت الذي جعله جزءًا من قوله بإعجاز النظم مولد من فكرة الخلق إذ مع اعتقاده أن كلام الله هو القديم المنزل وليس بمخلوق، قد قال كما
مر بك من قوله: «لسنا نقول بأن الحروف قديمة» . وما ليس بقديم فهو محدث مخلوق. وكما ليس في خلق السبع الطباق تفاوت {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} - كذلك ليس في حروف القرآن وائتلافها في كلم ونسق ونظامٍ من تفاوت. صلة هذا بقول المعتزلة لا تخفى على نفور ابن الباقلاني من هذا الأصل.
هذا وحجة ابن الباقلاني هي بعينها حجة كلردج حيث ذكر أنه أيما معنى ننوط بدلالة كلمة الشعر فإنها تتضمن بالضرورة أن المنظومة لا تكون كلها شعرًا ولا يجوز لها ذلك. ذلك بأن الشعر Poetry خلق وإبداع عنده. وأن أصله من محاكاة «أنا» المتناهية البشرية بواسطة الخيال الثاني لعمل الخيال الأول، وهذا بدوره تحاكي «أنا» البشرية المتناهية فيه «أنا» اللامتناهية القدسية التي في قول يسوع «قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن» . الخيال الأول، كما تقدم، يتم به وعي المدركات من طريق امتداد الذات إليها بالترتيب والنظام التلقائي، والخيال الثاني يجدد خلق ما وعاه إلى تكرار عمل الخيال الأول، عمدًا إراديًّا يذيب به ويبث ويبدد لكي يخلق من جديد. جلي من هذا أن الخيالين الأول والثاني بحكم تناهيهما البشري الذي لن يبلغا مدى اللامتناهي. هذا ما نزعم أنه يشبه حجة التفاوت وعدم التفاوت بسبب دخول العامل الديني الذي يتجاوز كل حد ويرتفع عن كل عجز، وهو أن يكون الفعل منسوبًا إلى الخالق الأزلي القديم، إلى الله سبحانه وتعالى إذ أنزل الوحي على رسوله صلى الله عليه وسلم في قولنا- وإلى يسوع والكلمة في قول النصارى لغلوهم في قدسية المسيح على نحو ننكره كما هو معلوم.
حجة كلردج في سنخها دينية وكان كلردج في أعماقه داعية دينيًّا. قال من رسالة كنب بها وأوردها ألان غرانت Allan Grant في ص 33 من كتابه A preface to Coleridge، Longmans، London 1972 - 77 ما معناه على وجه التقريب «أحيانًا
ربما أحس ضروب الجمال التي ذكرتها جميلة في ذاتها ومن أجل ذاتها. ولكن أكثر الحين تبدو لي جميع الأشياء الصغيرة حقيرة. كل العلم الذي يمكن أن نبلغه والمعرفة إن هو إلا لعب أطفال. الكون كله هل هو إلا كومةٌ ضخمةٌ مكومةٌ من أشياء صغيرة؟ لا أستطيع التفكر والتأمل إلا للأجزاء وكل الأجزاء فهي صغيرة. كأن عقلي يؤخذ بصداع إن كلف رؤية الشيء العظيم وعرفانه، الشيء الواحد الذي لا يتجزأ. وباعتقادي وجود هذا الواحد الذي لا يتجزأ أجد أن الصخور والشلالات والجبال والمغارات تنيلني شعوًا من الرفعة والجلال. ولكنني بهذا الاعتقاد أجد جميع الأشياء ما يبدو من لا نهائيتها إنما هو زور وباطل». قال ألان غرانت في أول ترجمته من كتابه المذكور آنفًا (مقدمة لكلردج) ص 28:«صمويل تايلور كلردج الشاعر الناقد الأدبي والفيلسوف الديني ولد في 21 من أكتوبر سنة 1772 م إلخ» وبمناسبة ذكر تاريخ مولده فإن وفاته كانت في 25 يولية سنة 1834 م وقال غرانت في معرض حديثه عن أصول رومنتيكية كلردج: «هذا وقد كان كلردج من قبل لقائه ورد زورث سنة 1795 م يرى أن الشعر كالأداة للدعاية للعقيدة المسيحية دينًا، وللمبادئ الديمقراطية فيما يتعلق بالسياسة وحرية التعبير» . (هذه ترجمة تقريبية وراجع الأصل ص 33 و 29 و 28 و 15).
قرأ كلردج في كمبردج وفي جوتنجن وكان يعرف عدة لغات وسافر في أوروبا وزار إقليم البحر المتوسط وأقام في جزيرة مالطة زمنًا وكان له تعليق بالفلسفة والأديان ومما ذكر في رسالته التي تقدمت الإشارة إليها: «أحيانًا أميل إلى قول البراهمة أن العقود خير من القيام وأن أرقد خير من أن أقعد وأن أنام خير من أكون يقظًا وأن الموت أفضل الأحوال جميعًا» ورحم الله أبا الطيب حيث قال:
كفى بك داءً أن ترى الموت شافيًّا
…
وحسب المنايا أن يكن أمانيا
وذكر كلردج في رسالة أخرى أنه من قراءته في زمان مبكر الحكاية الخرافية وعن الجن Gennii وما أشبه قد اعتاد عقله إلف ما هو شاسع واسع ولم يعد يرى أن الحواس هي أساس لما يعتقده. وذكر أنه قرأ من قصص ألف ليلة وليلة كتابًا ملك عليه لبه ولا سيما قصة رجل كان عليه أن يجد عذراء بكرًا كاملة الإحصان، وأنه كلما أصابت الشمس نافذة الدار كان يمسك به ويقرأ وهو يتشرق وأن أباه فطن لكتبه هذه يومًا فأحرقها وأنه حينئذ صار أمرأ تغلب عليه أحلام الخيال ولا يميل إلى ما هو من باب الحركة ونشاط الأجسام.
هذا ومهما يكن من أمر ثقافة كلردج واطلاعه فلا تستبعدن أن تكون حجة ابن الباقلاني وأقوال متكلمي المسلمين في الإعجاز القرآني قد بلغته من طريق درسه وتجربته واتصاله بالأدباء والعلماء في شتى الأقطار ممن يكون قد ترحل وحذق أصناف اللغات وقرأ أصناف الكتب. وقد كان ما ترجم الأوروبيون من تصانيف الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام كثيرًا. «فمن ذلك ترجمة وليم بدويل William Bedwell (1561 - 1632 م) لمعاني القرآن وكان مستشرقًا وذكره الزركلي في أعلامه، الطبعة الثالثة 9 ص 225» . وقد كان القرن الثامن عشر الميلادي قوي الاتصال من رجالات الفكر الأوروبي بالشرق كثيرًا أخذهم من علومه وآدابه وقد تجد الإفرنج أميل لأن يذكروا في باب الدين البراهمة ونحوهم من أن يذكروا الإسلام، وكثيرًا ما يقع هذا ونحوه في كلامهم كموقع الرمز له والكناية عنه. من هذا، الذي نسبه كلردج إلى البراهمة، فبعضه كما لا يخفى من أقوال المتصوفة والزهاد في الفناء وما أشبه، وهؤلاء أقرب لأن يكون أخذ عنهم من أن يكون قد أخذ عن البراهمة، إذ عهد اتصال حضارة أوروبا بأسباب حضارة المسلمين أقرب من زمان قوة ارتباط بريطانية بالهند وإنما كانت أوائل ذلك في القرن الثامن عشر نفسه وكانت قوته من بعد.
وإنما جرنا إلى إطالة هذا الفصل ما نراه من فتنة بأمر التفرقة بين القصيدة