المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وقد أطال شعراء السيرة والأخبار النظم في موحدات القوافي ومزدوجاتها - المرشد إلى فهم أشعار العرب - جـ ٤

[عبد الله الطيب المجذوب]

الفصل: وقد أطال شعراء السيرة والأخبار النظم في موحدات القوافي ومزدوجاتها

وقد أطال شعراء السيرة والأخبار النظم في موحدات القوافي ومزدوجاتها في الرجز وغيره. وقد فاخر الأستاذ عبد الحي الكتاني رحمه الله بذلك في الجزء الأول من تراتيبة الإدارية الغرب، يجعله من باب الملاحم. وعندي أنه لا شيء يمنع من ذلك إلا ما دربنا نحن في العربية عليه من اشتراط الحرارة وحمي الروح وقوة الأداء في الشعر على نحو أن اتفق في القصيد الرصين المحكم فقل أن يتفق في المطولات جدًا مما يتجاوز المائة والمائتين.

وقد أطال ابن دريد في مقصورته وتأتي له فيها اتقان ومتانة وحوكي في منهجه ولحازم القرطاجني من رجال المائة السابعة مقصورة بالغة الطول من الألفيات محكمة الصياغة غير أن الذي فيها نزر من جيد الشعر الرائع، وهذا باب نأمل إن شاء الله أن نفصل فيه بعض التفصيل في موضع يناسبه فيما يلي من الفصول، حين نعرض لتطويل شعراء المولدين ولا سيما أهل الأندلس منهم ممن جاءت أشعارهم في الذخيرة ونفح الطيب وغيرها من الكتب والدواوين وبالله التوفيق.

وحسبنا هذا القدر من الحديث عن الإمتاع مقصودًا إليه أو غير مقصود من حيث دخوله في حيز الأغراض. ومن شاء جعله داخلًا في حيز نفس الشاعر، وهو الركن الرابع من عناصر الوحدة كما تقدم ذكره، والحديث عنه سيأتي إن شاء الله.

‌تصنيف الأغراض:

أقدم أغراض الشعر فيما نرجحه ما كان متصلًا بحياة الجماعة وعقيدتها وعرفها ووجوه نشاطها. وهو الذي يسميه الناس الآن بالأدب الشعبي وربما استعملوا العبارة الإنجليزية فولكلور وهي مركبة من كلمتين: فولك (FOLK) هي الناس والشعب وما إلى ذلك ولور (LORE) أي العلم- يعنون بذلك التقاليد

ص: 387

والأخبار الموروثة والمعارف المأثورة، وهذا قد تنوسي كله إلا ما شذ وندر لا يغاله في القدم، وبقيت بعد أشياء حورت عنه، أو آسانٌ منه تدل عليه. ومن أعراقها وأقواها صلة به، ألعاب الأطفال، كالذي رواه أبو تمام من نحو قول الجارية:

يا رب من عادى أبي فعاده

وارم بسهمين على فؤاده

واجعل حمام نفسه في زاده

وترد علي صاحبتها:

سبي أبي سبك لن يضيره

إن معي قوافيا كثيرة

ينفح منه االمسك والذريرة

والذريرة طيب يصنع من مدقوق الصندل مسحوقه مع أخلاط أخر. وأجيال الأطفال يروون أناشيد ألعابهم جيلًا بعد جيل فلا تنقرض إلا حين تتغير أساليب حياة الناس كالذي شاهدناه من تغير أساليب الحياة من بساطة البداوة إلى تعقد حياة المدائن في مدى خمسين عامًا. واستمرار رواية الأطفال لما يروونه بلا تغيير ولا رجوع إلى نص مكتوب مما يصحح عندنا أمر رواية القدماء كأشعارهم، كما زعمنا من قبل في أوائل هذا الجزء. وفي حيوان الجاحظ مما يجري مجرى الأدب الشعبي أمثلة كثيرة نحو خبر علقمة والشق- والأبيات:

علقم إني مقتول

وإن لحمي مأكول

اضربهم بالهذلول

ضرب غلام بهلول

وفي الكامل مقال الضب للحسل حين كانت الحيوانات تتكلم:

أهدموا بيتك لا أبالكا

وأنا أمشي الدألي حوالكا

وضرب تلبية العرب التي ذكروا وقد أورد أبو العلاء منها جملة صالحة في الغفران في قسمها الثاني وانظر ص 534 - 537 وضروب أناشيد سقياهم وقد

ص: 388

أورد البلاذري من مفاخرات قبائل قريش في ما حفروا من بئارٍ نماذج عدة (1) وذكر ابن سلام أن من أقدم الشعر قول العنبر بن تميم:

قد رابني من دلوي اضطرابها

والنأي في بهراء واغترابها

وقولهم:

يأيها المائح دلوى دونك

من قديم شعر السقيا الجاري مجرى الأدب الشعبي.

ومن الأخبار الدالة في باب الأدب الشعبي تفسير عبارة حداء الإبل بهيد هيد أنها من حين انكسرت يد مضر فحملوه وهو يقول وايداه وايداه. وكان أحسن خلق الله جرسًا وصوتًا فأصغت الإبل إليه وجدت في السير فجعلت العرب مثالًا لقوله «هايدا هايدا» يحدون به الإبل حكى ذلك عبد الكريم في كتابه «(العمدة 2/ 314) - قلت «وهايدا هايدا» ليست مما روي في زجر الإبل إلا أن يكون عبد الكريم توهم أن «وايداه» تحرفت إلى «هايدا» وهذه أقرب إلى ألفاظ الزجر وهي هيدٌ وهادٌ وهيد بكسير الهاء، والأولى فتحها، التي ذكرها الفيروز أبادي، وقد ذكر دي دي في باب الياء والواو وزعم أن أعرابيًّا ضرب غلامًا وعض إصبعه فمشى وهو يقول دي دي أراد يدي فسارت الإبل على صوته. وسمعنا في الدارجة من أهل الجمال هيد بالكسر وهاج وصيرورة الجيم دالًا في الدارجة كثير فهذا يسوغ عكسه. وقال ذو الرمة:

إذا حدوهن بهيد هيد

حتى استحلوا قسمة السجود

والمسح بالأيدي من الصعيد

(1)() منها على سبيل المثال: نحن حفرنا البحر أم أحراد، ليست كبذر النذور الجماد- هذا تقوله امرأة من بني عبد الدار وأجابتها صفية بنت عبد المطلب بقولها نحن حفرنا بذر. تسقى الحجيج الأكبر. وأم أحراد بشر. فيها الجراد والذر.

ص: 389

ومر بك في أول الكتاب عن نسبة الرجز إلى نحو من هذا الخبر ومن روى إن كان مرويًّا «يدي يدي» فليس هذا رجز ضربة لازم لاشتراك غير الرجز في «مفاعلن» .

وعندي أن ما روي من خبر رئاء أبينا آدم لأمنا حواء، ورواه الطبري في تأريخه، وأشار إليه أبو العلاء في الغفران مع فكاهة ما وتهكم، وهو ما نسب إليه من قوله عليه السلام يرثي ولده هابيل لما قتله قابيل:

تغيرت البلاد ومن عليها

فوجه الأرض مغبرٌ قبيح

في أبيات، له أصلٌ في الأدب الشعبي.

ومن قديم الشعر ما كان متصلًا بالموت، وهذا قريب النسب من الأدب الشعبي وقد ذكر ابن سلام من أوائل الشعر قول دويد:

اليوم يبني لدويدٍ بيته

والبيت ههنا إنما هو القبر وهذا ظاهر من سياق الأبيات، وفيها:

يا رب نهب حسنٍ هويته

ومعصم ذي برةٍ لويته

يعني التمتع بالنساء:

لو كان قرني واحدًا كفيته

أوردته الموت وقد ذكيته

ويذكر أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما تمثل بهذا حين استقتل حتى استشهد وكأن البيتين الأخيرين من شعبيات القتال.

وذكر ابن سلام شعرًا في الوصية لزهير بن جناب الكلبي منه قوله:

من كل ما نال الفتى قد نلته إلا التحية

وصلة الوصية بالموت لا تخفى.

ص: 390

ويروي ليزيد بن خذاق أو للممزق العبدي:

هل للفتى من بنات الدهر من واق

أم هل له من حمام الموت من راق

قد رجلوني وما رجلت من شعثٍ

وألبسوني ثيابًا غير أخلاق

ورفعوني وقالوا أيما رجل

وأدرجوني كأني طي مخراق

وأرسلوا فتيةً من خيرهم حسبًا

ليسندوا في ضريح الترب أطباقي

هون عليك ولا تولع بإشفاق

فإنما مالنا للوارث الباقي

كأنني قد رماني الدهر عن عرض

بنافذات بلا ريش وأفواق

والقطعة مفضلية روايتها البصرية لابن خذاق والكوفية للممزق وروى ابن الأنباري قال أبو العباس ثعلب الممزق أول من ذم الدنيا. والاضطراب في نسبتها يشهد بقدمها وموضوعها ديني المعدن وثيق الصلة بأمر الموت والدفن والقبر وحكمة القلوب الخالدة. وفي دالية طرفة مشابه من هذه الأبيات القافية وطرفة قديم ليس الممزق ولا ابن خذاق بأقدم منه وذلك قوله:

كريم يروي نفسه في حياته

ستعلم إن متنا غدًا أينا الصدي

أرى قبر نحام بخيل بمال

كقبر غويٍّ في البطالة مفسد

ترى جثوتين من ترابٍ عليهما

صفائح صمٌ من صفيح منضد

هنا موضع التشبيه بأبيات الممزق أو ابن خذاق وهو ههنا من تأمل نفس الصناعة الدفن وتنضيد الحجارة والذي ذكره الممزق أو يزيد أو من كان قال هذه الأبيات إعدادٌ للدفن من ترجيل وتكفين. ثم هذا الموت الذي ذكر جانبًا من أمره طرفة لم يباعده من نفسه، بل الذي دعا إلى قوله ما قال هو تمثله اقتراب الموت وحرصه على مبادرة اللذات قبل مجيئه بياتًا أو نهارًا أو كما قال:

أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي

عقلية مال الفاحش المتشدد

ص: 391

أرى العيش كنزًا ناقصًا كل ليلة

وما ينقص الأيام والدهر ينفد

لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى

لكالطول المرخى وثنياه باليد

وقد خلص موضوع صفة الموت والإعداد للدفن من الجاهلية إلى عصور الإسلام من بعد- ومما يدلك على كثرته في الجاهلية ما نجد من الإشارة إلى موضوعه كما في قول الأسود بن يعفر:

ولقد علمت سوى الذي نبأتني

إن السبيل سبيل ذي الأعواد

إن المنية والحتوف كلاهما

يوفي المخارم يرقبان سوادي

عن أبي عبيدة أنه أراد بذي الأعواد جد أكثم بن صيفي وكان من أعز أهل زمانه، فيما روى ابن الأنباري وقال:«فيقول لو أغفل الموت أحدًا لأغفل ذا الأعواد وأنا ميت إذ مات مثله، ويقال أراد بذي الأعواد الميت لأنه يحمل على سرير أي إني ميت كما مات غيري» أ. هـ. قلت والوجهان متقاربان. وأشبه بالسياق أن يكون معنى سبيل ذي الأعواد أي سبيل هذه الأعواد، إذ كانوا يحملون الميت على أعواد، وهو قول كعب بن زهير:

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته

يومًا على آلة حدباء محمول

وذكروا أن الحمل على النعش وهو سرير إنما تعلمه الناس من الحبشة وإن أول من حملت عليه زينب أم المؤمنين رضي الله عنها في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهذا الخبر يدل على حداثة عهد العرب بالنعش، وفي شعر المهلهل:

كأن الجدي جدي بنات نعشٍ

يكب على اليدين بمستدير

فهذا يدل على قدمه، أو أن كل ما يحمل عليه الميت يسمى نعشًا أو لعل أهل الحجاز استعملوا النعش الذي كالسرير بأخرة. والنعش ربما أطلق في اللغة على سرير

ص: 392

الميت وعلى غيره وهو كذلك في شعر النابغة وذلك قوله:

ألم تر خير الناس أصبح نعشه

على فتيةٍ قد جاوز الحي سائرا

فسر النعش ههنا بمحفة كان يحمل عليها الملك إذا مرض. (انظر شرح ابن عاشور رحمه الله ص 115 طبعة تونس 1976 م).

وقال عبدة بن الطبيب:

ولقد علمت بأن قصري حفرةٌ

غبراء يحملني إليها شرجع

الشرجع هو الأعواد التي ذكرها الأسود بن يعفر وعبدة تميمي مثله، قال ابن الأنباري والشرجع خشب يشد بعضه إلى بعض كالسرير يحمل عليه الموتى:

فبكى بناتي شجوهن وزوجتي

والأقربون إلي ثم تصدعوا

وتركت في غبراء يكره وردها

تسفي علي الريح حين أودع

وأبيات سلمى بن ربيعة التي ذكرها صاحب الحماسة ومر ذكرها في باب الحديث عن الأوزان وهي التي أولها:

إن شواءً ونشوة

وخبب البازل الأمون

من هذا الباب الديني الوعطي إذ ذكر فيها هلاك الأمم الأولى. وقد خلص شعر الموت من الفصيحة إلى الدارجة في كثير من أقطار العربية مثل كلمة المادح عندنا التي أولها:

زايلة الدنيا دي الـ ما بدوم لي خيرًا (أي خيرها)

ولت وأدبرت بقيت عصيرا (تصغير وقت العصر)

وللسيد محمد عثمان المرغني رحمه الله كلمة مقاربة لوعظ العامة أولها:

ليس الغريب غريب الشام واليمن

إن الغريب غريب اللحد والكفن

ص: 393

وصف فيها أمر الحنوط والإدراج والتكفين وقال فيها:

وخلعوني قديمًا كنت لابسه

وألبسوني جديدًا اسمه الكفن (1)

صلوا علي صلاةً لا ركوع بها

آخر صلاةٍ من الدنيا فيا حزني

وشعر الرثاء من أقدم الشعر سبقًا لما فيه من عناصر الشعبية الجماعية والدين والحكمة والمواعظ الطبيعية المعدن البسيطة المسالك.

فالعنصر الشعبي من الرثاء بمثله النوح ومنه قول ابنة أبي المسافع:

وما ليث غريفٍ ذي أظافير وأقدام

كحبي إذ تلاقوا ووجوه القوم أقران

وقد وصف كعب بن زهير النائحة إذ وصف ناقته فقال:

كأن اوب ذراعيها إذا عرقت

وقد تلفع بالقور العسا قيل

شد النهار ذراعًا عيطلٍ نصف

قامت فجاوبها نكدٌ مثاكيل

نواحة رخوة الضبعين ليس لها

لما نعى بكرها الناعون معقول

وكأن كعبًا وصف النائحة من أجل التلميح إلى ما خوفه به أعداؤه من أنه سيقتل فشبه ناقته بالنائحة التي ستنوح عليه- وذلك قوله:

يسعى الوشاة جنابيها وقولهم

إنك يا ابن أبي سلمى لمقتول

وقد كان من عادة الجاهلية أن يقيموا على فقبر المرء ناقته بعد أن يقطعوا مشافرها ويقيدوها فتموت عطشًا فيزعمون أنه يفعل هذا بها لتكون مهيئة له يركبها حين يبعث. وفي القرآن ما يدل على أن زنادقة قريش كانوا ينكرون البعث- قال تعالى: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا

(1)() هكذا بالألف واللام ينشدونه وتكون الياء في آخره ترنمًا وكأنها ياء نسبة ويجوز أن صحة الرواية: كفني بلا تعريف بالأداة ولكن بالإضافة إلى ياء المتكلم.

ص: 394

سِحْرٌ مُبِينٌ} [هود] وقال لبيد بن ربيعة في معلقته يذكر هذه الناقة واسمها البلية:

تأوي إلى الإطناب كل رذيةٍ

مثل البلية قالصٍ أهدامها

يصف المرأة البائسة يشبهها بالبلية:

وفي معلقة طرفة وصف للناقة كأنه تشريح لها. وذلك أنه وصفها في حال مرعاها حين تربعت القفين وفي حال انخرطها في الصحراء ثم في حال انهيارها بعد الضمور والكلال. وقد وصف علقمة رذايا الإبل حيث قال:

بها جيف الحسرة فأما عظامها

فبيضٌ وأما جلدها فصليب

وكأن طرفة في نحو قوله:

وطي محالٍ كالحني خلوفه

واجرنةٌ لزت بدأيٍ منضد

الخلوف الضلوع والاجرنة جمع جران بكسير الجيم وهو العنق والدأي بسكون الهمزة جمع دأية وهي فقار الظهر والعنق.

ومحو قوله:

وجمجمة مثل العلاة كأنما

وعى الملتقى منها إلى حرف مبرد

وعجز قوله:

وعينان كالماويتين استكنتا

بكهفي حجاجي صخرةٍ قلت مورد

كل هذا الوصف التشريحي بعد نعت السمن في المرعى والحركة والنشاط في الرحلة إنما عني به بليته التي ستوقف عند قبره- وهذا يناسب حديثه عن الموت الذي مر، كما يناسب عقره للناقة الكوماء في آخر القصيدة، وكأنها أيضًا هي المرادة لتكون بليته، ولكنه بحكم مبادرته لذاته قبل موته أو كما قال:

كريمٌ يروي نفسه في حياته

ستعلم إن متنا غدًا أينا الصدى

ص: 395