الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والإيمان وما سوى ذلك كلا علم. أو كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} .
ما سقنا جميع هذه الأمثلة إلا من أجل الدلالة على أن الجهل بمعنى عدم المعرفة هو الأصل، والجهل الذي هو مقابل للحلم وركانة الرأي فرع. ومن قديم ما جاء في الجهل قول النابغة:
هلا سألت بني ذيبان ما حسبي
…
إذا الدخان تغشى الأشمط البرما
يخبرك ذو فضلهم عني وعالمهم
…
وليس جاهل شيء مثل من علما
فجعل الجهل في مقابلة العلم كما ترى. وقال عنترة:
هلا سألت الخيل يا ابنة مالك
…
إن كنت جاهلة بما لم تعلمي
عنترة والنابغة كلاهما جاهلي قديم. وما أحسب أحدًا من القدماء كان يقول «الدب الجاهلي» ولكن كانوا يقولون شاعر جاهلي وشعر جاهلي وشاعر مخضرم وشاعر إسلامي وشاعر محدث- وهذا واضح وفيه بعدٌ من التناقض الذي في قولك أدبٌ وجاهلي تصفه به تشتقه من الجهل على أي وجه كان ذلك الجهل فتأمل هذا، ونعود من بعد إلى ما كنا في مضماره.
رجعة إلى معنى الإمتاع بالشعر:
كما من الشعر ما يعمد فيه الشاعر إلى إمتاع نفسه او إمتاعك بالنغمة والإيقاع والترنم، ويكون امر ذلك واضحًا كل الوضوح كما تمثلنا به من شعر لبيد والحادرة، من الشعر ما يكون فيه أمر الإمتاع بالترنم مخالطًا لغيره كما في كلمة المنخل اليشكري:
إن كنت عاذلتي فسيري
…
نحو العراق ولا تحوري
وهي التي يقول فيها:
ولقد دخلت على الفتاة الخدر في اليوم المطير
الكاعب الحسناء ترفل في الدمقس وفي الحرير
والأبيات معروفة وتلذذ الشاعر فيها بالغزل والفوز بالوصل وحكاية ذلك مخالط لتلذذه بالترنم. الإمتاعان متداخلان متقابلان، كأن كلًّا منهما مع مخالطته الآخر تحسه أنت متميزًا بنفسه على انفراج. ويشبه هذا، أو يمكن تشبيهه بما يسميه منشدو المديح النبوي عندنا بالتبطين، وهو أن يبدأ منشد بيتًا ويبدأ آخر نفس البيت بعد قليل، فيتساوق الصوتان متداخلين متمايزين مع انسجام فيهما.
وقصيدة عنترة:
هل غادر الشعراء من متردم
…
أم هل عرفت الدار بعد توهم
شاعرنا جادٌ في الدفاع عن نفسه ليس قصده إلى إمتاعك وإمتاع نفسه بترنم صافٍ كل ما يقوله ذائب فيه كلبيد، ولكن إلى إراحة نفسه وتبرير مواقفها والدفاع عنها- فالترنم منه مساوقٌ للتعبير «مبطنٌ» له (على حد تعبير أهل النشيد) منسجم معه، وكأن فيه مدامع طربه وحزنه معًا، والصوت جهير- كقوله مثلًا:
ولقد حفظت وصاة عمي بالضحى
…
إذ تقلص الشفتان عن وضح الفم
في حومة الحرب التي لا تشتكي
…
غمراتها الأبطال غير تغمغم
إذ يتقون بي الأسنة لم أخم
…
عنها ولكني تضايق مقدمي
يدعون عنتر والرماح كأنها
…
أشطان بئرٍ في لبان الأدهم
ما زلت أرميهم بثغرة نحره
…
ولبانه حتى تسربل بالدم
فازور من وقع القنا بلبانه
…
وشكا إلي بعبرةٍ وتحمحم
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى
…
ولكان لو علم الكلام مكلمي
زعم بعضهم أن عنترة كان ممن خام ثم أقدم محتجين بقوله «ولكني تضايق مقدمي» . ولو كان عنترة ممن يخيم لم تكن الأقاصيص لتجعله أبا الفوارس والجلي الظاهر أنه أقدم على علم بالحرب، وأن هؤلاء الذين معه كانوا يعتمدون على إقدامه ويقتدون به ويحثونه عليه متحمسين معجبين- هناك فقط كانوا يعرفون مكان غنائه ولذلك قال:
ولقد شفا نفسي وأذهب سقمها
…
قيل الفوارس ويك عنتر أقدم
وقدم ابن الأنباري كلمة عنترة على لبيد وعمرو بن كلثوم. وذكر ابن رشيق أن أبا عبيدة والمفضل كانا يخرجانها هي وهمزية الحارث من السبع ويجعلان مكانهما الأعشى والنابغة والمشهور خلاف ذلك والكلمتان أفحل وأوفى من كلمتي النابغة والأعشى على جودة هذين.
ومن الشعر ما يكون الترنم والفرح أو الطرب به فرعًا أو مقصودًا به إلى التسلي وإراحة الشاعر ضمير نفسه على نحو ما قاله ذو الرمة في طلب الشفاء من هذا الوجه حيث قال:
خليلي عوجا من صدور الرواحل
…
بجمهور حزوى فابكيا في المنازل
لعل انهمال الدمع يعقب راحةً
…
من الوجد أو يشفي نجي البلابل
ولا أحسب أن القارئ الكريم سيلتبس عليه أمر هذا الذي نتحدث عنه هنا من الإمتاع والتسلي والاشتفاء بالنغم بأمر ما تحدثنا عنه من قبل من أمر التعبير الكنين «بالموسيقا» الذي هو أصلٌ مع التعبير بالبيان الذي هو أيضًا أصل. الترنم هنا نعني به الإنشاد الذي ينشده الشاعر لنفسه ولك بصوته الجهير- على أن هذا شيء مقدر، نقدره نحن على فرض أن الشاعر فعلًا ينشدنا وعلى فرض أننا نسمع وننشد معه فالترنم هنا تابعه للتعبيرين البياني والإيقاعي بعد أن تما واكتملا نابعٌ منهما.
وكل شعر يكون منهم ترنمه عامدًا إلى إراحة النفس وشفائها، على حد تعبير ذي الرمة واصله قول امرئ القيس الذي تنقصه ابن الباقلاني ظلمًا وتجنيًّا:
وإن شفائي عبرةٌ مهراقةٌ .... فهل عند رسمٍ دارسٍ من معول
فالأغلب عليه قصد الحكمة، وإن يك فيه الغزل والوصف، وعلى ذلك مجرى لامية امرئ القيس- والحكمة فيها أن الكلام مسوق على وجه الذكرى والعظة والتفكر في مأساة الحياة.
ومما يدل على خطأ الذين قطعوا بأن القصيدة الحقة المراد بها أول من كل شيء الإمتاع -وهذا مذهب كلردج وبناه على مقالة أرسطو طاليس في شعر يونان في بعض ما بناه عليه- أن كثيرًا من جياد القصائد القصد الأول منها العظة ظاهرة أو مستكنة -كمعلقة زهير ودالية الأسود بن يعفر التي فيها يقول:
ماذا أؤمل بعد آل محرقٍ
…
تركوا منازلهم وبعد إياد
أهل الخورنق والسدير وبارقٍ
…
والقصر ذي الشرفات من سنداد
أرضًا تخيرها لدار أبيهم
…
كعب بن مامة وابن أم دؤاد
جرت الرياح على مكان ديارهم
…
فكأنما كانوا على ميعاد
ولقد رأيت كيف أخرج كلردج «أشعيا» من أن يكون مقصودًا به الإمتاع فجعله لقدسيته شعرًا لا منظومة -وهذه مغالطة، على ما ذكرناه من أن مراده من الشعر الإبداع دون الإيقاع والنظم. وكان الأولى به ألا يدخل كلام أشعيا في مدخل الأدب المراد به محض الإمتاع إذ هو من كلام أنبياء بني إسرائيل.
وأيضًا مما يدخل في نطاق الخطأ القطع بأن النظم التعليمي لا يدخل في مدلول الشعر. وهذا بعضه من مذهب كلردج حيث جزم بأن ما لا يراد به الإمتاع أصلًا فليس بقصيدة (أو منظومة) حقة. وبعضه من مذهب أرسطو طاليس حيث
شكا من أن يقرن امبدوكليس (انباذو قليس) مع هوميروس. على أن أرسطو طاليس ينص نصًّا صريحًا (إن صحت هذه التراجم عنه) على أن الموزون شعر. وعلى أن الشعر على هذا الوجه ليست المحاكاة فيه بشرط. وهذا مقارب جدًّا لتعريفنا الشعر في العربية. قال (انظر فن الشعر ترجمة د. عبد الرحمن بدوي ص 6 - إلى ص 7): «على أن الناس قد اعتادوا أن يقرنوا بين الأثر الشعري وبين الوزن فيسموا البعض شعراء إيليجيين والبعض شعراء ملاحم، فإطلاق لفظ الشعراء عليهم ليس لأنهم يحاكون بل لأنهم يستخدمون نفس الوزن» . شعراء إيلجيين أي أصحاب مراث ونلفت النظر إلى قوله إن يقرنوا بين الأثر الشعري وبين الوزن وإلى قوله ليس لأنهم يحاكون لجعل المحاكاة غير لازمة كما ترى. ثم يقول بعد هذا مباشرة: «والواقع ان من ينظم نظرية في الطب أآو الطبيعة يسمى عادة شاعرًا، ورغم ذلك فلا وجه للمقارنة بين هوميروس وأنباذ وقليس إلا في الوزن. ولهذا أولى بنا أن نسمي أحدهما (هوميروس) شاعرًا والآخر طبيعيًّا أولى منه شاعرًا، وكذلك لو أن امرأً أنشأ عملًا من أعمال المحاكاة وخلط فيه بين الأوزان كما فعل خيريمون في منظومته قنطورس وهي رابسودية مؤلفة من أوزان شتى فيجب أن يسمى شاعرًا تلك هي الفروق التي يجب وضعها في هذه الأمور» . أ. هـ. الرابسودية كما عرفها المترجم في هامشه مزيج من الأشعار المختلفة كان الشعراء الجوالون في يونان ينشدونه. وانباذ وقليس من فلاسفة يونان القدماء ترجم له برتراندرسل في تأريخه للفلسفة الغربية وزعم أنه قذف بنفسه في بركان اتنا فهلك وأنشد نظمًا غثًّا كالفكاهة من منظر هذه الفعلة الشنيعة. وذكر الدكتور عبد الرحمن بدوي في التعليق الهامشي (ص 6 - هامش 2) على كلام أرسطو ما نصه: «هنا مسألة خطيرة يثيرها أرسطو وهي مسألة ماذا نسمي شعرًا أهو كل قول موزون مقفى، أو الشعر له خصائص مستقلة عن الوزن؟ وهو يرى أن من الممكن أن يكون الإنسان شاعرًا
وهو لا يكتب إلا نثرًا وأن يكون ناثرًا وهو لا يكتب إلا شعرًا أعني نظمًا كما هي الحال انباذ قليس إلخ» - والعجب لقوله مقفى فإن يونان لم تكن تعرف القوافي. ثم لم يجز أرسطو طاليس أن يقال لشيء شعر وهو غير موزون وهو نثر كما علق صاحب الهامش ولكن قوله (إذا خلط بين الأوزان) وذلك أن إشعار يونان كان لكل ضرب منها مخالطة لوزن خاص بها فالذي نبه أرسطو طاليس عليه هنا هو ليس غياب الوزن ولكن اختلاط أنواعه وشرحه الذي فيه قوله: «وهي رابسودية مؤلفة من أوزان شتى» يدل على ذلك. ثم قضية المحاكاة التي يذكرها أرسطو طاليس من أصول الضرب الخيالي الذي يهم هو أن يخص به الشعر وفي هذا تأثر من جانبه بأفلاطون، على ما عمد إليه من بعد من الاعتذار لهذه المحاكاة الخيالية بنظريته عن الواقعي والمحتمل ولم يخل الدكتور بدوي من إقحام بعض قضايا العصر وحملها على أرسطو في هذا المكان وهو من ذلك براء، وقد شكا من أن لغة يونان خالية من لفظ يستطاع به نعت فن المحاكاة باللغة -وذلك قوله:«أما الفن الذي يحاكى بواسطة اللغة وحدها نثرًا أو شعرًا، والشعر إما مركبًا من أنواع أو نوعًا واحدًا- فليس له اسم حتى يومنا هذا» . أ. هـ.
ونعود فنكرر أن المحاكاة ليست عندنا في باب الأدب أصلًا- حتى القصاص عندنا يوردون الأخبار لا على أنها من نسج الخيال ولكن على أنها حقائق وقعت، فتجاوزا نظرية أرسطو طاليس في الواقع والمحتمل إلى الجزم بان المحتمل الشعري أو الإخباري أو القصصي قد وقع بالفعل.
ولقد كان كاتب هذه الأسطر في زمان الصبا الأول يقرأ قول أبي تمام:
لم لو يقد جحفلًا يوم الوغى لغدا
…
من نفسه وحدها في جحفل لجب
فيحسب أن المعتصم أشجع وأفرس من عنترة لأنه وحده جيش عرمرم،
وعنترة أبدا معه ابنه الغضبان وأخوه شيبوب كالريح الهبوب وأجناد بني عبس وحصانه الأبجر.
لم يزد أرسطو طاليس على أن رأى في انباد وقليس رأيًّا كان يعلم أن قول الناس على خلافه. والقضية إلى يومنا هذا قائمة في ما يتعلق بالنظم العلمي وعندي أن القول بإخراجه من باب الشعر ليس بصواب- بل يجعل فيه ثم تناط به من بعد الدرجة الملائمة له من الجودة وعدمها، ومن عنصر الطرب الشعري وعدمه.
في آخر كتاب المثل السائر ذكر ابن الأثير (1) مطولات العجم الملحمية وعجب من أن ذللك في العربية مفقود، ويذكر أن شهنامة على طولها في الذروة من البلاغة عند فارس، وكأنها بالنسبة إليهم قرآن. والحق أن العربية ليست خالية من القصص، فقد تعلم ما أخذه ابن سلام على ابن إسحاق من روايته أشعار أخبار عاد وثمود، وزعمه أآن اعتذار ابن إسحاق بأن تلك الأشعار كانت تحمل إليه فيرويها ليس بعاذره. وعند المنصف هو عذر تام مقبول؛ لأن ابن إسحاق كان مؤرخًا ومحدثًا والصدق في الرواية والضبط لما هو المقدم عنده. ومن أجل ذلك وثقه صاحبا الصحيحين البخاري ومسلم رضوان الله عنهما، وقد جاء به البخاري في تعليقاته، وروى عنه مسلم بسند، وتوثيق البخاري له مذكور في التأريخ الكبير.
في نظم القصص تكلف حين يطول. هذا التكلف يجحف برونق الإيقاع، ويذهب بجانب كبير من بهجة الترنم وتعبير موسيقا الوزن. ويجري بنظم القصة، ضربة لازم، مجرى التعليمي من الشعر، الذي تنحصر عناصر الإبهاج منه في ضربات الوزن ورنة القافية منفصلًا ذلك كل الانفصال عن تسلسل المعاني وإطراد الخبر بل مجحفًا به في كثير من الأحيان بما يحمله عليه من السير على غير وجهه. قصص الإفرنج المطول يشكو من هذه الخصلة شكوى لا تنكر وليس احتمال عرف
(1)() انظر فيما يلي الحديث عن الإمام البوصيري ومداح الرسول صلى الله عليه وسلم.
نظم الإفرنج هذا الطول بمعفيه من أن يعاب ويؤخذ عليه الفتور والملال وما من منظومة إفرنجية طويلة مما نعلمه إلا وهذا العيب فيها ومن أجل ذلك ما نرى أن كلردج زعم زعمه حيث جزم بأن المنظومة ذات الطول لا تستطيع أن تكون لها شعرًا ولا ينبغي أن ينتظر ذلك منها أن تكونه.
شعر التعليم يمتع بإيقاع الوزن ويكسر به من خشونة أمر التحصيل، فهذا يجعله ضربة لازم مختلفًا بما يجيء سرد العلوم فيه منثورًا. ولما كانت الصدور هي أوعية سطور العلوم. كان مكان فائدة النظم بالمنزلة الجلية الواضحة. وقول ابن مالك:
وفعل أمر ومضي بنيا
…
وأعربوا مضارعًا أن عريا
من نون توكيد مباشر ومن
…
نون إناث كيرعن من فتن
ونحو قوله:
وما للتوكيد كإما منا
…
عامله يحذف حيث عنا
ونحو قوله:
ووصل أل بذا المضاف مغتفر
…
إن وصلت بالثان كالجعد الشعر
أو بالذي له أضيف الثاني
…
كزيد الضارب رأس الجاني
يتضمن حلاوة من إيقاع. وما أشك أن رنة ألفية ابن مالك هي التي رجحت بقدرها على كثير أمثالها وسوغت لصاحبها أن يقول:
وتقتضي رضا بغير سخط
…
فائقة ألفية ابن معطي
وهو بسبق حائز تفضيلًا .... مستوجبٌ ثنائي الجميلا
والله يقضي بهبات وافرة
…
لي وله في درجات الآخرة
ومما يدلك على أن نظم القصص كان يجري في عرق بلاغة العرب مجرى ما
يتكلف له من شعر التعليم، أو ما لا تناط به المنزلة السامية كما يقصد به التسلي من أغاني الحركة والنشاط وخرافات الجن وما ينظم على ألسن الحيوان ولتلهية الصغار وغيرهم ومن هذا النوع أمثال كثيرة جاء بها الجاحظ في حيوانه منها أبيات من رواية أبي زياد الكلابي (انظر الحيوان ج 6 ص 443) عن أعرابي أكلت الضبع شاة له، فقال:
ما أنا يا جعار من خطابك
أي لست بجنازة مقتول تركبينها يا خبيثة وجعار بكسر الراء من أسماء الضبع.
علي دق العصل من أنيابك
…
علي جذا جحرك لا أهابك
ثم قال الأعرابي:
ما صنعت شاتي التي أكلت
…
ملأت منها البطن ثم جلت
وخنتني وبئس ما فعلت
…
قالت له لا زلت تلقي الهما
وأرسل الله عليك الحمى
…
لقد رأيت رجلًا معتمًا
قال لها كذبت يا خباث
…
قد طالما أمسيت في اكتراث
أي في فعل الكوارث:
أكلت شاة صبيةٍ غراث
قالت له والقول ذو شجون
…
أسهبت في قولك كالمجنون
أما ورب المرسل الأمين
…
لأفجعن بعيرك السمين
أي لأكلن حمارك السمين:
وأمه وجحشه القرين
…
حتى تكون عقلة العيون
قال لها ويحك حذريني
…
واجتهدي الجهد وواعديني
وبالأماني فعلليني
…
لأطعنن ملتقى الوتين
منك وأشفي الهم من دفيني
…
فصدقيني أو فكذبيني
أو اتركي حقي وما يليني
…
إذن فشلت عندها يميني
تعرفي ذلك باليقين
…
قالت أبالقتل لنا تهدد
وأنت شيخٌ مهترٌ مفند
…
قولك بالجبن عليك يشهد
منك وأنت كالذي قد أعهد
…
قال لها فأبشري وأبشري
إذا تجردت لشأني فاصبري
…
أنت زعمت قد أمنت منكري
أحلف بالله العلي الأكبر
…
يمين ذي بر به لم يكفر
لأخضبن منك ضب المنخر
…
برمية من نازع مذكر
أو تتركين أحمري وبقري
النازع هو ذو النزع الشديد حين يجذب القوس ويرمي.
فأقبلت للقدر المقدر
…
فأصبحت في الشرك المزعفر
مكبوبةً لوجهها والمنخر
…
والشيخ قد مال بغرب مجزر
ثم اشتوى من أحمرٍ وأصفر
…
منها ومقدور وما لم يقدر
وقد لاحظت الفكاهة أن الضبع والشيخ كليهما على ملة الإسلام، هي على خبثها تحلف بالمرسل الأمين عليه الصلاة والسلام وهو على إسلامه وحلفه بالبر لا يبالي أن يشتوي منها وهي سبعه يفعل ذلك انتقامًا. وقد تعلم أن البحتري اشتوى ذئبه في الدالية التي تبدى بها. وإنما سقنا هذه الأبيات، وإن كان زمانها متأخرًا عن الجاهلية لما في أسلوبها من الدلالة على شعر القصص المنظوم للفكاهة والعبرة ونحو ذلك. وفي الجزء الأول من سيرة ابن هشام قصص منظوم كثير وكذلك في تاريخ الطبري.