الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكلمة سلمى بن ربيعه:
إن شواءً ونشوةً
…
وخبب البازل الأمون
وما أشبه ذلك، وما قلنا به من أن إدراك حقيقة إيقاعهن يتم بالغناء والترنم.
فلا تستبعدن هذا. وما كل ما تكاد أذواقنا تنبو عنه من إيقاع القدماء عن جهل بمعدنه هو حقًّا ناب. وضروب التجديد الحديث مما يزيفها أنها لا تصلح للنشيد والترنم، وهذا باب ربما عدنا إلى بعض التفصيل فيه في موضعه إن شاء الله.
الإيقاع الخارجي:
نعني به الغناء والترنم وهو في كل الشعر أصل. قال أبو نصر الفارابي في كتاب الموسيقي الكبير: «إن الصناعة الشعرية هذا رئيسة الهيئة الموسيقية وأن غاية هذه تطلب غاية لتلك» أ. هـ. هذا القول يدل على ما قدمناه من أن الغناء والترنم أصل بالنسبة إلى الشعر إذ معنى كلمة أبي نصر هذه أن غاية الموسيقا وأكبر آرابها أن تكون النهاية والذروة للشعر. مؤاخاة الألفاظ بوزن البحر والقافية وأصناف الإيقاع الداخلية، كل ذلك هو الخطوة الأولى والخطوة الثانية التوقيع الترنمي الموسيقي الذي من طريقه يكتمل التعبير الشعري.
قد كانت للعرب في الجاهلية طريقة غناء وتجويد في ذلك بدليل كثرة ما جاء من الإشارة إلى ذلك في أشعارهم، كقول الأعشى:
ولقد أغدو على ذي عتبٍ
…
يصل الصوت بذي زيرٍ أبح
وقال سلامة بن جندل فيما له روى له غير المفضل:
وعندنا قينه بيضاء ناعمة
…
مثل المهاة من الحور الخراعيب
وقال طرفة في المغنية:
إذا رجعت في صوتها خلت صوتها
…
تجاوب أظئارٍ على ربعٍ ردى
يعني شجنها وتحزينها في صوتها.
وذكر أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش الأوسط في كتاب القوافي أن القصيد كانت تتغنى به الركبان. والغناء أعون على الحفظ بلا ريب يدلك على ذلك كثرة ما يحفظ الناس منه في كل أمة. والطاعنون على رواية العرب يغفلون عن هذا من أمرها كغفلتهم عما كتب وحفظ في خزانات الملوك. ولعمرك أكثر أغاني ألعاب الأطفال إنما يحفظها تناقل الصغار أنغام ترنماتها الأجيال الطوال. وقد سبقت منا الإشارة إلى قول سيبويه في باب وجوه القوافي في الإنشاد «وإنما الحقوا هذه المدة في حروف الروى لأن الشعر وضع للغناء والترنم» . أ. هـ. ومما يحسن ذكره في هذا الصدد مما جاء في هذا الباب من كتاب سيبويه، أن نحو
أقلى اللوم عاذل والعتابن
مما تقع فيه النون التي يقال لها نون الترنم في كتب النحو إنما كان يجيء بمثل هذه النون بعض العرب حين لا يترنمون، كأنهم يشيرون إلى أن حقه أن يترنموا به ولكن أمرًا دعاهم إلى أن يجيئوا به كلامًا بلا تغن.
وزعم ابن جني في الخصائص (راجع طبعة دار الكتب بتحقيق النجار رحمه الله ج 1 ص 69 - 70) أن أصحابه، يعني النحويين على رأسهم سيبويه ونحاة البصرة، غفلوا عن وقف الشعر عند نهايات صدور الأبيات قال:
«ألا ترى إلى قوله:
أني اهتديت لتسليم على دمنٍ
…
بالقفر غيرهن الأعصر الأولو
وقوله:
كأن حدوج المالكية غدوتن
…
خلايا سفينٍ بالنواصف من ددى
وقوله:
فمضى وقدمها وكانت عادتن
…
منه إذ هي عردت إقدامها
وقوله:
فوالله ما أنسى قتيلًا رزئتهو
…
بجانب قوسى ما مشيت على الأرض
وقوله:
ولم أدر من ألفى عليه رداءهو
…
على أنه قد سل عن ماجد محض
وأمثاله كثير، كل ذلك الوقوف على عروضه مخالف للوقوف على ضربه ومخالف أيضًا لوقوف الكلام غير الشعر، ولم يذكر أحد من أصحابنا هذا الموضع في علم القوافي وقد كان يجب أن يذكر ولا يهمل» أ. هـ. وأحسب أن ابن جني قدوهم ههنا لأن أصحابه قد ذكروا ما ظنهم أهملوه، فقد ذكر سيبويه أن أهل الحجاز إذا لم يترنموا جاءوا بالشعر على مثل هيئته في الترنم وأن ناسًا كثيرًا من بني تميم يجيئون بالنون في حالة عدم الترنم في حالي ما يكون منونًا وغير منون وأن غير هؤلاء يجيئون بالشعر إذا لم يترنموا كأنه كلام. فالذي سماه ابن جني وقفًا في الشعر دون سواه هو الذي عليه لغة أهل الحجاز، وليس كل ما ذكره ابن جني ونعته بالوقف هو حقًّا وقف (فدمن) التي صدر بيت القطامي ليست بموضع وقف كلا ولا (عادتن) في بيت لبيد ولا (غدوتن) التي في بيت طرفة وسكت سيبويه عن الناس الكثير من بني تميم كيف يصنعون عند عروض البيت، وجلى أن هؤلاء ما كانوا ليتركوا التنوين في العروض إن كان فيها أصيلًا، وقد جاءوا به مجلوبًا في القوافي كقولهم:
يا أبتا علك أو عساكن
أقلى اللوم عاذل والعتابن
وأما الفرقة الثالثة فهؤلاء يقفون وقف الكلام بلا ريب، إذ هم قد استعملوه في
القافية فقالوا: «أقلى اللوم عاذل والعتاب» وقالوا: «واسأل بمصقلة البكرى ما فعل» يريدون فعلًا، وضربٌ من هؤلاء قالوا:
يا دار عبلة بالجوا تكلم
بحذف الياء التي هذا ضمير، فهؤلاء ليسوا بمستنكفين أن يقولوا:
فأضحى يسح الماء حول كتفيه
بالوقف الذي في الكلام إذ هذا دون القافية في المنزلة. وقال سيبويه: «وأما الثالث فإن يجروا القوافي مجراها لو كانت في الكلام ولم تكن قوافي شعر، جعلوه كالكلام حيث لم يترنموا وتركوا المدة لعلمهم أنها من أصل البناء إلخ» قوله جعلوه أي جعلوا الشعر كالكلام.
هذا، وخبر إقواء النابغة يذكرونه كما تعلم مقرونًا بغناء القيان في يثرب. وسبق منا القول في معرض الحديث عن المتجردة أننا نرى رواية الإقواء أقوى في:
زعم البوارح أن رحلتنا غدًا
…
وبذاك خبرنا الغداف الأسود
وليس الذي ذكروه من رجوع النابغة عنه فقال:
وبذاك تنعاب الغداف الأسود
يلزم أن نرويه فقد يرجع الشاعر عن شيء ثم يعاود النظر فيرجع إليه، فقد ذكروا أن ذا الرمة رجع عن قوله:
إذا غير النأى المجين لم يكد
…
رسيس الهوى من حب مية يبرح
فقال: «لم أجد رسيس الهوى» ، ثم عاد إلى الإنشاد الأول وهو الصواب. وكان الإقواء كأنه مذهب لهم لكثرة ما جاء منه في جيادهم. قال عبدة بن الطبيب
والعيس تدلك دلكًا عن ذخائرها
…
ينحزن من بين محجون ومركول
والقصيدة مرفوعة الروى وعن أبي جعفر أحمد بن عبيد بن ناصح أحد شيوخ ابن الأنباري أنه روى «ينحزن منهن محجون ومركول» وهذا كأنه عمدوا فيه إلى تجنب الإقواء وليس عليه عمود الرواية وفي هذه اللامية صفة للشعر الجيدة والمغنية المحسنة التي تتغنى به، قال:
صرفا مزاجا وأحيانًا يعللنا
…
شعر كمذهبة السمان محمول
تذرى حواشيه جيداء آنسة
…
في صوتها لسماع الشرب ترتيل
وقوله محمول يؤيد قول الأخفش الذي قاله في غناء الركبان بالطويل والبسيط والمديد والوافر والكامل والرجز والخفيف أيضًا. ولامية عبدة هذه من المشوبات، إذ وصف فيها من عمل الجاهلية. ويذكر أن عمر رضي الله عنه استحسن قوله:
والعيش شح وإشفاق وتأميل
وما كان عمر ليغضى عن ملامة ما جاء فيها من نعت الخمر والقينة إن كانت كلها إسلامية.
هذا ومن عجيب ما جاء في معلقة زهير قوله:
سألنا فأعطيتم وعدنا فعدتم
…
ومن أكثر التسآل يومًا سيحرم
وقوله:
وإن سفاه الشيخ لا حلم بعده
…
وإن الفتى بعد السفاهة يحلم
وليس ههنا إقواء، وإن صحت رواية هذين البيتين وذلك الذي ذهب إليه الزوزني وأحسبه الصواب، لأن قوله سألنا فأعطيتم مناسب لحديثه عما تحمله سيدا
غطفان من الحمالات، حيث قال:
تعفي الكلوم بالمئين فأصبحت
…
ينجمها من ليس فيها بمجرم
والأبيات التي فيها هذا المعنى، وقوله وإن أسفاه الشيخ من معدن حكمته، إن صحت رواية هذين البيتين فليس الذي فيهما الإقواء ولكن جزم الشاعر سيحرم في جواب الشرط والسين كأنها ملغاة وقد ذكر صاحب الكتاب حذف الفاء في أبعد من هذا وهو قول الشاعر:
بني أسد لا تنكعوا العنز شربها
…
بني أسد من ينكع العنز ظالم
والفعل «يحلم» في البيت الثاني مجزوم على تقدير شرط لأن المعنى، إن يتحلم الفتى بعد السفاهة يحلم وليس هذا بأبعد من بيت الكتاب، لقيس بن الخطيم من قصيدته «أتذكر رسمًا كاطراد المذاهب» وهي محفوظة الروى:
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها
…
خطانا إلى أعدائنا فنضارب
بخفض الباء، جعل سيبويه «إذا» ههنا جازمة. ولا ريب أن القصد إلى الترنم هو الذي سوغ للشاعر الجزم والروي المخفوض في هذه المواضع. وبيت قيس مروي في بائية الأخنس بن شهاب المفضلية المرفوعة الروى بإن الشرطية في أوله هكذا:
وإن قصرت أسيافنا كان وصلها
…
خطانا إلى القوم الذين نضارب
قال ابن الأنباري: «قال ثعلب هذا البيت تتنازعه الأنصار وقريش وتغلب وزعمت علماء الحجاز أنه لضرار بن الخطاب الفهري أحد بني محارب من قريش» أقول: وبعض الأبيات مادته قديمة، فيتصرف فيه الشعراء، كقول امرئ القيس:
وقوفًا بها صحبى على مطيهم
…
يقولون لا تهلك أسى وتجمل
وقال طرفة:
وقوفها بها صحبى على مطيهم
…
يقولون لا تهلك أسى وتجلد
وأدخل ابن الأثير نحو هذا في باب السرقات وسماه نسخًا وليس به عند التأمل وقديمًا قال امرؤ القيس:
عوجا على الطلل المحيل لعلنا
…
نبكي الديار كما بكى ابن حزام
فهذا من بكاء الديار لعله كلام قديم مروي.
وكانت لعبد الله بن جدعان السيد القرشي مغنيتان عرفتا بالجرادتين وقد مر شيء من خبرهما وأحسبهما هما اللتان غنتا:
أقفر من أهله المصيف
…
فبطن مكة فالغريف
يا أم نعمان نولينا
…
قد ينفع النائل الطفيف
لا قينتا الجرهمي صاحب مكة الذي قدم عليه وفد عاد، والله أعلم.
على أن أبا العلاء قد أنكر أن تكون جرادتا الجرهمي هما اللتان تغنتا بهذا الصوت، قال في رسالة الغفران:«ومن الذي نقل إلى المغنين في عصر هرون وبعده أن هذا الشعر غنته الجرادتان، إن ذلك لبعيد في العقول وما أجدره أن يكون مكذوبًا» ثم ذكر المعري على لسان ابن أحمر أن العرب صارت تسمى كل قينة جرادة حملًا على أن قينة في الدهر الأول كانت تدعى الجرادة، قال الشاعر:
تغنينا الجراد ونحن شرب
…
نعل الراح خالطها المشور
عني بالمشور العسل. ولعل القينات سموهن الجراد لأنهم كن يأخذن ما عند الشرب فيتركنهم جردًا من المال كما يترك الجراد مكان الزرع أرضًا جرداء، قال عبدة بن الطبيب في القينة:
تغدو علينا تلهينا ونصفدها
…
تلقى البرود عليها والسرابيل
نصفدها (رباعي) أي نعطيها وهذا المعنى ذكره ابن الأنباري في تفسير هذا البيت ولم يذكره الفيروزأبادي في القاموس وجعل صفد الثلاثي وأصفد الرباعي بمعنى
قيد وأوثق والصفد بالتحريك العطاء وكأن أبا الطيب نظر إلى هذا المعنى حيث قال:
وقيدت نفسي في ذراك محبةً
…
ومن وجد الإحسان قيدًا تقيدًا
وقال عبد يغوث الحارثي في نحو المعنى الذي ذهبنا إليه من جرادية القينات:
وأنحر للشرب الكرام مطيتي
…
واصدع بين القينتين ردائيًّا
وجرادتا الجرهمي صاحب مكة يدل خبرهما على قدم أمر الغناء والقيان المحترفات وصناعة اللحون عند العرب، أصح هذا الخبر أم لم يصح لما يتضمنه من قدم الدلالة. وزعموا أن وفد عاد أقاموا عليهما ونسوا ما جاءوا له من السقيا ثم رفعت لهم سحابة العذاب.
وما كان أمر الغناء ليبلغ ما بلغ من الاتقان على أيام عبد الله بن جعفر ومعاصريه بالحجاز، وذلك في صدر دولة بني أمية، لو لم يكن لكل ذلك من أسلوب الجاهلية في هذا الفن سابقة. وقد قال القرشي:
إذا شئت غنتني دهاقين قرية
…
ورقاصة تجذو على حد منسم
لعل أمير المؤمنين يسوؤه
…
تنادمنا بالجوسق المتهدم
وأمير المؤمنين هو سيدنا عمر رضي الله عنه.
وقد رووا عن سيدنا عمر نفسه أنه تغنى ببعض الشعر في أحد أسفاره وكان من نقاد الشعر ورواته.
ورووا لبلال رضي الله عنه أنه لما أصابته الحمى بالمدينة كان ربما رفع عقيرته بالنشيد وكان ندى الصوت، فقال:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
…
بمكة حولي إذخر وجليل
وهل أردن يومًا مياه مجنةٍ
…
وتبدو لعيني شامة وطفيل
وفي بعض ما قرأت أن أصله رضي الله عنه كان من دنقلة ويؤيد هذا نعت الجاحظ له في الحيوان بأنه نوبي وكان جد الجاحظ من السودان مولى للنسأة من بني كنانة أهل مكة فلعله كان نوبيًّا أو بجاويًّا وكل أولئك مما يطلق عليه لفظ الحبش كما يطلق على الحبش لفظ السودان.
وكان الغناء قد احكم كل الإحكام على أيام بني أمية ومدار كتاب الأغاني كله على الأصوات المائة المختارة مما أكملت صناعته على زمانهم وكأنما أراد به إحياء مآثرهم وكان أموي النسب، وكان يتشيع فالله أعلم أكان منه تقية أم تقوى.
هذا الفن العظيم الذي حفظت لنا منه أسماء معبد والغريض وابن سريج ثم من بعد في دولة ابن العباس أسماء الموصليين إبراهيم وابنه إسحق ومن بيت الخلافة والخلفاء إبراهيم بن المهدي والواثق بن المعتصم ومن أهل الصناعة أمثال زلزل وبنان ومخارق وزنام، قال البحتري:
وعود بنان حي ساعد شدوه
…
على نغم الألحان ناي زنام
ومن النساء سلامة القس وحبابة التي هام بها يزيد بن عبد الملك ومن بيت الخلافة العباسية علية بنت المهدي وسوى هؤلاء كثير
…
هذا الفن العظيم كان تتمة الشعر وغايته وغير منفصم عنه. وقد ضاع كله فلم يبق منه لدينا الآن شيء إلا ما عند أصحاب الطرق الصوفية مما خص به نشيد التعبد والأذكار. ولا يخفى أن هذا جزء صغير جدًّا منه. وهذا الجزء الصغير جدًّا هو الذي به عرفنا نحن في عصرنا هذا شيئًا من طبيعة الشعر القديم.
المشايخ العلماء كانوا يعرفون ألحان الصوفية ويترنمون بها في الأذكار والمدائح النبوية. ومن طريقهم عرف رنين إيقاع الشعر أول الأمر في عصرنا هذا الحديث. جيل البارودي وتلاميذه ومعاصروهم في مصر وغيرها من بلاد المسلمين سمعوا نشيد الصوفية وأهل الطرق وتأثروا به وأثر في إيقاعهم ورنين نظمهم. وقد تعلم أن
البارودي جاري البردة وكذلك صنع شوقي وجاري همزية البوصيري وهمزية الشهاب. ومن هذا الباب عمرية حافظ التي صاغها على بحر كلمة البرعي «بانت عن العدوة القصوى بوادية» ورويها. والقصائد التي تلقى في عيد رأس السنة الهجرية، على ما خالطها من روح «العلمانية» العصرية وأماني القومية العربية، معدنها من شعر المديح النبوي. وكان لرسالة المرحوم أحمد حسن الزيات عدد ممتاز للهجرة تنشر فيه نخبة صالحة منها. وأحسب أن أغاني أم كلثوم في نهج البردة ما كانت منها إلا محاولة تجديد «مدنية» لطريقة الترنم الصوفي القديم. وقد أعجب بأسلوبها كثيرون. وإنما كان صدى باهتًا من الأصالة المفقودة. (ولنا إلى هذا عودة من بعد إن شاء الله). كلما ابتعد الشاعر المعاصر من التأثر بسماع الإيقاع الأصيل الصافي العتيق أو قل بسماع شيء من البقية التي قد أسأرها الزمن منه، كان نظمه فاترًا خابي وقدة الرنين والإيقاع، أو كدر الصياغة كل الكدر، لا ديباجة له. لعل أكثر ما نظم خليل مطران من هذا الضرب، ولئن كان صاحب:
Lay your knife and fork across your plate
«ضع السكين والشوكة من فوق على صحتك»
ربما اتفق له البيت المستقيم بعد طول الكد والمحاولة وإدمان القرع فكذلك قد يتفق لخليل مطران نحو قوله:
ثاو على صخر أصم وليت لي
…
قلبًا كهذي الصخرة الصماء
وهو بيت مفرد في كلمته التي يقول فيها:
إني أقمت على التعلة بالمنى
…
في غربة قالوا تكون دوائي
إن يشف هذا الجسم طيب هوائها
…
أيلطف النيران طيب هواء
أو يمسك الحوباء حسن مقامها
…
هل مسكة في البعد للحوباء
ولا يخفى ما يخالط هذه الصياغة من عجمة وعمل
وإنما ضربنا خليل مطران مثلًا لندل على أن الوزن وسهولة اللفظ ونظم المعاني، كل ذلك لا يتأتى منه الشعر. وإنما يتأتى الشعر من التحام نغم القلب بنغم الكلام وبالبيان وجمال الفن، كل أولئك معًا، وإن يك بعض هذه سابقًا لبعض بسبق مثل سبق العلة للمعلول. وإنما نقول «مثل سبق العلة للمعلول» احتراسًا ممن عسى أن ينكر العلة والمعلول.
وقال ميخائيل نعيمة في بعض ما قال:
كحل اللهم عيني بشعاع من ضياء كي تراك
في جميع الخلق في دود القبور
في نسور الجو في موج البحور
في صهاريج البراري في الزهور
في الكلا في التبر في رمل القفار
في قروح البرص في وجه السليم
في القاتل في نجع القتيل
في سرير العرس في نعش الفطيم
في يد المحسن في كف البخيل
في فؤاد الشيخ في روح الصغير
في ادعا العالم في جهل الجهول
في غنى المثرى وفي فقر الفقير
في قذى العاهر في طهر البتول
وإذا ما ساورتها سكتة النوم العميق
فأغمض اللهم جفنيها إلى أن تستفيق
نسق ميخائيل نعيمة اثني عشر سطرًا كل منها مبدوء بفي وفي وسطه في، ولو كان قال:
كحل اللهم عيني بشعاع من ضياء كي تراك
وإذا ما اورتها سكتة النوم العميق
فأغمض اللهم جفنيها إلى أن تستفيق
لكان مقاله من قبيل الشعر نوعًا ما وربما أخذ الآخذ عليه بعض الهنات في اللغة كوصل همزة القطع ثم جعله النوم سكتة وليس عند أكثر الناس بسكتة إذ معه النفس. وقد يرتفع فيكون منه النفخ ومنه الغطيط، قال امرؤ القيس:
يغط غطيط البكر شد خناقه
…
ليقتلني والمرء ليس بقتال
ولعل ميخائيل نعيمة أراد تشبيه النوم بالموت فجعله سكتة، يتوسع بذلك على بعده، ثم أتبعه قوله «فأغمض اللهم جفنيها» لأنهم يتحدثون عن الميت أن من البر به إغماض جفنيه حتى لا يموت وهو شاخص الطرف. وقوله «ساورتها سكتة النوم» بعيد في معنى النوم قريب في معنى الموت الذي يكون بسكتة القلب وتشبيه النوم بالموت قدم مألوف غير أن الغريب حقًّا قوله: «فإذا ساورتها
…
فأغمض اللهم جفنيها» ولا يصح نحو هذا المقال إلا لمن كان شديد الأرق قلقًا إلى النوم ولا يجيئه، ولا يستطيع إليه سبيلًا إلا بوسيلة من تخدير. وأستبعد أن يكون أراد هذا المعنى، والله أعلم.
أما نسقه أربعًا وعشرين شبه جملة مبدوءة بفي، فإن كان يريد به استقصاء التأمل والتعمق والانتساب إلى سعة من خيال، فإنه حقًّا ما عدا به ضربًا من التعداد والإحصاء، وإذ لم يقصد به إلى الإحصاء، كما يصنع مثلًا من يقول:
هاك حروف الجر وهي من إلى إلخ
فإن الذي أصابه وجاء به قعقعة ألفاظ ليس وراءهن طائل. ثم في بعض التعداد الذي عدده فساد في المعنى. لماذا يسأل الله أن يجعله يراه في يد القاتل في نجيع القتيل، أليس إن سأل الله أن يكفيه شهود مثل هذا المكروه كان ذلك أشبه بالإخبات إلى الله والعبادة المخلصة له؟ أم لله حسب أن ههنا ضربًا من التصوف بوحدة الوجود؟ فإن أول ما يطلبه المتصوف من ربه العفو والعافية والمعافاة ويعوذ به من الكبر والشرك والشيطان الرجيم؟ ثم كيف يرى الله في كف البخيل، وما في كف البخيل إلا الشيطان؟ ثم كيف يكون العالم مدعيًّا والادعاء والعلم متناقضان؟ يريد أن يقول برؤية الله في كل شيء، ولكن الله لا يكون في ذلك الشيء تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا وإنما يكون في قلب المؤمن وسمعه وبصره، فإذا رأى رأى به وإذا سمع سمع به، لا سمعه في كذا ورآه في كذا
…
ثم يجيء بعد حرف الجر ما شئت من إحصائية حسابية لا تمت إلى الشعر أو إلى الفكر أو إلى عمق الشعر والوجدان بكبير شيء. والمعاني الصوفية من كثرتها وكثرة تناول الناس لها كأنها ملقاة على قارعة الطريق، ومن تناولها فلم يصدر بها عن إيقاع قلبها لم يبلغ بها من مقاصد البيان الحق مبلغًا. ومن كان له قلب عامر بإيقاع الوجد وحرارة الشعر أطاعه تأثير معاني الصوفية حتى حين لا يقصد إلا إلى ظاهر ألفاظهم يستعمله على مذهب التظرف والافتنان البياني- كقول أبي تمام:
أفيكم فتى حيٌّ يخبرني عني
…
بما شربت مشروبة الراح من ذهني
ويعجبني قول عبد الرحيم البرعي رضي الله عنه:
أحيباب قلبي هل سواكم لعلتي
…
طبيب بداء العاشقين خبير
فجودوا بوصل فالزمان مفرق
…
وأكثر عمر العاشقين قصير
وقال الجاحظ: «وأنا رأيت أبا عمرو والشيباني وقد بلغ من استجادته لهذين البيتين ونحن في المسجد يوم الجمعة أن كلف رجلًا حتى أحضره دواة وقرطاسًا حتى
كتبهما له وأنا أزعم أن صاحب هذين البيتين لا يقول شعرًا أبدًا، ولولا أن أدخل في الحكم بعض الفتك لزعمت أن ابنه لا يقول شعرًا أبدًا وهما قوله:
لا تحسبن الموت موت البلى
…
فإنما الموت سؤال الرجال
كلاهما موت ولكن ذا
…
أفظع من ذاك لذل السؤال
وذهب الشيخ إلى استحسان المعنى، والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي والمدني وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء وفي صحة الطبع وجودة السبك فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير. وقد قيل للخليل بن أحمد مالك لا تقول الشعر قال الذي يجيئني لا أرضاه والذي أرضاه لا يجيئني، وقيل لابن المقفع مالك لا تجوز البيت والبيتين والثلاثة، قال إن جزتها عرفوا صاحبها فقال له السائل وما عليك أن تعرف بالطوال الجياد، فعلم أنه لم يفهم عنه». أ. هـ.
ومات سقنا حديث الجاحظ هذا، وهو مشهور عنه، تداولته الكتب وقل ناقد لم يستشهد به كله أو ببعضه، إلا بالتنبيه على تقديمه ما سماه «إقامة الوزن» وكأن الأصناف اللواتي ذكرهن من بعد فروع من هذه الإقامة: تخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء إلخ. ولعلك أيها القارئ الكريم تسأل فلم أخر صحة الطبع وهي أصل، إذ لا يصدر الوزن إلا عن ملكة وعن طبع. وعندي أن الجاحظ إنما جاء بكلامه على التشبيه بالصناعة كما وضح ذلك في آخر كلامه. وأصل تشبيهه مأخوذ من صناعة عمل السيوف. وما أراه قصد إلى السيف إلا أنه كان يذكر مع القلم ويذكر القلم معه، وصاحب الشعر على زمان الجاحظ كان صاحب قلم. والسيف يختار حديده ويطبع الطبع الجيد الصحيح حتى لا يكون كهاما ويسبك السبك الأصيل وهلم جرا. ثم متى تم صقله كان كثير الماء ظاهر الرونق والسيوف مما تنعت بشبه الماء وبشبه النار. قال الشنفري:
إذا فزعوا طارت بأبيض صارم
…
ورامت بما في جفرها ثم سلت
حسام كلون الملح صاف حديده
…
جراز كأقطاع الغدير المنعت
وقال مزرد بن ضرار في جودة المعدن والطبع وأصالة الحديد:
سلاف حديد ما يزال حسامه
…
ذليقا وقدته القرون الأوائل
حسام خفي الجرس عند استلاله
…
صفيحته مما تنقي الصياقل
وقال أبو ذؤيب:
وكلاهما في كفه يزنية
…
فيها سنان كالمنارة أصلع
وكلاهما متوشح ذا رونق
…
عضبا إذا مس الضريبة يقطع
وقال أبو الطيب:
وفي أكفهم النار التي عبدت
…
قبل المجوس إلى ذا اليوم تضطرم
هندية أن تصغر معشرًا صغروا
…
بحدها أو تعظم معشرًا عظموا
أفردنا الوزن من العناصر الأربعة التي ذكرناها أولًا لأهميته ولأنه خاصة الشعر الكبرى التي، كما قدمنا، توشك أن تكون فصلًا، إذ الكلام لا يكون شعرًا بلا وزن وليس معنى هذا أنه بالوزن يكون شعرًا ضربة لازم. وزعم كلردج، الشاعر الإنجليزي الرومنتكي والناقد أيضًا، أن الوزن ليس بشرط في الشعر ولكن هذا قول قاله على وجه من الفلسفة ونأمل أن نذكره من بعد إن شاء الله. وسنأخذ الآن في تفصيل الحديث عن العناصر الثلاثة وهي الصياغة وطريقة التأليف ونفس الشاعر ونعود فنكرر التنبيه إلى انهن مع الوزن كل واحد، وإنما نتناول كل عنصر منهن من أجل التوضيح وزيادة التأمل وربما كان أقوى وأوضح في التأمل أحيانًا كثيرة أن نذكرهن كلهن معًا أو ثلاثة عناصر منهن أو عنصرين حسب ما يدعو إلى ذلك من حاجة البيان.