المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الصياغة: يندرج تحت مدلولها الوزن واللفظ والمعنى وطريقة التأليف. أما الوزن - المرشد إلى فهم أشعار العرب - جـ ٤

[عبد الله الطيب المجذوب]

الفصل: ‌ ‌الصياغة: يندرج تحت مدلولها الوزن واللفظ والمعنى وطريقة التأليف. أما الوزن

‌الصياغة:

يندرج تحت مدلولها الوزن واللفظ والمعنى وطريقة التأليف. أما الوزن فقد سبق الحديث عن عروضه وقوافيه وهو خاصة الشعر الكبرى، وهو عنصر قائم بنفسه ودخوله في الصياغة منشؤه من أنه لا يستطاع فصله عنها. وأما اللفظ فهو أداة البيان وسبيله وقد فصلنا الحديث عن معالجة الشعراء وتناولهم لضروب جناسه وطباقه وموازنته وألوان جرسه وسجعه وترصيعه وتقسيمه، هو جزئي في المفردات وفي الحروف، وكلي في التراكيب والأبيات والقصائد، وبعض الكليات جزئيات بالنسبة إلى ما فوقها في الدرجة كالتركيب بالنسبة إلى القصيدة وإلى البيت والأبيات. قول أبي تمام:«أين» وقوله «الرواية» وقوله «النجوم» وقوله «أم» وقوله «ما» كل ذلك جزئيات من قوله الكبير:

أين الرواية أم أين النجوم وما

صاغوه من زخرف فيها ومن كذب

وهذا القول الكبير نصفه الأول كلي بالنسبة إلى الكلمات التي تقدمت، وهذا النصف جزئي بالنسبة إلى البيت كله والبيت كله جزء من تمهيد أبي تمام الساخر بالتنجيم من حيث بدأ فقال:

السيف أصدق أنباء من الكتب

في حده الحد بين الجد واللعب

بيض الصفائح لا سود الصحائف في

متونهن جلاء الشك والريب

والعلم في شهب الأرماح لامعة

بين الخميسين لا في السبعة الشهب

إلى آخر ما قاله في هذا المعنى.

وكل ذلك من تمهيده الساخر جزء من القصيدة وهي كل بالنسبة إليه. نقول هذا القول لأنا ننكر ما يزعمه بعضهم من أن كل بيت في القصيدة مستقل بنفسه لا يربطه بكل القصيدة من رابط غير الوزن والقافية، ونرى، وسنبين ذلك إن شاء

ص: 81

الله، إن كل كلمة من بيت الشعر جزء منه وهو جزء من القصيدة، وكل ذلك أمر واحد ليس بعضين مفترقات، إلا حين يكون الشاعر نفسه ضعيفًا كالذي قالوا فيه:

وشعر كبعر الكبش فرق بينه

لسان دعي في القريض دخيل

والمعنى قرين اللفظ وذلك أن اللفظ من أجل المعنى أصل استعماله، وإن شئت فقل اللفظ شكل والمعنى مضمون، وهذان اصطلاحان دائران الآن، وقد استعيرا وترجما من قولهم form وقولهم content (كنتنت) وما يرادفهما من مصطلحات الفلسفة في الفرنسية واللغات الأوروبية الأخرى. وقولهم في الإنجليزية form في الاصطلاح الفلسفي (نطقها فورم) يدل على هيئة الشيء ومظهره. وقولهم content (كنتنت) يدل على كنهه وجوهره ومحتواه وما أشبه. وسنعرض ما استطعنا عن استعمال هذين اللفظين لما نعتقده من قلة غنائهما في ما نحن بصدده وما نراه من قلة الحاجة إلى استعمالهما حقًّا.

والمعنى منه المباشر المكافح كقول عمرو بن كلثوم في المعلقة:

ألا لا يجهلن أحدٌ علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

ومنه الذي يستفاد من السياق كقول عنترة:

نبئت عمرًا غير شاكر نعمتي

والكفر مخبثةٌ لنفس المنعم

ومنه ما يكون جاريًّا على الحقيقة نحو قول زهير:

من يلق يومًا على علاته هرما

يلق السماحة منه والندى خلقا

ومنه ما يكون جاريًّا على المجاز نحو قول طرفة:

وفي الحي أحوى سنفض المرد شادن

مظاهر سمطي لؤلؤ وزبرجد

ومنه الجزئي ومنه الكلي ومن الكلي ما هو جزئي بالنسبة لما فوقه درجة، كالذي مر من

ص: 82

قولنا في اللفظ، وجزئيات اللفظ وكلياته متكاملات مع جزئيات المعنى وكلياته كما لا يخفى.

ومن المعنى الإيحاء. وبعض الإيحاء ضرب من المجاز، وقد نبه على ذلك علماء البلاغة، مثل قول جعفر بن علبة الحارثي.

فؤادي مع الركب اليمانين مصعد

جنيب وجثماني بمكة موثق

وهذا أول أبيات جياد أوردها صاحب الحماسة، وهو مما يستشهد به في كتب البلاغة على الخبر الذي يراد به الإنشاء.

ومن الإيحاء محض يدخل منه في هذا الذي تقدم ويزيد كقول زهير:

قامت تراءى بذي ضال لتحزنني

ولا محالة أن يشتاق من عشقا

وإنما تراءت لتشوق والحزن أخو العشق ولا سيما بعد أن يفوت وقت إمكان الانتفاع به وهو الشباب.

وكقول امرئ القيس:

نشيم بروق المزن أين مصابه

ولا شيء يشفي منك يابنة عفزرا

أي حتى انهمال المزن وانهمال الدمع كالمزن لا يشفي من ذكرى هواك ومنه الكناية القريبة كقول الخنساء:

طويل النجاد رفيع العماد

ساد عشيرته امردا

(إن جعلت الدال في الصدر خرمت أول العجز وهو أحب إلي وجعل الدال في أول العجز جيد بالغ) وهذا قريب مما يسميه البلاغيون المجاز المرسل، إذ هو تعبير عن الشيء بملابسه ورفعة العماد مع الشرف.

ص: 83

ومنه الكناية البعيدة كقول الحارث بن خالد المخزومي وقد مر من قبل:

من كان يسأل عنا أين منزلنا

فالأقحوانة منا منزل قمن

عني بذلك عائشة بنت طلحة في ما ذكروا.

ومنه الكناية التي هي رمز وقد مر قول عمرو بن قميئة في بعض استشهادنا من قبل:

قد سألتني بنت عمرو عن الـ

أرض التي تنكر أعلامها

قالوا عني نفسه بقوله «بنت عمرو» ذكر ذلك شارح المفصل ابن يعيش. ومن الإيحاء الرمز كقول الأحوص الأنصاري:

ألا يا نخلة من ذات عرقٍ

عليك ورحمة الله السلام

عني بذلك امرأة بعينها.

والرمز والكناية متقاربان، إلا أن الرمز أخفى، وطريقه أوسع، وأكثر ما تقع الكناية في الأسماء، قال النابغة الجعدي.

أكني بغير اسمها وقد علم الله خفيات كل مكتتم

ثم صار ذلك من باب الأدب، قال الآخر:

أكنيه حين أناديه لأكرمه

ولا ألقبه والسوأة اللقب

ومن الرمز كقول زهير وقد مر الاستشهاد به:

وقال الغواني إنما أنت عمنا

وكان الشباب كالخليط نزايله

لمن طلل بالجزع عاف منازله

عفا الرس منه فالرسيس فعاقله

فعنى نفسه وزمان شبابه بهذا الطلل كما ترى، ولا أحسب الرس والرسيس

ص: 84

وعاقلًا على ما يظهر من أنهن أسماء مواضع يخلون من دلالة رمزية معنوية، ومن معاني الرس والرسيس الحمى وقد يشبه بهما بعض ما يعرض من حالات الحب.

ومن المعنى ما يكون سهلًا بسيطًا كقول المرقش:

سرى ليلًا خيال من سليمي

فأرقني وأصحابي هجود

ومنه ما يداخله افتنان كقول المرار:

زارت رويقة شعثًا بعدما هجعوا

لدمى نواحل في أرساغها الخدم

فقمت للزور مرتاعًا فأرقني

فقلت أهي سرت أم عادني حلم

وكقول جعفر بن علبة الحارثي:

عجبت لمسراها وأني تخلصت

إلى وباب السجن دوني مغلق

ألمت فحيت ثم قامت فودعت

فلما تولت كادت النفس تزهق

ويخالط الافتنان ههنا وجدان أشد حرارة مما عند المرار.

ومن الإيحاء ما يلابس الغرض ومن أجله جيء بالغرض، كالتأبين، أي مدح الميت وتعداد مآثره الذي هو ظاهر غرض الخنساء ومرادها التعبير عن حسرتها وفجيعة قلبها وانفعاله بالأسى، فجعلت التأبين وسيلة للإيحاء به في قولها:

أعيني جودا ولا تجمدا

ألا تبكيان لصخر الندى

ألا تبكيان الجريء الجميل

ألا تبكيان الفتى السيدا

طويل النجاد رفيع العماد

ساد عشيرته أمردا

إذا القوم مدوا بأيديهم

إلى المجد مد إليه يدا

فنال الذي فوق أيديهم

من المجد ثم انثنى مصعدا

يكلفه القوم ما عالهم

وإن كان أصغرهم مولدا

ص: 85

وكقول حارثة بن بدر الغداني يرثي زياد بن أبيه:

أبا المغيرة والدنيا مفجعةٌ

وإن من غرت الدنيا المغرور

قد كان عندك للمعروف معرفة

وكان عندك للنكراء تنكير

وكنت تغشى وتعطي المال عن سعة

إن كان بيتك أضحى وهو مهجور

الناس بعدك قد خفت حلومهم

كأنما نفخت فيها الأعاصير

والأبيات مما اختاره أبو العباس في الكامل. قوله «إن كان بيتك أضحى وهو مهجور» أراد به قبره، ويجوز أن يكون قد أراد دار الإمارة، إذ لم يكن ابن زياد لحارثة كما كان أبوه.

وأما طريقة التأليف فقد سبق بعض الحديث عنها في مواضع كثيرة من أجزاء هذا الكتاب وفي الجزء الثالث عند الحديث عن قرض الشعر وشيطان الشعر وحالة الجذب وطريقة القصيدة وأشرنا في باب المبدأ والخروج والنهاية إلى ما كنا قبل قدمناه من أن استهلال الشعراء بالنسيب يراد به إحداث روح من الشجن والحنين وإلى ما قاله ابن قتيبة في الشعر والشعراء في المقدمة حيث ذكر أنه سمع بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيد إنما ابتدأ بذكر الديار ليجعل ذلك وسيلة إلى ذكر الأحباب فتهش له الأسماع «لما قد جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل وإلف النساء» فلا يكاد يخلو أحد من أن يكون له بذلك سبب يتعلق به «حلال أو حرام» .

وكأن عبارة ابن قتيبة: «حلال أو حرام» فتحت بابًا على مصراعيه لمن يقول بالفروئيدية في تأويل النسيب والمقدمة الطليلة ويفرع على ذلك من الأوهام ما شاء وكأن من يصنع نحو هذا حتى يغلو فيه غلوًّا شديدًا، يبغي بذلك أن يساير بعض ما عليه روح العصر عند النقاد الأوروبيين، ومن هؤلاء من يجيء بما يندى له الجبين في هذا الباب، كما فعل مثلًا الأستاذ جون كيري John Carey في كتابه عن John Donne جون دون الشاعر المعروف بتعمقه (1573 م- 1631)(طبعة لندن 1981) حيث

ص: 86

ذكر كلمة للشاعر براونغ (1812 - 1889 Robert Browning) يذكر فيها سيره إلى لقاء محبوبته فقال:

The grey sea and the long black land;

And the yellow half-moon large and low،

And the startled little waves that leap.

In fiery ringlets from their sleep،

As I gain the cove with pushing prow،

And quench its speed I'the slushy sand.

وترجمة هذا على وجه التقريب وهو في صفة سير بقارب شراعي:

«البحر الرمادي اللون والبر الأسود ذو الطول

ونصف القمر الأصفر الكبير المنخفض

والأمواج الصغيرات المندهشات إذ تثب

وهي تهب من نومها في أشكال خويتمات ملتهبة

إذ أنا أصل إلى انحناءة المرسى بالخليج بدفعة مقدمة القارب

وأطفئ ظمأ سرعته في الرمل اللين الرطب».

علق الأستاذ كبري على هذا الوصف للرحلة المائية بقوله:

The speaker's anticipation colours his language. His expectation of finding the girl، startled out of sleep with disordered ringlets، affects the way he sees the waves around his boat; and the prow burying itself in the slushy sand relates frankly to the hardness of the male erection and the soft female wetness which receives it that one is half surprised to find it in a Victorian poem.

«صاحب هذا القول اكسبت آماله لغته بعض ألوانها، آماله أن يجد الفتاة وقد هبت من نومها مندهشة وخويتمات خصل شعرها مضطربة. آماله هذه قد تأثر بها

ص: 87

نوع مرأى الأمواج كما رآها حول قاربه، ومقدمته التي تدفن نفسها في الرمل الطري لها شبه واضح بمعنى شدة إنعاظ الذكر ونعومة رطوبة الأنوثة التي تستلمه وإن المرء ليعجب أن يصيب مثل هذا التعبير في منظومة من العهد الفكتوري المتزمت» (الفكتوري نسبة إلى فكتوريا ملكة بريطانيا).

ولئن يك روبرت براوننغ قد تعمد أن يصبغ صفة سيره للقاء فتابه بلون جنسي أو اصطبغت هذه الصفة بتأثير عقله الباطن من دون تعمد بحت من جانبه هو، فإن القطعة التي أوردها الناقد من كلامه لا تعدو الكناية المهذبة، على نوع من بعد في ذلك، أما تعليقه هو فواضح لغة الرفت، وعلى تقدير أنه فيه مصيب، فإنه لا يعدو مجرد بعض المعاني الجانبية من تعبير برواننغ. وجودة بيان المبين أن يكون كثير المعاني الصائبة. وتقليل تلك المعاني وحصر مداها، ولا سيما على وجه رفثي، مما ينبغي أن يؤاخذ عليه الناقد الذي يفعل ذلك ويعاب.

ولربيعة بن مقروم الضبي أبيات في المديح جيدة، اختارها المفضل، خرج فيها ربيعة من الغزل إلى المدح خروجًا مقتضبًا، لو اتبعنا في تأويله نحوًا من هذا المذهب الذي ذهبه جون كيري في كلمات براوننغ لكان ذلك حقًّا أبدة، وهو قوله:

بانت سعاد فأمسى القلب معمودًا

وأخلفتك ابنة الحر المواعيدا

كأنها ظبية بكر أطاع لها

بحوملٍ تلعات الجو أو أودا

قامت تريك غداة البين منسدلًا

تخاله فوق متنيها العناقيدا

وباردًا طيبًا عذبا مقبله

مخيفًا نبته بالظلم مشهودا

أي فما عذبًا مخللًا نبات أسنانه بالبريق كأنه شهد أي عسل.

وجسرةٍ حرجٍ تدمي مناسمها

أعملتها بي حتى تقطع البيدا

الجسرة الناقة القوية التي تتجاسر في سيرها وحرج بالتحريك أي فيها

ص: 88

تقويس وضمور وطول على وجه الأرض، واصل الحرج الضيق ثم سمي به خشب يحمل عليه الموتى وفيه أحد يداب وامتداد ومعنى أصل اشتقاقه من معنى الموت وضيق القبر غير بعيد، ويدلك على أحد يدابه قول كعب بن زهير:

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته

يومًا على آلة حدباء محمول

وقال المسيب بن علس يصف الناقة وشبهها بالنعامة:

صكاء ذعلبةٍ إذا استدبرتها

حرجٍ إذا استقبلتها هلواع

قال ابن الأنباري عن أحد أشياخه والحرج سرير يحمل عليه الموتى شبهها به لطولها. وعن غيره أن الحرج الضامرة.

وقال امرؤ القيس:

فإما تريني في رحالة جابر

على حرجٍ كالقر تخفق أكفاني

فالحرج ههنا أي حال الحرج. وروي بيت عنترة بالحرج وهو قوله:

يتبعن قلة رأسه وكأنه

حرجٌ على نعش لهن مخيم

وما أرى إلا أنه تحريف والوجه:

على حدج لهن مخيم

والحدج أحد الحدوج: قال طرفة:

كأن حدوج المالكية غدوة

خلايا سفين بالنواصف من دد

ويجمع أيضًا على أحداج وحدج بضمتين والحدج بكسر الحاء المهملة وسكون الدال المهملة. وفي طوال ابن الأنباري رواه على حرج بالراء، أعني بيت عنترة

ص: 89

وذكر ابن سيده الحرج فذكر أنه مركب للرجال والنساء ليس له رأس وهذا يحتمل لما فيه من معنى الضيق وكأنه أريد به تفسير بيت امرئ القيس. وبيت عنترة في اللسان بالراء عن الأزهري ولكن بشرح لا يلزم منه أن المراد مركب من مراكب النساء ولا يبعد معه أن يكون محرفًا من حدج بالدال المهملة. وما ذهب إليه الزوزني في شرح بيت عنترة هو الوجه، أي كأن الظليم حدج، يتبعن قلة رأسه وكأنه هودج وكأن رأسه على سرير لهن عليه خيمة والنعش السرير المرفوع، وهذا أشبه، والله أعلم. ونعود إلى أبيات ربيعة بن مقروم الضبي:

وجسرة حرج تدمي مناسمها

أعملتها بي حتى تقطع البيدا

كلفتها فرأت حقًّا تكلفه

وديقة كأجيج النار صيخودا

في مهمه قذفٍ يخشى الهلاك به

أصداؤه ماتني بالليل تغريدا

لما تشكت إلى الأين قلت لها

لا تستريحين ما لم ألق مسعودا

ثم يأتي بعد ذلك هذا المدح الجيد البالغ الجودة.

ما لم ألاق امرأ جزلًا مواهبه

سهل الفناء رحيب الباع محمودا

وقد سمعت بقوم يحمدون فلم

أسمع بمثلك لا حلما ولا جودا

ولا عفافًا ولا صبرًا لنائبةٍ

وما أنبئ عنك الباطل السيدا

أي لا أخبر قومي عنك كذبا ولكن مدحي لك صادق وقومه هم بنو السيد بن ضبة وافتخر بهم الفرزدق من بعد أنهم أخواله فقال:

بنو السيد الأشائم للأعادي

نمتني للعلي وبنو ضرار

وفسره ابن الأنباري أنهم قوم الممدوح بنو السيد بن مالك بن بكر في أحد تفسيريه وعن أحمد بن عبيد بن ناصح إنهم قوم ربيعة وهو أشبه وأقوى إذ لا يحتاج أن ينسبه رهط الممدوح إلى كذب وهو يمدح سيدهم، اللهم إلا أن يكون يريد أن قومك

ص: 90

يعلمونني صادقا فيما أقول، وهو وجه يحتمل على ضعف والله أعلم.

لا حلمك الحلم موجود عليه ولا

يلفي عطاؤك في الأقوام منكودا

وقد سبقت بغايات الجياد وقد

لا زلت عوض قرير العين محسودا

عوض بضم الضاد يراد بها التعبير عن الدهر، وكأن منها نفسًا في قولنا بالدارجة «عاد» بسكون الدال نجيء بها في درج الكلام.

هذا وموضع استشهادنا من هذه الأبيات الجيدة قوله في الغزل أنها كظبية بكر تتراءى لتفننه بشعرها الجثل المتدلي من عند تراقيها على متنيها كالعناقيد وتبسم له بثغرها العذب ذي الثنايا البراقة الشهدية ثم قال معتمدا على ما قدمه من ذكر البين وما يتضمنه من معنى الرحيل:

وجسرة حرج تدمي مناسمها

أعملتها بي حتى تقطع البيدا

أي دع هذا ولنأخذ بمذهب الجد وهو إعمال الناقة الجسرة وجعلها حرجًا لأن مركب السفر فيه حرج وضيق ومشقة- قال تعالى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} ، وجعلها تدمي مناسمها لبعد الطريق إذ كانوا ينعلون الإبل نعالًا يقال لها السريح فإذا طال السفر تقطعت ودميت أخفافها، قال لبيد:

فإن تغالى لحمها وتحسرت

وتقطعت بعد الكلال خدامها

فلها هباب في الزمام كأنها

صهباء خف من الجنوب جهامها

فمن أراد أن يذهب مذهب الناقد الإنجليزي الذي تقدم ذكره زعم أن ربيعة بن مقروم لم يذهب إلى معنى البين الذي تقدم ذكره في قوله «قامت تريك غداة البين منسدلًا» ولكنه أمل في نفسه افتضاض البكر التي قامت تتراءى له بفرع كالعناقيد وبشفتين قبلهما في الوهم ثم جعل ضيق مركب الناقة ودم مناسمها مكان

ص: 91

ضيق البكارة ودم العذرة، لأن هذا المعنى كان في عقله الباطن على مذهب الفروئيدية. وهذا باطل بحت لو ذهب إليه والذي ذهب إليه ابن قتيبة، على جودته ودقته، إنما أراد به تفسير الابتداء بالطلل والنسيب في بعض قصائد المدح. ثم على جودته ودقته لم يجزم به وإنما نسبه إلى أنه سمعه من بعض أهل الأدب يقوله وفي هذا من توهين القول وتمريضه ما لا يخفى (1).

وقد ربط ابن قتيبة بين أمر الوقوف على الأطلال والنسيب وما كان عليه نازلة العمد من العرب من حال الحل والترحال. ولم يفسر لماذا آثر الشعراء مذهب حياة نازلة العمد ولم يكن العرب كلهم نازلة عمد، فأهل يثرب مثلًا كانوا أصحاب آطام وشاعرهم يقول:

أتذكر رسمًا كاطراد المذاهب

لعمرة أقوى غير موقف راكب

والذي يقول:

أسألت رسم الدار أم لم تسأل.

وهو حسان بن ثابت منهم وهو صاحب فارع، أطمه الذي أوت إليه نساء المسلمين وفيهم من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمته صفية رضي الله عنهم في أيام غزوة الخندق. وقال قيس بن الخطيم في البائية التي تقدم مطلعها يذكر أنهم أهل آطام:

فلولا ذرا الآطام قد تعلمونه

وترك الفضا شوركتمو في الكواعب

وعندي أن تفسير قوله إن العرب كانوا يؤثرون للشاعر أن يتبدى، لأن ذلك يكون أدنى به إلى القول الصارح والصدق المتوهم في سذاجة البداوة مع الفصاحة والبيان. وقد تعلم أن قريشا وملوك العرب كانت تسترضع أولادها في البدو طلبًا

(1)() على أنه يجوز ألا يكون عني بقوله بعض أهل الأدب إلا نفسه، وفي كتاب الحيوان ما يدل على أن مثل هذا القول قد كان يرد في كلام أدباء زمانه. من شواهد ذلك مثلًا حديث الجاحظ عن عادة الشعراء في قتل الثور الوحشي ونجاته وسؤال المنصور عن ذكر المسجد في باب الأطلال.

ص: 92

للفصاحة، ولتمتزج البداوة بنشأتهم، إذ كانت حياة العرب حاضرهم وباديهم أمرًا متداخلًا، ولذلك زعم التوحيدي في حديثه عنهم في كتاب الإمتاع والمؤانسة أنهم كانوا في باديتهم حاضرين، وروى المرزباني في الموشح بمعرض الحديث عن النابغة أنه أرتج عليه فاستعان بزهير فأشار عليه هذا أن يخرجا إلى البرية لأن «الشعر البري» . وعين هذا المعنى في خبر الفرزدق الذي ذكرناه عند الحديث عن حالة الجذب حين أرتج عليه فلم يستطع أن يقول حتى خرج إلى البرية وأتى جبلًا خارج المدينة يقال له ريان، قال:«ثم ناديت بأعلى صوتي أخاكم أخاكم -يعني شيطانه- فجاش صدري كما يجيش المرجل فعلقت ناقتي وتوسدت ذراعها فما قمت حتى قلت مائة بيت من الشعر وثلاثة عشر بيتًا إلخ» والخبر في الجزء التاسع عشر من كتاب الأغاني لأبي الفرج.

قول المعاصرين «المقدمة الطللية» إن أرادوا به أنه أمر عام في كل القصائد القديمة وأنه مذهبها، قول ينبغي أن يحترز من الأخذ به، بعض القصائد لهن مقدمات «طللية» وبعضهن لهن مقدمات من نسيب وما يجري مجراه. وبعضهن مقدماتهن غير ذلك كله. وقد سبق منا أن بينا أن الشاعر له مذهبان في افتتاح القصائد، أولهما أن يخلص إلى الغرض بلا تقديم من طلل أو نسيب أو ما إلى ذلك، والثاني أن يجعل له مقدمة من الطلل والنسيب وما إليه 0 ذكرنا ذلك في معرض الحديث عن المبدأ والخروج والنهاية.

وأجود ما قيل في هذا الباب كلمة الكميت بن زيد، وكان من العلماء، ومعلمًا وقريب العهد من زمان حياة الشعر القديم، ومن أهل الفصاحة الذين يستشهد بكلامهم وهي أول بائيته حيث قال:

طربت وما شوقا إلى البيض أطرب

ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب

على تقدير همزة الاستفهام أي أو ذو الشيب يلعب وقد يروى البيت بهمزة الاستفهام بلا واو: أذو الشيب يلعب.

ص: 93

فبين الكميت ههنا أنه مستهل قصيدته بالطرب يجعله توطئة وتمهيدًا. وقوله الطرب أدل وأصح من قولنا النسيب والطلل. وقد سبق أن فسرنا أن قولنا النسيب (1) نعني به قصد الشعراء إلى إثارة الحنين، فهو على هذا استعمال مجازي من باب إطلاق البعض على الكل وكذلك قول بعض المعاصرين «المقدمة الطللية» إذا أرادوا به هذا الوجه، أما إذا أرادوا به التعميم وهو ظاهر ما عليه سير كلامهم، فذلك خطأ بلا ريب.

ثم فسر الكميت بعض جوانب هذا الطرب كما كان يطربه الشعراء ليتبرأ منها، ويزعم أن طربه أسمى وأعلى قدرًا وأشرف معنى.

ولم يلهني دار ولا رسم منزل

ولم يتطربني بنان مخصب

فذكر الدار والرسم وهي المقدمة الطللية، ثم ذكر ذات البنان المخضب وهي المرأة المحبوبة وذلك النسيب والغزل والتشبيب.

ولا السانحات البارحات عشية

أمر سليم القرن أم مر أعضب

وذلك العيافة وذكر الطير وربما بدأوا به القصائد.

ثم بين أن طربه كان لأمر من أمور الجد.

ولعلنا إن استعنا بالمعنى المستكن في كلمة الكميت أن نزعم بأن الشعر كله طرب، وأن مقدمات قصائده تمهيد طربي لهذا الطرب، كما يمهد أصحاب الأغاني والموسيقا للتأليف الرئيسي بأشياء من النغم المنطلق المرتجل أو الذي كأنه مرتجل.

هذا التمهيد الطربي قد يستغنى عنه الشاعر ويكتفي بالشيء الموجز كالنداء وقولهم ابني ويا كذا يذكرون اسمًا في الوصايا ويا عين في المراثي وما أشبه.

(1)() وهو قول قدامة.

ص: 94

قال عبد قيس بن خفاف البرجمي:

أجبيل إن أباك كارب يومه

فإذا دعيت إلى المكارم فاعجل

أوصيك إيصاء امرئ لك ناصح

طبنٍ بريب الدهر غير مغفل

والكلمة مختارة وهي في المفضليات.

وقال عبدة بن الطبيب وهي مفضلية أيضًا:

ابني إني قد كبرت ورابني

بصري وفي لمصلح مستمتع

وهي وصية. وباب الوصايا قديم في أدب العرب، وإليه أشار القرآن، قال تعالى:{وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُه} . وقالوا كان لقمان الحكيم من النوبة ومن قائل إنه كان نبيًّا. ومهما يكن من أمره، فخبر وصيته جاء به القرآن بلسان عربي مبين، وما خاطب العرب إلا بما عهدوه من مذاهب البلاغة.

وكقول ابن خفاف «أجبيل» يذكر الاسم قول عامر بن ظرب:

أأسيد إن مالا ملكت فسر به سيرًا جميلًا

وقول يزيد بن الحكم:

يا بدر والأمثال يضربها لذي اللب الحكيم

وقالت القرشية فبدأت ببني:

ابني لا تظلم بمكة لا الصغير ولا الكبير

وقال أوس بن حجر في الرثاء فنادى نفسه:

أيتها النفس اجملي جزعا

إن الذي تحذرين قد وقعا

ص: 95

وقالت الخنساء فنادت عينيها:

أعيني جودا ولا تجمدا

وقد يبتدأ في المراثي بالحكمة والعظة وما يجري هذا المجرى كقول لبيد:

بلينا وما تبلى النجوم الطوالع

وتبقى الجمال بعدنا والمصانع

وقال أبو ذؤيب:

أمن المنون وريبها تتوجع

والدهر ليس بمتعب من يجزع

وقد يكافح الشاعر غرضه كفاحًا فيقدم بالنداء كقول المهلهل:

يا لبكر أنشروا لي كليبًا

يا لبكر أين أين الفرار

وقول سعد بن مالك وهي كلمة طويلة ذكرها صاحب الحماسة:

يا بؤس للحرب التي

وضعت أراهط فاستراحوا

والحرب لا يبقى لجا

حمها التخيل والمراح

إلا الفتى الصبار في النجدات والفرس الوقاح

وقال جبيهاء الأشجعي وهي كلمة من خبيث الهجاء، ظاهرها أنه يصف عنزه وباطنها أنه يلحى رجلًا أعاره العنز فلم يردها والكلمة مفضلية:

أمولى بني تيمٍ ألست مؤديًّا

منيحتنا فيما تؤدى المنائح

قالوا وغيظ التيمي من هذه الحائية فقال:

نعم سأؤديها إليك ذميمة

فتنكحها إن أعوزتك المناكح

وراجع الخبر في المفضليات. ومما هو كالنداء قول الحارث بن عباد:

قربا مربط النعامة مني

لقحت حرب وائل عن حيال

ص: 96

وقال عبد يغوث الحارثي وهي من المختارات الجياد وقيل رثى بها نفسه:

ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا

فمالكما في اللوم خير ولا ليا

وقال الحارث بن وعلة الجرمي يذكر فراره يوم الكلاب:

فدى لكما رجلي أمي وخالتي

غداة الكلاب إذ تجز الدوابر

فنادى رجليه كما ترى.

وقول زهير في المدح:

دع ذا وعد القول في هرم

كأن فيه مقدمة نسيبية مضمرة، فحين لم يذكرها الشاعر، استعاض منها بشيء موجز كالنداء وهو قوله «دع ذا». وكأن نقيض هذا المذهب أن يفتتح الشاعر مرثية بالنسيب كالذي صنع دريد في قوله:

أرث جديد الحبل من أم معبد

ولها نظائر في ديوان هذيل مبدوء فيهن الرثاء بالنسيب. وبدأ الأعشى نونيته في قيس بن معد يكرب بشيء كما يبدأ به الرثاء، وإنما عني به التغني لنفسه والطرب وذلك قوله:

لعمرك ما طول هذا الزمن

على المرء إلا عناء معن

وقد يستغني الشاعر عن كل تقديم فيكافح غرضه كفاحًا رثاء كان أو هجاء أو مدحًا أو غير ذلك والأمثلة كثيرة كقول كعب بن زهير:

من سره شرف الحياة فلا يزل

في مقنب من صالحي الأنصار

وهي كلمة قصيرة حسن البداية بها هكذا ما سبقها من كلمته اللامية «بانت

ص: 97

سعاد» فظن أنه عرض في آخرها بالأنصار حيث قال:

يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم

ضرب إذا عرد السود التنابيل

وقال عمرو بن معد يكرب في كلمة له جادة حماسية:

ليس الجمال بمئزر

فاعلم وإن رديت بردا

وهي التي يقول فيها:

لما رأيت نساءنا

يفحصن بالمعزاء شدا

وبدت بلميس كأنها

قمر السماء إذا تبدى

نازلت كبشهم ولم

أر من نزال الكبش بدا

وكأنه قد كان تحرز أول الأمر، ثم حرك الغيرة في قلبه ما رأى من حال النساء وخوف أن يأخذ العدو لميس. وفي الأبيات نفس صادق وقال تأبط شرًّا، إن كان قالها (كما علق الجاحظ):

إن بالشعب الذي دون سلع لقتيلًا دمه ما يطل

وقال الفرزدق:

إن الذي سمك السماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعز وأطول

وقال المهلهل وهي في الجمهرة:

جارت بنو بكر ولم يعدلوا

والمرء قد يخطئ قصد الطريق

حلت ركاب البغى من وائل

في آل جساس ثقال الوسوق

قل لبني ذهل يردونه

أو يصبروا للصيلم الخنفقيق

وهذه وكلمة تأبط شرًّا تجريان مجرى الرثاء لأنهما في الثأر.

وقال النابغة:

أتاني أبيت اللعن أنك لمتني

وتلك التي أهتم منها وأنصب

ص: 98

وهذه على مكافحتها الغرض كأن فيها مقدمة من طرب النسيب وما إليه مضمرة لأن ذلك قد جاء في اعتذاريات النابغة الأخرى كالعينية التي يقول فيها:

أتاني أبيت اللعن أنك لمتني

وتلك التي تستك منها المسامع

وقال الشنفري، وقيل لم يقلها، والراجح أن بعضها له وفيها مسجديات: ولا دخان بلا نار:

أقيموا بني أمي صدور مطيكم

فإني إلى قوم سواكم لأميل

وهذا مقارب لحنين النسيب، لما في مراد الشاعر من التحسر ومعنى أنه لو كان له قوم لحن إليهم، ولكن أقرب الناس إليه، وما عسى أن يكون أقرب في النداء من قوله «بني أمي» ، قد رغب عنهم إلى اصطحاب وحوش الصحراء وأحناشها.

وشبيه بهذا المذهب قول المرار حين كره صنعاء وحن إلى الديار النجدية:

لا حبذا أنت يا صنعاء من بلد

ولا شعوب هوى مني ولا نقم

ولن أحب بلادا قد رأيت بها

عنسًا ولا بلدًا حلت به قدم

إذا سقى الله أرضًا صوب غادية

فلا سقاهن إلا النار تضطرم

وحبذا حين تمسي الريح باردة

وادى أشيٍّ وفتيان به هضم

فهذا كما ترى عكس مذهب الوقوف على الطلل وسقيا الديار.

ومن المكافحة الصريحة بلا تقديم قول ذي الأصبع:

إنكما صاحبي لن تدعا

لومي ومهما أضع فلن تسعا

أنكما من سفاه رأيكما

لا تجنباني السفاه والقذعا

وكأنها قطعة إذ المروي منها عشرة أبيات، وليست بقطعة ولكن من قصار القصائد، وكان ذو الأصبع في شعره صرامة.

ص: 99

والقصار اللاتي يكافحن أغراضهن بلا تمهيد طربي كثيرات، منهن في المفضليات عدد، مثل:

ألا هل أتاها أن شكة حازم

لدي وأني قد صنعت الشموسا

على أن في هذه نفسًا من نسيب في قوله: «هل أتاها» وإنما هذا بمنزلة النداء ويا بني في الوصايا ونحوه عنترة:

ألا هل أتاها أن يوم قراقر

شفى حزنًا لو كانت النفس تشتفي

وقريب من هذا المجرى قول أبي قيس بن الأسلت:

قالت ولم تقصد لقيل الخنى

مهلًا فقد أبلغت أسماعي

أنكرته حين توسمته

والحرب غول ذات أوجاع

من يذق الحرب يجد طعمها

مرًا وتحبسه بجعجاع

إذ هو في جوهره ليس ببعيد من القصد المباشر إلى الجد لأن المرأة التي أنكرته هي زوجته وإنما أنكرته لانصرافه إلى الحرب والاستعداد لمكروهها وبذله في ذلك كل جهد، قال ابن الأنباري يسنده إلى أحمد بن عبيد بن ناصح:«كانت الأوس قد أسندت أمرها في هذه الحرب إلى أبي قيس بن الأسلت الأنصاري الوائلي فقال في حربهم فآثرهم على كل صنيعة حتى شجب وتغير ولبث أشهرًا لا يقرب امرأة، ثم جاء ليلة فدق على امرأته وهي كبشة بنت ضمرة بن مالك بن عمرو بن عزيز من بني عمرو بن عوف، ففتحت له فأهوى إليها فدفعته وأنكرته فقال أنا أبو قيس، فقالت والله ما عرفتك حتى تكلمت فقال أبو قيس في ذلك هذه القصيدة إلخ» ومن شاء جعلها غزلًا على هذا المعنى والأول الذي قدمناه أقوى. وكلمة ذي الأصبع النونية إن يك أولها:

لي ابن عم على ما كان من خلق

مختلفان فأقليه ويقليني

ص: 100

فهي من باب مكافحة الغرض كفة كفة بلا تقديم، وهي رواية المفضل التي اعتمدها ابن الأنباري وأشياخه، قال وأنشدني غير أبي كرمة أتم مما رواها أبو عكرمة ولم يسند روايته إلى المفضل وهي:

يا لمن لقلب طويل البث محزون

أمسى تذكر ريا أم هارون

وأبيات نسيب ريا لا تصلح مقدمة لكلمة ذي الأصبع وليس قوله فيها:

فإن يكن حبها أمسى لنا شجنا

وأصبح الوأي لا يواتيني

فقد غنينا وشمل الدهر يجمعنا

أطيع ريا وريا لا تعاصيني

ترمي الوشاة فلا تخطى مقاتلهم

بصادق من صفاء الود مكنون

من معدن قوله:

لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب

عني ولا أنت دياني فتخزوني

لو تشربون دمي لم يرو شاربكم

ولا دماؤكم جمعًا ترويني

وما أشبه. ولعل أبياتًا نونية لغير أبي الأصبع فيها مغاضبة وخصومة وأخر فيها نسيب جمعن معًا فجعلن قصيدة أتم. وقد أضرب ابن الأنباري عن الشرح لفقدان الإسناد إلى المفضل كما أضرب عن ذكر من أنشده هذه الرواية وهو من الغير الذين ذكرهم في المقدمة حيث قال: «وكنت أسأل أبا عمرو بندار الكرخي وأبا بكر العبدي وأبا عبد الله محمد بن رستم والطوسي وغيرهم عن الشيء بعد الشيء منها فيزيدونني على رواية أبي عكرمة البيت والتفسير وأنا أذكر ذلك في موضعه إن شاء الله» أ. هـ. على أن الغير الذي ذكر هنا أنشده أكثر من بيت ولم يفسره. وجلي أنه لم يأخذ ذلك عن أحمد بن عبيد بن ناصح.

ومن الكلمات الخالصة إلى غرضها بلا تقديم ميمية الحصين بن الحمام المري:

جزى الله أفناء العشيرة كلها

بدارة موضوع عقوقًا ومأثما

ص: 101

ونقيضتها للخصفي:

من مبلغ سعد بن نعمان مألكا

وسعد بن نعمان الذي قد تختما

وقال أوس غلفاء الهجيمي:

جلبنا الخيل من جنبي أريك

إلى أجلى إلى ضلع الرجام

بكل منفق الجرذان مجر

شديد الأسر للأعداء حام

أصبنا من أصبنا ثم فئنا

على أهل الشريف إلى شمام

وأوردنا هذه الثلاثة الأبيات الأولى لندل على أن تعداد المواضع ههنا ليس جاريًّا مجرى مواضع النسيب، ولكن مصاحب لذكر الغارة والخيل. وفي هذه الميمية الأبيات المشهورة:

وإنك من هجاء بني تميم

كمزداد الغرام إلى الغرام

يعني الغرم والخسران.

هم منوا عليك فلم تثبهم

فتيلًا غير شتم أو خصام

وهم تركوك أسلح من حبارى

رأت صقرًا وأشرد من نعام

وهم ضربوك ذات الرأس حتى

بدت أم الدماغ من العظام

إذا يأسونها نشزت عليهم

شرنبثة الأصابع أم هام

فمن عليك أن الجلد وارى

غثيثها وإحرام الطعام

ورواية الكامل.

هم ضربوك أم الرأس حتى

بدت أم الشئون من العظام

وهي أم الدماغ، وكأن رواية الكامل أحب إلينا.

وللمثقب أبيات في الحكمة أولها:

لا تقولن إذا ما لم ترد

أن تتم الوعد في شيء نعم

ص: 102

وقد سبق الاستشهاد ببعضها. وهي قصيدة كالوصية إلا أنه لم يبدأها بخطاب ابن أو نداء غير أن قوله: «لا تقولن» بمنزلة ذلك، ولا أحسبه يحسن أن يبدأ بمثل هذا التأكيد لغير من يهمه أمره من ولد ونحوه. وهذا البيت أول القصيدة عند المفضل. وزعم غير المفضل فيما ذكر ابن الأنباري وجعله غيرا «غير معين» ، أن سياقها من عن أولها هو هكذا:

حسن قول نعم من بعد لا

وقبيح قول لا بعد نعم

إن لا بعد نعم فاحشة

فبلا فابدأ إذا خفت الندم

لا تقولن إذا ما لم ترد

أن تتم الوعد في شيء نعم

وسياق المفضل أجود وأصح إن شاء الله.

ووصف امرؤ القيس المطر برائيته التي أولها:

ديمة هطلاء فيها وطف

طبق الأرض تحري وتدر

فخلص إلى أربه بلا تقديم، على أن وصف المطر من معادن النسيب، إلا أنه في هذه الكلمة ما أريد به إلا محض التصوير فهو الغرض الذي جعلت القصيدة له.

هذا والقصائد التي يكافح فيها الشاعر غرضًا واحدًا لا يعدوه كثيرات واللواتي لا يستهل فيهن بالطلل ولا بالنسيب بمعناه الواسع كثيرات. وإنما تمثلنا بما تمثلنا به لندل على أن قول النقاد الآن «المقدمة الطللية» لا يعدو أنه من باب إطلاق الجزء على الكل في باب النسيب وحده، إذ لا يتوهم في باب المجاز أن ذلك يصح إطلاقه على نحو:

لا تقولن إذا ما لم ترد

أن تتم الوعد في شيء نعم

ولا في نحو:

جزى الله أفناء العشيرة كلها

بدارة موضوع عقوقًا ومأثما

ص: 103

هذا وبدايات الطلل والنسيب وما عدد منه الكميت كثر، تعرضنا لمعاني بعضها ودلالتها من قبل في معرض حديثنا عن الرمزية، فمن أمثلة البدء بذكر الطلل حقًّا قول طرفة:

لخولة أطلال ببرقة ثهمد

وقول زهير:

أمن أم أوفى دمنة لم تكلم

وقول لبيد:

عفت الديار محلها فمقامها

وقول امرئ القيس جامع وهو مطلع المعلقة:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

وبدأوا بذكر البين نحو:

بانت سعاد وأمسى حبلها انجذما

بانت سعاد وأمسى القلب معمودًا

وبدأوا بصحا القلب ونحوه:

صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو

وأقفر من سلمى التعانيق فالثقل

وجمع زهير بين «صحا القلب» وسؤال الأطلال في كلمته:

صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله

وعرى أفراس الصبا ورواحله

وبدأوا بنداء الدار ونداء الحبيبة كقول النابغة:

يا دار مية بالعلياء فالسند

ص: 104

وذكروا فيه الوقوف على الدار، وكقول لقيط الأيدي:

يا دار عمرة من محتلها الجرعا

وعاجوا على الدار نحو قول النابغة:

عودوا فحيوا لنعم دمنة الدار

وقول غيلان:

خليلي عوجا من صدور الرواحل

بجمهور حزوى فابكيا في المنازل

ومن نداء الحبيبة مع ذكر البين قول الأعشى:

بانت لتفجعنا عفارة

يا جارتا ما أنت جارة

وقول المثقب:

أفاطم قبل بينك متعيني

ومنعك ما سألت كأن تبيني

ويذكرون الطيف وما أشبهه من الرؤى والهواتف، قال المرقش:

سرى ليلًا خيال من سليمي

فأرقني وأصحابي هجود

وقال تأبط شرًّا:

يا عيد مالك من شوق وإيراق

ومر طيف على الأهوال طراق

وجمع حسان بين الهم والطيف فقال:

منع النوم بالعشاء الهموم

وخيال إذا تغور النجوم

وقد يذكرون الهم وحده وهو متصل بمعنى الطيف ونسيبي السنخ نحو:

كليني لهم يا أميمة ناصب

وليل أقاسيه بطيء الكواكب

ص: 105

وقال الرعي:

ما بال دفك بالفراش مذيلا

أقذى بعينك أم أردت رحيلا

وقول الشنفري الذي مر قبل:

أقيموا بني أمي صدور مطيكم

فإني إلى قوم سواكم لأميل

آخذ بطرف معنى البين وبطرف من معنى الليل والهم فهو حقًّا نسيبي المعدن. وإخلاص المعنى لليل يدخل في هذا الباب نحو قول المهلهل:

أليتنا بذي حسم أنيري

إذا أنت انقضيت فلا تحوري

وذكر الذئب لاحق بذكر الليل يدلك على ذلك قول المرقش في سينيته:

ولما أضأنا النار حول خبائنا

عرانا عليها أطلس اللون بائس

نبذت إليه حزة من شوائنا

حياء وما فحشى على من أجالس

فسوغ نحو هذا للفرزدق أن يبدأ بذكر الذئب حيث قال في نونيته التي ذكرناها في الجزء الأول من هذا الكتاب:

وأطلس عسال وما كان صاحبا

دعوت بناري موهنا فأتاني

وقال امرؤ القيس:

أحار بن عمرو كأني خمر

ويعدو على المرء ما يأتمر

قال كأني خمر لأنه كان محاربًا لا يشرب الخمر ولا يراها تحل له إلا إذا أدرك الثأر كما في لامية تأبط شرًّا المنسوبة إليه:

حلت الخمر وكانت حراما

وبلأى ما ألمت تحل

فأسقينها يا سواد بن عمرو

إن جسمي بعد خالي لخل

ص: 106

فأفاد امرؤ القيس بقوله: «كأني خمر» إنه لم يشتف بعد بنصر يدرك به ملكه وثأره.

وقال عمرو بن كلثوم:

ألا هبي بصحنك فاصبحينا

لأنه انتصر وقتل عمرو بن هند وتحدى القبائل:

ومما يبدأ به الوداع وكلمة الأعشى معروفة:

ودع هريرة إن الركب مرتحل

وقال:

هريرة ودعها وإن لام لائم

غداة غدٍ أم أنت للبين واجم

وقال الحاردة:

رحلت سمية غدوة فتمتع

وغدت غدو مفارق لم يربع

ومما يجري مجرى الطيف قول عمرو بن معد يكرب:

أمن ريحانة الداعي السميع

يؤرقني وأصحابي هجوع

وذكر علقمة النساء والشباب فقال:

طحا بك قلب في الحسان طروب

وقال سلامة بن جندل:

أودى الشباب حميدًا ذو التعاجيب

أودى وذلك شأو غير مطلوب

وكأن أبيات الغانية التي أولها:

وللشباب إذا دامت بشاشته

ود القلوب من البيض الخراعيب

ص: 107