الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بليك على كلام أبي الطيب إن كان اطلع. وليس ذلك في مجال هذه الكلمة. ولمن شاء بعد من النقاد أن يدس رأس الفطنة في رمال من التغافل والإنكار وله كثيب مهيل في باب توارد الخواطر ووقع الحافر على الحافر- حتى حين تكثر الخواطر والحوافر والنسق الطريقي الذي تتوارد فيه.
وليس يصح في الأفهام شيء
…
إذا احتاج النهار إلى دليل
المدح والهجاء:
في ما تقدم كثير من المدح والهجاء مما يغني عن سوق أمثلة كثيرة عن هذين الغرضين ههنا. وهما أهم أغراض الشعر. ومن شاء نسب سائر الأغراض إليهما. إذ الغزل مدح، والرثاء مدح، والوصف منه مدح ومنه هجاء، وأبواب من الكلام تتوسط بينهما كالعتاب وضروب من مذاهب المزاح حسب مداناتها السخرية والتهكم والهزؤ وبعدها من ذلك.
وقد ارتبط المدح بالتكسب منذ أيام الجاهلية. حتى امرؤ القيس وقد كان ملكًا وسيد سادات، مدح من أعطاه وهجا من منعه. وهو القائل:
لعمري لسعد بن الضباب إذا شتا
…
أحب إلينا منك فافرسٍ حمر
فمدح وهجا في بيت واحدٍ كما ترى. وأهل العصر كأن قد فشا فيهم استنكار المدح وقرنه بالسؤال وإراقة ماء الوجه والخجل للأدب العربي وللشعر العربي من كثرته فيه. وصحف عصرنا هذا ليس لها عمل إلا المدح والهجاء. تفعل ذلك كل يوم. ورجال الصحافة لهم إلى مجامع أهل السياسة حل وترحال ويرغبون ويرغب إليهم ويَرْهبون ويُرْهبون ويَكسبون ويُكسبون. وكذلك كانت حال الشعراء حين كان الشعر هو طريق الدعاية الأكبر. وليس في شيء من ذلك عار. وقد وصف
صاحب الأغاني في معرض حديثه عن الأحوص بعض حال الشعراء ورواتهم قال (انظره في الجزء الرابع من طبعة دار الكتب المصورة ص 256): - «أخبرني الحرمي بن العلاء والطوسي قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز قال حدثني عبد الله بن مسلم بن جندب الهذلي قال حدثنا شيخ لنا من هذيل كان خالًا للفرزدق من بعض أطرافه قال:
«سمعت بالفرزدق وجرير على باب الحجاج فقلت لو تعرضت ابن أختنا فامتطيت إليه بعيرًا، حتى وجدتهما قبل أن يخلصا ولكل واحدٍ منهما شيعة، فكنت في شيعة الفرزدق فقام الآذن يومًا فقال: أين جرير. فقال جرير: هذا أبو فراس فأظهرت شيعته لومه وأسرته. فقال الآذن أين الفرزدق؟ فقام فدخل. فقالوا لجرير أتناوئه وتهاجيه وتشاخصه ثم تبدي عليه فتأبى وتبديه؟ ً! قضيت له على نفسك. فقال لهم: إنه نزر القول ولم ينشب أن ينفد ما عنده وما فال فيه فيفاخره ويرفع نفسه عليه، فما جئت به بعد حمدت عليه واستحسن. فقال قائلهم: لقد نظرت نظرًا بعيدًا قال: فما نشبوا أن خرج الآذن فصاح: أين جرير؟ فقام جرير فدخل. قال: فدخلت فإذا ما مدحه به الفرزدق قد نفد، وإذا هو يقول:
أين الذين بهم تسامي دراما
…
أم من إلى سلفي طهية تجعل
قال: وعمامته على رأسه مثل المنسف، فصحت من ورائه:
هذا ابن يوسف فاعلموا وتفهموا
…
برح الخفاء فليس حين تناجي
من سد مطلع النفاق عليكم
…
أم من يصول كصولة الحجاج
أم من يغار على النساء حفيظة
…
إذ لا يثقن بغيرة الأزواج
قل للجبان إذا تأخر سرجه
…
هل أنت من شرك المنية ناجي
قال وما تشبيبها فقال جرير:
لج الهوى بفؤادك الملجاج
…
فاحبس بتوضح باكر الأحداج
وأمرها أو قال: أمضاها. فقال: أعطوه كذا وكذا. فاستقللت ذلك. فقال الهذلي: وكان جرير عربيًّا قرويًّا، فقال للحجاج: قد أمر لي الأمير بما لم يفهم عنه، فلو دعا كاتبًا وكتب بما أمر به الأمير. فدعا كاتبًا واحتاط بأكثر من ضعفه وأعطى الفرزدق أيضًا. قال الهذلي: فجئت الفرزدق فأمر لي بستين دينارًا وعبدٍ، ودخلت على رواته فوجدته يعدلون ما انحرف من شعره، فأخذت من شعره ما أردت. ثم قلت له يا أبا فراس، من أشعر الناس، قال أشعر الناس بعدي ابن المراغة. قلت فمن أنسب الناس؟ قال الذي يقول:
لي ليلتان فليلة معسولة
…
ألقى الحبيب بها بنجم الأسعد
ومريحةٌ همي علي كأنني
…
حتى الصباح معلق بالفرقد
قلت: ذاك الأحوص: قال: ذاك هو. قال الهذلي: ثم أتيت جريرًا فجعلت أستقل عنده ما أعطاني صاحبي أستخرج به منه، فقال كم أعطاك ابن أختك؟ فأخبرته فقال ولك مثله فأعطاني ستين دينارًا وعبدًا. قال وجئت رواته وهم يقومون ما انحرف من شعره وما فيه من السناد، فأخذت منه ما أردت، ثم قلت، يا أبا حزرة من أنسب الناس؟
قال الذي يقول:
يا ليت شعري عمن كلفت به
…
من خثعم إذ نأيت ما صنعوا
قومٌ يحلون بالسرير وبالـ
…
حيرة منهم مرأى ومستمع
أن شطت الدار عن ديارهم
…
أأمسكوا بالوصال أم قطعوا
بل هم على خير ما عهدت وما
…
ذلك إلا التأميل والطمع
قلت: ومن هو؟ قال الأحوص. فاجتمعا على أن الأحوص أنسب الناس» أ. هـ. وزعم أبو الفرج من وراء رجال سنده أن الأحوص كان ينسب
بسكينة بنت الحسين رضي الله عنها وأن الليلة المريحة همه عليه هي ليلة تذكره وتشوقه لها، أما الليلة المعسولة فهي ليلة أهله، فزعموا أنه لغرامه كانت ليلة الهم- هم الشوق والغرام: أحب الليلتين إليه. وزعم أنه كان يكني عنها بعقيلة. وقال من قبل الأحوص شر مقال ثم مرض بعتيذيرٍ يزعم به «أن ليس ما جرى من ذكر الأحوص إرادة للغض منه في شعره» قال: «ولكنا ذكرنا من كل ما يؤثر عنه مي تعرف به حاله من تقدم وتأخر وفضيلة ونقص- فأما تفضيله وتقدمه في الشعر فمتعالم مشهور، وشعره ينبئ عن نفسه ويدل على فضله فيه وتقدمه وحسن رونقه وتهذبه وصفائه» أ. هـ. قلت جمع أبو الفرج بأمويته بغض الأنصار (1) وبغض آل البيت كما ترى. وكان يقال إنه شيعي ويتعجب من ذلك من أمره وربك أعلم بسرائر القلوب.
هذا والشاهد مما تقدم، في مجال ما نحن فيه، استقدام الحجاج شاعري بني تميم يسمع منها المدح والفخر ويعطيهما ويعطيان هما أخا هذيل على الرواية.
قوله: «يعدلون ما انحرف من شعره» عن الفرزدق «ويقومون ما انحرف من شعره وما فيه من السناد» عن جرير يدل على أن الشعراء كانوا لا يزالون يعاودون أشعارهم بالمراجعة فيأخذ ذلك عنهم الرواة وربما أعانوهم بالنقد.
ورواية مطلع جيمية جرير المشهور كما في ديوانه:
هاج الهوى لفؤادك المهتاج
…
فانظر بتوضح باكر الأحداج
وكأنه مراجعة للذي مر من رواية.
ومن أخبار الفرزدق مع الحجاج أن الحجاج جاءه نعي أخيه محمد بن يوسف
(1)() الأحوص من الأنصار جده عاصم بن ثابت الصحابي الجليل شهيد يوم الرجيع، وكان ممن أبلوا بلاء حسنًا في أحد.
من اليمن في اليوم الذي مات فيه ابنه محمد فقال من يقول ويسليني فقال القرزدق:
إن الرزية لا رزية مثلها
…
فقدان مثل محمد ومحمد
ملكان قد خلت المنابر منها
…
أخذ الحمام عليهما بالمرصد
فقال لو زدتني فقال الفرزدق:
إني لباك على ابني يوسفٍ جزعا
…
ومثل فقدهما للدين يبكيني
ما سد حي ولا ميت مسدهما
…
إلا الخلائف من بعد النبيين
فقال له ما صنعت شيئًا، إنما زدت في حزني، فقال الفرزدق:
لئن جزع الحجاج ما من مصيبة
…
تكون لمحزون أجل وأوجعا
من المصطفى والمصطفى من خيارهم
…
جناحيه لما فارقاه فودعا
أخ كان أغنى أيمن الأرض كله
…
وأغنى ابنه أهل العراقين أجمعا
جناحًا عقابٍ فارقاه كلاهما
…
ولو نزعا من غيره لتضعضعا
فقال الآن «أ. هـ.»
كان الشعراء دعاة الدول وألسنتها. وكانوا -لحيوية الشعر واللغة وأهلها- نفاذين إلى الأغراض، يقلون الحز ويطبقون المفصل. مدح الحطيئة عمر بن الخطاب فقال:
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه
…
ألقت إليك مقاليد النهى البشر
ما آثروك بها إذ قدموك لها
…
لكن لأنفسهم كانت بك الأثر
فكان ذلك مما شفع له عند عمر. وكان بالشعر عالمًا.
ومدح الفرزدق سعيد بن العاص فقال:
ترى الغر الجحاجح من قريش .... إذا من الأمر في الحدثان عالا
بني عم النبي ورهط عمروٍ
…
وعثمان الذين علوا فعالا
قيامًا ينظرون إلى سعيدٍ
…
كأنهم يرون به هلالا
فأجاروه من زياد، ونفس عليه هذه الكلمة مروان.
وقال في زياد:
وعند زياد لو يريد عطاءهم
…
رجال كثير قد يرى بهم فقرا
قعود لدى الأبواب طلاب حاجة
…
عوان من الحاجات أو حاجة بكرا
فكان ذلك من أشد ما هجى به وأوجعه وفيه كالتكذيب لما كان قطعه زياد على نفسه كما ذكرنا من قبل.
وكان هجاء ابن مفرغ لآل زياد سوط عذاب صبه الله عليهم من ذلك قوله:
ألا ابلغ معاوية بن حرب
…
مغلغلة من الرجل اليماني
أتأبى أن يقال أبوك عفٌ
…
وترضى أن يقال أبوك زاني
وأشهد أن إلك من قريش
…
كإل الفيل من ولد الأتان
وقوله:
وأشهد أن أمك لم تباشر
…
أبا سفيان واضعة القناع
ولكن كان أمر فيه لبس
…
على خوفٍ شديد وارتياع
ويزيد بن مفرغ من مقتدري شعراء أوائل الدولة الأموية، سهل العبارة جزلها متوقدها يخلص كلامه خلوصًا إلى القلوب. ولوزنه رنين. وقد كان زمانه زمان أوج الغناء. وقد ذكروا أم له صاحبة تدعى أناهيد كانت تحسن الغناء وأناهيد عند الفرس كالزهرة عند العرب. وله الأبيات المشهورة:
سبحان من قسم الحظوظ فلا عتاب ولا ملامة
أعمى وأعشى ثم ذا بصر وزرقاء اليمامة
ومنها يذكر بيعه بردًا:
وشريت بردًا ليتني
…
من بعد بردٍ كنت هامة
هامة تدعو صدى
…
بين المشقر واليمامة
ويستقم الوزن بوصل البيت الذي أوله هامة بسابقه الذي آخره هامة -هكذا
…
كنت ها
…
مه هامةً تدعو
…
إلخ فتأمل.
وهجا جرير تغلب فقال:
لا تطلبن خئولةً في تغلب
…
فالزنج أكرم منهم أخوالا
يحتقر أمر الزنج كما ترى، فأحفظهم فأتيح له زنجي منهم هجاه بأبيات انتصر فيها لنفسه وفضل عليه الفرزدق فقال:
إن الفرزدق صخرة عادية
…
طالت فليس تطولها الأجبالا
وقد كانت في الفرزدق صعلكة وفكاهة وكان ألبق بتألف ضروب الموالي من جرير، وقد رأيت نعت الهذلي جريرًا بأنه عربي قروي، فذلك كان مما يخرج منه إلى أصناف الموالي جنادع تنبئ عن روح التعالي الذي كانت عليه العرب، -وقد ذكروا أن الموالي نفرت من جريرٍ لما قال في هجاء مالك بن طريف:
يا مالك بن طريف أن بيعكم
…
زاد القرى مفسد للدين والحسب
قال نبيعكه بيعًا فقلت لهم
…
بيعوا الموالي واستحيوا من العرب
وقال في بني العم لما انتصروا للفرزدق:
ما للفرزدق من مجدٍ يلوذ به
…
إلا بني العم في أيديهم الخشب
سيروا بني العم فالأهواز منزلكم
…
ونهر تيري فلم تعرفكم العرب
وقد كان مدح الأخطل لبني مروان عليه أبهة سلطانهم مما زجها شيء من عداوته للإسلام، تحس ذلك تنضح به رائيته:
خف القطين فراحوا منك أو بكروا
…
وأعجلتهم نوى في صرفها غير
تأمل قوله:
وقد نصرت أمير المؤمنين بنا
…
لما أتاك ببطن الغوطة الخبر
يعرفونك رأس ابن الحباب وقد
…
أضحى وللسيف في خيشومه أثر
لا يسمع الصوت مستكًّا مسامعه
…
وليس ينطق حتى ينطق الحجر
ضجوا من الحرب إذ عضت غواربهم
…
وقيس عيلان من أخلاقها الضجر
وأقسم المجد جهدًا لا يحالفهم
…
حتى يحالف بطن الراحة الشعر
وقد عرفت قيس طعم المرارة في شعره، فجزته على ذلك المقتلة العظيمة التي كانت يوم البشر. وقد جزع الأخطل مما أصاب قومه من قتل الرجال وبقر بطون الحوامل فقال يحرض الخليفة ويسر في تحريضه وعيدًا:
لقد أوقع الجحاف بالبشر وقعة
…
إلى الله منها المشتكى والمعول
فإن لا تغيرها قريش بملكها
…
يكن عن قريش مستماز ومزحل
وكان مدح ابن قيس الرقيات سندًا ودعامة لآل الزبير على بني مروان، حتى إن ابن قيس لما قدم على عبد الملك ومدحه لم يقبل منه على جودة ما قاله فيه وذكره بقوله في مصعب:
ملكه ملك قوة ليس فيه
…
جبروت ترى ولا كبرياء
وقوله:
إن يعش مصعب فنحن بخير
…
قد أتانا من عيشنا ما نرجي
جلب الخيل من تهامه حتى
…
بلغت خيله قصور زرنج
ملك يطعم الطعام ويسقى
…
لبن البخت في عساس الخلنج
أحسب أن عبد الملك ذكر هذا البيت وعاب عليه أنه مدحه بالتاج كما تمدح ملوك الأعاجم في قوله:
ما نقموا من بني أمية إلا أنهم يحملون إن غضبوا
وأنهم معدن الملوك فما تصلح إلا عليهم العرب
إن الفنيق الذي أبوه أبو العاصي عليه الوقا والحجب
خليفة الله فوق منبره جفت بذاك الأقلام والكتب
يعتدل التاج فوق مفرقه على جبين كأنه الذهب
وليس التشبيه بملوك الأعاجم من حيث قوة سياستهم ومنعة جيوشهم بعيب ولكن في ذلك إشعارًا بأنهم ليسوا على منهج الإسلام الذي خلافته ليست بذات جبروت ولا كبرياء وكأن ابن قيس متمسك بزبيريته وإنما يصانع الواقع بهذا الثناء الدنيوي غير الديني وهذا من أمره لم يخف على عبد الملك وكان شاعرًا عالمًا بالشعر فقيهًا باقعة كما لم تخف على عبد الملك زبيرية الراعي في لاميته:
ما بال دفك بالفراش مذيلا
…
أقذى بعينك أم أردت رحيلا
فأعرض عن جودتها ولم يرض عن عثمانية الراعي فيها إذا كانت عثمانية زبيرية، ومدح مروان أباه بتمريض وأقبل على عماله هو فأوسعهم ذمًّا وكأنما بغى أن يستعدي على دولته ببقية من ميله إلى آل الزبير.
وهجا الفرزدق آل المهلب بعصبية تميم على الأزد. وكانت بين تميم والأزد حروب وشحناء ثم صارا إلى مهادنة وصلح. وكان يزيد بن المهلب جوادًا ذا سياسة
فلاين الفرزدق واستزاره فنفر هذا خوفًا منه، وكان فروقة من الولاة ومع ذلك جريئًا عليهم لمكان قوة قومه. وقال:
دعاني إلى جرجان والري دونه
…
أبو خالد إني إذن لزؤوؤ
لآتي من آل المهلب ثائرًا
…
بأعراضها والدائرات تدور
ثم إنه مدح يزيد بن المهلب المدح الجيد، من ذلك قوله:
وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم
…
خضع الرقاب نواكس الأبصار
وهي من شواهد النحو وزعم زاعم أنه إنما قال «نواكسي الأبصار» ، يفر بهذه من أن يكون الفرزدق قد جمع فاعلًا على فواعل وهذه إنما تكون للمؤنث نحو شاعرة وشواعر ولغير العاقل نحو شاهق وشواهق وقولهم فوارس يشهد للفرزدق بصحة ما ذهب إليه إذ الناكسو الرؤوس هنا هم الفوارس السادة من القوم إذ رأوا يزيد.
قالوا فأراد يزيد بن عبد الملك الفرزدق على هجاء آل المهلب بعد أن خرجوا على بني أمية وهزموا في «العقر» فاستعفى الفرزدق من ذلك واعتذر بأنه قد مدحهم مدحًا لا يحسن به (بعد أن أسن) أن يهجوهم فيناقض نفسه أو يخس بقدرها: وقد كان هذا من جانب الفرزدق مع ما فيه من الاحتراس لكرامة نفسه، جاريًّا مع روح المحافظة على الموادعة التي كانت بين تميم والأزد. أورد هذا الخبر صاحب الأغاني في أخبار الأحوص ليزري به.
واستعانة الخلفاء بالشعراء في الهجاء قد كانت من معدن سياسة بني أمية وجروا فيها على مذهب العرب. وقد حمل يزيد بن معاوية الأخطل على هجاء الأنصار. وكأن ذلك قد كان منه تمهيدًا للفتكة التي فتكها بهم في وقعة الحرة.
ومدح جرير لخلفاء بني أمية وولاتهم كأنما كان يتحرى به تصوير شخصياتهم ومذاهب كل منهم في تدبير الدولة والحكم. وقد مر بك قوله في الحجاج في الجيمية وفي اللامية التي يذكر فيها أسطوله ومن أعجب شعره فيه إلى بائيته التي يقول فيها:
دعا الحجاج مثل دعاء نوحٍ
…
فأسمع ذا المعارج فاستجابا
شياطين العراق شفيت منهم
…
فأضحوا خاضعين لك الرقابا
إذا أخذوا وكيدهم ضعيف
…
بباب يمكرون فتحت بابا
جعلت لكل محترس مخوف
…
صفوفًا دارعين به وغابا
كأنك قد رأيت مقدمات
…
بصين استان قد رفعوا القبابا
وقد كان زمان الحجاج في خلافتي عبد الملك وابنه الوليد أوج اتساع ملك بني أمية إذ امتد ما بين الأندلس وحدود الصين.
وقال جرير فوصف عمر بن عبد العزيز أجود وصف وأصدقه وخاطبه بما يلائم ما أثر من موقفه إزاء الشعر والشعراء، إذ أبدى الكراهية لدعايته من ومع ذلك لم يقدر على التخلي عنها لحاجة الدولة إليها:
يعود الفضل منك على قريش
…
وتدفع عنهم النوب الشدادا
وتدعو الله مجتهدًا ليرضى
…
وترقب في رعيتك المعادا
إلى الفاروق ينتسب ابن ليلى
…
ومروان الذي رفع العمادا
ثم أضمر بعض الملامة له وأظهرها في قوله:
تعود صالح الأعمال إني
…
رأيت المرء يفعل ما استعادا
تزود مثل زاد أبيك فينا
…
فنعم الزاد زاد أبيك زادا
وما كعب بن مامة وابن سعدي
…
بأجود منك يا عمر الجوادا
وقد كان للشعراء في زمان بني أمية سند من قومهم. فمدح مادحهم كما ينطق به بلسان ننفسه يعبر به أيضًا عن قومه. وكان أمر بني أمية كله قائمًا على العصبيات تتناحر ومع التناحر يكون نوع من توازن منشأه من هذه المتصارعات التي دفع الله الناس فيها بعضهم ببعض يتأتى منه عنصر استقرار المجتمع، الذي يكون به قوام السياسة. قول الأخطل:
فإن لا تغيرها قريش بملكها
…
يكن عن قريش مستماز ومزحل
يدل على أن أمر بني أمية كان في جملته هو أمر قريش. هم سراة العرب المقدمون وبنو أمية معدنهم. وفي بيت أمية نفسه اصطراع ثم كانت الغلبة لبني مروان. وفي قريش اصطراع ثم كانت الغلبة لبني أمية. وهكذا وهلم جرا.
كان بنو هاشم -وهم بيت آل النبي الأقربين- هم المعارضة القوية الظاهرة والخفية لبني أمية. وإنما سادم بنو أمية ببقية شرف الجاهلية. وكان الشعراء ربما مال بهم -كما يميل بزعماء قومهم- حب دنيا بني أمية وفي قلوبهم تفضيل آل البيت. وقد كان الفرزدق من هذا الضرب. وقد كانت منه إلى ولاة بني أمية -لا بل إلى خلفائهم بدءًا بمعاوية- جنادع من أنفاس الهجاء.
وتنسب إلى الفرزدق في زين العابدين كلمته الميمية التي يقول فيها:
هذا ابن خير عباد الله كلهم
…
هذا التقي النقي الطاهر العلم
يكاد يمسكه عرفان راحته
…
ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
وليس قولك من هذا بضائره
…
العرب تعرف من أنكرت والعجم
ويدخلون فيها قوله:
في كفه خيزران ريحه عبق
…
من كف أروع في عرنينه شمم
يغضي حياء ويغضي من مهابته
…
فلا يكلم إلا حين يبتسم
واستشهد به ابن قتيبة في مقدمته على ما سماه شرف المعنى ونسبه إلى الحزين الكناني وعسى ذلك، وكان في ابن قتيبة كما كان في الجاحظ ظاهر انحرافٍ عن التشيع وما خلا ذلك والله أعلم من مصانعة لبني العباس، فقد زعم ابن قتيبة أن مدح الكميت لبني أمية أجود من مدحه لبني هاشم وهو باطل، وأنكر الجاحظ على الكميت زعمه أن الناس يعيبونه لمدح الرسول عليه الصلاة والسلام والجاحظ ممن لم يخف عليه أن الكميت إنما عنى تحامل الناس عليه من أجل موقفه السياسي إذ مدحه الرسول صلى الله عليه وسلم مضمن تزكية أهل البيت وتفضيهم والدعاية لهم: تأمل قوله يذكر توارث بني أمية الخلافة:
وقالوا ورثناها أبانا وأمنا
…
وما ورثتهم ذاك أم ولا أب
ولكن مواريث ابن آمنة الذي
…
أقر له بالفضل شرق ومغرب
بك اجتمعت أنسابنا بعد فرقة
…
فنحن بنو الإسلام ندعي وننسب
يقولون لم يورث ولولا تراثه
…
لقد شركت فيها بكيل وأرحب
ولم يكن الأنصار عنها بمعزل
…
ولا غيبا عنها إذ الناس غيب
هم رئموها غير ظأر وأشبلوا
…
عليها بأطراف القنا وتحدبوا
فإن هي لم تصلح لحي سواهم
…
فإن ذوي القربى أحق وأقرب
وإلا فقولوا غيرها تتعرفوا
…
نواصيها تردى بنا وهي شزب
علام إذن زرنا الزبير ونافعا
…
بأرماحنا بعد المقانب مقنب
وطاح على أرماحنا بادعائها
…
وتحويلها عنكم شبيب وقعنب
قد كانت هاشميات الكميت مما زعزع سلطان بني أمية وهيأ سبيل سقوطه.
وقد كان مدحه ومدح الشيعة وآل البيت، مما يوقع في نفوس بني أمية أنفسهم أنهم مغتصبون وأن منزلتهم في منصب الشرف دون منصب بني هاشم. ولم يكن لبني
مروان من شرف الجاهلية ما كان لبني حرب وآل سعيد بن العاص. وإنما أعينوا بسن مروان وقرابته من أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه.
وميمية الفرزدق في زين العابدين مما يشهد له، على المذكور من جبنه، بشجاعة قلب خارقة. وقد أحسن الجاحظ الثناء على الفرزدق في مقطوعاته وأوشك أن يفضله بها تفضيلًا. ومن أجود هذه المقطوعات ما كان الفرزدق يتناول فيه الخلفاء والولاة بالنقد اللاذع. وقد هجا الحجاج فقال:
إن تنصفونا بالمروان نقترب
…
إليكم وإلا فأذنوا ببعاد
والأبيات في حماسة أبي تمام منسوبة إليه. وقد تروى لمالك بن الريب، كأن نناسبها إليه يستبعد أن يكون جسر فقال في الحجاج:
فباست أبي الحجاج واست عجوزه
…
عتيد بهم ترتعي بوهاد
فلولا بنو مروان كان ابن يوسف
…
كما كان عبدًا من عبيد إياد
ولعل الفرزدق جعلها من مكتماته. وهذا أسلوبه وما كان ليخفى على أبي تمام. والراجح أن مالك بن الريب مات قبل زمان الحجاج لأن خروجه إلى خراسان كان مع سعيد بن عثمان وكانت ولاية سعيد قبل زمان الحجاج بدليل قول ابن مفرغ:
تركي سعيدًا ذا الندى
…
والبيت تسنده الدعامة
وتبعت عبد بني علاج
…
تلك أشراط القيامة
عبد بني علاج يعني به عباد بن زياد. وزمان ابن مفرغ قبل الحجاج بلا ريب، على زمان معاوية وابنه.
وقول الفرزدق «فباست إلخ» جسارة في السب وكانت العرب تصنع ذلك في
الهجاء يذكرون المرء بسبيليه وأرجاسه، كأنهم بهذا يردونه إلى حالٍ من الضعة يصغر معها شأن زهوه وطغيانه وغروره. وقد تعلم هجاء لبيد الربيع بن زياد حيث قال:
مهلًا أبيت اللعن لا تأكل كل معه
إن استه من برص ملمعة
وإنه يدخل فيها إصبعه
يدخله حتى يواري أشجعه
كأنما يطلب شيئًا أودعه
وكان لبيد إذ قال هذا غلامًا حدثا. فكأن الذين راموا الكيد للربيع عند النعمان قد تعمدوا تعمدًا أن يكون ناطقهم بالهجاء عند الملك هذا الغلام، حتى إذا لم يرض الملك كلامه، اعتذروا له عنده بحداثته، وإن رضيه فقد أدركوا مرادهم من الغض من شأن الربيع.
وقول الفرزدق «عتيد بهم إلخ» أي اذكر عتيد بهم، يعرض بأن أباه عبد وأمه راعية، قالوا وكان ثقيف عبدًا لإياد. وقالوا هم من بقايا ثمود.
وكان في الهجاء جانب هزل وربما أحفظ. وقد قتلت فزارة سالم بن دارة لفحشه فيه إذ هجاهم. وقد غلا الفرزدق وجرير في ذكر الفواحش أيما غلو، وروح الهزل الضاحك أغلب على مذهب الفرزدق. كقوله وقد سمع قول جرير:
أقول له يا عبد قيسٍ صبابة
…
بأي ترى مستوقد النار أوقدا
قال:
أعد نظرا يا عبد قيس لعلما
…
أضاءت لك النار الحمار المقيدا
وبعض إقذاع جرير يغيظ كقوله:
أتذكر صوت جعثن إذ تنادي
…
ومنشدك القلائد والخمارا
فإن مجر جعثن كان ليلا
…
وأعين كان مقتله نهارا
ومن هزله قوله يعير الفرزدق:
ليست كأمك إذ يعض بقرطها
…
قين وليس على القرون خمار
«زعموا أن صائغًا استدعي ليخلص قرط أم الفرزدق وكانت صبية فعض أذنها» (1) وكان لجرير دهاة من قومه بني يربوع يخبرونه أخبار المثالب والفضائح فيذكرها في شعره.
وكأنه كانت النساء يهجون كما كن يرثين. وذلك أشبه بأن يكون أبعد أن يثير الحفائظ إذ لا تطالب المرأة بثأر كما يطالب الرجل. ومما يشهد لصحة هذا الذي نقول به على وجه الترجيح خبر المهاجاة بين الأغلب العجلي، و «جارية من قيس بن ثعلبة» كما قال، وخبر مهاجاة النابغة الجعدي وليلى الأخيلية، وكأن الخنساء قد كانت صاحبة هجاء قبل أن تشتهر بالرثاء. وكأن قد كانت أول أمرها برزة ذات «شخصية» قوية، يدلك على ذلك خبرها مع دريد، وقد نفرت من خطبته وقالت:
معاذ الله ينكحني حبركي
…
يقال أبوه من جشم بن بكر
وقد ذكروا أنها أريدت على هجاء قيس بن الخطيم، فلما رأته كبر في عينها فحلفت ألا تهجوه أبدًا.
وربما سبق الشاعر أن يعير بأمر فيهجو نفسه كالهازل. وقد أدخل أبو العلاء الحطيئة في جنة غفرانه بقوله:
أرى لي وجهًا قبح الله خلقه
…
فقبح من وجه وقبح حامله
(1)() ديوان جرير، الصاوي، انظر هامش 202.
وقبله:
أبت شفتاي اليوم إلا تكلما
…
بسوء فما أدري لمن أنا قائله
وفي المفضليات كلمة رائية تجري هذا المجرى. وذلك أن عبد يغوث الحارثي لما قال كلمته اليائية:
ألا لا تلوماني كفى للوم ما بيا
…
فما لكما في اللوم خير ولا ليا
لام فيها قومه فقال:
جزى الله قومي بالكلاب ملامة
…
صريحهم والآخرين المواليا
فانصب من هذه الملامة على سراة قومه، فدافع الحارث بن وعلة الجرمي عن نفسه بالرائية التي أولها:
فدى لكما رجلي أمي وخالتي
…
غداة الكلاب إذ تحز الدوابر
نجوت نجاء لا هوادة عنده
…
كأني عقاب عند تيمن كاسر
ومن خبيث الهجاء عنزية جبيهاء، فقد أسبغ عليها صفة الناقة الكريمة وقال:
أمولي بني تيم ألست مؤديا
…
منيحننا فيما تؤدي المنائح
زعم أن التيمي استعار منه منيحة وهي ههنا عنز وسماها غمرة يشير بذلك إلى كثرة درها.
فإنك إن أديت غمرة لم تزل
…
بعلياء عندي ما بغى الربح رابح
لها شعر ضافٍ وجيدٌ مقلص
…
وجسم زخاري وضرس مجالح
زخاري كثير اللحم. مجالح أي يجتلح الشجر أي يقشره.
ولو أشليت في ليلة رجبية
…
بأرواقها هطل في الماء سافح
أي لو نوديت في ليلة شتاء ماطرة:
لجاءت أمام الحالبين وضرعها
…
أمام صفاقيها مبد مكاوح
جعل لها حالبين وإنما هي عنز تحلبها الجارية الصغيرة من قعود. الصفاقان ما اكتنف الضرع عن يمين وشمال إلى السرة. مبد: أي مفرق يفرق ما بين رجليها لاتساعه. مكاوح أي دافع لرجليها فهو تأكيد لقوله مبد.
كأن أجيج النار إرزام شخبها
…
إذا امتاحها في محلب الحي مائح
فجعل ضرعها يحتاج إلى محلب الحي فغضب التيمي إذ علم أن جبيهاء إنما أراد هجاءه هو لا مدح العنز فقال يجيب سؤاله: ألست مؤديا إلخ:
نعم ساؤديها إليك ذميمة
…
لتنكحها إن أعوزتك المناكح
وهذا هزل فيه فحش كما ترى. وإنما هو استهزاء. فقال جبيهاء:
لو كنت شيخًا من سليم نكحتها
…
نكاح يسار عنزه وهو سارح
عنى سليمًا من تيم وكانوا يعيرون بشاة اسمها خطة.
وقد مر بك ضرب من هذا الهجاء الخبيث الهازل في الذي سقناه من دالية حميد وبائية القطامي. وههنا موضع ذكر شيء من حائية جران العود. وما أرى إلا أنه تأثر بها مذهب الفرزدق في الهزل، بآية ما نظم الفائية على منوال فائيته حيث تغزل وهي التي أولها:
ذكرت الصبا فانهلت العين تذرف
…
وراجعك الشوق الذي كنت تعرف
وكان فؤادي قد صحا ثم هاجني
…
حمائم ورق بالمدينة هتف
والمطلع فيه أصداء من قول الفرزدق:
عزفت بأعشاش وما كدت تعزف
…
وأنكرت من حدراء ما كنت تعرف
وقد تعلم أن الفرزدق نظم هذه الفائية بالمدينة ومطلع الحائية وقد مر ذكره:
ألا لا يغرن امرأً نوفلية
…
على الرأس بعدي أو ترائب وضح
ولكأن صاحبه هذه الحائية هي صاحبة الفائية لقوله في هذه:
وأمسكن دوني كل حجزة مئزر
…
لهن وطاح النوفلي المزخرف
ذلك بأن في نعتها الذي في الفائية ما تحس منه قوة شخصيتها «وإنها برزة» وأنها كأن قد قهرت الشاعر واستعلت عليه وذلك قوله:
وفي الحي ميلاء الخمار كأنها
…
مهاة بهجل من أديم تقطف
شموس الصبا والأنس مخطوفة الحشا
…
قتول الهوى لو كانت الدار تسعف
كأن ثناياها العذاب وريقها
…
ونشوة فيها خالطتهن قرقف
تهين جليد القوم حتى كأنه
…
دوٍ يئست منه العوائد مدنف
وأخذ المدنف الدوي من فائية الفرزدق. وجليد القوم عني به نفسه وقد أعرفنا أنها أهانته على بريق ثناياها له بالحديث، ويكون وصف الريق منه على التوهم والتمني أو تكون أنالته قبلة وداد إن صح في قوله «وطاح النوفلي المزخرف» أنه يدل على شيء من ذلك، وأشبه به ألا يكون يدل إلا على السفور، وذلك نوال من الحسناء عظيم. ومما يشهد لها بجزالة الحديث وقوة النفس ما حكى من قولها:
وقالت لنا والعيس صعر من البري
…
وأخفافها بالجندل الصم تقذف
حمدت لنا حتى تمناك بعضنا
…
وأنت امرؤ يعروك حمد فتعرف
وكأن ههنا نقدًا له بأنه مما يغتر. وذلك أنه يصيب بعض المدح لشعره وأدبه أحيانًا -ولا يخفى وكأنه يخطئه ذلك أحيانًا، هذا المعنى مداخل لقولها «يعروك حمد»
وكأنه - (أو كأنها حسب حكايته لقولها) - رامت أن تخفف هذا التضعيف لثنائها عليه فقالت:
رفيع العلا في كل شرق ومغرب
…
وقولك ذاك الآبد المتلقف
أي العويص الذي يطلب لغريبه.
واعلم أصلحك الله أن العرب كانت تستحسن الكلمة من الغريب يجيء بها الشاعر ونأمل أن نعرض لهذا المعنى من بعد إن شاء الله. وكان جران العود مما يجيء الغريب في شعره. ولا يخلو ثناء الفتاة عليه ههنا من شيطنة، إذ كما كان تعاطى الغريب مما يستحسن، كذلك كان أيضًا مما يقع معه الزلل.
وكأنها تسخر منه إذ تقول:
وفيك إذا لاقيتنا عجرفية
…
مرارًا وما نستيع من يتعجرف
وجران العود يحكي هذه السخرية به التي سخرتها ويقرب لها أسلوبها بقوله:
تميل بك الدنيا ويغلبك الهوى
…
كما مال خوار النقا المتقصف
ولا يخلو هذا التشبيه من غزل سواء أكان من قولها هي أم من تعليق يعلق به هو، ويشبه الردف بالنقا. وما أشبه أن يكون ذلك منه حكاية لارتجاجة تمايلت بها
وهي تقول مقالتها لتفتنه ويقوي ذلك قولها من بعد:
ونلفي كأنا مغنم قد حويته
…
وترغب عن جزل العطاء وتسرف
فموعدك الشط الذي بين أهلنا
…
وأهلك حتى تسمع الديك يهتف
وهذا كقول عمر: «ولكن موعد لك عزور» .
وقد يقال إن الفائية كان نظمها بعد الحائية لأن جران العود إنما سمي بذلك تلقيبًا له -فيه ضرب من استهزاء- لقوله في الحائية:
خذا حذرًا يا جارتي فإنني
…
رأيت جران العود قد كاد يصلح
يقول لضرتيه خذا حذرًا فإني قد رأيت السوط قد قارب صلاحه للضرب وهو سوط من جلد جران العود أي رقبة البعير الكبير، ولا يخلو من لقبه هذا اللقب من إرادة بعض خبث المعنى.
وفي الفائية:
وما لجران العود ذنبٌ ولا لنا
…
ولكن جران العود مما نكلف
وأغلب الظن أنه أضاف هذا إلى الفائية إن كانت هي السابقة. وهل كانت الحائية في امرأتين ضرتين أو جعلهما اثنتين ليفتن في الهجاء بما يعقد من موازنة؟ ومهما يكن من شيء فإن شكاية الهزل أغلب على هذا الهجاء، مما عسى أن يرجح أنه ربما افتعل القصة كلها يغايظ بها صاحبته أو يريد السخرية من أجيال النساء على وجه العموم وهو مذهب لكثير من الناس والشعراء وحسبك دليلًا قولة علقمة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني
…
خبير بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله
…
فليس به في ودهن نصيب
يردن ثراء المال حيث علمنه
…
وشرخ الشباب عندهن عجيب
وقول طفيل الغنوي:
إن النساء كأشجار نبتن معا
…
منها المرار وبعض النبت مأكول
إن النساء إذا ينهين عن خلق
…
فإنه واجب لا بد مفعول
وفي لامية العرب:
ولست بعل شره دون خيره
…
ألف إذ هيجته اهتاج أعزل
ولا جبإٍ أكهى مربٍّ بعرسة
…
يطالعها في شانه كيف يفعل
الجبأ بوزن السكر الذي يوضع في الشاي هو الجبان والأكهى الضعيف.
ولا خالف دارية متغزل
…
يروح ويغدو داهنا يتكحل
والشيء بالشيء يذكر وهذا داخل في حيز الهجاء كما ترى.
قال جران العود ونورد من قوله أبياتًا من ديوانه برواية السكري طبعة دار الكتب (مصر- 1350 هـ- 1931 م).
ألا يغرن امرأً نوفلية
…
على الرأس بعدي أو ترائب وضح
ولا فاحم يسقي الدهان كأنه
…
أساود يزهاها لعينيك أبطح
وأذناب خيل علقت في عقيصةٍ
…
ترى قرطها من تحتها يتطوح
فكل هذه من هيئات امتشاط النساء ولا جديد تحت الشمس.
فإن الفتى المغرور يعطي تلاده
…
ويعطي الثنا من ماله ثم يفضح
أحسبه بكسر الثاء بوزن «إلي» وحقه أن يكتب بالياء الثنى أي يعطي تلاده أي ماله الموروث مهرًا ويعطي بعد ذلك عطاء ثانيًا مرة أخرى مما اكتسبه. وكأن المعري قد نظر إلى مقالة جران العود ههنا في أبياته الدرعية «عليك السابغات
فانهنه»، وقد ذكرنا عنها شيئًا في الجزء الأول وفي مقالة لنا عن الدرعيات.
ويغدو بمسحاح كأن عظامها
…
محاجن أغراها اللحاء المشبح
المشبح بصيغة اسم المفعول المقشور. وقوله ويغدو بمسحاح كأنه تحريف وكأن صوابه ويغدو بشحشاح. وهل عني بمسحاح أنها كثيرة العرق. الذي رجحنا أشبه قال صاحب القاموس وامرأة شحشاح كأنها رجل في قوتها -وهذا يشبه قوله في آخر القصيدة «الشحشحان الصرنقج» - أي إذا له لا يجد غادة بضة ولكن امرأة ذات خلق كخلق الرجل يبسًا وصلابة وكأن عظامها محاجن وهي الخشبات التي تجذب بها الأغصان معقوقفات الأطراف الواحد محجن.
إذا ابتز عنها الدرع قيل مطرد
…
أحص الذنابي والذراعين أرسح
أحص قليل الشعر. أرسح قليل لحم العجز. المطرد المطرود ويطلق على المولود بعد آخر فهما طريدان. فإن يكن الموصوف طائرًا فالذراعان جناحاه وهو أحصهما وأحص الذنب لأنه معط ريشه، شببها لقلة لحمها وبروز عظامها بفرخ مطرد منتوف أو بحيوان هزل وذهب شعر ذنبه وذراعيه والوجه الأول أقوى أو يكون شبهها بذئب أرسح إذ بذلك يوصف وهو مطرد لخروجه من تنوفة إلى تنوفة، كما قال في لامية العرب:«أزل تهاداه التنائف أطحل» . ابتز بالبناء للمجهول.
فتلك التي حكمت في المال أهلها
…
وما كل مبتاع من الناس يربح
ومقال المعري الذي زعمنا أنه من هنا أخذه هو قوله:
يقلن فلانة ابنة خير قوم
…
شفاء للعيون إذا شفنه
لها خدم وأقرطة ووشح
…
وأسورة ثقائل إن وزنه
فلا تستكثر الهجمات فيها
…
فأعراس بتلك دخول جنة
ولو طواعتهن لجئن يومًا
…
بأخت الغول والنصف الضفنة
فهذه الصفقة الخاسرة هي مكان التشابه والأخذ، ثم يصف جران العود شراسة صاحبته ومساورتها له، تكون بجانبه كأنها لائذة به ثم إذا به تضربه بشمالها أسرع من لمح البصر وإنما لاذت بجانبه لأنه مد يمينه ليضربها.
تكون بلوذ القرن ثم شمالها
…
أحث كثيرًا من يميني وأسرح
جرت يوم رحنا بالركاب نزفها
…
عقابٌ وشحاج من الطير متيح
فهذا حدوقه في يوم زفافها شاهد بشؤمهما. والشحاج هو الغراب -قال جرير في جيمية الحجاج:
إن الغراب بما كرهت لمولعٌ
…
بنوى الأحبة دائم التشحاج
ليت الغراب غداة ينعب بالنوى
…
كان الغراب مقطع الأوداج
ثم أخذ جران في تأويل طيرته:
فأما العقاب فهي منها عقوبة
…
وأما الغراب فالغريب المطوح
يعني نفسه أنه هو الغريب.
عقابٌ عقنباة كأن وظيفها
…
وخرطومها الأعلى بنارٍ ملوح
هذا تهويل، ووظيفها يعني ساقها.
لقد كان لي عن ضرتين عدمتني
…
وعما ألاقي منهما متزحزح
لم يخبرنا من قبل أنه يتحدث عن امرأتين، ولكن عن واحدة هي التي إذا ابتز عنها الدرع بدت هيئتها الخشنة ويوم زفافها جرى ما يدعو إلى الطيرة. فإما يكون قد تزوجها على أخرى كالذي أمل أن يكون خروفًا بين أكرم نعجتين فصار حملًا بين الأم ذئبتين. وإما أن يكون قد جعلها ضرتين لشدة الشر الذي لقيه منها. وقد
مهد للتثنية بقوله عقاب عقنباة -كأن عقابًا صفة لواحدة منها وعقنباة للأخرى، والعقنباة هي السريعة مأخوذة من نفس لفظ العقاب.
هما الغول والسعلاة حلقي منهما
…
مخدش ما بين التراقي مكدح
ثم رجع بعد هذه التثنية يصف امرأة واحدة -وجاء بصورة مضحكة مبالغ فيها من القتال بينها وبينه وهو المغلوب وهي المسترجلة المنتصرة عليه- وأحسب أنه افتعل هذه الهيئة من تصوير المعركة بينها وبينه افتعالًا لا يعني به إلا الهزل:
لقد عالجتني بالنصاء وبيتها
…
جديدٌ ومن أثوابها المسك ينفح
ولا يخفى أنه يثنى عليها بنوع من تغزل في قوله «ومن أثوابها المسك ينفح» على أن ظاهر مراده منه تأكيد معنى «وبيتها جديد» وأنهما بعد عروسان. والنصاء هو الأخذ بالناصية.
إذا ما انتصينا فانتزعت خمارها
…
بدا كاهل منها ورأس صمحمح
أي شديد وكأنه ساروها وهي تهم بخروج أوهما آئبان، لأنها لم تكن لتختمر منه وهي في بيتها.
تداورني في البيت حتى تكبني
…
وعيني من نحو الهراوة تلمح
والهراوة بيدها هي.
وقد علمتني الوقذ ثم تجرني
…
إلى الماء مغشيًّا على أرنح
ولم أر كالموقوذ ترجي حياته
…
إذا لم يرعه الماء ساعة ينضح
يقول قد عودتني أن تضربني حتى تتركني موقوذًا -ومنه قوله تعالى: {وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ} فالموقوذة ما قتلت بالضرب فهذه أكلها حرام ومراد جران العود أنها علمته أن يكون مغلوبًا لها بالضرب لأنها تسبقه إلى الهراوة فيسقط
من ضربتها مغشيًّا عليه فتجره إلى الماء فلا يروعه إلا بعد طول الصب فيقول فلم أر موقوذًا مثلي يصب عليه الماء فلا يحس له ومع ذلك ترجى حياته، يعني أن ضربتها تبلغ به مبلغًا من فقدان الوعي. ثم يبالغ في صفة فقدانه الوعي:
أقول لنفسي أين كنت وقد أرى
…
رجالًا قيامًا والنساء تسبح
أي بلغ من حالة فقدانه الوعي أن جاء رجال ونساء يشهدون فقدانه الوعي يخافون أن يكون قد قتلته فالرجال قيام عليه يحاولونه أن ينهض والنساء يسبحن الله يسألنه ألا يموت وقد صحا الآن من غشيته، فما درى أين هو.
أبا الغور أم بالجلس أم حيث تلتقي
…
أما عز من وادي بريك وأبطح
أما عز جمع معزاء وأمعز وهي الأرض الخشنة. ثم يعود الشاعر إلى ذكر الاثنتين بعد أن كانت ضاربته واحدة.
خذا نصف مالي واتركا لي نصفه
…
وبينا بذمٍ فالتعزب أروح
وما عني ههنا يخالطه لون من شيطنة. ذلك أنه يذكر أن له صبية فهم منهما أو من إحداهما أو من أخرى سواهما بانت أو ماتت وسياق كلامه لا ينبئ بهذا؛ لأن قوله فيا بعد «فالتعزب أروح» يشعر بأنهما إذا بانتا بانتا ومعهما الصبية فتركتاه عزبًا وحده. وقد كان ذكر أنه يعطي ماله كله وضعفه. فقوله «خذا نصف مالي» يبدو كأنه أراد به نصف المهر ففيه غمز أنها (أو أنهما) طلاق قبل المسيس -قال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} الآية.
والصبية له بلا ريب. فجعل حالهما كحال من تبين بلا مسيس لشدة ما يلقى من شرهما أو من شرها إن تك هي واحدة وثناها على التهويل.
أقول لأصحابي أسر إليهم
…
لي الويل إن لم تجمحا كيف أجمح
أأترك صبياني وأهلي وأبتغي
…
معاشًا سواهم أم أقر فأذبح
وجلي أنه قد اختار أن يقر فيذبح. ولا يخلو جميع هذا التصوير الذي صوره من ضرب جنسي فهذا مكان الشيطنة. فهما - (ولا أرى إلا أنها واحدة جعلها كاثنين غول وسعلاة) على ضربهما وغلبتهما له أما صبيته وأهله.
ألاقي الخنى والبرح من أم حازم
…
وما كنت ألقى من رزينة أبرح
ترى رأسها في كل مبدي ومحضر
…
شعاليل لم يمشط ولا هو يسرح
وإن سرحته كان مثل عقارب
…
تشول بأذناب قصار وترمح
تخطى إلى الحاجزين مدلةً
…
يكاد الحصى من وطئها يترضح
لها مثل أظفار العقاب ومنسم
…
أزج كظنبوب النعامة أروح
الروح تباعد ما بين الرجلين.
إذا انفتلت من حاجز لحقت به
…
وجبهتها من شدة الغيظ ترشح
به -يعني نفسه لأنه هو المقصود بشرها وقد انفتلت على سمنها من الحاجز ثم صوبت عصاها إلى أصل أذنه وهي تقول لقد كنت أصفح عنه أما الآن فلا. وقالت بالعصا تبصر أصل أذنه فهذا مقال بفعل لا يقول كما ترى:
وقالت تبصر بالعصا أصل أذنه
…
لقد كنت أعفو عن جران وأصفح
وهل -ليت شعري- عني جران العود تصوير حال شخص آخر تصنع به زوجته أو زوجتاه هذا الصنيع- وأورد القصة كأنها حكاية عن نفسه؟ فيكون هذا من أخبث الهجو. ويكون بعض القوم يعلمون مراده فيقع هذا التلميح أمض موقع، كأن كل بيت منه يقول «إياك أعني واسمعي يا جارة» .
على إسناد جران للحكاية إلى نفسه وجريه فيها مجرى الهزل والضحك من نفسه، تجد فيها عند التأمل أن الوصف وصف مشاهد أكثر منه وصف ممارس ألمت به التجربة التي يصف- تأمل قوله:
ولما التقينا غدوة طال بيننا
…
سباب وقذف بالحجارة مطرح
بكسر الميم وسكون الطاء بوزن منبر أي بعيد المدى.
أجلي إليها من بعيد وأتقي
…
حجارتها حقًّا ولا أتمزح
تشق ظنابيبي إذا ما اتقيتها
…
بهن وأخرى في الذؤابة تنفح
الظنبوب عظم الساق.
قوله «ولما التقينا» -أي هو وهي كأنهما كتيبتا قتال. على أنه بقوله «ولما التقينا» قد أنبأنا من حيث لم يشعر أو من حيث بدا كأن لم يشعر (إن يكن قد تعمده) أنه قد لاقى أناسًا هذا شأنهم. ثم بدلًا من أن يقول «كان بينهم سباب» قال: «كان بيننا» فهذا كأنه التفات من ضمير الغائب الذي ينبغي أن يكون عليه سياق القول إلى ضمير المتكلم. والالتفات مذهب في العربية. وعلى هذا فهو حقًّا لا يقص خبرًا عن نفسه ولكنه يخبر عن آخرين، وعمي كما قدمنا بنسبة الخبر إلى نفسه.
يقوي هذا الذي نذهب إليه أنه حين وصف أظفار رزينة وعقاربها حول الضمير من المتكلم إلى الغائب وذلك قولها:
وقالت تبصر بالعصا أصل أذنه
…
لقد كنت أعفو عن جرانٍ وأصفح
وهذا التحويل إلى الغائب مكنه أن يصف سقوط جران (نفسه التي كنى بها عن شخص آخر كما نرجح، وصف مشاهد ينظر، وبعيد في الصورة التي أعطاناها أن
يكون عني بها نفسه لقوة حيوية مشاهدة شيء آخر غير نفسه فيها وذلك قوله:
فخر وقيذًا مسلحبا كأنه
…
على الكسر ضبعانٌ تقعر أملح
والذي يقوي هذا المعنى عندنا (أي معنى مشاهدة شيء آخر غير نفسه) هو أن هذا الوصف وما فيه من تشبيه مأخوذ من قول الفرزدق:
ولما رأيت العنبري كأنه
…
على الكفل خرآن الضباع القشاعم
وقصة خبر هذه الأبيات تنبئ أنها كانت من مبكرات شعر الفرزدق. فالذي يغري بأخذ المعنى مشاهدة شيء يشبهه صفته مقاربة لصفته، ولا يكون مثل هذا مما يقع في صفة امرئ نفسه إذا لا يشاهدها بعين مشاهدة الشخص الآخر كفعل الفرزدق ههنا. والضبعان بكسر الضاد ذكر الضبع.
ثم يصف ابن روق هذا الذي جاء يلتمس اللهو. فهل هو الذي خر وقيذا
…
أتانا ابن روقٍ يبتغي اللهو عندنا
…
فكاد ابن روقٍ بين ثوبيه يسلح
وأنقذني منها ابن روقٍ وصوتها
…
كصوت علاة القين صلب صميدح
أنقذه بأن رام أن يحجز، فقالت تبصر أصل أذنه، أي ضربته على أصل أذنه فهذا أوجه في التفسير. وصوتها يعني قولها «لقد كنت أعفو عن جران» حين ضربته ولكن الضربة أصابت الحاجز فخر وكاد يسلح وهذا يناسب التشبيه بالضبعان لأنها توصف بذلك ويقال لها جعار بوزن قطام وأصل هذا من معنى العذرة. على أنه يصف ابن روق هذا بالنجاء على حصان. فلم تزل الضربة على ما تأولناه أولًا أنها وقعت به، أو بالشخص الذي كنى بنفسه عنه، ويكون ابن روق هذا قد زاره، ووجد الشر، وأستبعد أن يكون أراد بقوله يبتغي اللهو عندنا «نفسه وداره» فهذا مما يقوي ما نحسبه أنه أراد به هجاء قوم آخرين. ثم كعادة الشعراء
حين يذمون النساء استثنى، ويكون بلا ريب أول من يستثنيه أقربهن إليه:
وولى به راد اليدين عظامه
…
على دفق منها موائر جنح
هذا كقول طرفة «وكرى إذا نادى المضاف محنبا» إذ التحنيب اعوجاج في القوائم ممدوح.
ولسن بأسواء فمنهن روضةٌ
…
تهيج الرياض غيرها لا تصوح
تهيج الرياض أي تيبس ويتطاير نبتها مع الأعاصير.
ومنهن غل مقمل لا يفكه
…
من القوم إلا الشحشحان الصرنقح
الغل المقمل من جلد وعليه شعر فيقمل في عنق الأسير.
عمدت لعود فالتحيت جرانه
…
وللكيس أمضي في الأمور وأنجح
العود البعير المسن، التحيت جرانه أي سلخت جلد عنقه فصنعت منه سوطًا.
خذا حذرًا يا جارتي فإنني
…
رأيت جران العود قد كاد يصلح
وإنما اتخذ السوط لأنه أمد من العصا فإذا صاولتاه كانت إصابته لهما أسرع.
وما أحسبه ذكر السوط إلا انتصارًا للرجل أن يجعله مغلوبًا بعد الذي قدمه من هول أمر صاحبتيه. وهل قصد جران العود إلى أن يجاري حائية ذي الرمة التي يقول فيها:
ذكرتك أن مرت بنا أم شادنٍ
…
أمام المطايا تشرئب وتسنح
من المؤلفات الرمل أدماء حرة
…
شعاع الضحى في متنها يتوضح
هذا وقد خالطت أقذاع الهجاء من معاني الرفث ضروب من التشنيع باللواط في أشعار المحدثين. وما كانت أشعار القدماء خالية من ذلك، فأمة لوط
خبرها قديم وذك فحشائها وراد في الكتاب الكريم. وقد قال جرير:
عرادة من بقية قوم لوط
…
ألا تبًّا لما صنعوا تبابا
ولم يزد على هذا. وقول جرير:
أجندل ما تقولي بنو نميرٍ
…
إذا ما الأير في إست أبيك غابا
يعني به انتصار الهجاء وفحولته لا يعني عمل قوم لوط، وإن يكن قد أخذ استعارته من هناك، وهذا كقول وكيع بن أبي سود لما قتل قتيبة بن مسلم:«من ينك العير ينك نياكا» .
وقد افتن الفرزدق في هجاء جرير بالأتان ولم يهجهم بلواط ومن قبل هجا عمير بن ضابي قومًا فقال:
وأمكم لا تتركوها وكلبكم
…
فإن عقوق الوالدات كبير
فاستعظم ذلك أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وقال إنه لو كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لنزل فيه قرآن. وعير الفرزدق جريرًا بأنه لو خير بين الموت وأن يستبيح أمه لاختار الثانية.
وفي تشنيعات المحدثين باللواط تصريحًا وتلميحًا خبث وروح تشف حضاري ذي كيد لئيم. وقد غضب روح بن حاتم من قول بشار:
توعدني أبو خلف
…
وعن ثاراته ناما
بسيف لأبي صفـ
…
ـرة لا يقطع إبهاما
لما فيه من التعريض بالتخنيث واللين فهم بقتله فما أنقذه منه إلا أن أجاره الخليفة المهدي. وقد قتله المهدي شر قتلة بقوله:
خليفة يزني بعماته
…
يلعب بالدف وبالصولجان
أبدلنا الله به غيره
…
ودس موسى في حر الخيزران
وكان أبا العتاهية أخذ من بشار في هجائه ابن معن بن زائدة حيث قال:
وما تصنع بالسيف إذا لم تك قتالا
فصغ ما كنت حليت به سيفك خلخالا
فجعله امرأة ذات خلخال. وله في هجائه قصيدة خبيثة أوردها صاحب الأغاني:
أخت بني شيبان مرت بنا
…
ممشوطةً كورًا على بغل
أي مرت بنا كورًا على بغل، مزفوفة على بغل إلى زوجها والكور الرحل.
تكنى أبا الفضل ويا من رأى
…
جاريةً تكنى أبا الفضل
قد نقطت في وجهها نقطة
…
مخافة العين من الكحل
إن زرتموها قال حجابها
…
نحن عن الزوار في شغل
مولاتنا مشغولة عندها
…
بعل ولا إذن على البعل
وفيها في أولها:
قال ابن معن وجلا نفسه
…
على من الجلوة يا أهلي
ما في بني شيبان أهل الحجا
…
جارية واحدة مثلي
صافحته يومًا على خلوة
…
فقال دع كفي وخذ رجلي
فإن صح ما زعمه أبو الفرج من أن أبا العتاهية كان مخنثًا ويحمل زاملة المخنثين، فأنفاس هذا الشعر ببعض ذلك تنبش، لما في تأنيث العبارات ولزاجتها إلى أنه شبه ابن معن بامرأة، فمن ذلك قد يرد في الشعر كما في بيتي الشواهد.
من يرعيني مالك وجرانه
…
وجنبيه يعلم أنه غير ثائر
حضجرٌ كأم التوأمين توكأت
…
على مرفقيها مستهلة عاشر
جعل لها عنقًا ممدودًا مطأطئًا كما يمد البعير جرانه، وليس في هذا تأنيث أو تخنيث ولكن صفة قلب ميت وخيم يرى ذلك في عيني صاحبه ورقبته وجنبيه. وفي شواهد سيبويه من جيد الشعر فرائد تستحق أن يفرد بابٌ أو كتاب لدرسها درسًا فنيًا إذ أكثر ما يشتغل الناس بإعرابها وغرائبها. وقد نبه قدامة على قوله:
إن يغدروا أو يفجروا
…
أو يقتلوا لا يحفلوا
يغدوا عليك مرجلين
…
كأنهم لم يفعلوا
ومن جيد الهجاء قول حميد بن ثور:
باتوا وجلتنا السهريز بينهم
…
كأن أظفارهم فيها السكاكين
فأصبحوا والنوى عالي معرسهم
…
وليس كل النوى تلقى المساكين
وقول الآخر:
خناثي يأكلون التمر ليسوا بزوجات يلدن ولا رجال
فهذا في نحو معناه قول أبي العتاهية غير أنه ليس بركيك خنث. وقد ذهب أبو الطيب هذا المذهب في هجائه كافورًا حيث قال:
من كل رخو وكاء البطن منفتق
…
لا في الرجال ولا النسوان معدود
وقد مدحه وذل له حين احتاج إلى رضاه ودراهمه وزعموا أن أبا الطيب قتله هجاؤه فاتكًا بكلمته البائية:
ما أنصف القوم ضبة
…
وأمه الطرطبة
وفها أبيات جياد. وقال العكبري إنه كان لا يعرف التعريض كان جاهلًا. أحسب ذلك لذكره اسم ضبة. والرأي ما ذهب إليه الذهبي أنه قتله قطاع الطرق -أي لم يقتل بسبب هذه البائية.
ذلك بأن الهجاء المقذع بضروب الانحلال أو الانحراف الجنسي كان طريقًا سابلًا. وقد نظم فيه أبو الطيب من قبل، من ذلك قوله في ابن كيغلغ:
يحمي ابن كيغلغ الطريق وعرسه
…
ما بين رجليها الطريق الأعظم
ولا يفتأ الشراح ينبهوننا أنه أخذ هذا من قول ابن الرومي:
وتبيت بين مقابل ومدابر
…
مثل الطريق لمقبل ولمدبر
كأجيري المنشار يعتورانه
…
متداوليه في قضيب صنوبر
أنا زوجة الأعمى المباح حريمه
…
أنا عرس ذي القرنين لا الإسكندر
عني بذي القرنين الديوث، يسبونه يقولون له ذو القرنين -قال ابن الرومي أعني ذلك ولا أعني ذا القرنين.
ويتيمة الدهر، وهو ديوان مختارات عصر المتنبي التي اختارها أبو منصور الثعالبي مملوء بشعر الهجاء الرفثي القدر. وفي أول الجزء الثالث شعر ابن سمرة وابن حجاج ومن عجب أن الثعالبي سكت فيما أورد من شعر الأول عن بيتي كافات الشتاء وما أحسب أنه فعل ذلك عن استبشاع لهما فقد أورد له بشاعات مثل قوله يهجو:
قل للكويتب عني
…
بأي أير تنيك
والأير منك صغير
…
نضو ضعيف ركيك
شارك بأيرك أيري
…
ونك فنعم الشريك
وكافات الشتاء هي التي أشار إليها الحريري حيث قال على لسان أبي زيد يخاطب الحرث بن همام: «وأما كافات الشتوة فسبحان من طبع على ذهنك وأوهى وعاء حزنك حتى أنسيت ما أنشدنك بالدسكرة لابن سكرة.
جاء الشتاء وعندي من حوائجه
…
سبعٌ إذا القطر عن حاجاتنا احتسبا
كن وكيس وكانون وكأس طلا
…
بعد الكباب وكس ناعم وكسا»
ولعل هذين البيتين أجود شعر ابن سكرة وذكر الشريشي في شرحه عن بعض الفضلاء أن تمامها هكذا:
يوم مطير وعندي من خواطره
…
سبع إذا القطر عن حاجاتنا حبسا
حروف كافاتها فيها مقومة
…
إذا تلاها الفتى ذو اللب أو درسا
كن وكيس وكانون وكأس طلا
…
بعد الكباب وكس ناعم وكسا
فلو مطرت البحار الدهر لم ترني
…
أقول أحسن هذا اليوم بي أو أسا
بتخفيف همزة أسا. وذكر الشريشي أن بعضهم زاد الكافات فجعلها ثمانية وأنشد في ذلك أبياتًا رثة وأن الأمير تميم بن المعز ضمن منها ستة ونقص الكساء وأن أحد مشايخه جعل للصيف ثماني راءات والناس مما يعنون أنفسهم في الباطل. وقد هجا ابن الحجاج ابن سكرة فقال:
سلحة بعد قرقرة
…
من سلاح المزورة
ولا أدري ما المزورة وهل هي بواو مشددة مكسورة أو مفتوحة وأراها مفتوحة.
باتت الليل كله
…
جوف بطني مخمرة
ثم راحت تخلصا
…
فاغتدت ذات طرطرة
ثم سارت كأسهم
…
عن قسي موترة
فأصابت بوثبة
…
جوف ذقن ابن سكرة
فقد خالفت قوانين الرمي والجاذبية معًا -وشعره الذي أورده الثعالبي كله من هذا الضرب.
وله يهجو، من هذا المجرى:
يا قسوة بعد العشا
…
بالبيض واللبن الكثير
في جوف منحل الطبيـ
…
ـعة والقوى شيخ كبير
يخرى فيخرج ثرمه
…
شبرين من وجع الزحير
ومن جيد هجاء ابن سكرة قوله:
تهت علينا ولست فينا
…
ولي عهد ولا خليفة
فته وزد ما علي جار
…
يقطع عني ولا وظيفة
ولا تقل ليس في عيب
…
قد تقذف الحرة العفيفة
وهذا كأن فيه من أبي العتاهية أنفاسًا.
وفي بعض الطبعات الحديثة لمقامات الحريري «وكف ناعم وكسا» وهي كناية نابية عن البيت لخلو الكاف من جرس السين، ثم كأن الذي جاء بها قد استعارها من موضع آخر فلينظر.
وقال أبو العلاء في اللزوميات:
لو نطق الدهر هجا أهله
…
كأنه الرومي أو دعبل
وهو لعمري شاعر مغزر
…
لكنه في لفظه مجبل
والضمير «هو» يعود على الدهر، وما أحسب أن أبا العلاء خلا فيه من غمز ابن الرومي. ودعبل من شياطين الهجاء وليس بعمادٍ إلى الرفث ولكن إلى الصور المضحكة نحو هجائه لعباد كاتب المأمون.
أولى الأمور بضيعة وفساد
…
أمر يدبره أبو عباد
يسطو على كتابه بدواته
…
فمضرج بدم ونضح مداد
وكأنه قد كان يجاري مذهب يزيد بن مفرغ.
وفي ابن الرومي مرارة وقذارة حين يروم ذلك. ومن أجود ما يروى له هجاؤه آل وهب وبأيديهم -إن صح الخبر- كان مقتله:
تركنا لكم دنياكم وتخاضعت
…
بنا همم قد كن فوق الفراقد
لئن نلتمو منها حظوظًا فقد غدت
…
نفوسكم مذمومة في المشاهد
كسوتم جنوبًا منكم لبسة القلى
…
وعريتموها من لباس المحامد
فإن فخرت بالجود ألسن معشر
…
عضضتم على صغرٍ بصم الجلامد
تسميتمو فينا ملوكًا وأنتمو
…
عبيد لما تحوى بطون المزاود
ومكنتم أذفانكم من نحوركم
…
كأنكم أولاد يحيى بن خالد
وما كان عاقبة أولاد بن خالد إلا أن نكبوا، فكأن ابن الرومي يحرض عليهم من طرف خفي أن تخضب لحاهم بدماء نحورهم.
فلو أن أعناقًا تمد لخيركم لقلدتموها خاملات القلائد
لقد ذدتمونا عن مشارب جمةٍ وغرقتم في غمرها كل جاحد
وهذا من اضطراب ابن الرومي المسكين، كأنه يزعم لهؤلاء الذين ولغ في أعراضهم أنهم لو مكنوه من مشاربهم لهم لم يكن جاحدًا وأنه خير من آخرين أحسنوا إليهم فما جزوهم على الإحسان إلا جحودا.
وأحييتم دين الصليب وقمتم
…
بتشييد أديار وهدم مساجد
أخذ هذا من هجاء الفرزدق لخالد بن عبد الله القسري إذ قال فيه:
ألا قطع الرحمن ظهر مطيةٍ
…
أتتنا تهادى من دمشق بخالد
بني بيعة فيها الصليب لأمه
…
ويهدم من كفر منار المساجد
وزعموا أن خالدًا إنما هدم ما هدم من منائر المساجد لأنه سمع قول قائل بذكر المؤذنين أنهم يشيرون أو تشير إليهم:
بالهوى كل ذات دل مليح
والغيرة على الحرم مما تحمد به الولاة فكان بعضهم ربما غلا في إظهار ذلك. وكان الحجاج مما يمدح بالغيرة كما في أخباره وكما مر من شعر جرير:
وإبطال ما كان الخليفة جعفر
…
تخيره زيا لكل معاند
فكل الذي أظهرتم من فعالكم
…
دليل على تصديق خبث الموالد
فكم نعمة صارت لضيق صدوركم
…
مبرأة من كل مثن وحامد
فقد اعتذر لأرباب الجحود كما ترى، وإن كان إلا أحدهم. على أنه ما عدا أن أخذ أصل هذا المعنى من قول حبيب:
كم نعمة لله كانت عنده
…
فكأنما في غربة وإسار
كسيت سبائب لؤمه فتضاءلت
…
كتضاؤل الحسناء في الأطمار
وقد زعم بعضهم أنا أبا تمام لم يكن يحسن الهجاء، مثل هذا من شعره يبطل ذلك الزعم. وإنما كان يترفع عن سفساف الهجاء.
كسبتم يسارًأ واكتسبتم ببخلكم
…
شنارًا عليكم باقيا غير بائد
فإن هي زالت عنكم فزوالها
…
يجدد إنعامًا على كل ماجد
وكان ابن الرومي رحمه الله مولعًا بالدعاء على أهل النعمة الحارمين له من المشاركة فيها بنصيب بزعمه.
فلو أن وهبا كان أعدى أكفكم
…
على البخل من جوادسته بالأوابد
لظلت على العافين أسمح بالندى
…
من الهاطلات البارقات الرواعد
واعلم أصلحك الله أن الهجاء يتمم المدح في كليات المعاني. كقول زهير مثلًا:
قد جعل المبتغون الخير من هرمٍ
…
والسائلون إلى أبوابه طرقًا
أغر أبلج فياض يفكك عن
…
أيدي العناة وعن أعناقها الربقا
ثم قال:
هذا وليس كمن يعيا بخطته
…
وسط الندى إذا ما ناطق نطقا
فأظهر قوة بيانه وثبات جنابه بهذا التعريض الذي عرضه بآخر من أهل الفهاهة والعي والحصر -وهذا مما يصحح نسبة البيتين:
وكائن ترى من صامت بك معجب
…
زيادته أو نقصه في التكلم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
…
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وكان أبو الطيب مما يكثر من التعريض في مدائحه، فما زعمه العكبري أنه كان لا يعرف التعريض كأنه ضرب من الترحم والتحنن عليه على تقدير أن بائية الطرطبة هي التي قتلته فمن تعريضه:
فدتك ملوك لم تسم مواضيا
…
فإنك ماض الشفرتين صقيل
وكقوله:
ألهي الممالك عن فخر قفلت به
…
شرب المدامة والأوتار والنغم
مقلدًا فوق شكر الله ذا شطب
…
لا تستدام بأمضى منها النعم
وهو في آخر ميميته «عقبى اليمين على عقبى الوغى ندم» وليس بعده إلا مقطع القصيدة وفيه أيضًا تعريض:
لا تطلبن كريمًا بعد رؤيته
…
إن الكرام بأسخاهم يداختموا
ولا تبال بشعر بعد شاعره
…
قد أفسد القول حتى أحمد الصمم
ولا يخالجني شك أن الشاعر الإنجليزي أندرومارفيل الذي ذكرنا محاكاته لمغاني الشعب قد نظر إلى قول أبي الطيب في البيتين «ألهي الممالك إلخ» في خاتمة المدحة التي مدح بها هو أمير ثورة إنجلترا أوليفركرومويل، حيث قال:
But thou the war's and Fortune's son
March indefatigably on:
And for the last effect
Still keep the sword erect
Besides the force it has to fright
The spirits of the shady night
The same art that did gain
A power must it maintain.
وترجمة هذا على وجه التقريب:
أما أنت فابن الحروب والجد السعيد
لا تني في سيرك الشديد
ولكي يكون الأثر البالغ الأخير
فإن حسامك مصلت شهير
إذ قوته تخيف أشباح الليل وظلال الظلام
فإن نفس الفنون التي نيلت بها السطوة بها ينبغي أن تستدام
الشبه بين المعاني واضح كما ترى وكون هذا مقطعًا كما الأول مقطع هو الذي يحملنا على أن نقول بالأخذ.
ومن مشهور تعريض أبي الطيب قوله:
أنت طوه الحياة للروم غاز
…
فمتى الوعد أن يكون القفول
وسوى الروم خلف ظهرك روم
…
فعلى أي جانبيك تميل
وقد تعلم خبر الحطيئة أنه إنما هاج العداوة بينه وبين الزبرقان مدحه خصومه ومجيء كلامه فيهم كالتعريض. وقد قال:
ولم أذمم لكم حسبًا ولكن
…
حدوت بحيث يستمع الحداء
وتفضيل الخصوم موجع، وعلى مجيئه على وجه المدح هو للمفضولين هجاء.
ومن المعاريض ما يجاء به على وجه الحكمة والتأمل والنقد الاجتماعي
الساخر. من ذلك مثلًا قول أبي تمام يشفع في قوم عند مالك بن طوق:
ذهبت أكابرهم ودبر أمرهم
…
أحداثهم تدبير غير صواب
لا رقة الحضر اللطيف غذتهم
…
وتباعدوا عن فطنة الأعراب
فإذا كشفتهم وجدت لديهم كرم النفوس وقلة الآداب
ومهما يكن أبو تمام قد أبلغ في الاعتذار عن هؤلاء الكريمي النفوس مع قلة الآداب فإن كلامه في جملته نقد ساخر لحالٍ اجتماعية، لعلها كانت أصدق على أقوام من مجتمعه المتحضر منها على هؤلاء الذين تلطف فاعتذر بما اعتذر به عنهم. وقد حاكى أبو الطيب مذهب أبي تمام في كلتا كلمتيه:
بغيرك راعيًّا عبث الذئاب
…
وغيرك صارمًا ثلم الضراب
طوال قنا تطاعنها قصار
…
وقطرك في وغًى وندى بحار
ولكنه كأن أرق قلبًا على بني كعب وبني كلب، ولا غرو فقد نشأ في باديتهم ولعلهم كانوا أحب إليه من مجتمع سيف الدولة بأسره.
وشعر المتنبي الذي ضمنه ثورات شبابه مليء بهذا من النقد الاجتماعي الساخر نحو:
فؤاد ما تسليه المدام
…
وعمر مثل ما تهب اللئام
ودهر ناسه ناس صغار
…
وإن كانت لهم جثث ضخام
أرانب غير أنهم ملوك
…
مفتحة عيونهم نيام
وأجسام يحر القتل فيها
…
وما أقرانها إلا الطعام
وقد ذكر في خبر أبي العلاء أنه لما زكى نفسه بأنه لم يهج أحدًا قال له أحد الخبثاء إلا الأنبياء. والحق أن أبا العلاء قد أنطق نفسه بلسان الدهر الذي قال فيه:
لو نطق الدهر هجا أهله
…
كأنه الرومي أو دعبل
فقد هجا الناس جملة وتفصيلًا:
فأفٍّ لعصريهم نهارٍ وحندسٍ
…
وصنفي رجال فيهم ونساء
نهاب أمورًا ثم نركب هولها
…
على عنتٍ من صاغرين قماء
وقد روت كتب التراجم وغيرها مطاعنه في الأديان وضروب السياسات التي كانت على زمانه.
وكأن أبا العتاهية وأبا نواس كليهما كانا يرومان سبيل المعاريض التي فيها نقد السياسة والمجتمع ثم تهيبا ذلك. قد لقى أبو العتاهية من التصريح بهجاء عبد الله بن معن الداهية فاضطر إلى استرضائه ومصالحته. واكتفى من نقد المجتمع بذكر الموت والخراب:
لدوا للموت وابنوا للخراب
…
فكلكم يصير إلى تباب
ألا يا موت لم أر منك بدًّا
…
أتيت وما تحيف وما تحابي
كأنك قد هجمت على مشيبي
…
كما هجم المشيب على ثيابي
وقوله:
الناس في لذاتهم
…
ورحى المنية تطحن
كأنما عرض فيه بالرشيد ومن في مثل مكانه من الملك.
وقد فر أبو نواس إلى نقيض ما فر إليه أبو العتاهية من التظاهر بالتهالك على الدنيا وطلب لذاتها. ومع ذلك يقول في الخصيب:
فتى يتقي حسن الثناء بماله
…
ويعلم أن الدائرات تدور
وما لذكر الدائرات ههنا من مناسبة إلا ما كان يعلمه أبو نواس من حال تقلب الدهر بأهل الإمارة والوزارة في زمانه، خصوصًا في زمان الرشيد. وروى
صاحب الأغاني في أخبار أبي العتاهية أنه قربه الفضل بن الربيع وزير الأمين قال: «فبينما هو مقبل علي يستنشدني ويسألني فأحدثه إذ أنشدته:
ولى الشباب فما له من حيلة
…
وكسا ذؤابتي المشيب خمارا
أين البرامكة الذين عهدتهم
…
بالأمس أعظم أهلها أخطارا
فلما سمع ذكر البرامكة تغير لونه ورأيت الكراهية في وجهه فما رأيت منه خيرًا بعد ذلك» - فتأمل.
وفن المقامات بأسره يوشك أن يدخل في باب المعاريض لما يتضمنه من هجاء بعض مظاهر المجتمع وخفي التعريض ببعض الشخصيات. وقد كان الجاحظ يصرح بذكر أسماء الناس ويوسعهم هجاء برسائله وبلاغة نثره وكتاب البخلاء شاهد في هذا الباب لو كان شعرًا لكان ههنا موقع الاستشهاد بقطع منه، وقد ذهب الدكتور طه حسين إلى أن فن الجاحظ قد جعل يحل محل الشعر ويتعاطى أغراضه. وفي هذا مجال أخذ ورد فقد كانت العرب تتنازل بالخطب والأسجاع ولا تعد ذلك شعرًا. وترويه على أنه أسجاع لا شعر. وقد أورد أبو الفرج بعض ذلك في أخبار الرماح بن ميادة. ففن الجاحظ أجدر أن ينتمي إلى أصله النثري. والمقامات فرع من فن الجاحظ ومعاصريه والنقد في مقامات البديع غير مصرح فيه بأسماء كما في بخلاء الجاحظ ولكنه منتزع من مشاهدات لا أستبعد أن شخصياتها كانت معروفة على زمانه. وقد كان البديع يخلط بنثره شعرًا. وقد بلغ الحريري بهذا الأسلوب غايته وكان شاعرًا ناثرًا. وكثير مما ضمنه معاني الكدية والاحتيال ليس ببعيد عما نقول به من قصد التعريض ببعض أحوال مجتمعه وذوي المكانة والوجاهة فيه. شخصية الإمام المتعاطي الخمر في المقامة الخمرية تتكرر نظائرها في الحريري. خذ مثلًا (من المقامة الدمشقية وهي العاشرة): «فإذا الشيخ في حلةٍ ممصرة بين دنانٍ معصرة، وحوله سقاة تبهر وشموعٍ تزهر وآس وعبهر ومزمار ومزهر وهو تارة
يستنزل الدنان وطورًا يستنطق العيدان، ودفعةً يستنشق الريحان وأخرى يغازل الغزلان، فلما عثرت على لبسه وتفاوت يومه من أمسه، قلت له: أولى لك يا ملعون، أنسيت يوم جيرون فضحك مستغربًا ثم أنشد مطربًا:
لزمت السفارة وجبت القفار وعفت النفار لأجني الفرح
وخضت السيول ورضت الخيول لجر ذيول الصبا والمرح
ومطت الوقار وبعت العقار لحسو العقار ورشف القدح
ولولا الطماح إلى شرب راح لما كان باح فمي بالملح
ولا كان ساق دهائي الرقاق لأرض العراق بحمل السبح
عني بالرقاق العظات التي ترقق القلوب.
فلا نغضبن ولا تصحبن
…
ولا تعتبن فعذري وضح
فلا تعجبن لشيخ أبن
…
بمغنًى أغن ودن طفح
فإن المدام تقوي العظام
…
وتشفي السقام وتنفي الترح
وأصفى السرور إذا ما الوقور
…
أماط ستور الجفا واطرح
وأحلى الغرام إذا المستهام
…
أزال اكتتام الهوى وافتضح
فبح بهواك وبرد حشاك
…
فزند أساك به قد قدح
وداو الكلوم وسل الهموم
…
ببنت الكروم التي تقترح
وخص الغبوق بساقٍ يسوق بلاء المشوق إذا ما طمح
وشادٍ يشيد بصوت تميد جبال الحديد له إن صدح
وعاص النصيح الذي لا يبيح وصال المليح إذا ما سمح
وجل في المحال ولو بالمحال ودع ما يقال وخذ ما ملح
المحال الأولى بكسر الميم والثانية بضمها أي جل في المكر ولو بالباطل المحال الذي لا يمكن ثبوته كما قال الشريشي:
وفارق أباك إذا ما أباك
…
ومد الشباك وصد من سنح
ولذ بالمتاب أمام الذهاب
…
فمن دق باب كريم فتح
من حذق الحريري اتبع في نظم هذه الحائية سبيلًا قريبة من سبيل سجعه في المقامات، فيكون الخروج من النثر إلى النظم كأنه تدرج طبيعي لا كلفة فيه، وذلك أنه لزم ترصيعًا فيه حرية ويجيء فيها المضموم مع المخفوض والمنصوب. وظاهر هذه القطعة في مدح الخمر وذكر محاسنها ومنافعها، وإلى هذا الوجه ذهب الشريشي رحمه الله، فجعله ذريعة إلى كتابة فصل كامل في أوصاف الخمر. وباطن القطعة نقد لضروب من أصناف المجتمع يمثلها هذا الشيخ الذي ساق بدهائه رقاق الأحاديث والوعظ ليجني اللذات.
وأورد الثعالبي في يتيمته رائية فريدة في بابها لأبي دلف الخزرجي الينبوعي وعلى حذوه حذا الحريري في بعض ما صنع من صفات المكدين.
وظاهر هذه الرائية أنه أراد التظرف والفكاهة بتعداد أصناف أرباب الكدية وحيلهم. ولكنه ضمنها نقدًا وسخرية بارعة. وذكر الثعالبي أن الخزرجي عارض بها دالية لمن سماه الأحنف العكبري. فيكون هذا الضرب من الشعر قد كانت منه نماذج عدد يحذي عليها. ومما جاء فيها قوله، بعد أبيات نسيب استهل لها أولها:
جفون دمعها يجري
…
لطول الصد والهجر
وقلب ترك الوجد
…
به جمرًا على جمر
لقد ذقت الهوى طعميـ
…
ـن من حلو ومن مر
ومن كان من الأحرا
…
ر يسلو سلوة الحر
ثم قال:
على أني من القوم
…
البهاليل بني الغر
بني ساسان والحامي الـ
…
ـحمى في سالف العصر
بنو ساسان هم أهل الكدية.
فنحن الناس كل النا
…
س في البر وفي البحر
أخذنا جزية الخلق
…
من الصين إلى مصر
إلى طنجة بل في كل
…
أرض خيلنا تجري
إذا ضاف بنا قطر
…
نزل عنه إلى قطر
هكذا ولعلها متى ليصح الجزم وقد مر بك أن إذا قد يجزم بها وعلى ذلك بيت الكتاب «خطانا إلى أعدائنا فنضارب» .
لنا الدنيا بما فيها
…
من الإسلام والكفر
فنصطاف على الثلج
…
ونشتو بلد التمر
ولا يخفى ما في هذا من النعماء.
ثم أخذ يعدد أصناف الحيل والمخازي والآثام والنقائص:
فنحن الميزقانيو
…
ن لا ندفع عن كبر
أي السائلون، لا يجوز دفعنا بالقهر.
ومنا الكاغ والكاغـ
…
ـة والشيشق في النحر
قال الثعالبي: الكاغ والكاغة المتجانن والمتجاننة والشيشق الحدائد
التعاويذ التي يلقونها على أنفسهم. قلت قوله في النحر يدل على أنها قد جعلت قلائد.
ومن رش وذو المكوى
…
ومن درمك بالعطر
قال أبو منصور: «رش إذا كدى بعلة ماء الورد يرشه على الناس. ذو المكوى الذي يبخر الناس. درمك إذا باع العطر على الطريق» .
ومن قص لإسرائيـ
…
ـل أو شبرا على شبر
«من قص هو الذي يروي الحديث عن الأنبياء والحكايات القصار ويقال لها الشبريات» قلت لأن الشبر بكسر الشين مقياس صغير، وعندنا من ألعاب الصغار «شبيرشد، قام بجماعته، نزل بجماعته» .
ومنا كل قناءٍ
…
على الإنجيل والذكر
«القناء: يقرأ التوراة والإنجيل ويوهم أنه كان يهوديًّا أو نصرانيًّا فأسلم» .
ومن ساق الولا بالماء
…
أو قوس أبي حجر
ومنا النائح المبكى
…
ومنا المنشد المطرى
ومن ضرب في حب
…
علي وأبي بكر
ومن قرمط أو سرمط
…
أو خطط في سفر
ومن حنن كفية
…
وحف الطست كالحر
ومن كان على رأي ابـ
…
ـن سيرين من العبر
ساق الولا أي قال أنا مولى الأبطحي يعني الرسول عليه الصلاة والسلام وطاف بالماء يسقي يستجدي بذلك. قوس قال الثعالبي: «ومنهم من يكون معه قوس عربية وأول من فعل ذلك في الحضر أبو حجر» . أ. هـ. ولم يبين من أبو حجر
هذا- ومن ضرب، هؤلاء يروون فضائل علي وأبي بكر رضي الله عنهما يكونان اثنين يتواطئان على ذلك قال الثعالبي فلا يفوتهما درهم الناصبي والشيعي. قرمط، كتب التعاويذ بالجليل والدقيق من الخط، سرمط، كتب. هكذا فحوى تفسير الثعالبي والظاهران القرمطة والسرمطة والتخطيط كل ذلك ضروب من عمل أهل الشعوذة. والذي يحنن كفيه أي يبدو كأهل النسك والتصوف وفمه مجلو كالطست ومحلوق الشارب وما حول الشفتين كالحر المنتوف وهذه هي عين الصورة التي تهكم بها أبو الطيب حيث قال:
أغاية الدين أن تحفوا شواربكم
…
يا أمة ضحكت من جهلها الأمم
ولا يزال نحو هذا المذهب هو الغالب على كثير من الناس.
ومنا كل أسطيل
…
نقي الذهن والفكر
وحرفها مرغليوث في أخبار أبي العلاء فكتب ليصعد الإصطبل بالباء الموحدة التحتية وافتعل لذلك أصلًا في اليونانية وتبعه بعض فضلاء المعاصرين العرب وقد نبهنا على ذلك في أحد هوامش الجزء الثاني ولا يعذر هؤلاء أن ناسخًا أثبت نقطة واحدة مثلًا، فلو عرى بالماء لعلم أن المراد الإسطيل ولأن الناسخ قد يهم فيضع واحدة وهو يظن أن وضع نقطتين كثر التنبيه في الكتب بقولهم المثناة والموحدة.
ومن ههنا تشتد سخرية أبي دلف. وقد أنف أبو العلاء أن يعده البغداديون إسطيلًا نقي الذهن والفكر فأعرض عن لقاء الربعي ثم ترك بغداد وقال:
رحلت لم أبغ قرواشا أزاوله
…
ولا المقلد أبغي الرزق تقويتا
والموت أجمل بالنفس التي ألفت
…
عز القناعة من أن تسأل القوتا
ومن وجد القناعة أغنته لعمري عن السؤال -وقال أبو دلف الخزرجي وهو يسخر:
ومنا شعراء الأرض
…
أهل البدو والحضر
ومنا سائر الأنصا
…
ر والأشراف من فهر
ومنا قيم الدين الـ
…
ـمطيع الشائع الذكر
لما أدخل الأشراف من قريش والأنصار في زمرة أهل الكدية لما كان من جانبهم كأنه ضريبة جاه مفروضة على الناس، كأنه خافهم، فثنى بإدخال الخليفة نفسه في تلك الزمرة وخلط بمقاله تناولًا للجانب السياسي يغمز به حالة ضعف سلطان الخلافة واستبداد البويهيين بالأمر.
يكدي من معز الدو
…
لة الخبز على قدر
عني معز الدولة البويهي. ولا يخفى أن الأشراف العلويين داخلون في ما دخل فيه الخليفة، ثم بعد هذه الغمزة رجع إلى ذكر من دون هؤلاء من أهل المخرقة والحيل:
ومن يطحن ما يطحـ
…
ـن بالشدة والكسر
هم الذين يطحنون النوى والحديد بأيديهم وأضراسهم.
ومن يقرأ بالسبع
…
وإدغام أبي عمرو
يجوز في السبع فتح السين أي القراءات السبع وضم السين وأرى أنه هو المراد ههنا أي سبع القرآن، وقراء أبي عمرو مما يؤثرون السبع وغيرهم من القراء ربما آثر ذلك كما تدل عليه رسالة ابن أبي زيد إذ الغالب على المغرب قراءة نافع
وورش خاصة. ومن القراء من يؤثر السدس والخمس وقال المعري يوبخ طارقًا الذي تنصر بعد إسلام:
أتهذ لإنجيل في يوم فصح
…
بعد هذا الأسباع والأخماس
والسبع الأول أوله الفاتحة وأول الثاني {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ} [النساء] وأول الثالث {كَمَا أَخْرَجَكَ} [الأنفال] وأول الرابع {رُبَمَا يَوَدُّ} [الحجر] وأول الخامس {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا} [المؤمنون] وأول السادس {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سبأ] وأول السابع {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا} [الحجرات] وتلاة القرآن يوردونها كأنها أسجاع، فما، كما، ربما، أفحسبتم أنما، قل من يرزقكم من السما، قالت الأعراب آمنا. وإدغام أبي عمرو وصغير وكبير فالصغير نحو «وهل أتاك نبأ الخصم اتسوروا» أي إذ تسوروا والكبير نحو «كانكير» أي كان نكير وشاهده في العربية قول عدي بن زيد العبادي وبه استشهد أبو عمرو:
وتذكر رب الخورنق إذ فكر يومًا وللهدى تفكير
أي تذكر على المضي ورب فاعل مرفوع وأدغمت الراء في أختها متحركتين فهذا هو الإدغام الكبير. أي منهم القارئ الذي يقرأ السبع يسأل به ويتبع رواية الإدغام الكبير.
ومن يقرأ بالسبع
…
وإدغام أبي عمرو
وأصحاب المقالات
…
من الفاجر والبر
ومنا كل ذي سمت
…
خشوع القن كالحبر
يرقى وتراه با
…
كيا دمعته تجري
خشوع بضم الخاء والنصب أي منا من يظهر التقوى خاشعًا كخشوع العبد القن والحبر العابد.
فإن كبن في السر
…
فبالمذقان يستذري
قال الثعالبي: كبن خرى والكبن (1) الاسم منه يقول إنه يظهر الورع والزهد فإن خلا المسجد وأخذه البطن يخرى تحت السارية أو خلف المنارة ويمسح إسته بالمذقان وهو المحراب.
ألا إني حلبت الدهر
…
من شطر إلى شطر
وجبت الأرض حتى صر
…
ت في التطواف كالخضر
وللغربة في الحر
…
فعال النار في التبر
وما عيش الفتى إلا
…
كحال المد والجزر
فإن لمت على الغربة
…
مثلي فاسمعن عذري
وعذره أن آل رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيرة صحبه قد تغربوا ولقوا الظلم وههنا نفس سياسي ذو تشيع، وكان ذلك كالمذهب الفكري لكثير من رجال الأدب في أيام بني العباس -كدعبل وابن الرومي والأصفهاني صاحب الأغاني وأبي الطيب، حتى أبو العلاء لم يخل من شيء من ذلك.
أمالي أسوة في غر
…
بتي بالسادة الطهر
هم آل الحواميم
…
هم الموفون بالنذر
آل الحواميم إشارة إلى قول الكميت: «وجدنا لكم في آل حم آية» -وهي: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} . والموفون بالنذر إشارة إلى آية {هَلْ أَتَى} قيل نزلت في علي وآل البيت رضي الله عنهم.
هم آل رسول الله
…
أهل الفضل والفخر
بكوفان وطفي كر
…
بلا كم ثم من قبر
(1)() لم تضبط هذه الكلمة والظاهر أنها بفتح فسكون ولكن الذي في القاموس مما يقارب معناها الكبن كالعتل بمعنى اللئيم والكلمة اصطلاح بين أهل الكديه.
ثم ذكر قبور آل البيت كالكاظم والرضا وشهدائهم واتبعهم ذكر الصحابة الذين كان ميلهم إلى علي كرم الله وجهه:
وسلمان وعمار
…
غريب وأبو ذر
قبورٌ في الأقاليم
…
كمثل الأنجم الزهر
أخذ هذا من قول أبي عبادة في آل حميد الطوسي:
قبور بأطراف البلاد كأنما
…
مواقعها منها مواقع أنجم
ثم زعم أنه أورد هذا مورد التعزي والتأسي فختم القصيدة بقوله:
فإن أظفر بآمالي
…
شفيت غلة الصدر
وقد تخفق فوقي عز
…
ةً ألوية النصر
وإما تكن الأخرى
…
وعز جائز الكسر (1)
هكذا ويكون تأويله ورب عزٍّ كسره جائز وأستبعده وأحسب أن في عجز البيت تحريفًا ويجوز عز فعل.
فلا أبت مع السفر
…
غداة أوبة السفر
وحسبي القصب المطحو
…
ن فيه ورق السدر
وأثواب تواريني
…
من الإيذاء والأزر
أي حسبي الأكفان والحنوط والسدر ذلك يكفيني أن يؤذيني أحد أو يشد أزري أحد.
(1)() يجوز وعز فعل ماضي جائز الكسر من استجزت أنا أن أكسره فلم أقدر.