الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هما معًا. وهجاء بشار هو الذي أوقعه في التهلكة وكاد أبو العتاهية يودي بهجائه أبناء آل المهلب وأبناء آل زائدة. ومن طريف شعر بشار في غير الغزل، وفي باب من أبواب الإضحاك الهجائي لامية يصف بها نعجة عجوًا أهديت له ليضحي بها. وقالوا إن فتى من بني منقر -وهم من سادة تميم- كان يهدي لبشار كبشًا جيدًا كل كبشًا أضحاه له فخان وكيله يومًا وبعث إلى بشار بعجفاة عجوز وأخذ بقية الثمن لنفسه -قال بشار:
وهبت لنا يا فتى منقر
…
وعجل وأكرمهم أولا
وأبسطهم راحة في الندى
…
وأرفعهم ذروة في العلى
عجوزًا قد أوردها عمرها
…
واسكنها الدهر دار البلى
سلوحًا توهمت أن الرعاء
…
سقوها ليسهلها الحنظلا
وضعت يميني على ظهرها
…
فخلت حراقفها جندلا
وأهوت شمالي لعرقوبها
…
فخلت عراقيبها مغزلا
وقلبت إليتها بعد ذا
…
فشبهت عصعصها منجلا
وكنت أمرت بها ضخمة
…
بلحم وشحم قد استكملا
ولكن روحًا عدا طوره
…
وما كنت أحسب أن يفعلا
فعض الذي خان في أمرها
…
من إست أمه بظرها الأغزلا
ولعمري لو كان بشار لزم هذا وترك ناي الخليفة وعوده وحر الخيزران لكان قد سلم ولكنه لكل أجل كتاب.
بين بشار والحريري:
تنبه أبو نواس إلى أمر هام، وهو أن البداوة ضرورية لحيوية الشعر. ولكن كيف السبيل إليها:
عاج الشقى على رسم يسائله
…
ورحت أسأل على خمارة البلد
تبكي على طلل الماضين من أسد
…
لا در درك قل لي من بنو أسد
هذا الضجر الفني منشأه من إحساس النواسي بضرورة البداوة أنها معدن شعر العرب. ونقيضها الذي ذهب إليه أبو العتاهية كان مما يتأذى به أشد الأذى.
روائع أبي نواس بدويات الروح. وذلك أنه سما فوق المجون إلى المنادمة فهي رفعة وجد. وقد كانت الخلافة أبدًا -على أنها بحبوحة الشرف- مكان المحافظة المكين. وبقية التحام بداوة العرب بحضارتهم، تلك الازدواجية القديمة، لم تزل منها فيها على ما جعل ينتقص ذلك من غوائل الزمان.
وخلف مسلم مروان بن أبي حفصة على مدح سادة بني شيبان. وكان مروان بن أبي حفصة شيئًا بين بشار وابن هرمة في منهج أسلوبه، ناصع العبارة، انتهازيًّا يجن هوى مواليه بني أمية ويتصيد دراهم بني العباس ورضاهم، ويطعن في إرث بني فاطمة وفي قلبه إنكار الإرث كله على مذهب معاوية ويزيد وبني مروان والله عليم بذات الصدور. وقد راع نصوع بيانه وصفاء ديباجته أهل زمانه، غير أنهم لا جعلوه ساقة القدماء كابن هرمة ولا أبا المحدثين ورائدهم كبشار. وقد كان شعره في زمانه كالصحافة السياسية الجيدة في أزماننا هذه تحيا الأسابيع ثم تتضمنها الأضابير.
فكانت رنة إيقاع القريض أبقى شيئًا على ما صنع مروان -مثل قوله:
مضى لسبيله معن وأبقى
…
مكارم لن تبيد ولن تنالا
وكان الناس كلهم لمعن
…
إلى أن زار حفرته عيالا
وهي مرثية طويلة ليس فيها غير محض الفصاحة كبير شيء. وأورد له ابن المعتز كافية قال «وهذه القصيدة تسمى الغراء أخذ عليها من ابن معنٍ مالًا كثيرًا» ونص من قبل على أنها قليل وجودها عند أكثر الناس فدل بذلك على فناء شعره بدهر
يسير بعد فنائه مما لا يتناسب مع ما كان له من الشهرة والسيرورة. وإنما بفق به عند الخلفاء كما قدمنا نحو قوله:
هل تمسحون من السماء نجومها
…
بأكفكم أو تطمسون هلالها
أو تجحدون مقالة من ربكم
…
جبريل بلغها النبي فقالها
وقوله:
أنى يكون وليس ذاك بكائن
…
لبني البنات وراثة الأعمام
وقد كان مثل هذا يروج بأنه يغني فيه الموصلي وأضرابه، وأجود شعر مروان حقًّا ما نطق فيه عن نفسه فأدركته فيه بداوة روح مواليه أو ما ذكر فيه الشعر وكان به عالمًا وبنقده خبيرًا.
قال ابن المعتز في طبقات الشعراء: «وقال مروان يفتخر وليس له فخر قديم ولا حديث غير الشعر، وكان ناصبيًّا معرضًا في شعره بآل الرسول صلى الله عليه وسلم:
ذهب الفرزدق بالفخار وإنما
…
حلو القصيد ومره لجرير
ولقد هجا فأمض أخطل تغلب
…
وحوى اللهي ببيانه المشهور
كل الثلاثة قد أبر بمدحه
…
وهجاؤه قد سار كل مسير
ولقد جريت مع الجياد ففتها
…
بعنان لا سئم ولا مبهور
ما نالت الشعراء من مستخلفٍ
…
ما نلت من جاء وأخذ بدور
عزت معصا عند الملوك مقالتي
…
ما قال حبهم مع المقبور
ولقد حبيت بألف ألفٍ لم تثب
…
إلا بسيب خليفةٍ وأمير
ما زلت آنف أن أؤلف مدحة
…
إلا لصاحب منبر وسرير
ما ضرني حسد اللئام ولم يزل
…
ذو الفضل يحسده ذوو التقصير
أروي الظماء بكل حوض مفعم
…
جودًا وأترع للسغاب قدوري
وتظل للإحسان ضامنة القرى
…
من كل تامكة السنام عقيري
أعطى اللهي متبرعًا عودا على
…
بدءٍ وذاك على غير كثير
وإذا هدرت مع القروم محاضرًا
…
في موطن فضح القرووم هديري
قوله ولقد هجا فأمض البيت، كأنه يذهب فيه إلى أن هجاء الأخطل أعداء بني أمية هو الذي أناله الحظوة وقد جعل مدحه ذا جودة وقرنه بصاحبيه قرنًا يستفاد منه أنه كالفرزدق ودون جرير في جودة المدح خاصة. وقد كان مروان مع علمه بالشعر ونقده مولى بني أمية وبأمرهم عارفًا وهجاء الأخطل الأنصار كان أول أسباب رفعته عند ملوك بني حرب ثم بني مروان، السئم فسره في هامش الطبقات محققه الفاضل فقال في الأصل سيم ويرى «ق» احتمال أنها نهج (وفي الأغاني ق) بجراء لا قرفٍ ولا مبهور وقد اخترت شبم لأنها أقرب إلى الرسم والمعنى المراد والشبم البردان مع جوع. ولعل الذي ذهب إليه أن يكون صوابًا وأنا أستبعده لأن الرسم الذي وجده سين مهملة فياء تحتية فميم فهذا له معنى أوضح وأصح ههنا من معنى الشيم بالشين المعجمة والياء الموحدة التحتية لأن كل ما هناك أن همزته قد سهلت وسئم من باب فرح فالصفة منها على فعل يفتح وكسر شيء مستقيم وقد كان مروان قرشي الدعوة لولائه في بني أمية وتسهيل الهمزة لغة قريش فعله هكذا كان ينشد بتسهيل الهمزة أو إخلاصها ياء كما قرأ أبو عمر وورش «إنما أنا رسول ربك ليهب لك» والرسم بالألف «لأهب لك» ويذكر عن قالون أنه قرأ بالياء أيضًا على اختلاف فيه كما في النشر. والمبهور الذي ينقطع نفسه من التعب، معًا أراد بها حيهم والمقبور منهم.
وعزت أي غلبت من قوله تعالى: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} في خبر سيدنا داود في سورة صاد.
قوله: أؤلف مدحه إلخ ينبئ بما كان يتعمده من صناعة بقصد التقرب إلى
الخلفاء لا محض التغني بفضائلهم، وإنما كان يقربه إليهم مذهب السياسة كما قدمنا ونحو قوله:
أنى يكون وليس ذاك بكائن
…
لبني البنات وراثة الأعمام
وقولنا «ينبئ» لأن أكثر ما كانت تقوله العرب عن الشعر أن الشاعر قاله وإلى هذا ذهب أبو الطيب حيث قال:
ألا ليت شعري هل أقول قصيدة
…
فلا أشتكي فيها ولا أتعتب
وصاغه وأنشد وأنشأ ويقولون نظم وصنع وقلما يقال ألف، وفي التأليف معنى الجمع وتقريب الشوارد وإلى معنى الجمع ذهب عدي بن الرقاع في مدحه الوليد حيث قال:
وقصيدة قد بت أجمع شملها
…
حتى أقوم ميلها وسنادها
وقول مروان السغاب بكسر السين فهو جمع ساغب أي جوعان ويقال أيضًا سغبان وسغب كفرح. وما أرى أن مروان أراد أن يفخر بما كان يفخر به أهل المروءات مثل لبيد بن ربيعة حيث قال:
أغلى السباء بكل أدكن عاتقٍ
…
أو جونةٍ قدحت وفض ختامها
وحيث قال:
ويكللون إذا الرياح تناوحت
…
خلجًا تمد شوارعا أيتامها
فالضيف والجار الجنب كأنما
…
نزلا تبالة مخصبًا أهضامها
أي أنه أراد الفخر بسباء الخمر وإشاعة الطعام في قدور مترعات. كلا، ولكنه جعل شعره بهذه المنزلة. شعره هو الخمر التي أغلى سباءها بما جود من تأليفه. وكذلك شعره هو القرى. والملوك والخلفاء أصحاب المنابر والأسرة هم الظماء السغاب ولديه
كئوس شرابهم وقدور طعام قراهم. فهذا تمثيل. ومما يصحح عندك إن شاء الله ما نذهب إليه من أنه تمثيل لا يعدو ذلك قوله:
وإذا هدرت مع القروم مخاطرا
…
في موطن فضح القروم هديري
فليس ههنا هدير أو مخاطرة وهي تبختر الفحول ولا قروم من الإبل إذ واضح أنه ما عني بالقروم إلا الشعراء إذا تصاولوا وتنافسوا في المقال، شبه ذلك بهدير الفحول ومخاطرتهما. فاجعل ما تقدم من قوله تمثيلًا كما لا كل أن هذا تمثيل. وفي طبعة الطبقات «مع القروم محاضرا» ولا معنى للمحاضرة والإحضار ههنا إذ الحديث عن الإبل لا الخيل، والعرب تذكر الخطران في نعت الإبل، قال عنترة:
خطارة غب السرى زيافة
…
تطس الأكام بوخد خف ميثم
وقال الآخر، يشير إلى قولهم خطر الفحل بذنبه إذا تبختر:
أتخطر للأشراف يا قرد جذيمٍ
…
إليك وما للقرد والخطران
كان بشار، حين يشاء، بسبب سابق نشأته، بدوي اللسان على حين أنه حضري القلب. قوله:
إذا ما غضبنا غضبةً مضريةً
…
هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما
إذا ما أعرنا سيدًا من قبيلةٍ
…
ذرى منبرٍ صلى علينا وسلما
غضبته فيه من اللسان لا من القلب، إنما هي تفخيم افتخار.
اتبع مسلم بديع بشار ذا الأطناب والوشي اللفظي المعنوي. ولكنه رام مع ذلك سبيلًا من روح البداوة، شاهده هذا الجد وهذا الإقبال الصادق على المدح، كأنما يريد أن ينوه بفضائل من يمدحه من مكان عال. وشاهد له آخر تلمظ معاني القدماء وألفاظهم. ثم يكسو جميع ذلك زخرفة الجناس على طريقة فسيفسائية متعمدة تريد
الجناس والطباق لنفسه، تترنم برنينه، ولهذا جذور في بديع القدماء، ولكن القصد به إلى الزينة الهندسية المنحى كما قدمنا الحديث عن ذلك، وهي أمر تميزت به أصناف فنون الحضارة الإسلامية وعنها أخذه الآخرون.
أما تنويهه بفضائل الممدوح فذلك أظهر صفة في مدائحه يزيد بن مزيد، وكأنه يزكيه تزكية على رؤوس الملا، وفي هذا من الدعاية السياسية ما لا يخفى، ولكن معه حبًّا وإعجابًا كأنه بهما يجسر على الجهر بما يجهر به من مديح- مثلًا:
الزائديون ثوم في رماحهم
…
خوف المخيف وأمن الخائف الوجل
تراه في الأمن في درع مضاعفة
…
لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل
لله من هاشم في أرضه جبل
…
وأنت وابنك ركنا ذلك الجبل
ومن تلمظه معاني القدماء قوله:
لا يرحل الناس إلا نحو حجرته
…
كالبيت يضحى إليه ملتقى السبل
أي البيت الحرام وهنا إشارة مع ذلك لا يخفى إلى قول زهير «قد جعل الطالبون الخير من هرم البيت» وما إلى السرقة قصد مسلم ولكن إلى التلذذ والتذكير بمقال زهير:
يكسو السيوف رؤوس الناكثين بها
…
ويجعل الهام تيجان القنا الذبل
قد عود الطير عادات وثقن بها
…
فهن يتبعنه في كل مرتحل
فهذا معنى النابغة. وقوله يكسو السيوف من قولهم جلله السيف. ويروى:
يكسو السيوف نفوس الناكئين به
…
ويجعل الروس تيجانًا على الذبل
وهذه رواية ابن المعتز وهي جيدة وهذا من مقال السموأل: «تسيل على حد الظبات
نفوسنا» فجمع بين التجليل والمسيل. وفي هذه اللامية البيت المشهور:
موفٍ على مهجٍ واليوم ذورهج
…
كأنه أجلٌ يسعى إلى أمل
وأول القصيدة:
أجررت حبل خليع في الصبا غزل
…
وشمرت همم العذال في عذل
كأنه اختصر فيه جملة مما يقع في النسيب.
وقوله في مطلع مدحة مدح بها الرشيد:
أديرا على الكأس لا تشربا قبلي
…
ولا تطلبا من عند قاتلتي ذحلي
جمع فيه بين معنى الاستهلال بالخمر وذكر الثأر، وكانوا إنما يشربون عند إدراك الثأر كقول امرئ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب
…
إثمًا من الله ولا واغل
فجعل شرابه من أجل أنه مقتول مطلول الدم لا يحرم أمر ثأره على أحد شرابًا، فهذان اللذان سيشربان -وهما الخليلان اللذان يستوقفان على الطلل ويقال لهما: خليلي عوجا كذا وكذا -جعل الشاعر من نفسه لهما ثالثًا على حد قول الآ خر:
صبنت الكأس عنا أم عمرو
…
وكان الكأس مجراها اليمينا
وما شر الثلاثة أم عمرو
…
بصاحبك الذي لا تصبحينا
ومن تلمظه وتلذذه بألفاظ القدماء وأساليب بداوة تعبيرهم:
ومانحة شرابها الملك قهوة
…
يهودية الأصهار مسلمة البعل
بعثنا لها منها خطيبًا لبعضها
…
فجاء بها يمشي العرضنة في مهل
قد استودعت دنا لها فهو قائم
…
بها شغفًا بين الكروم على رجل
شققنا لها في الدن عينًا فأسبلت
…
كألسنة الحيات خافت من القتل
ولعلك لمحت هنا طريقة تجسيم الخمر إذ جعلها فتاة والافتنان في وجوه التشبيه والاستعارة مع حفاظ على نوع بدوي المعادن من شدة الأسر، منبئ عن صناعة وتحليل قد توصل به إلى ذلك. وأحسن ابن المعتز إذ يقول في نعت القصيدة التي منها هذه الأبيات: «وهي مشهورة سائرة جيدة عجيبة. ومما يستحسن له -على أن شعره كله ديباج حسن لا يدفعه عن ذلك أحد قوله:
فإني وإسماعيل يوم وداعه
…
لكالغمد يوم الروع زايله النصل
فإن أغش قومًا بعده أو أزرهم
…
فكالوحش يدنيها من الأنس المحل
وهذا معنى لا يتفق للشاعر مثله في ألف سنة». أ. هـ.
قلت وآخر هذا الكلام قد بالغ فيه شيئًا وهو يعلم قول جرير:
وقد ألفت وحشهم برفق
…
وأعيا الناس وحشك أن يصادا
وقال ابن المعتز في أول مقاله في مسلم بن الوليد بعد أن ذكر لقبه وأسند خبره: «كان مسلم بن الوليد مداحًا محسنًا مجيدًا مفلقًا وهو أول من وسع البديع؛ لأن بشار بن برد أول من جاء به، ثم جاء مسلم فحشًا به شعره، ثم جاء أبو تمام فأفرط فيه وتجاوز المقدار» .
أما قول ابن المعتز: «إن شعره كله ديباجٌ حسن» فيوقف عنده. والنقاد مما يصفون الشعر أحيانًا كثيرة بصفاء الديباجة وجودتها، يعنون بذلك أن إيقاعها ذو رنين جهير منسجم وألفاظها مطيعة لذلك الإيقاع منسابة معه وهو مع ذلك متلاحم في أسرٍ مع قوته ذي مرونة. كلمة الديباج في أصلها معربة، ولكنه تعريب قديم. قال الراجز:
تالله للنوم على الديباج
…
على الحشايا وسرير العاج
أفضل يا عمرو من الإدلاج
…
وزفرات البازل العجعاج
وقد كانت العرب تصف ضروبًا مما يقع فيه الرنين الجهير المنسجم المؤتلف مع اللفظ الرائق بالتحبير والمحبر وما أشبه وقد مر بك قول أبي قردودة «ومنطقًا مثل وشي اليمنة الحبرة» وسموا طفيلًا الغنوي محبرًا وكذلك عامر بن الطفيل. وإذا تأملت شعر هذين وشعر النابغة والقطامي وجدت فيه هذه الصفة من استواء الكلام ونقائه، وقد غبرت دهرًا أود لو أن القدماء عرفوا لنا معنى الديباجة بتعريف وحد يحدونه، ثم بعد النظر صح عندي أنه لا يستطاع في تعريفها أدل عليها منها إذ هم قد جاءوا بها على وجه التشبيه لها فكان ذلك من ذات نفسه دالًا دلالة كافية، وكأنهم بتذوقهم للأسلوب كأنما ينظرون إليه فيرون نسجه كنسج الديباج ويلمسونه فيجدون له مس نعومته مع المتانة والتماسك. وأهل الديباجة من المحدثين ليسوا كأهلها من القدماء، إذ القدماء أصل والمحدثون محاكون لهم. ولعلنا لا نباعد إن زعمنا أن مسلمًا قدسن ببديعه طريق صفاء الديباجة لمن جاء بعده.
وكان معاصره أبو نواس أقعد في بداوة اللسان وفي بداوة القلب منه على حضرتيهما معًا. وكانت طريقة أبو نواس صادرة عن ملكة أقوى. فكأن ما كان مسلم يتكلفه من جناس وطباق وزيادة زخرف قد كان هو ينفر منه، وإلى هذا أشار صاحب الموشح إذ ذكر ما رووه من أن مسلمًا فخر على أبي نواس فأقر له هذا بأنه لا يستطيع أن يقول كقوله:
سلت وسلت ثم سل سليلها
…
فأتى سليل سليلها مسلولا
والجهد هنا لا يخفى وفيه كالروم لمذهب:
معروريا رمض الرضراض يركضه
…
والشمس حيرى لها بالجو تدويم
ويشبه استهزاء أبي نواس في هذا الخبر استهزاء الفرزدق بذي الرمة إذ قال:
ودوية لو ذو الرميم يرومها
…
بتوضح أودى ذي الرميم وتوضح
قطعت إلى معروفها منكراتها
…
وقد خب آل الأمعز المتوضح
وذو الرمة أبو الباب الذي أخذ فيه مسلم وأبو نواس وأبو تمام من بعد. قول ابن المعتز ثم جاء مسلم فحشا به شعره جعله تمهيدًا لقوله من بعد ثم جاء أبو تمام فأفرط فيه وتجاوز المقدار. وقد كان ابن المعتز في خاصة ذوقه وهواه مقرًا بالسبق لأبي تمام شديد المحاكاة له والأخذ منه، حتى في طريقة التبدي التي كان يتبداها. وفي ترجمته وحديثه المختصر عنه في الطبقات الذي بأيدينا ما ينبئ عن دقة فهم لأسلوبه وهو بذلك قمن. قال مثلًا في الخبر الذي ساقه عن الحسن بن رجاء:«كنا مع أمير المؤمنين المعتصم بالرقة فجاء أبو تمام وأما في حراقني، فجعل ينشدني ويلتفت إلى الخدم والغلمان الوقوف بين يدي ويلاعبهم ويغامزهم» وكان الطائي من أكثر الناس عبثًا ومزاحًا، فقلت له، يا طائي قد ظننت أنك ستصير إلى أمير المؤمنين مع الذي أرى من جودة شعرك، فانظر: إنك إن وصلت إليه لا تمازح غلامًا ولا تلتفت إليه، فإنه من أشد الناس غيرة. وإني لا آمن إن وقف منك على شيء أن يأمر غلمانه فيصفعك كل واحد منهم مائة صفعة، فقال إذن أخرج من عنده ببدر مملوءة صفعًا». أ. هـ. ساق ابن المعتز الخبر لا للطعن في أخلاق أبي تمام ولكن لينبه على طريقته في الاستعارة وسرعة بادرته مع دقة غوصه فيها. أما الحسن بن رجاء فعسى أن يكون جاء بالخبر بلم يخل فيه من قصد الطعن في أبي تمام فقد روى عنه أنه زعم أنه هم بقتله لتركه الصلاة وإسراره الكفر.
وقال: «وشعره كله حسن» ثم فصل ذلك وقال: «ولو استقصينا ذكر أوائل قصائده الجياد التي هي عيون شعره لشغلنا قطعة من كتابنا هذا بذلك وإن لم نذكر منها إلا مصراعًا؛ لأن الرجل كثير الشعر جدًّا، ويقال إن له ستمائة قصيدة وثمانمائة مقطوعة، وأكثر ماله جيد، والرديء الذي له إنما هو شيء يستغلق لفظه فقط. فأما أن يكون في شعره شيء يخلو من المعاني اللطيفة والمحاسن والبدع الكثيرة فلا. وقد أنصف البحتري لما سئل عنه وعن نفسه فقال: جيده خير من جيدي، ورديئي خير
من رديئه. وذلك أن البحتري لا يكاد يغلظ لفظه، إنما ألفاظه كالعسل حلاوة، فإما أن يشق غبار الطائي في الحذق بالمعاني والمحاسن فهيهات بل يغرق في بحره، على أن البحتري له المعاني الغزيرة، ولكن أكثرها مأخوذ من أبي تمام ومسروق من شعره وأبو تمام هو الذي يقول:
يا لابسًا ثوب الملاحة أبله
…
فلآنت أولى لابسيه بلبسه
لم يعطك الله الذي أعطاكه
…
حتى استخف ببدره وبشمسه
رشأ إذا ما كان يطلق طرفه
…
في فتكه أمر الحياء بحبسه
وأنا الذي أعطيته غض الهوى
…
وضممته فأخذت عذرة أنسه
وغرسته فلئن جنيت ثماره
…
ما كنت أول مجتن من غرسه
مولاك يا مولاي صاحب لوعة
…
في يومه وصبابة في أمسه
وهو القائل:
محمد بن حميد أخلقت رممه
…
هريق ماء المعالي مذ هريق دمه
تنبهت لبني نبهان يوم ثوى
…
يد الزمان فعاثت فيهم وفمه
رأيته بنجاد السيف محتبيًّا
…
كالبدر لما جلت عن وجهه ظلمه
في روضة قد كسا أطرافها زهر
…
أيقنت عند انتباهي أنها نعمه
فقلت والدمع من حزن ومن فرح
…
في اليوم قد أخضل الخدين منسجمه
ألم تمت يا شقيق النفس مذ زمن
…
فقال لي لم يمت من لم يمت كرمه
وهذه أخبار أبي تمام». أ. هـ.
تعمد ابن المعتز هنا اختيار أبيات خالية من الأغراب سلسة ليبرهن قضيته أنه إذا فاض بحر حبيب وعارضه أبو عبادة أغرقه. وقد آثر الآمدى بشقاء تحامله أن يغفل عن نحو هذا من قول ابن المعتز وأن يتمسك أو قل يتذرع بقوله في كتاب البديع
في أوله (حسب ما طبع منه الآن وأول ما بدأ به يدل على تقدم أشياء قبله) ويجوز أن يكون يشير إلى شيء سيأتي (1) والله أعلم):
وحكى هذا القول صاحب الموازنة، وقد تحامل على أبي تمام تحاملًا نقص من قدر كتابه، إذ يفسد الرأي الهوى، وقد زعم من تحامله أن أبا تمام أخذ قوله:«السيف أصدق أنباء من الكتب» من قول الكميت بن ثعلبة:
فلا تكثروا فيها الضجاج فإنه
…
محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا
(1)() قوله قدمنا يجوز أن يكون أراد به ما سيفعله كأنه حكم شيء فعله، ولعله كتب هذا بعد فروغه من الكتاب.
(2)
() لعلها (والسنة) إذ لا معنى لقوله (واللغة) ههنا.
وبين الكلامين بون بعيد في المعنى والصياغة، وما قاله ابن دارة لم يمحه السيف بل قد رواه الناس نحو:
لا تأمنن فزاريًّا حللت به
…
على قلوصك واكتبها بأسيار
وزعم أن أبا تمام سرق قوله:
وقد ظللت عقبان أعلامه ضحى
…
بعقبان طير في الدماء نواهل
أقامت مع الرايات حتى كأنها
…
من الجيش إلا أنها لم تقاتل
من مسلم بن الوليد حيث قال:
قد عود الطير عاداتٍ وثقن بها
…
فهن يتبعنه في كل مرتحل
وهذا المعنى للشعراء طريق ركوب، كقولهم وجه كالبدر وكرم كالبحر، وقد يتبارى الشعراء في تجويده والتفريع عنه، وقد يعلم الآمدي هذا من أمره حتى إنه قد تتبعه من عند أول كلام جاء به الرواة فيه وهو قول الأفوه الأودي:
وترى الطير على آثارنا
…
رأي عينٍ ثقةً أن ستمار
إلى قول أبي نواس:
تتأيا الطير غدوته
…
ثقة بالشبع من جزره
وليس مسلم بأولى أن يكون حبيب أخذ منه، وإنما رام كل ممن جاء بعد النابغة أن يزيد على قوله:
إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم
…
عصائب طيرٍ تهتدي بعصائب
يصاحبنهم حتى يغرن مغارهم
…
من الضاريات بالدماء الدوارب
تراهن خلف القوم خزرًا عيونها
…
جلوس الشيوخ في ثياب المرانب
جوانح قد أيقن أن قبيله
…
إذا ما التقى الجمعان أول غالب
وكلام النابغة في بابه غاية، فكل من جاء بعد قصر عن مداه فيه. وليست زيادة أبي تمام التي زادها «إلا أنها لم تقاتل» بكبير شيء وإنما أخذه من قول النابغة «تراهن خلف القوم إلخ» ولواه شيئًا عن وجهه. وما زاد مسلم وأبو نواس على أن ترنما بمعنى النابغة وذكرانا به. وقد افتن أبو الطيب حيث قال:
سحابٌ من العقبان يزحف تحتها
…
سحابٌ إذا استسقت سقتها صوارمه
ونهجه ههنا حبيب الروح. ومع ذلك، على إجادته، لم يزد على مدى النابغة بشيء.
وقد تنبه ابن المعتز إلى حقيقة من بديع أبي تمام إما خفيت عن الآمدي وإما تعمد الإغماض عنها، وأقرب وجهٍ أن أمره شيء بين ذلك. إذ ابن المعتز لم يقصر إحسان أبي تمام على المعاني ولكن يقرن به أبدًا معها غيرها كقوله الذي مر:«فأما أن يكون في شعره شيء يخلو من المعاني اللطيفة والمحاسن والبدع الكثيرة فلا» -فالمحاسن والبدع شيء يضاف ب المعاني اللطيفة فيدخل في مدلولها اللفظ والصياغة والوزن وهلم جرا. وقوله أيضًا في نفس الفصل مما ينبئ أن هذه الزيادة التي زادها على قوله المعاني متعمدة: «فأما أن يشق غبار الطائي في الحذق بالمعاني والمحاسن فهيهات» .
وإن يك الآمدي قد تعمد كتمان هذه الزيادة التي زادها ابن المعتز فمراده من ذلك على الأرجح أنه لا فضيلة في المعاني إذ هي مطروحة في الطريق كما قال الجاحظ وهي من مقالته سائرة محفوظة وكما قال قدامة: «إن المعاني كلها معرضة للشاعر» أي ممكنة. وإن لم يكن قد تعمده، فليس ذلك بعاذره في التقصير الذي قصره في حق أبي تمام.
وعندي أن أمر بديع أبي تمام لم يكن أمركم بالنسبة إلى مسلم وبشار أو بالنسبة إلى القدماء. قد أدرك أبو تمام سر ما ضجر منه النواسي وأصاب جوانب من حل مشكلته
وذلك أن القريض ينبغي أن يسار بآخره على ما سار عليه أوله، لين في غير ضعف وهو صفاء الديباجة ونقاؤها وجودتها وشدة في غير عنف وهو بداوتها ومتانة أسرها وجزالتها. وسر الديباجة كامنٌ في الفصاحة وسلامة الذوق في اختيار الألفاظ وصياغة التراكيب. وسر البداوة والجزالة كامن في الإقدام على المعاني والقول بلا تهيب. ويجمع بين السرين فيزاوج بينهما ويؤلف انسجامهما صدق بيان الشاعر عن قلبه. ولذلك زعم الجاحظ في البيان والتبين أن المعاني أسرار مستكنة في القلوب. وهذا لا يناقض قوله إن المعاني مطروحة في الطريق، بل يكمله ويتممه. معاني الحب من وجد ولوعة وشوق وغيره وما أشبه مطروحة في الطريق يتفاوت في توليد دقائقها أهل البيان. ولكن حب جميل لبثينة وإحساسه بكذا وكذا من وصلها وبينها أماني النفس مقبلة إليها أو منحرفةً عنها سر كان في قلبه، أفصح ببيانه عنه، فاختلفت معانيه التي أبان بها فيه عن معاني كثير اختلافًا جعل النقاد يقولون جميل أصدق صبابة، وإن كثيرًا كان يكذب. وهذا مجرد تمثيل يمثل به حال المعنى في كونه معرضًا أي ممكنًا وفي كونه مستعصيًّا مستكنًا يحتاج الشاعر في استخراجه إلى صدق عن نفسه وجسارة لا تتهيب أن يقول فيبين عما أحس ومقدرة على الأداء الفصيح المعبر. الفصاحة عنصر يستفاد بالدربة وكذلك التجويد. أما الصدق والجسارة فهما أصلان لا يغني مكانهما شيء من صنعة أو تفاصح وتجويدٍ.
وقد أوتي أبو تمام ملكة وعلمًا وفصاحة وذوقًا ناقدًا. وكان ذا فطنة حادة تقهر بوادرها الخصوم. وأدرك بها للشعر في ذات نفسه طبيعة بداوة ليس معدنها هو معدن جلافة الأعراب، ولكنه شيء فكري فني محض. كان عند القدماء طريقة قول ومذهب أداء يضمنونه الحكمة، والوصف والغزل والمدح والهجاء وهلم جرا. وينبغي أن يكون الآن كما قد كان في الماضي طريق قول ومذهب أداء يتضمن الحكمة والوصف والغزل والمدح والهجاء وهلم جرا.
كان الشاعر القديم صاحبًا للجن والجن أهل فدافد ووحشة وقوة وجسارة تخترق الحجب. قال حسان:
ولي صاحبٌ من بني الشيصبان
…
فطورًا أقول وطورًا هوه
ولعله إنما خاطبه حيث قال:
اسألت رسم الدار ألم تسأل
إذ لم يكن حسان من أهل البادية ولكن كان صاحب حصن يثرب. وقل مثل ذلك في قيس بن الخطيم حيث يقول:
أتعرف رسمًا كاطراد المذاهب
وقد سار على هذا النهج عمر بن أبي ربيعة وهو إسلامي حضري مكي فقال مثلًا:
ألم تسأل الأطلال فالمتربعا
وأكد الفرزدق صحبته للجن وقد مر بك خبر ذلك.
هذا الجني الذي صار مذهب قول، كما يدل على ذلك قول أبي النجم:
إني وكل شاعر من البشر
…
شيطانه أنثى وشيطاني ذكر
أسكنه أبو تمام في عبقر الفكر، بين الرواة وأهل اللغة وضروب أبواب الغوص على المعاني والاستعارة والإشارة والتجنيس والتعليل أو كما قال يصف قصيدته:
خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى
…
والليل أسود رقعة الجلباب
وإذ سكن شيطان أبي تمام في هذا الوادي، فإن كل الشعر العربي بجميع أساليبه قد صار له مادة موضوعة ومعاني معرضة. ودخلت ألفاظ الشعراء في حيز هذه
المعاني. وبقي بعد المعنى الكنين في صدر أبي تمام. فعبر عنه بتأليف هذه المادة صورًا بارعة آخاذة بالقلوب. تأمل قول أبي تمام:
ولو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت
…
حياضك في العصور الذواهب
ولكنه صوب العقول إذا انجلت
…
سحائب منه أعقبت بسحائب
هذا المعنى نابعُ من قلب أبي تمام. جمع فيه جمعًا فنيًّا نادرًا رائعًا بين قولي الجاحظ في البيان والحيوان أن المعاني أسرار في الصدور وأنها معرضة مطروحة في الطريق، ويجوز أنه قد قال هذين البيتين قبل أن يقول الجاحظ، على أنه أسن منه، كلاميه.
وتأمل قوله في فتح عمورية:
وبرزة الوجه قد أعيت رياضتها
…
كسرى وصدت صدودًا عن أبي كرب
من عهد إسكندر أو قبل ذلك قد
…
شابت النواصي الليالي وهي لم تشب
بكر فما افترعتها كف حادثة
…
ولا ترقت إليها همة النوب
حتى إذا مخض الله السنين لها
…
مخض البخيلة كانت زبدة الحقب
فههنا علم وفكر زوجهما الشاعر إلى فسيفساء من النظم فيه الاستعارة الغريبة المدى والتشبيه المذهل والتناسب بين ضروب الألفاظ والصور: تأمل تعبير بأعيت رياضتها كسرى عما كان من محاولات الفرس قهر الروم وبصدت صدودًا عن أبي كرب أنها كانت أبعد من متناول ملوك اليمن التبابعة وأقرب ما دنوا منها كان ملك جلق والحيرة على تقدير أن ملوك لخم وغسان أصولهم يمنية. وتأمل تناسب قوله أعيت رياضتها وصدت صدودًا مع قوله برزة الوجه. ثم اتباعه ذلك بأنها لم تشب وقد شابت نواصي الليالي وشعرها لم يزل لونه لون سواد الليالي. ثم لما جعلها بكرًا قال إن الحوادث لم تفترعها والافتراع يناسب معنى العذراء وكف الحوادث تناسب
الافتراع لأن الفرع يكون عاليًا ويوصل إليه بمد الأكف وليؤكد مراده من أن الافتراع ههنا فيه معنى الفرع والعلو قال: «ترقت» وجعل للنوب همة والهمة ايضًا تناسب المعنى الجنسي الذي في البكر قال تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} ثم جاء بيت الاستعارة المذهلة الذي كاد يتزندق فيه وقد سبق بعض القول فيه في مهرض الحديث عن دالية حميد بن ثور وبخيلته المشار إليها ههنا. وقولنا كاد يتزندق فيه لقوله «مخض الله
…
مخض البخيلة» وما إلى الزندقة أراد حاش لله. ولكن مثل هذه الجسارة بداوة فكر. وأمثالها عند أبي تمام كثير.
وتأمل قوله:
تخذ الفرار أخا وأيقن أنه
…
صري عزم من أبي سمال
وقوله:
فإذا ابن كافرة يسر بكفره
…
وجدًا كوجد فرزدق بنوار
وإذا تذكره بكى فكأنه
…
كعب زمان بكى أبا المغوار
ههنا حضارة وبداوة معًا -البداوة في قهر سامع هذا الشعر وقارئه ومتلقيه أن يصحب أبا تمام في فلواته الفكرية المعمورة بهؤلاء الجنان من الأخبار والأشعار وقد جعل الشاعر كل ذلك مادة لصوره الشعرية، والحضارة في هذا التوفر على الثقافة والتعمق فيها والعيش معها باتساع آفاق فكره العباسي البغدادي.
قد فطن الجاحظ بنقده النافذ إلى سبق أبي تمام واستشهد بشعره، ولكنه كان بروحه ونشأته وذوقه منتميًّا ب زمان أبي نواس. وكأنه قد ضن على أبي تمام أن يجعله السابق فجعل السبق في باب الغوص البديعي للعتابي ولعله أصاب إذ كان نقايا لا يشق غباره. إلا أن العتابي كان شعره لا ماء فيه، كله من الفكر.
ولا مزيد على ما قاله ابن المعتز بالنسبة إلى مكان البحتري. على أنه قد انفرد
بديباجة لا يدانيه فيها من المحدثين شاعر. وسر جودة ديباجته أنه كان يغني من أعماق قلبه. وقد عرف القدماء هذا من أمره والخصه ابن الأثير في قوله: «وأراد أن يشعر فغنى» وقبله «وأما البحتري فقد أجاد سبك اللفظ على المعنى» . ونحن فصلنا بين جزئي السجع، لننبه على أن أمر البحتري متجاوز لمجرد سبك اللفظ على المعنى إلى درجة هي أسمى من ذلك. وعلى أن ابن الأثير كأنه قد أضرب بقوله: وأراد أن يشعر فغني عن قوله الأول. وقد وفق في هذه العبارة أيما توفيق. ذلك بأن الشعر إنما وضع للغناء والترنم. فقد تجاوز البحتري مرتبة الشعر الأولى إلى الثانية. ذلك بأن الشعر معان وألفاظ يلبسها التعبير بالإيقاع. ثم يجيء الغناء فيجعل جميع هذا يلبس ألوانًا من الإيقاع بعد ذلك فتغلب روحانية الإيقاع على كل مادة من الأجناس الأخرى المؤتلفة والمؤلف منها الشعر. ولقد كنت في الدهر الأول أتأمل كلمات لمصطفى لطفي المنفلوطي رحمه الله في النظرات يذكر فيها الشعر، ثم يقول بعد ذلك أن هذا الشعر إذا صير به إلى الغناء ملك على الفؤاد نواحيه، أو شيئًا هذا معناه، واستشهد على الغناء بقول الآخر:
يا لهفتا للغريب في البلد
…
النازح ماذا بنفسه صنعا
فارق أحبابه فما انتفعوا
…
بالعيش من بعده ولا انتفعا
فكنت أقول هذا أيضًا شعر فكيف فرق المنفلوطي بينه وبين الآخر فجعله غناء. ومراد المنفلوطي أحسبه الآن قد وضح لي. وهو نحو ما عناه ابن الأثير حيث قال ما قاله عن البحتري.
كان أبو تمام يتغنى ويحسن رنة الترنم بلا ريب. من شواهد ذلك قوله:
أبقى أبوك ومزيد وأبوهما
…
وأبوه ركنك في الفخار شديدا
وقوله:
طلبت ربيع ربيعة الممهى لها
…
وتفيأت ظلالها ممدودا
بكريها علويها صعبيها الـ
…
حصنى شيبانيها الصنديدا
ذهليها مريها مطريها
…
يمنى يديها خالد بن يزيدا
نسب كأن عليه من شمس الضحى
…
نورا ومن فلق الصباح عمودا
ولكنه لم تكن له، على جزالته ومتانه أسره، ديباجة البحتري حين يبلغ بها أسماها. ديباجة البحتري هبة وهبها الله. أصاب ابن رشيق حيث ذكر أنه كانت للبحتري صناعة خفية. ولكنه كان مطبوعًا مع ذلك. وامتزاج الصنعة مع الطبع عنده نشأ منه «سلسال ديباجته الحصب» ونستعير بعض هذا اللفظ من أبي تمام الذي هو كما قال ابن الأثير رب معان وصيقل الباب وأذهان، وهذه الإضافة ليست لمجرد إكمال السجع ولكن مكانها في مقاله كمكان إضافات ابن المعتز التي تقدم ذكرها.
ديباجة البحتري تنعيم للمذهب الجلد الجبار الذي جاء به أبو تمام: ولكنها هي في ذات نفسها فتح مبين ومسلك فذ. وبداوة شعرية قائمة بذاتها. فأصبحت أمام رواد الشعر بداوتان منبعثتان من صميم حضارة المائتين الثانية والثالثة، إحداهما كأنها فحل أبي تمام القطم الذي وصفه في بائيته فقال:
على كل موار الملاط تهدمت
…
عريكته العلياء وانضم حالبه
والأخرى كقلوص أبي عبادة النفيسة التي ذكرها فقال:
حنت قلوصي بالعراق وشاقها
…
في ناجر برد الشام وريفه
أشبه شيء برنة ديباجة كامل عنترة في المعلقة:
ما راعني إلا حمولة أهلها
…
وسط الديار تسف حب الخمخم
فيها اثنتان وأربعون حلوبةً
…
سودا كخافية الغراب الأسحم
وبرنة ديباجة كامل جرير:
إن الذين غدوا بلبك غادروا
…
وشلا بعينيك لا يزال معينا
غيضن من عبراتهن وقلن لي
…
ماذا لقيت من الهوى ولقينا
وقد نظم البحتري في الطويل والبسيط والخفيف وسواهن ورنة ديباجته في جميع أولئك لها نغم وإيقاع واقد وهاج. إلا أنها في الكامل أظهر وأشد وقدة ووهجًا. وقد استشهد الدكتور طه حسين رحمه الله في معرض التنبيه على إحسانه بعينيته:
منى النفس من أسماء لو تسطيعها
…
بها وجدها من غادة وولوعها
وبشيء من خفيفه:
لي حبيب قد لج في الهجر جدا
وأيها العاتب الذي ليس يرضى
وأحسب أن كامل البحتري هو خاصة أدل شيء على مذهبه الفذ. وقد كان أبو تمام يجيد رنين الكامل ويواتيه مذهبه الفحل فيه كل مواتاة وكأن فيه أصداء من أسر لبيد.
وتأمل هذه الأبيات، وقد استشهدنا بالأربعة الأوليات منها في الجزء الثاني في باب التكرار، وقد جارى برويها وبحرها معلقة عنترة:
هذي المعاهد من سعاد فسلم
…
واسأل وإن وجمت ولم تتكلم
آيات ربعٍ قد تأبد منجد
…
وحدوج حيٍ قد تحمل متهم
لؤم بنار الشوق إن لم تحتدم
…
وضنانة بالدمع إن لم يسجم
وبمسقط العلمين ناعمة الصبا
…
حيرى الشباب تبين إن لم تصرم
حيرى ينظر فيها إلى كلمة عمر «تحير منها في أديم الخدين ماء الشباب» .
هل ركب مكة حاملون تحيةً
…
تهدى إليها من معنًى مغرم
رد الجفون على كرًى متبدد
…
وحنى الضلوع على جوى متضرم
إن لم يبلغك الحجيج فلا رموا
…
في الجمرتين ولا سقوا في زمزم
ومنوا برائعة الفراق فإنه
…
سلم السهاد وحرب نوم النوم
غير خاف ههنا موضع الصنعة الحبيبية في سلم السهاد إلخ «وفي رائعة الفراق» .
ألوى بأربد عن لبيد واهتدى
…
لابني نويرة مالك ومتمم
وهذا أيضًا نفس حبيبي.
سائر القصيدة بعد بيت ابني نويرة دون المستوى الرائع في ديباجة مقدمتها. وللبحتري قصائد كثيرة يهبط فيها عن المستوى الذي يبلغه في المقدمة، ومن أجل هذا أحسب أن ابن المعتز أخره عن أبي تمام، كما أحسب أنه من أجل هذا الانسياب والحرارة في بداياته نسبة الناسبون إلى الطبع البدوي. والحق أنه لو تأملناه طبع مع الذي قدمناه من أمر بداوته الفنية، حضرى؛ لأن بداياته وأوساطه ونهاياته في المتوكل ديباجتهن جميعًا عالية. وكأنه كان يصنع شعره على قدر مراتب ممدوحيه. فههنا موضع الحضارية.
وسينية البحتري، وهي من ذراه بل من ذرى الشعر على وجه الإجمال، جمع فيها بين الديباجة والمهارة والتحليق والعمق، وفيها حزن يجعلها هي مرثيته الحقة للمتوكل والفتح ليست رائيته المشهورة «محل على القاطول أخلق دائره» بأخلق منها
لهذا الوصف في هذا الصدد. وإنما وصف حال نفسه من قبل ومن بعد حيث قال:
وبعيد ما بين وارد رفه
…
عللٍ شربه ووارد خمس
وقد جرد فيها مع نعومة ريشة المصور حدًّا مرهفًا من جسارة حسام قلب مفكر -تأمل قوله:
ذكرتنيهم الخطوب التوالي
…
ولقد تذكر الخطوب وتنسي
وهم خافضون في ظل عال
…
مشرف يحسر العيون ويخسي
مغلقٍ بابه على جبل القبـ
…
ـق إلى دارتي خلاطٍ ومكس
أي كأن الإيوان هو جبل القبق، وذلك أنه في أرض منبسطة هو فيها كالجبل بإشرافه وارتفاعه، وقد فصل هذا المعنى من بعد عند قوله «جوب في جنب أرعن جلس البيت» .
حللٌ لم تكن كأطلال سعدي
…
في قفارٍ من البسابس ملس
لا يقصد ههنا إلى الزراية بأطلال سعدى على طريقة التبرم بالأطلال النواسية وغير النواسية وما أشبه وإن يك في ظاهر اللفظ نفس من ذلك، ولكنه قصد إلى أن ينبهنا أنه الآن واقف على طلل، غير أن طلله ليس بطلل بداوة صحراوية هو طلل بداوة شعرية، هو أثر بنيان حضارة ضخمة عفاها الزمان، وليس مجرد ادعاء تعريج على رسم متوهم لحبيبة بالصحراء. التبرمة التي ههنا من جنس تبرمة الكميت حيث قال:
ولم تلهني دار ولا رسم منزل
…
ولم يتطربني بنان مخضب
ولكن إلى أهل الفضائل والنهى
…
وخير بني حواء والخير يطلب
ثم وقف البحتري عند تأمل هذه الآثار وما تدل عليه من حضارة كانت ضخمة
الأكناف عالية الذرى مثل هذا البنيان الذي بقيته التي كأنها فتحة كهف جسيم فاغرة من جنب جبل عظيم.
ومساعٍ لولا المحاباة مني
…
لم تطقها مسعاة عنس وعبس
أي قيس واليمن، عبس قبيلة قيسية وعنس قبيلة يمنية. وتأمل الصنعة في سينات السعدي- بابس- ملس- مساع- مسعاة- عنس- عبس. وهل تزندق البحتري شيئًا بذكره عبسًا وعنسًا وهو العربي البعيد كل البعد عن الزندقة والشعوبية؟ كان لعبس في الجاهلية نبيٌّ أضاعوه فلم يتبعوه هو خالد بن سنان وكان لعنس في الإسلام متنبئ من أصحاب الردة هو الأسود العنسي. وسواد اللون يجمع بينه وبين أشهر أبطال جاهلية فروسية العرب وهو عنترة بن شداد العبسي- فسين القافية مع تداعي بعض هذه المعاني هو على اراجح مما يكون قاده إلى الجمع بين عنس وعبس. وجعل الثانية هي القافية لورود عنس بالنون قافية من قبل.
هذا ويجوز -ولا تستبعد ذلك أيها القارئ الكريم- يجوز أنه أورد كلامه هذا كله على سبيل الكناية، وإذ هو يبكي على المتوكل والفتح، فما هذا الإيوان إلا رمز للجعفري وحسنه، وقد تعلم قوله في ذلك.
تغير حسن الجعفري وأنسه
…
وقوض بادي الجعفري وحاضره
أما حاضر الجعفري فلا يخفى، إذ كان هو بحبوحة حضارة ذلك الزمان، فما باديه؟ هل أراد ببادي الجعفري عربيته التي يمثلها الخليفة وبحاضره أعوان الخلافة من بقية حضارة فارس: الفتح وعبيد الله وآل طاهر في خراسان؟ وتأمل قوله: وأنسه -وهو إنما قصد «أبيض المدائن» . لما غلبته الوحشة وفقد الأنس والأنيس:
ولقد رابني نبو ابن عمي
…
بعد لين من جانبيه وأنس
من ابن عمه هذا؟ أهو الخليفة الجديد، جعله ابن عمه لأنه عربي مثله؟
وإذا ما جفيت كنت حريًّا
…
أن أرى غير مصبح حيث أمسي
حضرت رحلي الهموم فوجهت
…
إلى أبيض المدئن عنسي
وهذه العنس هنا، وهي الناقة، نادت عنسًا في قوله «عنسٍ وعبس» من بعد. فإذا حملنا العنس هنا على معنى العنس الأولى أي مسعاة ناقتي مسعاة القوم الذين اسمهم كاسم ناقتي. فهل يجوز أن نتوهم شيئًا من إشارة إلى بني العباس في قوله «عبسي» ؟
بل هو يجوز أن نتوهم أيضًا إشارة لبني أمية في قوله عنس إذ كان بنو حرب وهم الذين أسسوا دولة بني أمية يقال لهم العنابس أي الأسود؟ أم هل أراد بعنس وعبس فقط بني أمية حملًا للفظين على عنبسة وعنابس فنرجع إلى المعنى الأول وهو العرب على تقدير أن دولة بني العباس هي كما زعم صاحب الفخري دولة عجمية؟
وتأمل قوله:
فكأن الجرماز من عدم الأنـ
…
ـس وأخلاقه بقية رمس
لو تراه علمت أن الليالي
…
جعلت فيه مأتمًا بعد عرس
أليس هذا مثل قوله:
تحمل عنه ساكنوه فجاءة
…
فعادت سواء دوره ومقابره
إذ نحن زرناه أجد لنا الأسى
…
وقد كان قبل اليوم يبهج زائره
ثم كأن البحتري يعيش فترة أخرى من عهد منادمته المتوكل -وقد بدأ كأنما هو يتحدث بموضوعية عن الإيوان وما مني به من تقلب صروف الزمان:
وهو ينبيك عن عجائب قوم
…
لا يشاب البيان فيهم بلبس
ما دلالة قوله: «لا يشاب البيان فيهم بلبس» - أهذه تتمة أتم بها البيت على سبيل المبالغة في أمر عظمة ملوك الفرس؟ ألا يكون ذلك مما يخس بقيمة هذا البيت البيانية إن كان أمره لا يعدو أنه تتمة بمغالاة ليس غير؟ أليس أقرب أن يكون قوله:
لا يشاب البيان فيهم بلبس
ما عني به في أعماق نفسه إلا الخليفة المقتول؟ أليس من شأن الشعر أن يكون فيه من المعاني مما يوحي به أكثر مما هو في ظاهر لفظه؟ وكثير من ذلك قد يجيء عن قصد وتعمد له من الشاعر، وكثير منه ربما جاء على غير قصد منه، حتى إنه لا يكون ممن يفطن إليه. وقد تعلم خبر المتنبي إذ قال في كافيته التي ودع فيها عضد الدولة.
وأيا كنت يا طرقي فكوني
…
أذاة أو نجاة أو هلاكا
فتطير عضد الدولة من ذلك. وما كان لو لم يقله أبو الطيب ليدفع ذلك عنه القدر، ولكنه ما كان ليثبته لو أحس بقلبه الواعي ما قد وصل إليه فيه قلبه من طريق كأنه كشف.
ومما يقوي زعمنا أن الذي لا يشاب البيان فيه بلبس قوله في الرائية:
كأن لم تبت فيه الخلافة طلقة
…
بشاشتها والملك يشرق زاهره
ولم تجمع الدنيا إليه بهاءها
…
وبهجتها والعيش غض مكاسره
فأين الحجاب الصعب حيث تمنعت
…
بهيبتها أبوابه ومقاصره
وأين عميد الناس في كل نوبةٍ
…
تنوب وناهي الدهر فيهم وآمره
هذا هو الذي لا يشاب البيان فيه بلبس. وليس الأمر مجرد تتمة بيت وجعل البحتري يتأمل صورة أنطاكية. وأحسب أن المتنبي لم يخل من نظر إلى تصوير
البحتري ووصفه ههنا إذ أخذ هو في نعت فازة سيف الدولة والصور التي فيها وذلك حيث قال:
وأحسن من ماء الشبيبة كله
…
حيا بارق في فازةٍ أنا شائمه
الأبيات وقد وقف عندها يتأمل صور الضراغم والصيد كوقفة البحتري ههنا يتأمل صورة عراك الرجال بين يدي كسرى- وتأمل قوله:
والمنايا مواثل وأنوشر
…
وأن يزجي الصفوف تحت الدرفس
قوله المنايا مواثل من أجود التصوير إذ هو يقص علينا فيه أن الصورة التي تأملها ناطقة لا بعراك الرجال الذي كان بين يدي الملك وحده، ولكن بمثول المنايا، تتخطف من تتخطفه السيوف وارماح. مع جودة التصوير هذه وحي خفي بإحساس البحتري مثول المنايا. ولقد رأى المنايا بعينه ماثلات لما أصاب السيف جعفرًا وتخطف الفتح بن خافقان وهو ينظر وقد ملأ الرعب فؤاده. وصدق الله سبحانه وتعالى جل من قائل إذ يقول:{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران]. إلى هذه الآية نظر البحتري ومنها أخذ البيان الرائع الذي جاء به.
ثم انظر إلى حذق البحتري لما أحيا الصورة فقال:
في اخضرار من اللباس على أصـ
…
ـغر يختال في صبيغة ورس
وعراك الرجال بين يديه
…
في خفوت منهم وإغماض جرس
لأنهم الآن صور حيويتها ناطقة وصخبها في قلب الشاعر ولكنها بعد صور على حيويتها وحركتها صوامت.
من مشيح يهوى يعامل رمح
…
ومليح من السنان بترس
تصف العين أنهم جد أحيا
…
ء لهم بينهم إشارة خرس
يغتلى فيهم ارتيابي حتى
…
تتقراهم يداي بلمس
وكأن البحتري ههنا في حلم، يريه منامه مشهدًا من مناظر المواكب والأبهة التي كان عليها زمان المتوكل.
هنا ينسى المأساة. وينتشي من هذا الحلم -هذا الحلم الذي ما عدا بعد أنه تأمل هذه الصور الخرس النواطق الحية:
قد سقاني ولم يصرد أبو الغو
…
ث على العسكرين شربة خلس
ولكأن أبا عبادة الآن نديم المتوكل مرة أخرى.
قد سقاني ولم يصرد أبو الغو
…
ث على العسكرين شربة خلس
ما مراده من شربة خلس؟ إما اختلسها مع المنايا المواثل والحرب القائمة، أشركه حلم مذهل فيها ثم فصله عنها لحظة إلى هذه الشربة الخلس. وإما اختلسها من المجتمع المحيط به وكأنه يصف شرابًا صلبًا يسيغه صاحبه دفعة واحدة.
من مدام تقولها هي نجم
…
أصوأ الليل أو مجاجة شمس
وتراها إذا أجدت سرورًا
…
وارتياحًا للشارب المتحسي
أفرغت في الزجاج من كل قلب
…
فهي محبوبةٌ إلى كل نفس
كانت خلسًا ثم صارت أنسًا ومتعة واحتساء ذا تمهل. هذه شراب المتوكل وهو كسرى وهو الآن معه.
وتوهمت أن كسرى أبرويـ
…
ـز معاطي والبلبهذ أنسي
لاحظ تكرار الأنس في قافية أبي عبادة مع الذي نبهنا إليه من وروده في الرائية «تغير حسن الجعفري وأنسه» . وقد تعلم قول أبي عبادة إذ العيش رغد والمتوكل أمام:
هل العيش إلا ماء كرم مصفق
…
يرقرقه في الكأس ماء غمام
وعود بنان حين ساعد شدوه
…
على نغم الألحان ناي زنام
لاحظ اقتنان تخير الألفاظ هنا- شدوه- نغم- الألحان.
البلبهذ هنا هو بنان وهو زنام، يدلك على ذلك قوله أنسي، وأنس الجعفري كان بهذين كما كان أنس كسرى بالبلبهذ.
حلم مطبق على الشك عيني
…
وامان غيرن ظني وحدسي
جعله مع كونه حلمًا مطبقًا لعينيه على شك لأنه يعلم أن المتوكل قد قتل وأن الأنس قد زال وأن ابن عمه قد نبا عنه بعد قرب ومودة وإيناس. لا بل هو ليس بشك، ولكنها أمان من فؤاد محزون. وإذا هذا الإيوان الذي كان حيًّا بكسرة والبلبهذ والمجد المنيف قد عاد مغارة كمغارة أهل الكهف. قد عاد قبرًا. قد صار خرابًا.
وكأن الإيوان من عجب الصنعة
…
جوب في جنب أرعن جلس
قوله «عجب الصنعة» -أي حتى صار الأمر يبدو كأنه كهف طبيعي من عمل بد الطبيعة ليلها ونهارها وأرواحها وأمطارها. أجود الصنعة ما بدا كأن ليس للصنعة فيه يد، مثل شعر أبي عبادة هذا السهل الممتنع، الطبيعي المصنوع، البدوي الحضري، الناعم. تأمل قوله «جوب في جنب» - ثم «جلس» عند القافية.
يتظنى من الكآبة أن يبـ
…
ـدو لعيني مطبح أو ممسي
مزعجًا بالفراق عن أنس ألفٍ
…
عز أو مرهقًا بتطليق عرس
مرة أخرى تأمل قوله «أنس» والذي أزعج بالفراق عن أنس إلفه هو البحتري وإلفه الفتح أو هو المتوكل وإلفه الفتح أو هو الفتح وإلفه القصر ومجده أو جميع هؤلاء وإلفهم ما كانوا فيه من مدامة وانس. وأما العرس فهي الخلافة والمرهق هو الخليفة إذ طلقها يعلوه الحسام أو كما قال الآخر:
فطلقها فلست لها بكفء
…
وإلا يعل مفرقك الحسام
أو العروس هي بغداد وقد توحشت للبحتري. أو عرائس الشعر التي قد كسدت بعد دهر المتوكل أليس البحتري هو القائل يخاطب علي بن يحيى المنجم:
شوق له بين الأضالع هاجس
…
وتذكر للصدر منه وساوس
ولربما نجى الفتى من همسه
…
وخد القلاص وليلهن الدامس
إذ ليل بغداد بالأنس منير.
ما أنصفت بغداد حين توحشت
…
لنزيلها وهي المحل الآنس
لم يرع لي حق القرابة طيء
…
فيها ولا حق الصداقة فارس
أعلى من يأملك بعد مودةٍ
…
ضيعتها مني فإني آيس
أوعدتني يوم الخميس وقد مضى
…
من بعد موعدك الخميس الخامس
وقد يعلم القارئ أصلحه الله خبر يوم الخميس في الحديث الشريف وأسف ابن عباس رضي الله عنهما على ذلك فيما رووا، وما كان مثله ليغيب عن أبي عبادة وما أخال إلا أن ههنا نفحة من الإشارة إليه والله تعالى أعلم.
قل للأمير فإنه القمر الذي
…
ضحكت به الأيام وهي عوابس
قدمت قدامي رجالًا كلهم
…
متخلف عن غايتي متقاعس
وأذلتني حتى لقد أشمت بي
…
من كان يحسد منهم وينافس
وأنا الذي أوضحت غير مدافع
…
نهج القوافي وهي رسم دارس
بعد أن ذهب أبو تمام. وقد أوضح النهج الذي انتهجه غير مدافع عن ذلك.
وشهرت في شرق البلاد وغربها
…
وكأنني في كل نادٍ جالس
هذي القصائد قد زففت صباحها
…
تهدي إليك كأنهن عرائس
ولك السلامة والسلام فإنني
…
غادٍ وهن على علاك حبائس
فقد جعل القصائد عرائس كما ترى وشكا أن الناس قد خسوا بقدرهن بعد أن ذهب الناس -أو كما قال في السينية الكبرى، وكأنما يصف نفسه، إذ هو بقية أنس الجعفري كما الإيوان بقية مجد كسرى:
عكست حظه الليالي وبات الـ
…
مشتري فيه وهو كوكب نحس
فهو يبدي تجلدًا وعليه
…
كلكل من كلاكل الدهر مرسي
ثم أخذ ينصرف إلى الإيوان، يعجب به، كما قد اعتبر بما كان من مصيره وفي إعجابه هذا رجعة إلى أول الإعجاب الذي كان منه حيث قال:
وهو ينبيك عن عجائب قوم
…
لا يشاب البيان فيهم بلبس
ثم انصرف من هذا الإعجاب إلى العبرة والتأمل، وإنما الشعر الجيد أصداء معان تتجاوب وأنغام ألحان تتناوح:
لم يعبه أن بر من بسط الديـ
…
ـباج واستل من شفوف الدمقس
هذه الصفة هي عين قوله من قبل في الرائية:
وإذ صيح فيه بالرحيل فهتكت
…
على عجل أستاره وستائره
أي أستاره وما ستر فيهن.
قوله:
مشمخر تعلو له شرفات
…
رفعت في رؤوس رضوى وقدس
رضوى كسكرى جبل بالمدينة وقدس بضم فسكون اسم جبل بنجد وبسواها من بلاد العرب. وما ينبغي أن تكون هذه المرفوعة في رؤوس رضوى وقدس هي شرفات إيوان بنته الكفرة فرسًا كانوا أو غيرهم، ولكن شرفات الخليفة والخلافة،
وإذ جعل الإيوان رمزًا للجعفري وقتيله ساغ له مثل هذا القول من غير ما شعوبية هو بعربيته أبعد شيءٍ عنها، ولا زندقة هو عنها بسذاجة إيمانه جد غريب.
مما يرجح ما نزعمه من أنه ما أراد إلا الخليفة والخلافة وأصول ذلك في آل البيت والنبوة قوله يمدح المتوكل ويذكر بناء الجعفري، هذا القصر الذي قتل فيه من بعد:
قد تم حسن الجعفري ولم يكن
…
ليتم إلا بالخليفة جعفر
ملك تبوأ خير دار أنشئت
…
في خير مبدًى للأنام ومحضر
في رأس مشرفةٍ حصاها لؤلؤٌ
…
وترابها مسكٌ يشاب بعنبر
مخضرة والغيث ليس بساكبٍ
…
ومضيئة والليل ليس بمقمر
ظهرت لمخترق الشمال وجاوزت
…
ظلل الغمام الصائب المستغزر
تقدير لطفك واختيارك أغنيا
…
عن كل مختارٍ لها ومقدر
وعلو همتك التي دلت على
…
صغر الكبير وقلة المستكثر
فرفعت بنيانًا كأن مناره
…
أعلام رضوى أو شواهق ضيبر
عالٍ على لحظ العيون كأنما
…
ينظرن منه إلى بياض المشتري
بانيه باني المكرمات وربه
…
رب الأخاشب والصفا والمشعر
ملأت جوانبه الفضاء وعانقت
…
شرفاته قطع السحاب الممطر
وتسير دجلة تحته ففناؤه
…
من لجةٍ غمرٍ وروضٍ أخضر
شجر تلاعبه الرياح فتنثني
…
أعطافه في مائح متفجر
فاسلم أمير المؤمنين مسربلًا
…
سربال منصور اليدين مظفر
واستأنف العمر الجديد ببهجة الـ
…
ـقصر الجديد وحسنه المتخير
ثم يقول:
الله أعطالك المحبة في الورى
…
وحباك بالفضل الذي لم ينكر
قد جئته فنزلت أيمن منزلٍ
…
وأممته فرأيت أحسن منظر
فاعمره بالعمر الطويل ونعمةٍ
…
تبقى بشاشتها بقاء الأعصر
قوله: «كأن مناره أعلام رضوى إلخ» هو بعينه قوله في السينية «رفعت في رؤوس رضوى وقدس» -وضيبر بالضاد المعجمة في أوله بوزن حيدر جبل «بالحجاز» والتشبيه مراد به هنا الرمز والتنويه بقدر الجعفري إذ أرض العراق منبسطة فهو فيها بمنزلة جبل حجازي وساكنه سيد قريش الخليفة وهم سادة الناس، من أجل جوار البيت الذي بناه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وأحيت دينه الحنيف رسالة محمد الهاشمي القرشي سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم.
قول البحتري:
ملأت جوانبه الفضاء وعانقت
…
شرفاته قطع السحاب الممطر
فيه لفظ الشرفات والمعنى هو زيادة توضيح لما ذكره من ارتفاعه فوف ذرا رضوى وضيبر هنا- ورضوى وقدس في السينية. وغير خاف حسن تجانس ضادي رضوى وضيبر.
وقوله:
عالٍ على لحظ العيون كأنما
…
ينظرن منه إلى بياض المشتري
هو عين قوله من بعد في السينية:
مشمخر تعلو له شرفات
…
رفعت في رؤوس رضوى وقدس
لا بسات من البياض فما تبـ
…
ـصر منها إلا فلائل برس
فلائل جمع فليلة والفليلة هي الليف وهي الشعر المجتمع والمراد هنا الليف أي فما تبصر منها إلا أليافًا من برس بكسر الباء -ويجوز ضمها وهو دون الكسر-
وسكون الراء وهو القطن. شبه الشرفات برؤوس الجبال عليهن بياض عمائم الثلوج وتشبيه الثلج المتساقط بالقطن قديم في الشعر، قال الفرزدق:
مستقبلين شمال الشام تضربنا
…
بحاصبٍ كنديف الثلج منثور
وقال:
وأقبل موضوع الصقيع كأنه
…
على سروات النيب قطن مندف
ولا يعقل أن يكون عني بياض طلاءٍ على شرفات الإيوان. إذ على تقدير بقاء الطلاء على زمان البحتري، فإنه لا يكون كالبياض الذي يرفعه الثلج على رؤوس الجبال. وقوله «بياض المشترى» يقوي ما نزعمه من أن جميع هذا رمز به عن الخليفة والخلافة والقصر الجعفري- ألا تجده في السينية يقول:
عكست حظه الليالي وبات الـ
…
ـمشترى فيه وهو كوكب نحس
والمشترى مذكور في الرائية لأنه كوكب سعادة. والبياض هنا بياض طلاء وبسعد الجعفري والخليفة جعفر فإن منزله في السماء مع الكواكب. وقد جعله منارًا وما شبهه برضوى وضيبر إلا لمكان معالم النبوة وقداسة الحرمين هناك. وكأن نصًّا قاطعًا برهانه على هذا الذي نذهب إليه قوله:
بانيه باني المكرمات وربه
…
رب الأخاشب والصفا والمشعر
والأخاشب والصفا والمشعر كل ذلك بحرم مكة والخلافة هي ذات السيادة والشرف الذي أصله من هناك. وربه أي رب هذا القصر وسيده وهو سيد هذه المواضع بسيادة الخلافة. أو باني هذا القصر هو الخليفة باني المكرمات وعابد ربه بما يتقرب به إليه منها وربه هو رب الحرم والصفا والمروة والمشعر الحرام. والمعنى الأول أوضح وأقرب وأشبه بسياق أسلوب البحتري.
ثم يقول أبو عبادة:
ليس يدرى أصنع إنس لجنٍ
…
سكنوه أم صنع جن لإنس
ظاهر المعنى للإيوان كما لا يخفى وباطنه للمتوكل والجعفري- وكأنه البحتري لما قال فصرح في الرائية:
حرامٌ على الراء بعدك أو أرى
…
دمًا بدمٍ يجري على الأرض مائره
وهل أرتجي أن يطلب الدم واترٌ
…
يد الدهر والموتور بالدم واتره
أكان ولي العهد أضمر غدرة
…
فمن عجبٍ أو ولي العهد غادره
فلا ملي الباقي تراث الذي مضى
…
ولا حملت ذاك الدعاء منابره
ولا وال المشكوك فيه ولا نجا
…
من السيف ناضي السيف غدرا وشاهره
لنعم الدم المسفوح ليلة جعفر
…
هرقتم وجنح الليل سود دياجره
لم يخل من نضح شر أصابه به تصريحه، فكان أن يعمد إلى التعمية بالرمز أحجى.
هذا، وقوله أصنع إنس لجنٍ، فالأغلب الأشهر أن تصنع الجن للإنس بتسخير يسخرونه. وما أشبه أن يكون مراده من صنع الإنس للجن جواري المتوكل لأن الحسان يشبهن بالوحش وبالجن وقال الشنفري:
فدقت وجلت واسبكرت وأكملت
…
فلو جن إنسان من الحسن جنت
أي لو كان إنسانًا جنيًّا من الحسن لكانت كذلك.
وزعم أصحاب الأخبار أن أم بلقيس كانت من الجن تمثلت لأبيها غزالة وأن سليمان عليه السلام بنى الصرح وكان قد قيل له أن لها حافرًا، إذ الجني عندما يتحول إلى صورة إنسية يبقى له مع ذلك حافر فيستره لكيلا يستدل به عليه، فلما كشفت عن
ساقيها كانت كأجمل ما تكون النساء ساقًا، وكان بساقيها هبوٌٌ من شعر فأزالته النورة. فالصرح بناء إنس لجن على هذا المعنى، إذ لبلقيس نسب أسطوري في الجن، وانتساب إلى الجن بحسنها -قال أبو الطيب:
لجنية أم غادة رفع السجف
…
لوحشية، لا، ما لوحشيةٍ شنف
أي لا تلبس الوحشية الأقراط.
والصرح أيضًا بناء جن لإنس إذ الجن كانوا مسخرين لسيدنا سليمان -وقد شبه البحتري المتوكل بسليمان عليه السلام حيث قال في القصيدة التي وصف فيها البركة:
كأن جن سليمان الذين ولوا
…
إبداعها فأذقوا في معانيها
فلو تمر بها بلقيس عن عرضٍ
…
قالت هي الصرح تمثيلًا وتشبيهًا
وقالت إن أمير المؤمنين كسليمان- هذا المعنى متضمن كما لا يخفى.
وقد صرح به في كلمة على هذا الروى أولها «أنافعي عند ليلى فرط حبيها» فقال:
فلا فضيلة إلا أنت لابسها
…
ولا رعية إلا أنت راعيها
ملك كملك سليمان الذي خضعت
…
له البرية قاصيها ودانيها
وصورة الثلج على الجبال شامية. ومناظر الشام وجبال لبنان مما يتردد في شعر البحتري تصريحًا وتلميحًا- وقد زعمت العرب أن الجن بنت تدمر لسليمان وتدمر من بلاد الشام، قال النابغة:
ولا أرى فاعلًا في الناس يشبهه
…
ولا أحاشي من الأقوام من أحد
إلا سليمان إذ قال إلا له له
…
قم في البرية فاحددها عن الفند
وخيس الجن أني قد أذنت لهم
…
يبنون تدمر بالصفاح والعمد
وفي صورة الثلج على الجبال يقول البحتري، ويذكر دارًا للفتح بن خاقان، وقد تعلم أمر مقتله مع المتوكل:
تلفت من عليا دمشق ودوننا
…
للبنان هضبٌ كالغماء المعلق
ثم يقول البحتري في السينية:
غير أني أراه يشهد أن لم
…
يك بانيه في الملوك بنكس
أي بضعيف ذي تقصير عن مدى المجد. ولا ريب أن الإيوان عمارة مجيدة لملك ماجد وأن هذا المعنى الظاهر من التنبيه على مجد فارس والأكاسرة أراده البحتري ولكنه يلابسه أيضًا معنى القصد إذ ذكر المتوكل، وجعفريه ورثائهما -يدل على ذلك انصراف البحتري من عظمة الصورة المعمارية التي أمامه بشموخها وبراعة هندسة عقد قوسها العجيب، إلى تأمل مناظر المراكب والوفود وأبهة الملك كما عهد ذلك عند المتوكل- في أيام الأعياد كما وصفه في الرائية.
أظهرت عز الملك فيه بجحفل
…
لجب يحاط الدين فيه وينصر
خلنا الجبال تسير فيه وقد غدت
…
عددًا يسير بها العديد الأكبر
فالخيل تصهل والفوارس تدعي
…
والبيض تلمع والأسنة تزهر
والأرض خاشعة تميد بنقلها
…
والجو معتكر الجوانب أغبر
والشمس ماتعة توقد بالضحى
…
طورًا ويطفئها العجاج الأكدر
حتى طلعت بنور وجهك فانجلت
…
تلك الدجى وانجاب ذاك العثير
وافتن فيك الناظرون فإصبع
…
يومى إليك بها وعين تنظر
وعند مجيء الوفود -كقوله في اللامية التي مطلعها: «قل للسحا إذا حدته الشمأل» .
ورأيت وفد الروم بعد عنادهم
…
عرفوا فضائلك التي لا تجهل
لحظوك أول لحظةٍ فاستصغروا
…
من كان يعظم فيهم ويبجل
متحيرون فباهت متعجب
…
مما رأى أو ناظر متأمل
وعندما يؤذن له -قال وهو من مأثور قوله ومشهوره:
ولما حضرنا سدة الأذن أخرت
…
رجالٌ عن الباب الذي أنا داخله
فأفضيت من قرب إلى ذي مهابة
…
أقابل بدر الأفق حين أقابله
فسلمت واعتاقت جناني هيبةٌ
…
تنازعني القول الذي أنا قائله
فلما تأملت الطلاقة وانثنى
…
إلي ببشر آنستني مخايله
دنوت فقبلت الندى في يد امرئ
…
جميلٍ محياه سباط أنامله
وهذه الأبيات في الفتح وزير المتوكل -وإنما كان مدح البحتري له طرفًا من مدحه المتوكل كما قد كان مجد الفتح ظلًّا من مجد المتوكل.
قال يصف وفود قبائل ربيعة إليه:
أتوك وفود الشكر يثنون بالذي
…
تقدم من نعماك عندهم قبل
فلم أر يومًا كان أكثر سؤودًا
…
من اليوم ضمتهم إلى بابك السبل
تراءوك في أقصى السماط فقصروا
…
خطاهم وقد جازوا الستور وهم عجل
ولما قضوا صدر السلام تهافتوا
…
على يد بسام سجيته رسل
إذا شرعوا في خطبةٍ قطعتهم
…
جلالة طلق الوجه جانبه سهل
إذا نكسوا أبصارهم من مهابة
…
ومالوا بلحظ خلت أنهم قبل
القبل بالتحريك ضرب من الحول أو شبيه به وقد وصف به الهذلي نظر الخيل ونظر الجدأة- قال وهومن شواهد شرح الألفية:
وتبلى الألى يستلئمون على الألى
…
تراهن يوم الروع كالحدا القبل
القبل هنا وفي بيت البحتري بضم القاف ويسكون الباء جمع أقبل وقبلاء من القبل بالتحريك.
ثم يقول البحتري:
نصبت لهم طرفًا حديدًا ومنطقًا
…
سديدًا ورأيًّا مثلما انتضى النصل
وعندي، كأن البحتري قد نظر إلى معلقة زهير في كلمته التي مدح بها المتوكل وذكر الفتح في أمر الصلح الذي كان بين بطون بني ربيعة والعفو الذي عفاه الخليفة عن جناتها:
منى النفس من أسماء لو تستطيعها
…
بها وجدها من غادة وولوعها
وبحرها من المقبوض الضرب والعروض وقافيتها من المتدارك والنظر فيه من غير إسراف سرق إلى صور المعلقة قوي- ولكأن قوله:
شروبًا تساقى الراح رفها شروعها
فيه صدى وظلال من قول زهير:
فلما وردن الماء رزقًا جمامه
…
وضعن عصي الحاضر المتخيم
وفي هذه اللامية نظر إلى:
صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو
جد في أمر الحرب والسلم في العينية كجد زهير في الميمية، وأخلص في المدح وخلص بكل شعره إليه في اللامية كما فعل زهير.
ونعود بعد إلى ما دعا إلى الإشارة إلى أصناف هذه الأبيات، وهو ما قدمناه من انصراف أبي عبادة عن تأمل هيئة الإيوان وهندسته إلى ذكريات من ماضي تجاربه عند عظمة الخليفة ووزيره الجليل.
فكأني أرى المراتب والقو
…
م إذا ما بلغت آخر حسي
وكأن الوفود ضاحين حسرى
…
من وقوف خلف الزحام وخنس
هذه صورة مختصرة من «الشمس ماتعة توقد بالضحى» ومن زحام موكب العيد ومن مقدم أصناف وفود الروم والقبائل- ثم خلص إلى تصوير مناظر من تجربته في المنادمة عند الخليفة ووزيره الفتح:
وكأن القيان وسط المقاصيـ
…
ـر يرجعن بين حوٍ ولعس
فدل بقوله «محمود ولعس» على اختلاف ألوان الجواري وأجناسهن، إذ اللعساء بيضاء اللون فيها حمرة واللعس بالتحريك سواد في لون الشفة يستحسن فاستحسانه في الشفة دل على أن سائر الجسد بلون آخر. والحواء أمنا، وحوتها بإزاء أدمة زوجها آدم والأدمة السمرة، والحواء الشديدة السمرة، أو الشفة الضاربة الحمرة إلى السواد- فجميع هذا منبئٌ عما قدمنا من إرادة البحتري الدلالة على اختلاف ألوان الجواري والقيان. وكان القوم كأنما كانوا يرومون أن يجعلوا من قصورهم فراديس في هذه الدنيا. ومن أوصاف الحور العين في ما ذكروا أنهن من أجناس أربعة، بيض وحمر وصفر وخضر والحوة واللعس كلاهما من ألوان النبات، فتأمل:
وكأن اللقاء أول من أمـ
…
ـس ووشك الفراق أول أمس
وهذا إنما عني به لقاء المتوكل وأنسه وفراق جميع ذلك. أول من أمس وأول أمس بمعنى واحد وهو المراد ههنا، لا أن اللقاء كان أول من أمس ثم مرت ليلة الأمس ثم كان الفراق صباح أمس. المعنى أن عهد اللقاء والفراق كل ذلك قريب، كل ذلك كأنما كان أول أمس ثم أصبح صباح الأمس بالدواهي، وذلك أن مقتل المتوكل كان ليلًا فأصبح الناس والدنيا غير ما عهدوه:
وكأن الذي يريد اتباعًا
…
طامع في لحوقهم صبح خمس
هذا استعارة من أسلوب النسيب، أن المحبوبة والخليط والظعن، كل أولئك يبين ويعمل الشاعر المطي ليلحق بهم. يقول البحتري كأنما رحلوا مسرعين أول من أمس، فمن أراد بهم لحاقًا وأسرع -وقد فاتوه بليلتين سيدركهم إذا وردوا في الخامس بعد رحيلهم والخمس بفتح الخاء أي خمس ليالٍ ودل بهذا على ورود الإبل الخمس بالكسر والخمس بكسر الخاء وسكون الميم من أظماء الإبل أن ترعى ثلاثة أيام ثم ترد الرابع والليلة التي بعد ورودها هي ليلة اليوم الخامس بعد مرعاها فمن أجل هذا سمى هذا الورد خمسًا وهو أطول أظماء الإبل، والمجد في السير هو الذي يريد خمسًا- وقول البحتري «وكأن الذي تريد اتباعًا» إنما جاء به على سبيل التأكيد لما كان من قرب اللقاء وقرب الفراق وهو يعلم أن لا سبيل إلى اللحاق.
ثم انظر إلى هذا البيت:
عمرت للسرور دهرًا فصارت
…
للتعزي رباعهم والتأسي
فقد انصرف به من معنى اللحاق النسيبي إلى معنى اللالحاق، المشعر بالحزن الداعي إلى الاعتبار والعظات.
ههنا التقت الحالتان الموقوف عندهما -حال الإيوان المنبئ عن حضارة فارسية قد انقضى زمانها، وحال الجعفري الذي عاش في نعمائه البحتري دهرًا ثم انقضى عهد ذلك كل انقضاء.
فلها ان أعينها بدموع
…
موقفات على الصبابة حبس
قوله «موقفات على الصبابة» فيه رجعة إلى موضوع النسيب، الذي تقدم من قبل حيث زعم أن اللقاء أول من أمس والفراق أول أمس والذي يريد اتباعًا إلى آخر ما قاله- فإذا جعل الأمر نسيبيًّا صح له أن يزعم أن دموعه صبابة وعشق وما هو إلا واقف على ربع أحباء أو رسم وأثر شبيه بما يعلم أنه تعفى من رسم الأحباء.
ذاك عندي وليست الدار داري
…
باقتراب منها ولا الجنس جنسي
باقتراب منها، أي وقوفه الذي وقفه عند الإيوان، وإنما برر وقوفه أن أصحاب هذا الرسم وإن لم يكونوا قومه فهم أهل نعماء على قومه -وهنا معنى عام أثنى فيه ثناء كريمًا على ما كان من مشاركة الفرس بعقولهم وقلوبهم في بناء حضارة الإسلام، وحسبك شاهدًا على ذلك سيبويه في علم العربية ونافع في علم القراءات والبخاري في علم الحديث وهذا باب واسع.
أيدوا ملكنا وشدوا قواه
…
بكماةٍ تحت السنور حمس
وقد قام ملك بني العباس على جند خراسان وكان عنصر الفرس وغير العرب فيهم فاشيًّا- وعمى البحتري مراده فزعم أنه يشير إلى ما كان من إعانة كسرى لسيف بن ذي يزن سيد اليمن وملكه، وطي قبيلة البحتري يمانية الأصل، فعمى البحتري بظاهر هذه العصبية اليمنية، ولم يخل في ذلك من نظر إلى أن أول أمر بني العباس قد كانت لطيء فيه مشاركة قوية على يدي آل قحطية وقد استمر الشرف فيهم من زمان أبي العباس وأبي مسلم إلى زمان البحتري، وقد كان محمد بن حميد وآل حميد ممن مدح ورثى.
وأعانوا على كتائب أريا
…
ط بطعن على النحور ودعس
السنور في البيت الذي تقدم أي الدروع. وأرياط هو قائد النجاشي الذي وجهه إلى اليمن فدوخها. ما يخلو هذا البيت من نوع إشارة خفية ومن نوع كشف معًا. وذلك أن «أرياط» موازن لأشناس فكأنه جعل «أرياطـ» رمزًا لجند الترك الذين اصطنعتهم فأودوا آخر الأمر بالخليفة وبالخلافة. وكأن البحتري يحرض عليهم أهل الحمية من رجال فارس. وقد كانت إزالة دولة الترك على أيدي بني بويه من بعد. على أن سلطان الترك وبلاد ما وراء النهر جميعًا إنما كان طرفًا من دولة سلطان فارس القديم.
وأراني من بعد أكلف بالأشـ
…
ـراف طرًّا من كل سنخ واس
وهذا معنى إنساني عظيم ومقطع لهذه الكلمة الرائعة جيد. ومناسب كل المناسبة لما كان فيه من صفة الإيوان وعظمة بناته، ولما تضمنه ذلك من رمز كني به عن الجعفري والمتوكل والفتح بن خاقان.
وقولنا من بل في باب القوافي عن هذه السينية أن بعض الناس يوازنون بينها وبين سينية شوقي وذلك عندي من العناء والتكلف لا تزال نقول به. وذلك أن السينية البحترية لم يكن دافعها مجرد طلب الافتنان بانتزاع صورة شعرية من الإمام بالإيوان وتأمل بنائه ونقشه واستثارة ذكريات حول ذلك. وإنما كان دافعها ما نبأنا عنه البحتري نفسه في أولها حيث قال:
واشترائي العراق خطة غبن
…
بعد بيعي الشام بيعة وكس
لا ترزني مزاولًا لاختباري
…
عند هذي البلوى فتنكر مسي
البلوى مقتل المتوكل، وقوله لا ترزني بتقديم الراء المهملة على الزاي المعجمة أي لا تختبرني وقوله فتنكر مسي إشارة إلى خبر السامري: وإن لك في الحياة أن تقول لا مساس.
ولقد رابني نبو ابن عمي
…
بعد لين من جانبيه وأنس
وأشبه شيء أن يكون عني بابن عمي الخليفة ودار الخلافة وسادة العرب بها.
وإذا ما جفيت كنت حريًّا
…
أن أرى غير مصبح حيث أمسي
حضرت رحلي الهموم فوجهت
…
إلى أبيض المدائن عنسي
أتسلى عن الحظوظ وآسى
…
لمحل من آل ساسان درس
وكما أرياط موازن لأشناس فساسان موازن لخاقان كما ترى.
البحتري ينبئنا أنه ذهب إلى الإيوان فرارًا إليه بهمومه. وذهب ثم ليتسلى
بالذهاب إلى نوع من البرية. بعيدًا عن الألي جفوه -وإذا به يرى الجعفري وأنسه متمثلًا في الإيوان الذي قاومت آثاره مر الزمان. فشرب وبكى وتسلى وانثال عليه الشعر.
كان شوقي في المنفى يحن إلى مصر وألمت به نكبة وبعرض مصر نكبة -ولكن لم يكن هول ذلك ولا فجعه ولا فظاعته كما كان من مقتل المتوكل- ولقد بقي شوقي زمانًا بمصر بعد خلع عباس وقال السينية بعد أن عاد إلى الأندلس زائرًا.
جارى شوقي البحتري، وقد قص علينا هو نفسه قصة ذلك حيث قال:
«لما وضعت الحرب الشؤمى أوزارها وفضحها الله بين خلقه وهتك أزارها، ورم لهم ربوع السلم وجدد مزارها، أصبحت وإذا العوادي مقصرة، والدواعي غير مقصرة، وإذ الشوق إلى الأندلس أغلب، والنفس بحق زيارته أطلب، فقصدته من برشلونة وبينهما مسيرة يومين بالقطار المجد، والبخار المشتد أو بالسفن الكبرى الخارجة إلى المحيط، الطاوية القديم نحو الجديد من هذا البسط. فبلغت النفس بمرآه الأرب. واكتحلت العين في ثراه بآثار العرب، وإنها لشتى المواقع، متفرقة المطالع، في ذلك الفلك الجامع، يسري زائرها من حرم إلى حرم كمن يمسي بالكرنك ويصبح بالهرم، فلا تقارب غير العتق والكرم: طليطلة تطل على جسرها البالي، وأشبيلية تشبل على قصرها الخالي، وقرطبة منتبذة ناحية بالبيعة الغراء، وغرناطة بعيدة مزار الحمراء، وكان البحتري رحمه الله رفيقي فق هذا الترحال، وسميري في الرحال، والأحوال تصلح على الرجال، كل رجال لحال، فإنه أبلغ من حلى الأثر، وحيا الحجر، ونشر الخبر، وحشر العبر، ومن قام في مأتم على الدول الكبر، والملوك البهاليل الغرر، عطف على الجعفري حين تحمل عنه الملا، وعطل من الحلى، ووكل بعد المتوكل للبلي. فرفع قواعده في السير، وبنى ركنه في الخبر، وجمع معالمه في الفكر، حتى عاد كقصور الخلد امتلأت منها البصيرة وإن خلا البصر، وتكفل بعد
ذلك لكسرى بإيوانه، حتى زال عن الأرض إلى ديوانه وسينيته المشهورة في وصفه، ليست دونه وهو تحت كسرى في رصه ورصفه، وهي تريك حسن قيام الشعر على الآثار، وكيف تتجدد الديار فبيوته بعد الاندثار. قال صاحب الفتح القسي في الفتح القدسي بعد كلام:«فانظروا إلى إيوان كسرى وسينية البحتري، تجدوا الإيوان قد خرت شغفاته وعريت شرفاته وتجدوا سينية البحتري قد بقي بها كسرى في ديوانه، أضعاف ما بقي شخصه في إيوانه» وهذه السينية هي التي يقول في مطلعها:
صنت نفسي عما يدنس نفسي
…
وترفعت عن ندى كل جبس
والتي اتفقوا على أن البديع الفرد من أبياتها قوله:
والمنايا مواثلٌ وأنوشر
…
وأن يزجي الجيوش تحت الدرفس
فكنت كلما وقفتن بحجر أو طفت بأثر تمثلت بأبياتها واسترحت من مواثل العبر إلى آياتها وأنشدت فيما بني وبين نفسي:
وعظ البحتري إيوان كسرى
…
وشفتني القصور من عبد شمس
ثم جعلت أروض القول على هذا الروي وأعالجه على هذا الوزن حتى نظمت هذه القافية المهلهلة، وأتممت هذه الكلمة الربضة. وأنا أعرضها على الفراء، راجيًّا أن سيلحظونها بعين الرضاء، ويسحبون على عيوبها ذيل الأغضاء، وهذه هي:
اختلاف الليل والنهار ينسي
…
اذكرا لي الصبا وأيام أنسي
وصفا لي ملاوة من شباب
…
صورت من تصورات ومس
عصفت كالصبا اللعوب ومرت
…
سنة حلوة ولذة خلس
وسلا مصر هل سلا القلب عنها
…
أو أسا جرحة الزمان المؤسي
كلما مرت الليالي عليه
…
رق والعهد في الليالي تقسي
مستطارٌ إذا البواخر رنت
…
أول الليل أو عوت بعد جرس
راهبٌ في الضلوع للسفن فطن
…
كلما ترن شاءهن بنقس
يا ابنة اليم ما أبوك بخيل
…
ما له مولعًا بمنع وحبس
أحرامٌ على بلابله الدو
…
ح حلال للطير من كل جنس
كل دارٍ أحق بالأهل إلا
…
في خبيث من المذاهب رجس
نفسي مرجلٌ وقلبي شراع
…
بهما في الدموع سيري وأرسي
(قلت هذا مأخوذ منقول البحتري فلها أن أعينها البيت).
واجعلي وجهك الفنار ومجرا
…
ك يد الثغر بين رمل ومكس
وطني لو شغلت بالخلد عنه
…
نازعتني إليه في الخلد نفسي
وهفا بالفؤاد فق سلسبيل
…
ظمأ للسواد من عين شمس
(ليس لعين شمس سواد وزعم الشارح أنه ما حول البلدة من القرى، وعندي أن شوقيًّا لما ذكر عين شمس جعل لها ككل عين سوادًا فيكون المراد أخص من يخص في عين شمس وهذا يرجحه قوله من بعد).
شهد الله لم يغب عن جفوني
…
شخصه ساعة ولم يخل حسي
يصبح الفكر والمسلة ناديـ
…
ـه وبالسرحة الزكية يمسي
وكأني أرى الجزيرة أيكا
…
نغمت طيره بأرخم جرس
هي بلقيس في الخمائل صرح
…
من عباب وصاحب غير نكس
(العمل في هذا البيت كثير، وأخذه من تشبيه البحتري في صفة البركة إذ جعلها على لسان بلقيس المتوهمة صرحًا، وخلع شوقي هذه الصفة على الجزيرة فجعلها بلقيس والخمائل صرحها والصاحب هو سليمان في خبر بلقيس وهو الخديوي في قصة الجزيرة وهذا قول البحتري: «لم يك بانية في الملوك بنكس» وتعب العمل في جميع هذا لا يخفى).
حسبها أن تكون للنيل عرسًا
…
قبلها لم يحن يومًا بعرس
لبست بالأصيل حلة وشى
…
بين صنعاء في الثياب وقس
(وقس من أرض مصر، وزعم بعض المؤرخين أنه كانت بين أقباط مصر وأهل اليمن علاقات في صناعة النسيج الفاخر).
قدها النيل فاستحت فتوارت
…
منه بالجسر بين عري ولبس
وأرى النيل كالعقيق يواديـ
…
ـه وإن كان كوثر المتحسي
أين ماء السماء ذو الموكب الفخـ
…
م الذي يحسر العيون ويخسي
(محل التضمين من السينية هنا غير خاف -وهم خافضون في ظل عال إلخ. ومراده خفض العيش لا المنزلة).
لا ترى في ركابه غير مئن
…
بجميل وشاكر فضل غرس
وأرى الجيزة الحزينة ثكلى
…
لم تفق بعد من مناحة رمسي
(رمسي أي رمسيس وفسر زعمه بأنها ثكلى بصفة السواقي).
أكثرت ضجة السواقي عليه
…
وسؤال اليراع عنه بهمس
(عني باليراع النصب النابت على مجاري الماء وهمسه حركة نسيم الريح فيه).
وقيام النخيل ضفرن شعرا
…
وتجردن غير طوق وسلس
(وسلس قافية أبعد اصطيادها- وعني به ما يبدو من النخلة تحت الجريد والعرجون كالعنق وكأن البلح عقود).
وكأن الأهرام ميزان فرعو
…
ن بيوم على الجبابر نحس
…
وما كان فرعون إلا من الجبابر. والقصيدة فيها نيف ومائة من الأبيات
وجعل شوقي الحنين في أولها بمنزلة الهموم التي ذكرها البحتري. وقد نبأنا صادقًا أن أول بيت همس به وتغنى وترنم به منها:
وعظ البحتري إيوان كسرى وشفتني القصور من عبد شمس
وإنما وعظ الإيوان أبا عبادة بعد ما بكى- بكاء العشاق على الربوع، فظهر نفسه بالدموع من حرارة همه وشكواه، كما قال غيلان:
خليلي عوجا من صدور الرواحل
…
بجمهور حزوي فابكيا في المنازل
لعل انهمال الدمع يعقب راحة
…
من الوجد أو يشفي نجى البلابل
وأحدث له تذكر ما كان من أيام المتوكل «كالكاثا رسيس» المزعوم عن أرسطوطاليس أما شوقي فقد بدأ مشتفيًّا -شفته القصور من عبد شمس ولم يذكر أنها وعظته ولا تقدم هم أحسه. وأقصى ما يبلغه الحدس في أمر هذا الاشتفاء والشفاء أنه سلا وذهل عن مصر- يدلك على ذلك قوله:
وسلا مصر هل سلا القلب عنها
…
أو أسا جرحه الزمان المؤسى
ولم يسألان مصر، إنما ينبغي أن يسألاه هو- وما استفهم منكرًا ولكن شاكا بدليل سياق قوله، وبدليل بيته السائر:
وطني لو شغلت بالخلد عنه
…
نازعتني إليه في الخلد نفسي
فزعم أن الخلد -على الفرض الذي فرضه- شغله عنه. والأندلس مما يشار إليها بالفردوس المفقود وبالخلد وقال ابن خفاجة:
لله دركم يأهل أندلس
…
ماء ونبت وأشجار وأنهار
ما جنة الخلد إلا في دياركم
…
ولو تخيرت هذي كنت أختار
فقد سماها جنة الخلد كما ترى. وكان شوقي يعرف هذا من قوله، ومنه أخذ،
ومقال ابن خفاجة أقوى من مقال شوقي. وأحسبه أيضًا أخذ من قول أبي العلاء:
فيا وطني إن فاتني بك سابق
…
من الدهر فلينعم لساكنك البال
وإن أستطع في الحشر آتك زائرًا
…
وهيهات لي يوم القيامة أشغال
هذه الالتفاتة إلى أشغال يوم القيامة يروح من فكاهة وذكاء وفقه ضرير تحمل من تعلق أبي العلاء بحب بلدته أعماقًا بعيدة وفي خبر أشغال القيامة أنه {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} فكان هولًا على أبي العلاء أن يتخيل نفسه يفر من أمه وكانت أحب الناس إليه وما كان حنينه إلى وطنه إلا طرفًا من حبه لها- فتأمل عمق قوله: «وهيهات لي يوم القيامة أشغال» في نطاق هذا المعنى وما عسى أن يماثله.
قال شوقي:
وعظ البحتري إيوان كسرى
…
وشفتني القصور من عبد شمس
ومع الاشتفاء الشعور بالراحة والهدوء، بدأ شوقي بهذا الهدوء وبدأ البحتري بهموم وانفعال. وشتان بين المذهبين.
وبعيد ما بين وارد رفه
…
علل شربه ووارد خمس
خمس هنا بكسر الخاء قولًا واحدًا والأخرى بالفتح كما تقدم.
كان شوقي إذا أراد نظم قصيدة جمع قوافيها حتى يصيب من ذلك قدرًا يرضاه ثم ينظم ولا ملامة على شوقي أن تكون هذه طريقته، يستعين بها على الترنم، وهذا الخبر في جملته أفدناه من مصدر ثقة.
على أنه قد يقع في مثل هذه الطريقة شيء من تكلف الصنعة ومزلاتها.
وأوشك مارون عبود أن يتهم كل الشعراء بطريقة قريبة من مذهب شوقي، ولعله
كان يعلم من بعض أمر شوقي في هذا الصدد، وذلك أنه قال في بعض ما كتب يوصي الشاعر بأن ربك القاموس فاعبده.
تعمد شوقي مجاراة البحتري في حالة هدوء وصناعة ورياضة قواف. وقد حكك وجود ما شاء إلا أنه لا يعجبني قوله:
ورهين الرمال أفطس إلا
…
أنه صنع جنةٍ غير فطس
وله مثابة في شدة تعب العمل ورشحه -ومع ذلك استعانات مرهقات بعبارات وألفاظ من أبي عبادة نحو:
وبساط طويت والريح؟
ونحو:
وعلى الجمعة الجلالة والنا
…
صر نور الخميس تحت الدرفس
فما زاد على أن جعل الناصر مكان أنو شروان- وفاته جملة المعنى الذي ذكر الإجماع على أنه بديع فرد.
ونحو:
مرمر تسبح النواظر فيه
…
ويطول المدى عليها فترسى
وهو كالتكرار لاستعانته قبل بقوله:
أين ماء السماء ذو الموكب الفخـ
…
ـم الذي يحسر العيون ويخسي
ونحو:
جلل الثلج دونها رأس شيري
…
فبدا منه في عصائب برس
وشيري أراد به جبل الشرف المطل على حمراء غرناطة ويسميه الإفرنج
سيرانوادا- وأخذ شوقي من قول البحتري:
لا بسات من البياض فما تبـ
…
ـصر منها إلا فلائل برس
فجعل عصائب مكان فلائل ونحو:
لم يرعني سوى ثرى قرطبي
…
لمست فيه عبرة الدهر خمسي
فهذا من «لم يعبه أن بزمن بسط الديباج» أخذ شوقي إيقاع «لم يعبه» فجعل مكانه «لم يرعني» وأبي البحتري إلا أن يفرض نفسه عليه فرضًا فترجم قوله: «تتقراهم يداي بلمس» في عجز هذا البيت حيث قال: «لمست فيه عبرة الدهر خمسي» . ونحو:
بلغ النجم ذروة وتناهي
…
بين ثهلان في الأساس وقدس
فهذا بيت رضوى وقدس واستحيا شوقي من رضوى فجعل كلا الجبلين نجديين وكأن شوقيًّا كان يعجبه بيت «تتقراهم يداي بلمس» فكرر الأخذ منه في قوله:
ومكان الكتاب يغريك ريا
…
ورده غائبًا فتدنو للمس
والموازنة بين السينيتين بعد تكلف وعناء وما أراه حكمًا شططًا أن زعم زاعم أن شوقي رحمه الله ما عدا أن أخلى بعد قوله:
اختلاف الليل والنهار ينسي
…
اذكر إلي الصبا وأيام أنسي
وهو المطلع ونحن ننتظر ذكر الصبا وأيام الأنس فلا نصيب من ذلك طائلًا والبيت الذي بنيت عليه القصيدة:
وعظ البحتري إيوان كسرى
…
وشفتني القصور من عبد شمس
ما كان إلا ترنمًا ورياضة قول.
شتان ما هدوء السائح الشرقي ببلاد الإفرنج في القرن العشرين من حال شاعر كان جليس الخليفة ثم صار مجفوًا- أو كما قال في كلمته التي خاطب بها أبا العباس محمد بن يزيد المبرد:
مضى جعفر والفتح بين مرمل
…
وبين صبيغ بالدماء مضرج
أأطلب أنصارًا على الدهر بعدما
…
ثوى منهما في الترب أوسي وخزرجي
أولئك ساداتي الذين برأيهم
…
حلبت أفاويق الربيع المثجج
مضوا أممًا قصدًا وخلفت بعدهم
…
أخاطب بالتأمير والي منبج
بعد أن كان يخاطب بالكاف الفتح ونظراءه فتأمل.
وقد حذا البحتري في بحر السينية وروبها على مثال من كلمة أبي العباس الأعمى وما أصبنا منها إلا أبياتًا في أغاني أبي الفرج:
ليت شعري أفاح رائحة المسـ
…
ـك وما إن أخال بالخيف أنسي
حين غابت بنو أمية عنه
…
والبهاليل من بني عبد شمس
خطباء على المنابر فرسا
…
ن عليها وقالة غير خرس
لا يعابون صامتين وإن قا
…
لوا أصابوا ولم يقولوا بلبس
بحلوم إذا الحلوم تقضت
…
ووجوه مثل الدنانير ملس
والكلمة في مدح بني أمية لإرثائهم على أن أبا العباس هذا كان في أخريات دولتهم وفي رنة أبياته كنبأة كشف غيبي عن نهايتهم- وقول البحتري:
وهو ينبيك عن عجائب قوم
…
لا يشاب البيان فيهم بلبس
فيه نظر إلى «ولم يقولوا بلبس» وكالإشارة إليه إذ هذا الشعر قد كان معروفًا عند طبقة البحتري ونظرائه من أهل العلم والأدب وبين الأخذ والسرق والإشارة فرق.
وأحسب شاعر بني العباس نظر إلى أبيات أبي العباس الأعمى هذه حيث قال:
أصبح الملك ثابت الأساس
…
بالبهاليل من بني العباس
كأنه ينقض به: «والبهاليل من بني عبد شمس» .
وشيء من روح هذا النقض في كلام البحتري إذ سينيته مضمنة معنى الرثاء لخليفة من بني العباس، جعلهم لا يشاب البيان فيهم بلبس كما قال شاعر بني أمية عنهم «لم يقولوا بلبس» .
وقول أبي العباس الأعمى:
ليت شعري أفاح رائحة المسـ
…
ـك وما إن أخال بالخيف أنسي
فيه نفس من قول شاعر آل الزبير وهو ابن قيس الرقيات:
ليت شعري أأول الهرج هذا
…
أم زمان من فتنة غير هرج
والنفس إيقاعي كما ترى، ومن شاهده بعد «ليت شعري» الهمزة وتوازن المسك والهرج ومذهب السؤال.
وهل نظر ابن قيس الرقيات إلى كلمة أبي طالب في الجاهلية:
ليت شعري مسافر ابن أبي عمـ
…
ـرو وليت يقولها المحزون
والسؤال آت من بعد ومسافر ابن أبي عمرو من بني أمية، كان لأبي طالب صديقًا وانظر خبره في الأغاني.
هذا، وقد عاصر البحتري شاعران كبيران فضل ابن رشيق أحدهما على الطائيين في الصنعة البديعية وفضل الآخر عليهما في الغوص على المعاني ولكنه فعل ذلك بنوع ضعيف. فهل كان يصانع به سيده أبا الحسن؟
أما صاحب الصنعة والبديع فهو الأمير والخليفة السيء الحظ عبد الله بن المعتز (247 - 296 هـ) وشعره شديد النظر إلى أبي تمام وقد كان له مقدمًا أيما تقديم- فمن أمثلة اقتدائه به قوله في أول قصيدة له:
أي رسم لآل هند ودار
…
درسًا غير ملعب ومنار
وأثاف بقين لا لاشتياق
…
جالساتٍ على فريسة نار
أراد به الرماد والاستعارة حبيبية المذهب كما ترى:
ومنها (1):
أيا سدرة الوادي على المشرع العذب
…
سقاك حيًّا حي الثرى ميت الجدب
كذبت الهوى إن لم أقف أستكي الهوى
…
إليك وإن طال الطريق على صحبي
هذا المعنى على قدم أصول حبيبي، إذ قد ألح حبيب على الوقوف بالديار وحبس صحبه بها.
وقفت بها والصبح ينتهب الدجى
…
بأضوائه والنجم يركض في الغرب
أصانع أطراف الدموع فمقلتي
…
موقرة بالدمع غربًا على غرب
فهذه الأبيات ما خلا بيت منها من طريقة حبيبية- مقلة موقرة بالدمع. مصانعة أطراف الدموع. انتهاب الصبح الدجى بأضوائه.
وتأمل قوله:
بنت شريرة عنك إذ بانوا بها
هذا التعليل ورد أطراف الكلام بعضه على بعض مذهب حبيبي- زار الخيال لها لا بل أزاركه وهلم جرا
…
(1)(*) أي من الصنعة.
بانت شريرة عنك إذا بانوا بها
…
واستخلفت في مقلتيك خيالًا
كم كان المسكين يحلم بالخلافة.
بيضاء آنسة الحديث كأنها
…
قد أشعلت من حسنها إشعالًا
في وجهها ورق النعيم ملا العيو
…
ن ملاحة وظرافة وجمالا
وفي التعريض ببعض الأعداء والحساد من هذه القصيدة:
قوم هم كدر الحياة وسقمها
…
عرض البلاء بهم علي وطاللا
يتأكلون ضغينة وخيانة
…
ويرون لحم الغافلين حلالا
وهم فراش السوء يوم ملمة
…
يتهافتون تعاشيا وخبالا
وهم غرابيل الحديث إذا دعوا
…
شرا تقطع منهم أوسالا
صرفت وجوه اليأس وجهي عنهم
…
وقطعت منهم خلة ووصالا
أليس هذا كله نفس أبي تمام- حتى في صرف وجوه اليأس.
ووهبتهم للصرم وابتل الثرى
…
ووجدت عذرًا فيهم ومقالا
ولقد أجاري بالضغائن أهلها
…
وأكون للمتعرضين نكالا
ولا يستنكر على ابن المعتز نعت الخيل والبساتين -وقد يكون أراد ان يحاكي امرأ القيس فيجمع بين نعت الخيل والرياض والمطر، غير أنه حتى في هذا لم يسلم من أثر أبي تمام عليه، ولا سيما في وصف المطر إذ هو مما أجاد فيه أبو تمام وقد استسهل به بعض قصائده مكان النسيب، كما في كلمته البائية:
ديمة سمحة القياد سكوب
…
مستغيث بها الثرى المكروب
وقد جاء ابن المعتز بنعت المطر في قصائد وفي أراجيز كما صنع أبو تمام مثل:
وسارية لا تمل البكا
…
جرى دمعها في خدود الثرى
سرت تقدح الصبح في ليلها
…
ببرق كهندية تنضى
فلما دنت جلجلت في السما
…
ء رعدًا أجش كجر الرحى
ضمان عليها ارتداع اليفاع
…
بأنوارها واعتجار الربى
فالارتداع هو التضميخ بردع الطيب، والاعتجار هو لبس العمامة، فكأن جوانب الأودية والأهضام أكمام من قميص عليها ردع الخلوق ولونه اصفر وكأن الربى قد اعتجرت بعمائم من النبت والزهر، وهذا من قول أبي تمام:
حت تعمم صلع هامات الربا
…
من نبته وتأزر الأهضام
ومن نعوت الرائية:
رقت حواشي الدهر فهي تمرمر
…
وغدا الثرى في حليه يتكسر
وإلى بيت «تريا نهارًا شابه إلخ» نظر ابن المعتز في قوله:
في ليلة مقمرة بالزهر
من أرجوزته التي مطلعها:
وليلة من حسنات الدهر
…
ما ينمحي موضعها من ذكر
ولابن المعتز أراجيز ملاح ومزدوجة حاكى بطريقة عرضها الأحداث بغدادية أبي يعقوب الخريمي.
ولابن المعتز شعر تناول فيه السياسة وهجاء لبني عمومته الطالبيين ينكر عليهم حقهم في الخلافة بدعوة إرث النبي صلى الله عليه وسلم من طريق العباس، والملك بيد مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء.
وما يزيد غضب ابن المعتز على امتعاضة مترف. ولله در أبي الطيب إذ يقول:
توهمها الأعراب سورة مترف
…
تذكره البيداء ظل السرادق
وقد كان ابن المعتز ذا فضل وعلم وملكة ولكن حر بداوة الشعر لم يكن ممن يقدرون على توسط صيهوده مع أبي تمام.
كان ناعم الشعر مترف روحه مفرطًا في لين الحضارة حتى حين يركب مذهبًا جاهليًّا من رنة الإيقاع وقوة اللفظ- كما في جيميته:
حث الفراق بواكر الأحداج
وفيها يقول:
بل مهمة عافى المناهل قاتم
…
قطعته بمواعس معاج
حتم على الفلوات يطوي بعدها
…
بالنص والإرمال والإدلاج
ممتد أنبوب الجران كأنه
…
من تحت هامته نحيتة ساج
وإذا بدا تحت الرحال حسبته
…
متسربلًا ثوبًا من الديباج
صدق السرى حتى تعرف واضح
…
كالقرن في خلل الظلام الداجي
في ليلة أكل المحاق هلالها
…
حتى تبدي مثل وقف العاج
والصبح يتلو المشتري فكأنه
…
عريان يمشي في الدجى بسراج
حتى استغاث من الشروق بمنهل
…
فيه دواح من قطًا أفواج
وكأن رحلي فوق أحقب لاحه
…
لفح الهجير بمشعل أجاج
الأحقب الحمار الوحش. لاحه غيره. أجاج بتشديد الجيم أي متقد. وقد يعلم القارئ الكريم أصلح الله خبر ابن الرومي إذ أنشد قول ابن المعتز يصف هلال شوال:
أهلا بفطر قد أنار هلاله
…
فالان فاغد إلى الدام وبكر
وانظر إليه كذورق من فضة
…
قد أثقلته حمولة من عنبر
فقال ما معناه أنه يصف ماعون بيته.
وقد تراه وهو في قافية جرير وبحره:
هاج الهوى بفؤادك المهتاج
ومع الجاهلية بأحقبه وأجاجه- ومع ذلك فرقبة البعير (جرانه) نحيتة ساج (وهو خشب جيد يجلب من الهند وأحسبه الذي نقول له الآن تيك) وكأنه -أي البعير- متسربل ثوبًا من الديباج. فهو كما ترى بين البعران أمير- ولله در الأعرابي البدوي القح حقًّا إذ يقول فأراك فرق ما بين الديباج والبعير:
تالله على النوم على الديباج
…
على الحشايا وسرير العاج
مع الفتاة الطفلة المغناج
…
أفضل يا عمرو من الإدلاج
وزفرات البازل العجاج
وكأن الصبح شخص مبتلعه الظلام وفي يده سراج. صورة جميلة لمنظر الفجر الأول وهو الذي يقال له ذنب السرحان، دقيقة جدًّا- ولكنها من ماعون بيته. هذا الخادم او هذه الجارية التي جردها وفي يدها سراج تسعى به في الدجى. الصورة منتزعة ممن له عهد بسرج يسعى إليه بها في ظلام الدجى. ثم هذا التجريد لمجرد إكمال التشبيه إذ بعيد أن يجرد امرؤ في «وقع الحياة» ويسعى بسراج.
وهذا الهلال المحاقي كأنه سيوار عاج -هذا أيضًا من ماعون بيته إذ الفيل والعاج كل ذلك كان مما لا يستطيعه إلا أهل الترف. فيه دواح أي ذوات أداح ولعلها أداح إذ الخطأ والتحريف كثير في هذه الطبعة. وقوله «حتى استغاث إلخ» أخذه من قول زهير:
حتى استغاثت بماء لا رشاء له
…
من الأباطح في حافاته البرك
كما استغاث بسيء فز غيطلة
…
خاف العيون فلم ينظر به الحشك
وهي أبيات مشهورة:
وما أشبه نعومة ابن المعتز بنعومة الوليد بن يزيد. إلا أنه كان أقعد في الفضل. وكان الوليد فاسقًا. ومع هذا كأن له بكاء ولد صغير مدلل في الأبيات التي صرخ بها لما عاين الموت:
دعوا لي هندًا والرباب وفرتني
…
ومسمعة حسبي بذلك مالا
خذوا ملككم لا بارك الله ملككم
…
فليس يساوي عند ذاك قبالا
وخلوا سبيلي قبل عير وما جرى
…
ولا تحسدوني أن أموت هزالا
وقد أبوا أن يخلوا سبيله.
ومن أدل شعر ابن المعتز على ما قد يتأتى له من الجودة أبياته الرائية:
سقى المطيرة ذات الظل والشجر
…
ودير عبدون هطال من المطر
فطالما نبهتني للصبوح بها
…
في غرة الفجر والعصفور لم يطر
أصوات رهبان دير في صلاتهم
…
سود المدارع نعارين بالسحر
مزنرين على الأوساط قد جعلوا
…
هذا الرؤوس أكاليلا من الشعر
كم فيهم من مليح الوجه مكتمل
…
بالسحر يطبق جفنيه على حور
لاحظته بالهوى حتى استقاد له
…
طوعًا وأسلفني الميعاد بالنظر
وجاءني في قميص الليل مستترا
…
يستعجل الخطو من خوف ومن حذر
فقمت أفرش خدي في الطريق له
…
ذلًّا وأسحب أذيالًا على الأثر
ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا
…
مثل القلامة قد قدت من الظفر
فكان ما كان مما لست اذكره
…
فظن خيرًا ولا تسأل عن الخبر
قوله دير عبدون، أقول عسى أن يكون ذكر هذا الاسم وترنم به مما حدا ابن عبدون الوزير أن يركب هذا البحر والروي في مرثيته لبني الأفطس. وصفة الرهبان كما ترى حية جيدة منبئة بمشاركة من تجربة رؤيتهم وسماع نشيد صلواتهم. وقوله كم فيهم ظاهره وصف عام ولكن البيت الذي بعده فيه تخصيص، فإن يكن عني غلامًا فقد صدق جان جاك روسو في الذي وصف من عمل أهل القريات في أديرة اعترافاته (عند براتراند رسل أن جان جاك ما بنى اعترافاته إلا على أساس من قلة احترام للصدق وفي هذا من التحامل ما لا يخفى). وآخر كلام ابن المعتز ينبئ عن صفة أنثى وهو قوله وأسحب أذيالًا على الأثر. وقوله لاحظته بالهوى حتى استقاد له من معنى أبي تمام «له رسفان في قيود المواعد» أعني قوله «واأسلفني الميعاد» وأبى الأخذ من أبي تمام إلا أن يبدي صفحته في كلمة استقاد المستفادة من الرسفان كما ترى. وقوله في قميص الليل من قول حبيب:«حتى كأن جلابيب الدجى» ولا يعني غلالة النوم -هذا واضح). وقوله وقمت أفرش معنى ظريف كان متداولًا وذكره صاحب الأغاني عن أبي السائب المخزومي فإن صحت روايته فهذا أصل ما قاله ابن المعتز. يقول يسير المحبوب بقدميه على خدي المفروش لهما دربًا. وأنا أمسح بذيل ثيابه آثار قدميه على خدي لكيلا يراها الناي. فتأمل هذه النعومة وهذا الترف. وقوله «ولاح ضوء هلال» ينظر إلى قول عمر «وغاب قمير» والموصوف ههنا هلال ليلة محاق ولكن قمر عمر من ليالي أوائل الشهر. وإنما أراد ابن المعتز معنى اقتراب الصبح لأضواء الهلال الذي قد اضمحل. وتأمل ضادي الصدر وحائية وقافات العجز ودالاته وكأن دال المصراع الأول تمهد لأخواتها في الثاني وكأن الظاء التي في القافية صدى من ضادي صدر البيت. والبيت الأخير حلو فيه ملاحة وأنفاس عفاف وأحسب هذا المعنى مما جعل بعض المتصوفة يستحسنونه، والله أعلم.
أما صاحب المعاني والغوص فهو أبو الحسن علي بن العباس بن جريج الرومي (221 - 282 هـ). ابن الرومي أسن من ابن المعتز بستة وعشرين عامًا. وقد جعل العقاد هذا سببًا كافيًّا يستبعد به أن يكون ابن الرومي أخذ شيئًا عن ابن المعتز، أو كما قال:«وقد ولد ابن المعتز في سنة سبع وأربعين ومائتين فلما أيفع وبلغ السن التي يقول فيها الشعر كان ابن الرومي قد جاوز الأربعين أو ضرب في حدود الخمسين، ولما نبغ واشتهر له كلام يروى في مجالس الأدباء كان ابن الرومي قد أوفى على الستين وفرغ من التعلم والاقتباس» .
فهذا موضع استشهادنا. ثم يقول العقاد رحمه الله وهو من استنتاجاته التي يجزم بها ويوردها مورد الحتميات: «ولو انعكس الأمر وكان ابن المعتز هو السابق في الميلاد لما أخذ منه ابن الرومي شيئًا ولكان أفسد سليقته بالأخذ عنه؛ لأن ابن المعتز إنما امتاز بين شعراء بغداد في عصره بمزاياه الثلاث وهي البديع والتوشيح والتشبيه بالتحف والنفائس، وابن الرومي لم يرزق نصيبًا معدودًا من هذه المزايا ولم يكن قد من أصحاب البديع وأصحاب التوشيح أو أصحاب التشبيهات التي تدور على الزخرف وتستفيد نفاستها من نفاسة المشبهات» أ. هـ. «ابن الرومي حياته من شعره، بقلم عباس محمود العقاد، مصر، الطبعة الرابعة 1957 م ص 248 - 249» (1).
والبحتري أسن من ابن الرومي بقريب مما ابن الرومي أسن به من ابن المعتز. البحتري مولده كان سنة 205 ووفاته 284 بلغ الثمانين أو قاربها. وينبغي أن يكون قد اشتهر وطبق ذكره الآفاق لما شب ابن الرومي، إذ ممدوحه ورب نعمته المتوكل توفي قتيلًا سنة 247 هـ، وهو ابن اثنتين وأربعين وابن الرومي ابين ست وعشرين ولم يزل في أوج الشباب. والعجب للعقاد لم يجعل هذا مما يحرس البحتري
(1)() الطبعة الثانية- مصر المكتبة التجارية نفس الصفحات.
أن يكون أخذ من ابن الرومي كما جعله حارسًا لابن الرومي أن يكون أخذ عن ابن المعتز. ثم كما ترى، قد زعم أن اختلاف مذهبي ابن الرومي وابن المعتز مما يعدو عن الأخذ وأن ابن الرومي لو أتيح له الأخذ عن ابن المعتز -جدلًا- لكان ذلك قد أفسد عليه سليقته. ومع هذا لم يجعل اختلاف المذهبين في الشعر مانعًا للبحتري أن يأخذ من ابن الرومي، بل زعم أنه قد أخذ ولم ينفعه ذلك بزيادة في اتقان ما نبغ فيه، كأنه يتهمه في هذا الوجه بقصور ما في ملكته أو كما قال:(ص 247 نفسه)«عرف ابن الرومي البحتري، وابن الرومي شاعر مشهور بالافتنان في المعاني والقدرة على الهجاء. وكان البحتري يحب مجاراته في بعض قصائده فقال له في أول لقاء بينهما أنه عزم على أن يعمل قصيدة على وزن قصيدته الطائية في الهجاء فنهاه ابن الرومي عن ذاك لأنه ليس من عمله فإذا كان بينهما اقتباس أو معارضة فالبحتري هو المقتبس وهو الراغب في المعارضة» .
قلت هذا موضع الشاهد على ما قدمناه. ثم يقول العقاد رحمه الله «على أننا لا نخاله» -يعني البحتري- «استعار من ابن الرومي شيئًا يزيد في مذهبه الذي نبغ فيه لأنهما نمطان متباينان، ولكل منهما اعتداد بنفسه يكفيه ويغنيه» . أ. هـ.
غلا العقاد رحمه الله في أمر ابن الرومي. وما أحسبه، والله أعلم بسرائر النفوس وهو عليم بذات الصدور، خلا من أن يكون تقمص بعض أمر ابن الرومي لنفسه، وتبحتر له بذلك بعض أمر خصومه هو ولعلما تصور لونًا في البحتري من شوقي، وهذا قد جارى السينية كما تقدم، فخالط بهذا نقد العقاد وموازنته بين لبن الرومي والبحتري جانب عاطفي، وآفة الرأي الهوى.
من غلو العقاد رحمه الله في ابن الرومي قوله: «فلست أعرف فيمن قرأت لهم من مشارقة ومغاربة أو يونان أقدمين وأوربيين محدثين شاعرًا واحدًا له من الملكة المطبوعة في التصوير ما كان لابن الرومي في كل شعر قاله مشبهًا أو حاكيًّا على قصد
منه أو على غير قصد؛ لأنه مصور بالفطرة المهيأة لهذه الصناعة، فلا ينظر ولا يلتفت إلا تنبهت فيه الملكة الحاضرة أبدًا، وأخذت في العمل موفقة مجيدة سواء ظهر عليها أو سها عنها كما قد يسهو المصور وهو عامل في بعض الأحايين» ص 300 نفسه «واستشهد العقاد بأبيات سنعرض لبعضها إن شاء الله ومكان الغلو نفيه أن يكون لم يعرف شاعرًا واحدًا له من الملكة المطبوعة إلى آخر ما قال فالمعلقات وقد كان يعرفها أحفل بالصور المطبوعة والمصنوعة ذات الحيوية الباهرة من جميع ما صوره ابن الرومي. وقد قتل النقاد القدماء ابن الرومي درسًا وبحثًا فكان غاية ذلك أن اتفقوا على أنه هجاء خبيث وأنه كان صاحب غوص على المعاني وقدمه في هذا الباب ابن حزم صاحب طوق الحمامة والملل، وجنح إلى تقديمه فيه ابن رشيق ثم تردد وعندنا أن تردده هذا هو المنبئ عن حقيقة رأيه، ولم نجد أحدًا من النقاد القدماء قدمه على البحتري في الوصف والتصوير. وقد أضرب صاحب المثل السائر عنه كما أضرب عن كثير غيره لما حصر حسنات الشعر كلها في ولاته وعزاه ومناته وهم حبيب والوليد وأحمد، وما كان مع هذا ممن يجهل قدر ابن الرومي أو يقصد إلى أن ينقص من قدره، ولكنه قد وجد إجماع النقاد على ذلك قد انعقد.
مما تمثل به العقاد لتصوير ابن الرومي وصفة الرقاقة:
ما بين رؤيتها في كفه كرة
…
وبين رؤيتها قوراء كالقمر
إلا بمقدار ما تنداح دائرة
…
في صفحة الماء يرمي فيه بالحجر
التشبيه دقيق ذكي وقد نبهنا على أنه من قول زهير:
يحيل في جدول تحبو ضفادعه
…
حبو الجواري ترى في مائه نطقا
هنا صورة القابل الذي يستقبل دلاء السانية كلما قدرت يداه تناولها ودفقها وكلما دفق اندفع الماء فاستدار طرائق وانتسج. رأى ابن الرومي خبازًا يتناول عجينة ويلقيها فتندفق طرائق طرائق متتابعات فنقل وصف زهير كله إلى ههنا.
وبقيت من وصف زهير صورة الضفادع يحبون كحبو الجواري في لعبهن وهن يتساببن على النحو الذي رواه أبو تمام:
سبي أبي سبك لن يضيره
ولا تزال صور من نحو هذا الحبو باقية ولها مشابه عند سائر الأمم. ومما تمثل به صفة حقل الكتان:
وجلسٍ من الكتان أخضر ناعم
…
توسنه داني الرباب مطير
إذا درجت فيه الشمال تتابعت
…
ذوائبه حتى يقال غدير
وحسن الصورة ههنا في حركة الشمال وتتابع الذوائب، أما التشبيه بالغدير فمن معنى انتساج الريح، وقد شبهت الشعراء الغدير الذي تنسجه الريح بالدرع وشبهت الرمل إذ نسجته الريح بالثوب فما عدا ابن الرومي أن نقل من هناك فجعل المنسوج بالريح غديرًا كما جعل الغدير من قبل منسوجًا- قال البحتري في بركة المتوكل:
إذا علتها الصبا أبدت لها حبكا
…
مثل الجواشن مصقولًا حواشيها
وقد أخذ ابن الرومي وصفة الحقل من ذي الرمة حيث قال في الخزامي:
كأنها من خزامي الخرج حركها
…
من نفخ سارية لوثاء تهميم
ويروي «من خزامي الرمل» والخرج موضع خصب بناحية الرياض من أرض نجد، وحركة الخزامي والريح والسارية اللوثاء، ورشها ههنا واضحة حية.
وقال ذو الرمة:
أو نفحة من أعالي حنوة معجت
…
فيها الصبا موهنًا والروض مرهوم
أخذ الرومي ذوائب كتانه من أعالي حنوة غيلان وجاء بدرجت مكان
معجت، وحركة الأعالي المتتابعة ينبئ عنها مع «معجت وأعالي حنوة» قوله أول البيت «أو نفحة» فالأعالي تحركت ونفحت طيبها من أجل معج الصبا فيها ونفحها لها ثم أعطاك صورة الروض كله ورذاذ المطر هام رقيقًا طلا رشا عليه- ومع أن الصورة ليلية في ظاهر المعنى القريب إلا أن ذا الرمة إنما عني حالها أول الصبح، إذ على ذلك بني روح تشبيهه، أن ريق خرقاء بعد انقضاء الكرى، هكذا صفة طيبه كما تكون حال الروضة بعد أن نفحت فيها الصبا وهمي تهميم المطر وأصبحت يتنفس عليها الصباح.
الصورة جلية واضحة وذو الرمة قد كان للمحدثين أستاذًا.
وقال ابن الرومي وهو مما تمثل به العقاد رحمه الله:
ويجور الخريف وهو ربيع
…
وتسور المياه في العيدان
وهذا فيه أخذ عكسي من قول ذي الرمة:
أقامت به حتى ذوي العود في الثرى
…
وساق الثريا في ملاءته الفجر
فصورة المياه في العيدان عكس لذوي العود في الثرى.
واستشهد على وصف الحركة البطيئة بقول ابن الرومي في سير السحائب:
سحائب قيست بالبلاد فألفيت
…
غطاء على أغوارها ونجودها
حدتها النعامي مثقلات فأقبلت
…
تهادي رويدًا سيرها كركودها
ووصف السحائب والمطر عند القدماء كثير وما عدا ابن الرومي الأخذ منه فأول قوله هذا من كلمة امرئ القيس:
ديمة هطلاء فيها وطف
…
طبق الأرض تحري وتدر
طبق الأرض هو عين قوله: غطاء على أغوارها ونجودها.
وبيت عبيد أو أوس:
دان مسفٌ فويق الأرض هيدبه
…
يكاد يلمسه من قام بالراح
من الوصف السائر وإليه نظر بيت ابن الرومي الثاني ونسب العقاد إلى ابن الرومي براعة التشخيص وأفرد لذلك فصلًا (ص 296) والتشخيص في العربية كثير، ومكان أبي تمام -من بين المحدثين فيه لا يخفى، وبه اقتدى ابن الرومي وكان شديد الاتباع لطريقته في المعاني ولذلك ووزن بينهما عند بعض النقاد فيما بعد، كالذي صنع ابن رشيق في العمدة، وتأمل قوله يصف الغيث والروض:
ديمة سمحة القياد سكوب
…
مستغيث بها الثرى المكروب
لو سعت بقعة لا عظام فعمي
…
لسعي نحوها المكان الجديب
لد شؤبوبها وطاب فلو تسـ
…
ـطيع قامت فعانقتها القلوب
فهي ماء يجري وماء يليه
…
وعزال تنشى وأخرى تذوب
كشف الروض رأسه واستسر
…
المحل منها كما استسر المريب
وهذا ذروة في التشخيص والتجسيد وما خلا بيت قبله من تجسيد.
واستشهد العقاد على إحسان ابن الرومي عامة في التصوير بنونيته في المهرجان قال (ص 302 نفسه) «وبودنا أن نثبت الآن قصيدة المهرجان النونية برمتها لأنها نموذج واف لشعر ابن الرومي في هذا الباب ولكنا نجتزئ منها بما يأتي وفيه الدلالة الكافية على هذه الملكة النادرة قال:
يمن الله طلعة المهرجان
…
كل يمن على الأمير الهجان
مهرجان كأنما صورته
…
كيف شاءت مخيرات الأماني
وأديل السرور واللهو فيه
…
من جميع الهموم والأحزان
لبست فيه حفل زينتها الدنيا
…
وزافت في منظر فتان (1)
وأزلت من وشيها كل برد
…
مكان قد ما تصونه في الصوان
وتبدت مثل الهدي تهادى
…
رادع الجيب عاطل الأبدان
فهي في زينة البغي ولكن
…
هي في عفة الحصان الرزان
كادت الأرض يوم ذلك تفشى
…
سر بطنا نها إلى الظهران
وتعود الرياض مقتبلات
…
ناعمات الشكير والأفنان
زخرفت يوم نعمة حجرات
…
جد موطوءة من الضيفان
حجات ميممات بناها
…
من فضول المعروف أكرم بان
لم يكن يقتني المساكن حتى
…
يتقن المجد أيما إتقان
فأذيلت فيها تهاويل رقم
…
قائمات بزينة المردان
ثم قام الكماة صفين من كـ
…
ـل عظيم في قومه مرزبان
كلهم مطرق إلى الأرض مغض
…
وعلى سيفه هنالك حان
وتجلى على السرير جبين
…
ذو شعاع يحول دون العيان
يمكن العين لمحةً ثم ينهى
…
طرفها عن إدامة اللحظان
فله منه حاجب قد حماه
…
كل عينٍ ترومه بامتهان
فاستوى فوق عرشه بوقار
…
وبحلم من الحلوم الرزان
ثم قام الممجدون مثولًا
…
ضاربين الصدور بالأذقان
ليس من كبرياء فيه ولكن
…
كل وجه لذلك الوجه عان
فثنوا سؤود الأمير وعدوا
…
فيه آلاءه بكل لسان
حين لم يحشموا التزيد لا بل
…
ما تعدوا ما حصل الكاتبان
(1)() زافت بالفاء الموحدة لا القاف وهو خطأ مطبعي.
فقضوا من مقالهم ما قضوه
…
ثم آبوا بالرفد والحملان
بعد ما أرتعوا الأنامل فيما
…
لا تعداه شهوة الشهوان
من خوان كأنه قطع الرو
…
ض وإن كان في مثال خوان
فوقه الطير والصحاف وحاشى
…
ذلك الطير من جفاء الجفان
ثم سام الأمير سوم الملاهي
…
وخلا بالمدام والندمان
وقيان كأنها أمهاتٌ
…
عاطفات على بنيها حوان
مطفلات وما حمان جنينا
…
مرضعات ولسن ذات لبان
ملقماتٌ أطفالهن ثديا
…
ناهدات كأحسن الرمان
مفعمات كأنها حافلاتٌ
…
وهي صفرٌ من درة الألبان
كل طفل يدعى بأسماء شتى
…
بين عود ومزهر وكران
أمه دهرها تترجم عنه
…
وهو بادي الغنى عن الترجمان
أوتي الحكم والبيان صبيًّا
…
مثل عيسى بن مريم ذي الحنان
لو تسلى به حديثة رزء
…
لشفي داء صدرها الحران
عجبًا له كيف يسلي ويلهي
…
مع تهييجه على الأشجان
فترى في الذي يصيخ إليه
…
أمرات المحزون والجذلان
فتأمل فهل ترى في وسع المصور القدير أن يلتفت إلى لون أو ظل أو شكل أو خط أو حركة في المهرجان لم يلتفت إليها ابن الرومي في هذه القصيدة؟ وتأمل الشاعر هل تراه في قصيدته إلا كما قلنا في بعض مقالاتنا، كالرسام الذي بسط أمامه لوحته وأقبل على الوجوه والأشكال يتفرسها ويطيل النظر إلى ملامحها وإشارتها وما تشف عنه من المعاني، وتشير إليه من الدلائل ويراقبها في التفاتاتها ومواقفها وحركاتها لينثني بعد ذلك إلى لوحته فيثبت عليها ما توارد على بصره
وقريحته من الألوان والمعارف والهيئات إلى آخر ما قاله ص 305 - 306 أ. هـ.».
أول شيء ينبه عليه أن المتوكل قتل سنة 247 هـ وقد كان البحتري نظم في مدحه وصفات قصور ومجالسه ما نظم وكل ذلك قد اشتهر ورواه أهل الأدب، وكان المبرد مثلًا عامر المجلس بالطلاب، وكان ينبه طلابه لمحاسن البحتري، وكان له صديقًا وبه معجبًا. وكان ابن الرومي آنئذ في قريب من السن التي زعمها العقاد لابن المعتز إذ كان هو في الأربعين أو حدود الخمسين كان ابن الرومي آنئذ حدثًا لا ينكر على مثله الأخذ والتقليد، ولقد قال البحتري:
حتى طلعت بنور وجهك فانجلت
…
تلك الدجى وانجاب ذاك العثير
وملك الملوك، أي المتوكل كما كان يسميه ابن ابنه عبد الله بن المعتز، حي مهيب وكذلك قال البحتري:
ولما حضرنا سدة الإذن أخرت
…
رجالٌ عن الباب الذي أنا داخله
الأبيات التي مر ذكرها قريبًا، والفتح والمتوكل كلاهما حي وابن الرومي ابن ست وعشرين وأبيات ابن الرومي:
وتجلي على السرير جبين
…
ذو شعاع يحول دون العيان
يمكن العين لمحة ثم ينهي
…
طرفها من إدامة اللحظان
فله منه حاجب قد حماه
…
كل عين ترومه بامتهان
مأخوذات أخذ تقليد ومحاكاة مما سبق أن قاله البحتري. وقول ابن الرومي «يحول دون العيان» تطويل لا طائل فيه بعد قوله «ذو شعاع» وأدركته وسوسته فاحتاج أو ظن ثم حاجةً إلى الشرح فشرح «يحول دون العيان» بقوله «يمكن العين لمحة» ولله در أبي العلاء إذ قال: «وأما ابن الرومي فهو أحد من يقال إن أدبه كان أكثر من عقله وكان يتعاطى علم الفلسفة» فمن شواهد ذلك هذا البيت
الذي نقل فيه إلى هذه الصياغة المتهافتة- تأمل قوله (ثم ينهي طرفها عن إدامة اللحظان) - قول الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} - هذا ولم يكن أبو العلاء بالمتحامل غير المنصف، يدلك على ذلك اعتذاره عن ابن الرومي في الذي ذكروه من تطيره حيث قال في رسالة الغفران:«وكان ابن الرومي معروفًا بالتطير ومن الذي أجرى على التخير؟ وقد جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار كثيرة تدل على كراهة الاسم الذي ليس بحسن مثل مرة وشهاب والحباب لأنه يتأوله في معنى الحية إلى آخر ما قال- ص 478 من رسالة الغفران» - ومن شواهد وسوسة ابن الرومي أيضًا هذا البيت الثالث، وكأنه قد وقع في وهم ابن الرومي أن معنى النهي عن إدامة اللحظان ينافي معنى المحبة لأن المحب يديم النظر، فكأنه أراد أن يحترس لهذا ويستثنى نظر الحب بزعمه أن هيبته تردع نظر كل عين ترومه بامتهان. وقد أساء ههنا من حيث أراد الإحسان، إذ زعم أن ثم اعينًا تريده عن قصد بامتهان فتحول هيبته دون مرادها. ولو قد فطن حقًّا لعلم أن الهيبة في ذات نفسها حجاب عام لا بد معه من علامة إذن كالابتسام مثلًا، كما قال الشاعر:
يغضى حياء ويغضى من مهابته
…
فما يكلم إلا حين يبتسم
فالمغضون هنا ما أغضوا لأنهم هموا بامتهان ولمن منهم من عسى أن يكون شديد الحب لمن أغضى عنه شديد الرغبة أن يديم إليه النظر وقول البحتري:
فسلمت واعتاقت جناني هيبة
…
تنازعني القول الذي أنا قائله
فلما تأملت الطلاقة وانثنى
…
إلي ببشر آنستني مخايله
جار على هذا المذهب مع التفصيل والتصوير النفسي الدقيق، وقد كان البحتري بلا ريب عالمًا بأمر لقاء أولى المهابة ممارسًا له.
ووصف ابن الرومي للدنيا أنها تزينت للمهرجان وتبدت مثل الهدي بفتح الهاء وكسر الدال وتشديد الياء بوزن فعيل أي العروس ثم بعد أن كانت هديًّا جعلها بغيًّا في قوله فهي في زينة البغي، ما عدا أن نقله من كثير في كلمته التي خاطب بها عمر بن عبد العزيز فقال:
وليت فلم تشتم عليًّا ولم تخف
…
بريًّا ولم تقبل إشارة مجرم
وصدقت بالفعل المقال مع الذي
…
أتيت فأمسي راضيًّا كلٌّ مسلم
ألا إنما يكفي الفتى بعد زيغه
…
من الأود الباقي ثقاف المقوم
كأن كثيرًا يعني بهذا أن بني أمية قد كانوا في زيغ وجور حتى جاء عمر بن عبد العزيز فأصلح من أمرهم فكان بمنزلة الثفاف الذي يقوم به، أود القناة أي اعوجاجها وكان عمر بن عبد العزيز بمنزلة المقوم الذي ثقافه يصلح ما كان من اعوجاج الفتى وعني به أمر بني أمية قبله كله وكان كثير يتشيع معروفًا له ذلك، ثم تنأتي الصورة التي أخذ منها ابن الرومي وإياها اتبع بلا فضل من زيادة:
وقد لبست لبس الهلوك ثيابها
…
وأبدت لك الدنيا بكف ومعصم
وتومض أحيانًا بعين مريضة
…
وتبسم عن مثل الجمان المنظم
وأوشك كثير ههنا أن يخرج إلى الغزل.
فأعرضت عنها مشمئزًا كأنما
…
سقتك مدوفًا من سمام وعلقم
وفي هذا البيت نوع من الكشف إذ قد مات عمر بن عبد العزيز مسمومًا فيما ذكروا والله تعالى أعلم.
وقول ابن الرومي:
كادت الأرض يوم ذلك تفشى
…
سر بطنانها إلى الظهران
وتعود الرياض مقتبلات
…
ناعمات الشكير والأفنان
الشكير عني به هنا شطوء النبات وأوائل ما يخرج من صغاره ويطلق أيضًا على أوائل الشعر والريش. وإنما حاكى ابن الرومي ههنا مذهب أبي تمام وكان له شديد الاتباع، وقد زعم العقاد أن ابن الرومي لم يكن من أصحاب البديع وما كان ما اشتهر به من الغوص والتوليد إلا من بحبوحة دار البديع وقد مر بك قبل أيها القارئ الكريم أمر مفاضلته بين النرجس والورد الذي إنما هو زخرف معنوي محض، وههنا في هذه النونية وصف القيان وسنعرض له بعد قليل إن شاء الله والذي حاكاه من أبي تمام رائيته:
رقت حواشي الدهر فهي تمومر
…
وغدا الثرى في حليه يتكسر
وقد مر الحديث عنها.
وقوله:
زخرفت يوم نعمه حجرات
…
جد موطوءة من الضيفان
لا يخفى تعب العمل فيه عند «جد موطوءة من الضيفان» .
وقوله: «ثم قام الكماة صفين» إلخ «كلهم مطرق إلخ» .
وقوله: ثم قام الممجدون صفوفًا- هذا جميعه من مقال البحتري في السينية حيث وصف صورة أنطاكية وعراك الرجال من مشيح بعامل رمح مليح بترس وحيث ذكر الوفود فقال «وكأن الوفود ضاحين حسرى» البيت. وقول ابن الرومي في الخوان عن الأمير ما عدا فيه مجاراة البحتري وهو من مشهور مقاله في المتوكل وهو في أوج مجده الشعري وقد بلغ أشده وبلغ أربعين سنة أو زاد أو دون ذلك بقليل وابن الرومي فويق العشرين بقليل.
نظروا إليك فقدسوا ولو أنهم
…
نطقوا الفصيح لكبروا ولهللوا
حضروا السماط فكلما راموا القرى
…
مالت بأيديهم عقول ذهل
تهوى أكفهم إلى أفواههم
…
فتحيد عن قصد السبيل وتعدل
متحيرون فباهت متعجب
…
مما رأى أو ناظر متأمل
وإنما اضطربت أيدي وفد الروم لن الطعام أجود مما اعتادوا وأشهى وأدسم. وتأمل قول البحتري: «نظروا إليك فقدسوا» وقول ابن الرومي: «ثم قام الممجدون» ولا يخفى ما في قول ابن الرومي:
من خوان كأنه قطع الرو
…
ض وإن كان في مثال خوان
فوقه الطير في الصحاف وحاشى
…
ذلك الطير من جفاء الجفان
من مذهب حبيب والشاهد «جفاء الجفان» . وولع ابن الرومي ببديع حبيب ومعانيه يشهد به الخبر الذي ذكره ابن رشيق في الحافر الوأب والحافر المعقب في باب المطبوع والمصنوع.
ولعلك لم يخف عليك محاكاة ابن الرومي لإيقاع البحتري في «من خوان كأنه قطع الروض» فهو مثل قول أبي عبادة:
من بديع كأنه الزهر الضا
…
حك في رونق الربيع الجديد
وقوله من قبل «يمكن العين لحظة» حاكى به إيقاع:
مشرق في جوانب السمع ما يخـ
…
لقه عوده على المستعيد
وقل ابن الرومي:
ثم سام الأمير سوم الملاهي
من حماقاته في التعبير ومن باب أن أدبه كاتن أكثر من عقله. والوجه أن يصف الملاهي من دون أن يقول «ثم سام الأمير سوم الملاهي» وفي القول بعد متسع كان أولى به أن يصرفه إليه.
ثم تجيء الأبيات القيان وهي أجود ما في المهرجانية وأوردها صاحب الأمالي واختارها المختارون مرارًا من بعدي وعندي أن ابن الرومي قد فرغ من الصفة كلها في قوله:
وقيان كأنها أمهات
…
عاطفات على بنيها حوان
صفة جيدة وصورة واضحة- وسائر ما جاء بعد افتنان من تطويل، ومذهب الزخرفة البديعية فيه لا يخفى من زعمه أنهن مطفلات من غير سابق حمل ومرضعات بلا لبان فهذا جار على مذهب اللغز ثم رجع إلى صفة الأمهات بنوع من شرح في قوله «ملقمات أطفالهن ثديا» وخرج من صفة الأمهات إلى نعت النهود وأنهن رمان كأحسن الرمان- وليس ضربة لازم في جودة غناء المغنية أن يكون نهدها غير منكسر ولا في جودة ضرب ضاربة العود- وإنما هذه انصرافة عن حاق جودة التصوير انزلق إليها ابن الرومي انزلاقًا مع الغزل. والبحتري أجود وصفًا وأدق حيث قال في السينية:
وكأن القيان وسط المقاصيـ
…
ـر يرجعن بين حو ولعس
فنبه على الحسن واختلاف الألوان وأنهن في المقاصير، وأعطى صفتهن كما تبدو من بعد- ترجيع وحو ولعس وسحر أنهن مقصورات. هذا بلا ريب أجود من الإدناء الذي أدناه ابن الرومي حتى ذهل فيه عن الترجيع ونغمات العود إلى ثدي كالرمان، ثم جعلهن حافلات كضروع البقر في قوله:«مفعمات كأنها حافلات» والشاهد قوله: كأنها حافلات.
وأحسب أنه ما أوقع ابن الرومي في ذكر الدرة والحافلات إلا أنه حين حاكى البحتري في قيان سينيته قصد أن يزيد عليه بأبي تمام في صفة عوادته التي قال فيها.
ومسمعة يحار السمع فيها
…
ولم تصممه لا يصمم صداها
زعم أنها مرت أعوادها- قال:
مرت أعوادها فشفت وشاقت
…
فلو يستطيع حاسدها فداها
والمرى يكون للضرع وقد تعلم قول الحطيئة:
لقد مريتكم لو أن درتكم
…
يومًا يجيء بها مسحى وابساسي
وأبو تمام قد جعل العود هو الضرع والغانية المغنية تمريه، فكس ابن الرومي الأمر وجعل للغانية المغنية ضرعًا حافلًا- وما أرى إلا أنه بهذا قد أفسد الصورة الجميلة التي جاء بها بدءًا حيث قال كأنها أمهات، لأن هذا فيه تصوير إقبال القيان على عزفهن بروح ذي إخلاص وحب، شبيه بحنان الأمهات على أطفالهن. وهذا معنى تام لا يحتاج إلى زيادة وتفصيل بذكر أطفال وحمل وإلقام وإرضاع وثدي نواهد كالرمان- إسراف كما ترى.
هذا، ونونية المهرجان، هذه التي أطنب العقاد في مدحها إنما نظمها ابن الرومي يحاكي بها السينية، إذ السينية نظمها البحتري بعيد مقتل المتوكل وابن الرومي شابٌّ لم يجز بعد طور المحاكاة والتقليد إلى النضج الذي يولد ولا يقلد. ولوشك ترتيب الموضوعات والأوصاف يباري ترتيبهن في السينية وحسبك شاهدًا أن البحتري يقول في أول نعته في الإيوان:«جعلت فيه مأتمًا بعد عرس» ثم يحاول أن يعطينا بعض صور هذا العرس من صورة أنطاكية واختلاف ألوان الأزياء:
في اخضرار من اللباس على أصفر يختال في صبيغة ورس
ثم يذكر العراك، ثم ينصرف إلى شربة خلس ثم يعود إلى صفة الإيوان وقد خالطه حلم الذكرى لمجد فات، ويصف المراتب والوفود والقيان ويشير إلى حال السرور بقوله:
عمرت للسرور دهرًا فصارت
…
للتعزي رباعهم والتأسي
ونظر ابن الرومي إلى صدر هذا البيت فجاء بآبدته:
ثم سام الأمير سوم الملاهي
…
وخلا بالمدام والندمان
وما أقبح خلا هنا ونظر شوقي إلى عجز البيت فجاء بالبيت الذي ولد منه مائة وعشرة لم يزد بها على معناه كبير شيء:
وعظ البحتري إيوان كسرى
…
وشفتني القصور من عبد شمس
وقد اتبع العقاد رحمه الله ترتيب النونية في الأبيات التي اختارها منها وقد بدأ بموضوع الهدي والبغي وألوان العرس ثم ذكر صورة وتهاويل رقم يجعل ذلك في مكان صورة أنطاكية ثم جاء بالكماة صفين وحبسهم مطرقين مغضين ولو كانت القافية سينية لعمرك لقد قال: «ولهم بينهم إشارة خرس» - ثم جاء بالأمير وهو ينظر في ذلك إلى ترتيب السينية ومكان الشربة الخلس وتوهم البحتري أن كسرى معاطية والبلهبذ أنسه، فقدم ابن الرومي الأمير وأخر الشربة وجعل في مكانها الخوان، وجاء بمتوكل الرائية «حتى طلعت بنور وجهك» فحذا عليه «وتجلى على السرير» كما تقدم ذكره، وبوليمة اللامية لوفد الروم فحذا عليها الخوان، ثم صار إلى القيان المطفلات المرضعات الملقمات. قال البحتري:
فكأني أرى المراتب والقو
…
م إذا ما بلغت آخر حسي
وكأن الوفود ضاحين حسرى
…
من قيام خلف الزحام وخنس
وكأن القيان وسط المقاصيـ
…
ـر يرجعن بين حو ولعس
قالت العرب: حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.
والناظر المشاهد زحام موكب لا يرى أكثر من هذا. والزيادة في التفصيل قد تذهب بقوة الانطباعة وتبوخ بتأثيرها. وقد فعل ابن الرومي هذا حين تجاوز صفة البحتري للوفود كما قال البحتري قوله إلى قوله هو: «كلهم مطرق هنالك مغض
إلخ» و «مثولًا ضاربين الصدور بالأذقان» ، وحين تجاوز صفته للقيان أنهن في المقاصير يرجعن بين حو ولعس إلى «ملقمات وناهدات» (ولا يضير المغنية إن كان صوتها بارعًا ألا تكون ناهدة الثدي رمانيته أو حافلته ضأنيته) وهلم جرا مما خرج به عن وصف منظر عام إلى تدقيق بين ثرثرة الفلسفة وشهوانية الغزل. ومع الذي وصف من الوفود بتفصيله ومن القيان بتدقيقه وتفريعه، غفل عن أمرين جاء بهما البحتري هما من حاق الوصف والتصوير في هذا الباب وذلك قوله:«وكأني أرى المراتب والقوم»
…
فدل على أمر هام وهو ترتيب الناس حسب مراتبهم ومن يكون من قوم الدولة يرتبهم هذه المراتب وقوله: «يرجعن بين حو ولعس» والناظر إلى قيان يغنين من على بعض لا يفوته مرأى الأفواه وهي ترجع وكونها حوًّا ولعسًا، جلي أن هذا جاء به الشاعر على وجه الحدس، ولكنه تمثل منظر الترجيع والأفواه الظريفات التي ترجع.
غلا العقاد رحمه الله في أآمر ابن الرومي عامة وفي أمر هذه المرجانية على وجه الخصوص، وما أرى إلا أنها من نظم شباب ابن الرومي، وليس فيها من شيء يستجاد غير أبيات القيان، وسائر القصيدة بعد ظاهر فيه تعب العمل، شديد الظهور.
بين ابن الرومي وابن المعتز وجها تشابه، أولًا كلاهما يحاكي أبا تمام وكانا كلاهما معجب به ويقدمه، وثانيًّا كلاهما إنما حاكيا أبا تمام وأعجبا به من أجل البديع، وباب التشبيه خاصة، واختلفت طريقتاهما فيه، فاهتم ابن المعتز بفسيفساء زخرفة لفظية معنوية من معدن ماعون بيته وحال ترفه واهتم ابن الرومي بفسيفساء زخرفة معنوية فلسفية كلامية أشبه بمذهب الكتاب، وقد كان هو من الكتاب، وإلى هذا من مذهبه قد فطن الدكتور طه حسين في كتابه من حديث الشعر والنثر.
وجه شبه ثالث بين ابن الرومي وابن المعتز هو قلة ماء الشعر. سبب هذا عند ابن المعتز ترفه ومع الترف برود أنفاس، وقل شعر له فيه حرارة، حتى ما تناول فيه حساده بالهجاء وما دفع فيه عن بيت بني العباس واحتج له بما زعم من ميراثهم النبي صلى الله عليه وسلم دون بني بنته- ولا يخفى أن ههنا مغالطة على تقدير التسليم بالميراث إذ لا يمكن للعم أن يرث دون البنت وإن أمكن له أن يرث دون بني البنت، ومع تعصيبه للبنت ليس نصيبه بأكبر من نصيبها، وكان فاطمة رضي الله عنها حية بعد وفاة أبيها عليه الصلاة والسلام. ومقال سيدنا أبي بكر رضي الله عنه في نفي الإرث وعليه مذهب أهل السنة والجماعة من المسلمين.
وقد كانت في ابن الرومي حرارة انفاس وملكة بيان والمذهب الكلامي والإطناب الكتابي هو الذي أفسد عليه ماء شعره ورونقه. وأحسب أن أبا العلاء أراد هذا المعنى. وهو في ظاهر عبارته يصف الدهر حيث قال:
لو أنصف الدهر هجا أهله
…
كأنه الرومي أو دعبل
وهو لعمري شاعر معزر
…
لكنه في لفظه مجبل
ولم يكن ابن الرومي مجبلًا ولكنه كانت في لفظه وطريقة أدائه جسارة وجفاف وإنما استجيد هجاؤه لأن الجساوة والجفاف ربما ناسبا الهجاء وقد كان مما يفحش فيه إفحاشًا. ودعبل أهجى منه. وظاهر كلام المعري يدل على هذا إذ كأن في «أو» نوعًا من إضراب.
ومن أدل شعر ابن الرومي على مذهبه قصيدته البائية التي ذم فيها السفر وأتعابه وهي في مدح أحمد بن ثوابة:
دع اللوم إن اللوم عون النوائب
…
ولا تتجاوز فيه حد المعاتب
وقد جارى بائية أبي تمام على مثلها من أربع وملاعب. واشتم أنفاسًا من
بشار والنابغة- بشار في الميمية التي قيل هجا بها أبا جعفر ثم حولها في أبا مسلم، والنابغة في «كليني لهم» .
فما كل من حط الرحال بمخفق
…
ولا كل من شد الرحال بكاسب
ومن قبل ما قال امرؤ القيس:
وقد طوفت في الآفاق حتى
…
رضيت من الغنيمة بالإياب
قد ترى أن ابن الرومي استهل بجدل وقياس فلسفي:
وفي الشعر كيسٌ والنفوس نفائسٌ
…
وليس بكيس بيعها بالرغائب
وما زال مأمول البقاء مفضلًا
…
على الملك والأرباح دون الحرائب
هنا كما ترى حجة بعضها من المنطق وبعضها من مأثور الأخبار. الشعر فيه الحكمة وهو نفس الشاعر ولذلك فهو نفيس بالنسبة إليه فلا ينبغي أن يباع بالمال. ثم هو مأمول البقاء على وجه الدهر وأفضل من الملك مفضل على الأرباح دون كل حريبة قد يحربها المرء- أي هو مال مفضل على كل مال وعلى كل ربح يخشى المرء أن يسلبه والحريبة هي المال وحربه ماله أي سلبه إياه وأخذ ابن الرومي هذا من مقال عمر رضي الله عنه لأبناء هرم بني سنان أن ما أعطاهم زهير باق وما أعطوه إياه قد فنى -ومراد ابن الرومي ههنا أن يقول لممدوحه أن شعره أفضل مما سيناله منه هو جائزة إن أجازه.
حضضت على حطبي لناري فلا تدع
…
لك الخير تحذيري شرور المحاطب
جعل الشعر نارًا وطلب المكسب به احتطابًا وأخذه هذا المعنى، على قدمه، من أبي تمام، وكان أبو تمام مما يذكر النار والزند، يصف بذلك شعره أحيانًا كقوله:
يا أبا عبد الله أوريت زندًا
…
في يدي كان دائم الأصلاد
وقوله:
بزهر والحذاق وآل برد
…
ورت في كل صالحة زنادي
وقوله:
لولا اشتعال النار فيما جاورت
…
ما كان يعرف طيب عرف العود
وهذا وإن جرى مجرى المثل فإنما جاء به ذكر حساده على فضيلة البيان التي امتاز بها.
ويصف بذلك ممدوحيه أحيانًا مثل قوله:
تضرم ناراه في قرى ووغي
…
من حد أسيافه ومن زنده (1)
وقد جاء ابن الرومي بهذا المعنى بعينه؛ وهو بعد كثير) في قوله:
له ناران نار قرى وحربٍ
…
ترى كليتها ذات التهاب
ومثل قوله:
لا تفت تزجى فتي العيس ساهمةً
…
إلى فتى سنها منها وقارحها
حتى تناول تلك القوس باريها
…
حقًّا وتلفى زنادًا عند قادحها
وقوله تحذيري شرار المحاطب يشير إلى أن بعض وجوه التكسب يوقع في الشر كأن يمدح بخيلًا أو لئيمًا فيشيم بذلك برق سوء ويحتطب ما لا تضيء به نار وما قد تكون مكتمنة فيه حية.
وأنكرت إشفاقي وليس بمانعي
…
طلابي إن أبقى طلاب المكاسب
ومن يلق ما لاقيت في كل مجتبى
…
من الشوك يزهد في الثمار الأطايب
وقد صدق فإن المدح قد دالت دولته العظيمة بعد مقتل المتوكل، فلم تعد
(1)() زند بضم الزاي والنون جمع زناد.
إلى قريب مما كانت عليه إلا فترة أبي الطيب وممدوحيه، وإلا شيئًا يسيرًا عند ملوك الطوائف بالأندلس والمغرب.
أذاقتني الأسفار ما كره الغنى
…
إلي وأغراني برفض المطالب
فأصبحت في الإثراء أزهد زاهد
…
وإن كنت في الإثراء أرغب راغب
حريصًا جبانًا اشتهى ثم انتهى
…
بلحظي جناب الرزق لحظ المجانب
تأمل الطباق في أزهد زاهد وأرغب راغب والجناس في اشتهى وانتهى.
ومن راح ذا حرص وجبن فإنه
…
فقيرٌ أتاه الفقر من كل جانب
من هنا أخذ أبو الطيب قوله:
ومن ينفق الساعات في جمع ماله
…
مخافة فقر فالذي صنع الفقر
فجاء به مثلًا وحكمة كما ترى. وما قصر ابن الرومي في لفظ ولا معنى ولكنه لم ينفخ في كلماته الروح الذي يقفز بشعرها إلى درج الحكمة العلى وقد ترى مكان الإطناب -على صحته- في قوله «فقير أتاه الفقر من كل جانب» فهذا ضرب من الزوائد يقصر بالقول الذي تراد به الحكمة عما ينبغي أن يصل إليه من ذروة الوحي والإيجاز القارع للسمع الوالج على القلب.
ولما دعاني للمثوبة سيد
…
يرى المدح عارًا قبل بذل المثاوب
وكأن قد اضطرته القافية إلى جمع المثوبة وقد كشف هذا المعنى أبو الطيب ومن ههنا اخذه فيما ترجحه:
تهلل قبل تسليمي عليه
…
وألقى ماله قبل الوساد
ثم يقول ابن الرومي:
تنازعني رغبٌ ورهبٌ كلاهما
…
قويٌّ وأعياني اطلاع المغايب
فقدمت رجلًا رغبة في رغيبة
…
وأخرت رجلًا رهبة للمعاطب
مسكين ابن الرومي. هذا الشك وهذه الوسوسة هي التي قصرت به عن نيل العطاء ولماذا كان يطمع أن يصله العطاء ولما يرتحل له ويسمع ممدوحه مدحته -بل كما قد ترى قد قدم رجلًا وأخر أخرى، واعتمد آخر الأمر على التي أخرها، فأخره ذلك، فصار بعد المديح إلى الهجاء.
أخاف على نفسي وأرجو مفازها
…
وأستار غيب الله دون العواقب
ألا من يبريني غايتي قبل مذهبي
…
ومن أين الغايات بعد المذاهب
ولكنه لم يمض على سبيل اللوم لنفسه، وإذن لوجد منجاة، بل أقبل يعتذر عن هذا الجبن والتردد:
ومن نكبة لاقيتها بعد نكبة
…
رهبت اعتساف الأرض ذات المناكب
وصبري على الإقتار أيسر محملًا
…
علي من التغرير بعد التجارب
الإقتار الفقر. وعاد ههنا فأكد معنى الشك والخوف من أن يصل إلى الممدوح فلا يجد عنده كبير شيء -والتجربة قد علمته ذلك. أو كما قال:
ذهب الذين تهزهم مداحهم
…
هز الكماة عوالي المران
أو كما قال:
وإذا امرؤٌ مدح امرأً لنواله
…
وأطال فيه فقد أطال هجاءه
لو لم يقدر فيه بعد المستقى
…
عند الورود لما أطال رشاءه
أي لو لم يقدر أن مكان الماء في تلك البئر بعيد لم يجيء ليرد برشاء طويل أي حبل طويل. وهكذا كان يفعل رحمه الله.
لقيت من البر التباريح بعدما
…
لقيت من البحر ابيضاض الذوائب
سقيت على ري به ألف مطرة
…
شغفت لبغضيها بحب المجادب
ألح ابن الرومي على صيغة مفاعل في قوافيه وما خلا ذلك من تصيد وعمل كقوله المجادب ههنا يريد به الجدب وكقوله المثاوب يريد به المثوبة والمحاطب يريد به الاحتطاب والمعاطب يريد به العطب وقد ترى أن قوله «اعتساف الأرض ذات المناكب» وقوله «طلاب المكاسب» و «برفض المطالب» كل ذلك قافيته ذات أسماح لا تكلف فيها، فهذا يدل على مكان التكلف في المحاطب والمثاوب والمجادب مثلًا.
ولم أسقها بل ساقها لمكيدتي
…
تحامق دهر جده كالملاعب
لاحظ أسلوب أبي تمام في لم أسقها بل ساقها -جده كالملاعب.
إلى الله أشكي سخف دهري فإنه
…
يعابثني مذ كنت غير مطايبي
أبي أن يغيث الأرض حتى إذا ارتمت
…
برحلي أتاها بالغيوث السواكب
غير مطايبي أي غير قاصد لمفاكهتي وممازحتي بطيب نفس ومسرة، وهذا الاستعمال عباسي من أساليب الكتاب تجده عند الجاحظ إذ هو يتحدث عمن يصفهم بالطياب بتشديد الياء.
سقى الأرض من أجلي فأضحت مزلةً
…
تمايل صاحبها تمايل شارب
لتعويق سيري أو دحوض مطيتي
…
وإخصاب مزور عن المجد ناكب
ههنا روح فكاهي مع أنفاس خطابة يراد بها المبالغة وتأكيد المعنى الفكاهي- هو الفتى الصالح المبدع تصب الأمطار لتعويقه، ويستفيد بهطولها آخر ممن لا خير عندهم. ولا يفتأ ابن الرومي يوازن بين حظه المنحوس وحظوظ التجار وأهل
المزارع المثرين فيمتلئ قلبه غيظًا وقيح هجاء من ضرب الشعر الذي عنه جاء نهي الحديث الشريف. مسكين ابن الرومي.
وما خلا ابن الرومي هنا من نظر إلى قول حبيب:
منع الزيارة والوصال سحائب
…
شم الغوارب جأبة الأكتاف
وأبت أريحية أبي تمام أن يجعل من عوق المطر له مسببًا إلى أن ينفس على من يكون قد انتفع بذلك، وقد مكرت هذه الأبيات الفائية ونذكر القارئ الكريم بقوله:
ظلمت بني الحاج الملح وأنصفت
…
عرض البسيطة أيما إنصاف
وأتت بمنفعة البلاد وضرها
…
أهل المنازل السن الوصاف
وفكاهة ابن الرومي تأبى ألا يخالطها شوبٌ من الشكوى وشؤبوب من الهجاء.
فملت إلى خانٍ مرث بناؤه
…
مميل غريق الثوب لهفان لاغب
فلم ألق فيه مستراحًا لمتعب
…
ولا نزلًا أيان ذاك لساغب
فما زلت في خوف وجوع ووحشة
…
وفي سهر يستغرق الليل واصب
ولقد كان القطامي، وإلى بائيته نظر، بلا ريب أحذق منه إذ قال:
فلما بدا حرمانها الضيف لم يكن
…
علي مناخ السوء ضربة لازب
وذلك أنه كان موطنًا نفسه على السفر. أما ابن الرومي فما سافر إلا كارهًا فمال إلى الخان بطبيعة حرصه على الإقامة كما ترى، وهو ما خبرنا به ودعا إليه من أول قصيدته.
يؤرقني سقف كأني تحته
…
من الوكف تحت المدجنات الهواضب
أي السحب الداكن الهاطلة، فكان ينبغي عليه أن يصبر لها، فذلك خير من المكان الذي مال إليه فأوشك أن يميل به.
تراه إذا ما الطين أثقل متنه
…
تصرٌّ نواحيه صرير الجنادب
وكم خان سفر خان فانقض فوقهم
…
كما انقض صقر الدجن فوق الأرانب
لاحظ الجناس في خان سفر خان. ويعني أنه يسقط فجأة. وهذا التشبيه لا يخلو من عنصر قصد إلى الإضحاك. وصقر الدجن أي صقر يوم الغيم وفسره الشيخ محمد شريف سليم بصقر الظلمة (الهامش مع ص 261 م ج أ. ديوان ابن الرومي، تصوير بيروت) وما أحسب أن صقرًا يصيد في الظلمة والدجن الغيم يدلك على ذلك قول البكري:
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب
…
ببهكنة تحت الطراف المعمد
ويوم الدجن لا يحجب الرؤية. ومثل نازلي الخان بالأرانب والحق أن الصقر ينقض فوق الأرنب ولعل ابن الرومي قصد إلى تمثيل حال المسافرين في الخان في ازدحامهم عند مكانة الضيق بحال الأرانب التي يجاء بها في قفص أو نحوه لتباع وتؤكل.
ولم أنس ما لاقيت أيام صحوه
…
من الصر فيه والثلوج الأشاهب
واحتاج إلى الجمع كما ترى من أجل القافية:
وما زال ضاحي البر يضرب أهله
…
بسوطى عذاب جامد بعد ذائب
فإن فاته قطر وثلجٌ فإنه
…
رهين بسافٍ تارة وبحاصب
وكأن في أسلوب الرومي ههنا نفسًا جاحظيًّا فتأمله. وأحسب أنه من أجل
هذا ما زعم الدكتور طه حسين ما زعمه في «من حديث الشعر والنثر» .
فذاك بلاء البر عندي شاتيا
…
وكم لي من صيف به ذي مثالب
مثالب ههنا مستقيمة المكان.
ألا رب نار بالفضاء اصطليتها
…
من الضح يودي لفحها بالحواجب
أراد ابن الرومي هنا أن يربي على قول علقمة:
وقد علوت قتود الرحل يسفعني
…
يوم تجيء به الجوزاء مسموم
حام كأن أوار النار شامله
…
تحت الثياب ورأس المرء معموم
وهيهات، من ههنا جاء بلفحها «الذي يودي بالحواجب» - ولماذا الحواجب دون غيرها من الجسد؟ لا ريب لأن الرأس والوجه عليهما العمامة بلثامها وهذا قول علقمة كما ترى.
إذا ظلت البيداء تطفو أكامها
…
وترسب في غمر من الآل ناضب
جعله غمرًا وناصبًا لأنه سراب: ثم أدركته بقية من العقل لعلمه أن هذا الباب قد استوعبه كله القدماء فلا معنى لمباراتهم.
فدع عنك ذكر البر إني رأيته
…
لكن خاف هول البحر شر المهاوب
وفي المهاوب قبح تكلف كما ترى. جمع مهوب أي المكان الذي يهاب. قال الشيخ محمد شريف سليم رحمه الله (262 هامش 5)«من هوب الرجل بمعنى هيب» .
كلا نزليه صيفه وشتاؤه .... خلاف لما أهواه غير مصاقب
غير مصاقب مزاوجة تصلح في النثر الجاحظي ولكن مكانها في الشعر ناب.
ولله در الجاحظ حيث نبه أن الكلام إذا نقل من النثر إلى الموزون بدا ذلك جانب نقص فيه.
لهاث مميت تحت بيضاء سخنة
…
وريٌّ مفيت تحت أسيحم صائب
يجف إذا ما أصبح الريق عاصبًا
…
ويغدق لي والريق ليبس بعاصب
فيمنع مني الماء واللوح جاهدٌ
…
ويغرقني والري رطب المحالب
هذه الأبيات الثلاثة إجمال لما سبق قبل تفصيله. وهذا مذهب نثري وما عدا الشاعر هنا أن كرر ما قاله ولم يزد شيئًا، بل وقع في شيء من عناء التكلف كقوله «والري رطب المحالب» على ما احتال به من شبه المجانسة في «والري رطب
…
» «واللوح جاهد» أي والعطش شديد. والبيضاء السخنة الشمس والأسحم الصائب المطر وقد سبق هذا المعنى في قوله «أبى أن يغيث الأرض» والأبيات التي معه.
وما زال يبغيني الحتوف مواربًا
…
يحوم على قتلي وغير موارب
فطورًا يغاديني بلص مصلت
…
وطورًا يمسيني بورد الشوارب
فسر الشيخ سليم رحمه الله هذا البيت بقوله: مصلت يركض فرسه والشوارب لعله يريد بيها جمع شاربة وهم القوم يسكنون ضفة النهر، يعني ويضطرني إلى أآن أرد الماء في المساعد عند القوم الذين يسكنون ضفاف الأنهار لقلة الماء في البراح الذي أسلكه. أقول ما ذهب إليه وجه، ولعل أقرب من ذلك أن يقال مصلت بتشديد اللام مكسورة أي خبيث كأنه من قولهم صلت بكسر الصاد وهو اللص كأنه قال لص ملصص أو هو من إصلات السيف فيكون جاء باسم لفاعل من فعل مضعف كثر به فعلًا ثلاثيًّا من مادة صلت يدلك عليه قولهم انصلت وبورد الشوارب لعل صوابه بورد الشوارب بفتح الواو الشوارب جمع شارب عني به الأسد أو أي سبع مخشى أحمر الشوارب وإنما سمت العرب الأسد وردًا لحمرة شعره وهذا أقرب
في التفسير لأنه كان سالك بر وفيه للص والسبع كلاهما مخشيان ويدلك إنه إنما أراد أمرًا فردًا لصًّا أو أسدًا قوله بعد:
إلى أن وقاني الله محذور شره
…
بعزته والله أغلب غالب
فأفلت من ذوبانه وأسوده
…
وخرابه إفلات أتوب تائب
فهذا يقوي ما ذهبنا إليه والذؤبان اللصوص والذئاب والخراب جمع خارب وهو قاطع الطريق ومن شواهد كتاب سيبويه:
أن بها أكتل أو رزاما
…
خوير بين ينقفان إلهاما
وقوله «إفلات أتوب تائب» تشبيه بعيد ضعيف في هذا الموضع جره إليه شدة غوصه على المعاني لأن التائب توبة نصوحًا يفلت من النار والعذاب إفلاتًا ثم أخذ في صفة سفر البحر:
وأما بلاء البحر عندي فإنه
…
طواني على روع مع الروح واقب
جاء بواقب من قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} - ولو كانت واقبة هذه بعد روع لكان لها جرس ورنين ولكن مكانها بعد أن فرق بينهما بشبه الجملة «مع الروح» فيه قلق، وذلك أنه جعل نفسه مطويًّا على روع فالفصل بين هذا الروع ووقوبه يباين شيئًا معنى الطي وقد فصل الشعراء بأكثر من هذا وأطول ولكن قد جاء حذاقهم به وكأنه لا فصل فيه كقول ذو الرمة:
كأن أصوات من إيغالهن بنا
…
أواخر الميس أصوات الفراريج
وذلك أن الأصوات تطلب أواخر الميس وإيغالهن بنا فيه تشويق.
ولو ثاب عقلي لم أدع ذكر بعضه
…
ولكنه من هوله غير ثائب
ولم لا ولو ألقيت فيه وصخرةً
…
لوافيت منه القعر أول راسب
ههنا فكاهة لا تخلو من عنصر سوقي.
ولم أتعلم قط من ذي سباحة
…
سوى الغوص والمضعوف غير مغالب
تتمة البيت «والمضعوف غير مغالب» فيها تعب، وكأنها ملصقه بما قبلها إلصاقًا إذ لا تتم بها فائدة حقًّا ولا تتناسب ما قبلها كل المناسبة ثم لو قد فطن فالغوص من صميم السباحة، ولا يمت إلى ضعف بشيء وفي صفة الغائص يقول المخبل السعدي:
كعقيلة الدر استضاء بها
…
محراب عرش عزيزها العجم
أغلى بها ثمنًا وجاء بها
…
شخت العظام كأنه سهم
قال الشارح وهو الأنباري الكبير «كأنه سهم في سرعته ومضائه» شخت العظام أي دقيق العظام وشرح بعضهم كأنه سهم: لدقته وهو وجه ولكن الأول أقوى وأدل.
بلبانه زيتٌ وأخرجها
…
من ذي غوارب وسطه اللخم
اللخم ضرب من الحوت ودواب البحر وإنما أراد ابن الرومي أنه يغطس فيرسب وأراد التنبيه على هذا المعنى بقوله والمضعوف غير مغالب أي حين يرسب فلضعفه لا يقدر أن يغالب فيطفو سابحًا، وهذا من معنى قوله لا نصل إليه إلا بكد وجهد وتأويل.
هذا وقوله من ذي سباحة يجوز لمن شاء حمله على معنى من سباحة وزيادة ذي كقول الآخر «فحسبي من ذي عندهم ما كفانيا» أي «من عندهم» والوجه الظاهر عندي أجود.
فأيسر إشفاقي من الماء أنني
…
أمر به في الكوز مر المجانب
وهنا مبالغة أراد بها الفكاهة إذ لا يعقل أنه كان يكره الماء وينفر منه نفور المسعور، وهو بعد القائل في بائية له من جيد شعره:
ومزاج الشراب إن حاولوا المز
…
ج رضاب يا طيب ذاك الرضاب
من جوار كأنهن جوار
…
يتسلسلن من مياه عذاب
فجعل مزاج الشراب ماء وصفه بما وصفه كما ترى.
وقال في أبياته الحكيمة المنزع التي أولها:
غدوك من صديقك مستفاد
…
فلا تستكثرن من الصحاب
فإن الماء أكثر ما تراه
…
يحول من الطعام أو الشراب
قال:
فدع عنك الكثير فكم كثير
…
يعاف وكم قليل مستطاب
وما اللجج الملاح بمرويات
…
وتلقى الري في النطف العذاب
وما ذكرنا هذين الشاهدين على سبيل التعقب لابن الرومي، ولكن لنسبق بالرد على من يستنتج من قول ابن الرومي:«وأيسر إشفاقي إلخ» أكثر مما يجيزه ظاهر معناه الذي للفكاهة. ثم يقول الشاعر:
وخشى الردى منه على كل شارب
…
فكيف بأمنيه على كل راكب
أظن إذا هزته ريح ولألأت
…
له الشمس أمواجًا طوال الغوارب
كأني أرى فيهن فرسان بهمة
…
يليحون نحوي بالسيوف القواضب
هذه الصورة منتزعة من تشبيه أمواج البحر بالخيل البلق وهو استعمال لغوي في العربية وغير العربية ولعله منها أخذ لقدم علاقة العرب بالخيل.
فإن قلت لي قد يركب اليم طاميًّا
…
ودجلة عند اليم بعض المذانب
فلا عذر فيها لامرئ هاب مثلها
…
وفي اللجة الخضراء عذر لهائب
فإن احتجاجي عنك ليس بنائم
…
وإن بياني ليس عني بعازب
هذا كما ترى أسلوب كلام وجدل وطريقة نثر جاحظي لا شعر.
والشعر وحي تكفي إشارته
…
وليس كالنثر طولت خطبه
هكذا قال أبوة عبادة وهل عني بهذا طريقة ابن الرومي الذي لما شب وتم استواء نضجه وثب عليه فهجاه بعد أن كان يحاكيه ونفس عليه مكانه؟ ؟ وأخذ ابن الرومي في الاحتجاج:
لدجلة خبٌّ ليس لليم إنها
…
ترائي بحلم تحته جهل واثب
تطامن حتى تطمئن قلوبنا
…
وتغضب من مزح الرياح اللواعب
جمع لاعبة.
وأجرافها رهنٌ بكل خيانة
…
وغدر ففيها كل عيب لعائب
مثل هذه اللفتة جاحظية ولها نظيرات في البخلاء وغيره مما خطه قلم ذلك البارع.
ترانا إذا هاجت بها الريح هيجة
…
تزلزل في حوماتها بالقوارب
نوائل من زلزالها خوف خسفها
…
فلا خهير في أوساطها والجوانب
زلازل موج في غمار زواخر
…
وهدات خسف في شطوط خوارب
ثم أخذ يعتذر لليم أي البحر الكبير على دجلة حيث وصفها بالغدر وإن اليم له عذر في عرضه واتساعه وكثرة مائه وليس لها مثل ذلك العذر.
ولليم أعذار بعرض متونه
…
وما فيه من آذيه المتراكب
ولست تراه في الرياح مزلزلًا
…
بما فيه إلا في الشداد الغوالب
وإن خيف موجٌ منه عيذ بساحل
…
خلي من الأجراف ذات الكباكب
أي ذات الطين، وما أجهل ابن الرومي بالبحر إذ لم إذ لم ير منه إلا الساحل، فكيف إذا هاج البحر حيث لا ساحل تراه العين أو تأمل بلوغه، وربما سطا بعبابه على الشاطئ الآمن فاجتاحه
…
ويلفظ ما فيه فليس معاجلًا
…
غريقًا بغت يزهق النفس كارب
أي بخنق أخذ بغت من الحديث أن جبريل غت النبي عليه الصلاة والسلام وهذا كله توهم ووسوسة ومغالطة معًا.
يعلل غرقاه إلى أن يغيثهم
…
بصنع لطيف منه خير مصاحب
فتلفى الدلافين الكريم طباعها
…
هناك رعالًا عند نكب النواكب
أخذ هذا من أقاصيص البحريين، وقصص السندباد وما أشبه.
مراكب للقوم الذين كبا بهم
…
فهم وسطه غرقى وهم في مراكب
وينقض ألواح السفين فكلها
…
منج لدى نوب من الكسر نائب
وعمري من فاتح المركب الضخم فليس اللوح بمنجبيه إلا أن يلطف المولى، وأخبار السندباد مشحونة بنحو هذا. وأدرك ابن الرومي أنه لجج في وجه من وجوه الباطل والمراء فقال:
وما أنا بالراضي عن البحر مركبًا
…
ولكنني عارضت شغب المشاغب
وليس المشاغب إلا وهمه، إذ هو يخاطب ممدوحًا بهذه القصيدة- وكأن قد فطن لهذه الزلة فقال:
صدقتك عن نفسي وأنت مراغمي
…
وموضع سري دون أدنى الأقارب
وجربت حتى ما أرى الدهر مغربًا
…
علي بشيء لم يقع في تجاربي
ثم أخذ في أبواب من العظة والاعتذار وتشقيق الحجج لينال بر ممدوحه من دون تكليف نفسه جهد السفر إليه:
أرى المرء مذ يلقى التراب بوجهه
…
إلى أن يوارى فيه رهن النوائب
فدلنا على أن النساء كن يلدن وليس بينهن وبين تراب الأرض سرير أو نحوه. ومن أجود الولادة ما كان عليه العرف عندنا من أن تمسك المرأة بما تعتمد عليه باركة وتحتها حفير لدم النفاس، فأحسب الذي وصفه ابن الرومي شيئًا من هذا النوع.
ولو لم يصب إلا بشرخ شبابه
…
لكان قد استوفى جميع المصائب
ومن صدق الأخيار داووا سقامه
…
بصحة آراء ويمن نقائب
يعني أن صدق عن نفسه وممدوحه في الأخيار، ومن مثله يستفاد الرأي الحسن والنصيحة النافعة بعد هذا الذي قد سمعه من الصدق. واضطر إلى جمع النقائب للقافية، وكأنه حسب أن ذلك يناسب الجمع قبله وقد يعلم أن العرب تقول هو ميمون النقيبة وهم ميامين النقيبة ثم زعم ابن الرومي أنه تحدث صادقًا إلى ممدوحه فهذا منه كالاستشارة ومن كان لك حزبًا صدقته إذ تستشيره أعانه ذلك على تجويد الرأي لك وأخذ في التفصيل هذا المعنى على الطريقة الجدلية.
وما زال صدق المستشير معاونا
…
على الرأي لب المستشار المحازب
أي الذي من حزب المستشير وقد استكره هذه الكلمة استكراهًا.
وأبعد أدواء الرجال ذوي الضنى
…
من البرء طب المستطب المكاذب
ثم أخذ يستعطف ممدوحه ولم يفارق طريقة التعليل والقياس والجدل.
فلا تنصبن الحرب لي بملامتي
…
وأنت سلاحي في الحروب النوائب
وأجدي من النعنيف حسن معونة
…
برأي ولين من خطاب المخاطب
وفي النصح خيرٌ من نصيح موادع
…
ولا خير فيه من نصيحٍ مواثب
وكيف يكون نصيحًا وهو مواثب- وقد أصاب جميع الذي طول فيه ههنا، بشار من قبله في بيت واحد:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن
…
بري نصيح أو نصيحة حازم
والحازم ليس بمواثب ولكنه ليس بموارب.
ومثلي محتاجٌ إلى ذي سماحة
…
كريم السجايا أريحي الضرائب
أي السجايا وجمع هنا كما جمع النقائب من قبل.
يلين على أهل التسحب مسه .... ويغضي لهم عند اقتراح الغرائب
له نائلٌ ما زال طالب طالب
…
ومرتاد مرتاد وخاطب خاطب
ورنة هذا البيت من أبي تمام. وعلى هذا فهو أكثر ماء مما تقدمه.
ألا ماجد الأخلاق حر فعاله
…
تبارى عطاياه عطايا السحائب
كمثل أبي العباس إن نواله
…
نوال الحيا يسعى إلى كل طالب
ونظر ابن الرومي هنا إلى قول حبيب:
تكاد مغانيه تهش عراصها
…
فتركب من شوقٍ إلى كل راكب
وعلى أنه لم يرد أن يكون راكب بر وراكب بحر فقد فرع من هذا المعنى قوله آنفًا ومن بعد:
يسير نحوي عرفه فيزورني
…
هنيئًا ولم أركب صعاب المراكب
يسير إلى ممتاحة فيجوده
…
ويكفي أخا الأمحال زم الركائب
ومن يك مثلًا للحيا في علوه
…
يكن مثله في جوده بالمواهب
وأن نفاري منه وهو يريغني
…
لشيءٌ لرأى فيه غير مناسب
قال الشيخ محمد شريف سليم رحمه الله في شرحه (ص 272/ 273). نفاري منه: تباعدي عنه. يريغني: يطلبني، لشيء غير مناسب: لأمر غير ملائم. لرأى فيه أي لما يرى فيه. فعبارة لرأى فيه متعلقة بغير مناسب وتقديم المتعلق على المتعلق جعل في الشطر الثاني من هذا البيت شيئًا من ضعف التأليف المنافي للبلاغة. أ. هـ.
الذي ذهب إليه الشيخ سليم رحمه الله وجه.
ولعل وجهًا آخر أن يقال: يريغني لشيء -لشيء جار ومجرور متعلق بالفعل أي يطلبني من أجل شيء يعطينيه مثلًا.
ثم قوله «لرأى» ليس بجار ومجرور ولكنها لام الابتداء المزحلقة بعد إن ورأى خبر إن مرفوع وفيه جار ومجرور متعلق بصفة لرأى وغير مناسب صفة الخبر إن أي إن نفارى منه وهو يريغني من أجل منفعة ينفعني بها وشيء يحبونيه ذلك لعمري رأى غير مناسب.
وعلى هذا فالصياغة مستقيمة ليس فيها ضعف تأليف.
وإلى ههنا نكون قد أوردنا واحدًا وتسعين بيتًا من هذه البائية وذلك نصفها ولا يقدح في هذا أنه قد ذهب مذهب أبي تمام في الإشارة وضمن القسم الثاني بيتًا من النابغة ونصفي بيت وقطعة من بيت بعد ذلك، وذلك قوله:
إذًا لم يقل أعلى النوابغ رتبةً
…
لمقول غسان الملوك الأشائب
«علي لعمرو نعمة بعد نعمة
…
لوالده ليست بذات عقارب».
هذا هو البيت المضمن من النابعة.
وأما نصف البيت فقوله:
ومن أجل ما راعى بين البين قوله
…
وقوله:
ولم يمش قيد الشبر إلا وفوقه
…
وأما القطعة من البيت فقوله:
وفي مستماحي العرب بارق خلبٍ
…
ولامع رقراق «ونار حباحب»
فهذه من:
تقد السلوقى المضاعف نسجه
…
وتوقد بالصفاح نار الحباحب
وعندي أن: لمقول غسان الملوك الأشائب
قد وقع فيها خطأ من ناسخ وتصحيف؛ لأن النابغة يقول:
وثقت له بالنصر إذ قيل قد غزت
…
كتائب من غسان غير أشائب
فكيف يجعلهم ابن الرومي أشائب أي أخلاطًا جمع أشابة ولا يصح في الملوك بغض النظر عن مقال النابغة الذي أوردناه، أن يوصفوا بأنهن أشائب. وأحسب أن الشيخ سليمًا قد وهم رحمه الله إذ قال (ص 280 الهامش الأول تابع 5 ص 279):«والأشائب جمع أشابة بمعنى الأخلاط لأن غسان كان منها رهط مختلف من الملوك» قلت هذا التفسير غير واضح مراده منه. ولعل الصواب -والله أعلم-:
لمقول غسان الملوك الأشاهب
جمع الأشهب وهو من سباع الطير وهو مما يوصف به البازي.
هذا والنصف الذي بقي من القصيدة ليس بدون ما تقدم في نفس الصياغة وطريقة الجدل. وابن الرومي مشهور بطول النفس لا في القوافي الركب الذلل كهذه الباء ذات التأسيس ولكن في ما هو أعوص، كالثاء التي بنى عليها كلمته:
مطايب عيش زايلته مخابثه
…
ومقبل حظ أطلقته روابثه
أي محبوساته. فهي من أربعين بيتًا على هذا الروي والجيمية التي بها رثى الطالبي «أمامك فانظر أي نهيجك تنهج» زادت على مائة بيت بعشرة أو نحوها وله في الحاء والخاء وهلم جرا. وقال فيما بين الثلث والربع الأخير من هذه القصيدة البائية.
ألم ترني أتعبت فكري محبكا
…
لك الشعر كيلا أبتلي بالمتاعب
نحلتك حليًّا من مديح كأنه
…
قوي كل صب من عناق الحبائب
أنيقًا حقيقًا أن تكون حقاقه
…
هي الدر لا بل من ثدي الكواعب
وأنت له أهل فإن تجزني به
…
أزدك وإن تمسك أقف غير عاتب
فهذا كانتهاءات أبي تمام حيث يقول مثلًا:
خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى
…
والليل أسود رقعة الجلباب
بكرا تورث في الحياة وتغتدي
…
في السلم وهي كثيرة الأسلاب
ويزيدها مر الليالي جدة
…
وتقادم الأيام حسن شباب
وحيث يقول:
خذها مثقفة القوافي ربها
…
لسوابغ النعماء غير كنود
حذاء تملأ كل أذن حكمة
…
وبلاغة وتدر كل وريد
كالطعنة النجلاء من يد ثائر
…
بأخيه أو كالضربة الأخدود
كالدر والمرجان ألف نظمه
…
بالشذر في عنق الكعاب الرود
كشقيقة البرد المنمنم وشيه
…
في أرض مهرة أو بلاد تزيد
يعطى بها البشري الكريم ويحتبي
…
بردائها في المحفل المشهود
بشرى الغني أبي البنات تتابعت
…
بشراؤه بالفارس المولود
كرقي الأوساد والأراقم طالما
…
نزعت حمات سخائم وحقود
وقد نظر ابن الرومي إلى قول حبيب «ابنة الفكر» كما نظر إلى تشبيهاته وبغى أن يزيد عليها جودة وحذقًا. وأبو تمام ألبق وأوفر حظًّا من العقل والاحتراس فقد شبه بأمور مما يهز الممدوح السامع ويطرب له كالطعنة من الثائر وشقيقة البرد والبشرى بالغلام للغني أبي البنات والدر والمرجان في نحور الحسان وما عدا ابن الرومي قول أبي تمام.
بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها
…
تنال إلا على جسر من التعب
في قوله:
«أتعبت فكري
…
كيلا أبتلى بالمتاعب»
تشبيهه مديحه بأنه «قوي كل صب في عناق الحبائب» آبدة وزلة.
وهو بعد القائل في هجاء أحد ممدوحيه:
على بن موسى يحب المديح
…
ويفزع من صلة المادح
كبكرٍ ترجي لذيذ النكاح
…
وتفرق من صولة الناكح
فما عدا أن وصف حلي مديحه بأنه صولة ناكح. وأفسد هذا الظل عليه جناسه من بعد حيث قال «حقيقًا أن تكون حقاقه» والحقاق جمع حقق ومما يبادر مع
ما سبق أنها جمع حقه بكسر الحاء- ثم جعل الثدي حقاقًا للحلي غير مستقيم. وأتى من قول ابن كلثوم:
وثديا مثل حق العاج رخصا
…
حصانًا من أكف اللامسينا
وقد احترس صاحب المعلقة كما ترى بجعله حصانًا إلخ. وقد أكفأه ابن الرومي وجعله وعاء للحلي، وإنما يكون الحلي زينة عليه كما قال الذي هو أحذق منه وأدق:
كالدر والمرجان ألف نظمه
…
بالشذر في عنق الكعاب الرود
فدل بقوله الكعاب على ثديها الناهد من دون أن يجعله وعاء.
ويستوقفني في هذه البائية قول ابن الرومي:
حنانيك قد أيقنت أنك كاتب
…
له رتبة تعلو به كل كاتب
فدعني من حكم الكتابة إنه
…
عدو لحكم الشعر غير مقارب
وإلا فلم يستعمل العدل جاعلٌ
…
أجدٌ مجدٍ قرن ألعب لاعب
فهل أجد مجد هو الكاتب؟ ظاهر السياق يدل على ذلك، إذ ما كان ليجعل ممدوحه ألعب لاعب، ولكن يجعل الشاعر ألعب لاعب، فيدل ذلك على مهارته بلعب الكلام، ولا يكلف من كلفة الجد ما يكلفه الكاتب الذي إنما عمله التدبير ومعاونة الأمير والوزير في طبيعة عملهما نفسها؟
ثم هل عد ممدوحه منهجه كتابيًا، فأقام عليه حكم الكتاب من أجل ذلك؟ ثم إن كان ابن الرومي وهو شاعر ينفر من أن يقام عليه حكم الكتاب فلم اصطنع في شعره أساليب الكتاب؟
الجواب عن هذا أن ابن الرومي رحمه الله قد كان كاتبًا وشاعرًا معًا، قوي
التحصيل، عظيم ملكة البيان. غير أن الدولة في زمانه قد اضمحل أمرها. فأصاب من هذا الاضمحلال كلا صنفي الأدب من كتابة وشعر كساد عظيم. غير أن حظ الشعر من هذا الكساد كان أكبر. فكان ذلك يضطر الشعراء إلى أن يجتهدوا في إظهار براعتهم وحذقهم بأشد ما يقدرون عليه من امتراء الطبع وتكلف الصنعة، حتى يستيقن الممدوح أن السلعة جيدة وأنه لن يغبن إن شرى، وإنما كانت قصيدة المدح بالنسبة إلى أمثال ابن ثوابة وأبي الصقر ضربًا من الزينة التي يتباهون بها
…
لم تكن أمرًا له من سند السياسة والتحزب والعصبية ما لشعر جرير والفرزدق مثلًا بالنسبة لبني أمية وما لشعر ابن قيس بالنسبة لآل الزبير وما لشعر الكميت بالنسبة لآل البيت، ولا أمرًا من دعاية الملك كشعر مروان بن أبي حفصة وأبي العتاهية بالنسبة إلى الأمر الأول من خلافة بني العباس، ولا من تمام أبهة الملك وسعادته وترفه والدعاية له كشعر أبي نواس ومسلم في الخلفاء وأمرائهم وأبي تمام والبحتري في المعتصم والواثق والمتوكل وكبار رجالات الدولة .. كانت بقية عرف، كما الخلافة كانت بقية خلافة وأمراؤها ووزراؤها كانوا بقية من أمر قد كان وهو الآن آخذ بسبيل الاضمحلال ثم الزوال.
وكان الشاعر يضطر مع اجتهاد في إظهار البراعة إلى أن يطيل لأن المستقى بعيد فلا بد من طول الرشاد للورود، ولأن الدر بكيء فلا بد من مسح بعد مسح ومرى بعد مرى وإبساس بعد إبساس.
وكثيرًا ما احتاج الشاعر مع ذلك إلى أن يشفع شعره بتصريح من الاستجداء الصلت كالذي صنع ابن نباته مع ابن العميد إن صحت رواية التوحيدي وربما آل أمر الشاعر بعد الإخفاق إلى هجاء من كان قصده بالمدح وهذا عند ابن الرومي كثير.
وعل هذا الذي ذكرناه أن يفسر لنا لماذا أطال مهيار الدليمي مدائحه ولماذا
صنع شعراء الأندلس عند ملوك الطوائف وأهل السيادة والغنى بالأندلس والمغرب مثل هذا الصنع.
كان أبو الطيب المتنبي وممدوحوه بعد أن اشتهر وفلج أمره، وخاصة سيف الدولة، كاشتعالة السراج قبل انطفائه بالنسبة إلى قصيدة المدح. كانت اشتغال قوية أضاءت الظلمات حولها بنور وهاج.
أخذ أبون الطيب من ابن الرومي حب المعاني والغوص عليها وأقدم كمثله على أن يستعمل لغة أهل الكلام والفلسفة، ولكنه لم يجعله قدور في استعمال أساليب الكتاب وتشقيقهم، بل جعل قدوته حرص أبي تمام على الجزالة وخشونة البداوة الفكرية، وشفع أبو الطيب ذلك بأصالة بداوة روحية نابعة من ثورة فؤاد طموح. وتجربة تمردٍ عاتٍ ومخالطة للصحراء وأهلها منذ نعومة الصبا.
وزعم الثعالبي أن هوس الملك وحب السلطان ظل ملازم أبي الطيب حتى تضاعفت عقود عمره وما عدا في استشهاده على هذا الزعم الذي زعمه أشعار المتنبي التي قالها في صباه وأول شبابه نحو:
سأطلب حقي بالقنا ومشايخ
…
كأنهم من طول ما التثموا مرد
ونحو:
لقد تصبرت حتى لات مصطبر
…
فالآن أقحم حتى لات مقتحم
لأتركن وجوه الخيل ساهمةً
…
والحرب أقوم من ساقٍ على قدم
وقول أبي الطيب لكافور:
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية
…
فجودك يكسوني وشغلك يسلب
لا يصح الاستشهاد به في هذا الباب ولا أحسب أبا منصور استشهد به، إنما استشهد به بعض نقاد زماننا هذا. وقد ترى أن أبا الطيب ساوى بين الصنيعة
والولاية فما كان يريد إلا نحوًا من أن يضمن له دعة العيش، على نحو ما صنع الحسن بن وهب لأبي تمام.
وقد صنعوا حكاية نسبوها إلى كافور أنه قال يا قوم من ادعى النبوة على محمد ألا يدعي الملك على كافور. وقد كان أبو الطيب محسودًا كثير الأعداء والخصوم. فلا يستبعد أن يكون هذا بعض ما كيد بشيء يشبهه عند كافور.
والصحيح الذي لا ريب فيه أن أبا الطيب مدح الملوك ولم يطلب السلطان وقد مانت مدائحه بضاعة رائجة يتنافس ملوك الطوائف فيها ليكون لهم منها مثل حظ سيف الدولة.
وقد كانت الحرب التي خاضها أبو الطيب هي حرب القوافي والبيان وهي التي قتلته آخر الأمر وأحيت ذكره كما لم يحي ذكر شاعر من معاصريه. كلمة ابن رشيق: «ثم جاء أبو الطيب فملأ الدنيا وشغل الناس» من الكلام المشهور المحفوظ في هذا.
وقد عرضنا لبداوة أبي تمام الفكرية ولمذهب أبي الطيب في معركة الشعر في كلمتين لنا نشرتا في عددي المناهل بالرباط رقم 12 و 13، وإنما نذكر ههنا في هذا الكتاب منهما ما نذكره مختصرًا كراهة التكرار.
ومما قد يحسن ذكره هنا أن الثعالبي جعل من مساوئ أبي الطيب ما سماه إساءة الأدب بالأدب. والمتأمل لشعر أبي الطيب واجد أن هذا الذي جعله أبو منصور من مساوئه، هو في الحق سر تفوقه وجوهر إحسانه. وما أحسب أن ذلك قد كان خافيًّا على أبي منصور، ولكنه قد كان صاحب دهاء وتقيةٍ ثعلبية «ومما يدل على هذا المعنى زعمه أن:«واحر قلباه ممن قلبه شبم» توشك أن تدخل في باب إساءة الأدب بالأدب، وقد عدها مع ذلك، وهي بلا ريب كذلك، من محاسنه.
إساءة الأدب بالأدب شيء نبز به مذهب أبي الطيب في حسر اللثام عن الشاعرية ومكافحة القول بلا تردد ولا تهيب ولا وجل:
يا أعدل الناس إلا في معاملتي
…
فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
أعيذها نظرات منك صادقة
…
أن تحسب الشحم فمن شحمه ورم
قالوا عني بذلك أبا فراس. والمعنى أوسع من أن يخص به أبو فراس وحده. فما أكثر من كانوا في مجلس سيف الدولة، وبين من مارسهم أبو الطيب آنئذ ومن قبل، ورمًا يلوح كأنه شحم. وجدير بمن يكون ورمًا في الحقيقة وهو يلوح مثل الشحم أن يغيظه مقال أبي الطيب هذا وأن يزعم أنه قد أساء الأدب بنسبة الغباوة والطيش في الحكم إلى الأمير الذي هو سيد الناس.
بعد أبي الطيب خبت وقدة سراج المدح الوهاجة. واستمرت من بعد ومضات يختلفن بين خابٍ وباهت وثويقب. وقل من ملوك الطوائف من ضاهي سيف الدولة في الفضل والأريحية، أو ضاهي معاصريه كأبي المسك وعضد الدولة مثلًا في مباراة فضله ونداه. هذا بالمشرق. وقد استمر لقصيدة المدح شأن عند ملوك الطوائف بالمغرب. وعراها ما عرا المشرقية من فرط التطويل والجد في إظهار قوة الملك. وقد صنع ابن خميس التلمساني، من رجال القرنين السابع وأوائل الثامن، طويلة على الخاء قارب بها تسعين بيتًا أو زاد وقصد بها العزفيين بسبته فما حظي بطائل. وكان ابن زيدون آخر شعراء المدح الكبار ذوي الحظوة بعدوة الأندلس. وكان المعتمد بن عباد آخر أجواد ملوك الطوائف، وكان امرأً مترفًا مثل ابن المعتز وأبي فراس إلا أنه كان دونهما ملكة شعر وفوقهما مرارة شكيمة مع قساوة مفرطة وشراسة في الانتقام. وكثير من مؤرخي الأدب يرق له إذ سجن بأغمات وعمل ابنه مع الصاغة ولا يرقون للمسكين ابن عمار إذ ضرب على أم رأسه
بالطبرزين. ولقد كان البطل المجاهد الصالح يوسف بن تاشفين أسمح نفسًا وأرق فؤادًا من المعتمد بلا ريب. رحمهم الله إنه غفور رحيم.
وإذا الشيء بالشيء يذكر فإن أبيات المعتمد التي أولها:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورًا
مما ينبغي أن ينبه أنه مما يروى لأن قائله كان ملكًا من شأنه كذا وكذا. وكذلك أبيات ابن اللبانة في ابن المعتمد وقد رآه صائغًا بعد الملك:
أذكى القلوب أسى أجرى الدموع دمًا
…
خطب وجودك فيه يشبه العدما
وعاد كونك في دكان قارعةٍ
…
من بعد ما كنت في قصر حكى ارما
يعني قارعة الطريق.
صرفت في آلة الصواغ أنملة
…
لم تدر إلا الندى والسيف والقلما
يد عهدتك للتقبيل تبسطها
…
فتستقل الثريا أن تكون فما
يا صائغًا كانت العليا تصاغ له
…
حليًّا وكان عليه الحلي منتظمًا
للنفخ في الصور هول ما حكاه سوى
…
يوم رأيتك فيه تنفخ الفحما
وددت إذ نظرت عيني إليك له
…
لو أن عيني تشكو قبل ذاك عمى
لح في العلى كوكبًا إن لم تلح قمرا
…
وقم بها ربوة إن لم تقم علما
زعم صاحب معاهد التنصيص أن هذه الأبيات من محاسن المبالغة. وعندي أن شأنها قصة من قيلت فيه.
وكان عبد المؤمن بن علي من رجالات المغرب شاعرًا جوادًا ذا بأس شديد وكان ناقدًا ذا بصر في ذلك. رووا أن شاعرًا أنشده كلمة أولها:
ما للعدة جنة أوقى من الهرب
فأمره ألا ينشده ما بعده واستحسنه وأجازه عليه. وكأنه خشي على هذا المطلع الهجير أن يكون ما بعده دون مستواه. ونحو هذا قد كان كثيرًا عند شعراء ذلك الزمان. منه مثلًا كلمة ابن الأبار التي مطلعها:
أدرك بخيلك خيل الله أندلسًا
…
إن السبيل إلى منجاتها درسا
فإن ما بعد هذا البيت من القصيدة على طولها دونه جودة ورنة. وقد فرغ ابن الأبار من كل ما كان يختلج في نفسه أن يقوله في مصراعي هذا البيت وضمنه الشعور القوي الذي كان كأنه يرى به من وراء الغيوب، أن لا سبيل إلى منجاة الأندلس، وأن خيله لن تدركها إلا أن تكون خيل الله التي تدركها وقد قضى الله سبحانه وتعالى قضاءه. فقوله بخيلك خيل الله إنما كشيء تمناه.
كان ابن الرومي على تقدمه على زمان أبي الطيب، وانتفاع أبي الطيب بدراية شعره وروايته في الحقيقة إرهاصًا لما سيئول إليه أمر القصيدة بعد أبي الطيب من ضياع ثواب وطول نفس وقلة بهاء.
وقد كثر مقلدو أبي الطيب في ي حياته وبعد مماته. وصدق إذ قال:
ودع كل صوتٍ غير صوتي فإنني
…
أنا الطائر المحكي والآخر الصدى
ومن هؤلاء من حرص على أن يضاهيه أو يزيد عليه كالشريف الرضي وأبي فراس الحمداني وأكثر روميات هذا جارى بهن قصائد بأعيانها من أبي الطيب وأخذ ما شاء من معانيه وألفاظه كمجاراته مثلًا لبائية أبي الطيب:
منى كن لي أن البياض خضاب
وفيها يقول:
إذا نلت منك الود فالمال هين
…
وكل الذي فوق التراب تراب
فقال الحمداني:
إذا نلت منك الود فالكل هين إلخ
وكأن حسب أنه بالكل يزيد على قول أبي الطيب فالمال -وقد نقص عن مستواه من جهتي الإيقاع والمعنى هنا.
وحاكى الشريف قول أبي الطيب:
ألا كل ماشية الخيزلي
…
فدى كل ماشية الهيدبي
وكل نجاة بجاوية
…
خنوفٍ وما بي حسن المشي
فقال في مطلع بائية له:
لغام المطايا من رضابك أعذب
…
ونبت الفيافي منك أشهى وأطيب
فالأول خشن جاف جاس وما زاد فيه شيئًا على مقال أبي الطيب وقد فسر أبو الطيب نفديته للناقة بالمحبوبة النسيبية- إذ جلي أن هذا مراده ولم يفعل الرضى شيئًا من ذلك بل حاول أن يؤكد معناه بعجز البيت فأفسده إذ نبت الفيافي معروف بالطيب. فأن يجعله أطيب منها نسبة منه لها إلى عكس طيب الرائحة، على وجه تخالطه معاني ملابسة الواقع. ولا يخفى ما في هذا من فساد المعنى وقبحه.
وقد نظم البحتري قصيدته في الذئب التي أولها:
سلام عليكم لا وفاء ولا عهد
…
أما لكم من هجر أحبابكم بد
وأكثر غرضها جار على معنى شكوى الحال والفخر، قال:
يود رجال أنني كنت بعض من
…
طوته الليالي لا يروح ولا يغدو
ولولا احتمالي ثقل كل ملمةٍ
…
تسوء الأعادي لم يودوا الذي ودوا
ذريني وإياهم فحسبي صرامتي
…
إذا الحرب لم يقدح لمخمدها زند
وجارى بوصف الذئب امرأ القيس وحميدًا والشنفري والمرقش والفرزدق، وباين هذين بأن هو الآكل من لحم الذئب لا الباذل له قرى. وهل كنى بالذئب عن بعض لئام الناس:
طواه الطوى حتى استمر مريره
…
فما فيه إلا العظم والروح والجلد
يقضقض عصلا في أسرتها الردى
…
كقضقضة المقرور أرعده البرد
سما لي وبي من شجة الجوح ما به
…
ببيداء لم تعرف بها عيشة رغد
عوى ثم أقعى فارتجزت فهجته
…
فأقبل مثل البرق يتبعه الرعد
فأوجرته خرقاء تحسب ريشها
…
على كوكب ينقض والليل مسود
وكان الحذاق من رماة العرب ربما رموا الليل على حسن ركز الصوت وعلى لمع الأعين ومما روى صاحب الكامل يقوله الخوارج:
لا شيء للقوم سوى السهام
…
مشحوذة في غلس الظلام
وهل أراد المعري أن يشير إلى مزعم البحتري في هذه الكلمة الذئبية حيث قال هو في طائيته:
ونبالة من بحترٍ لو تعمدوا
…
بليل أناسي النواظر لم يخطوا؟
قال البحتري وقد زعم أنه رمى الذئب فجرحه:
فما ازداد إلا جرأة وصرامة
…
وأيقنت أن الأمر منه هو الجد
فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها
…
بحيث يكون اللب والرعب والحقد
فهذا ينبئ عن آدمي لا ذنب ويكون الرمي والقتل والاشتواء كل ذلك كجازٌ.
فخر وقد أوردته منهل الردى
…
على ظمأ لو أنه عذب الورد
ونلت خسيسًا منه ثم تركته
…
وأفلت عنه وهو منعفر فرد
وكأنه يحاكي بالخسيس هنا قول المرقش:
نبذت إليه حزةً من شوائنا
…
حياء وما فحشي على من أجالس
فهذا مقال الجاهلي. ومقال الإسلامي:
قبت أقد الزاد بيني وبينه
…
على ضوء نارٍ مرة ودخان
وهو مرتاب به، فزعٌ منه وقائم سيفه من يده بمكان.
وأما العباسي المتحضر فأكله وزعم أنه إنما نال منه حزة ليس غير
…
فتأمل هذا الانحدار من المرقش ودهره إلى البحتري ودهره.
وختم البحتري بشكوى الدهر.
لقد حكمت فينا الليالي بجورها
…
وحكم بنات الدهر ليس له قصد
وشكوى الدهر عند البحتري قد أخلص لها قصيدة كاملة لا يخلطها بمدح وهي السينية وهي كثير عن أبي الطيب. وله قطعة في أسد الفراديس تجري مجرى ذئبية البحتري إلا أنها على قصرها أجود، إذ تحدث فيها عن تجربة حقيقية وذلك أنه مر بمكان سمع فيه الزئير، وفزع أن يصيبه من أسده شر، ثم جعل كل ذلك رمزًا وكنايةً عما كان عليه من أمل ووجل وثورة فؤاد. صرح وكنى معًا، وهي الكلمة التي أولها:
أجارك يا أسد الفراديس مكرم
…
فيأمن سار أم مهان فمسلم
ورائي وقدامي عداة كثيرة
…
أحاذر من لص ومنك ومنهم
ثم يقول:
فهل لك في حلف على ما أرومه
…
فإني بأسباب المعيشة أعلم
إذن لأتاك الرزق من كل وجهة
…
وأثريت مما تغنمين وأغنم
وقد نظر هنا إلى قول القتال في صاحبه النمر:
فأغلبه في صنعة الزاد أنني
…
أميط الأذى عنه وما إن يهلل
وقد رجع أبو الطيب عن هذه الأمنية في قوله المشهور كما تعلم:
ومن جعل الضرغام بازًا لصيده
…
تصيده الضرغام فيما تصيدا
وقد خلصت لأبي الطيب قصائد في الشكوى وقطع لا يخالطهن مدح منها ميمية الحمى:
ملومكما يجل عن الملام
…
ووقع فعاله فوق الكلام
وكان الطبيب البارع التيجاني الماحي (1) رحمه الله تعجبه هذه الميمية ويطيل تأمل صفة الحمى فيها ويقول هي الملاريا- ونسميها بدارجتنا الوردة (أي الورد) ويستحسن قول الأخنس بن شهاب التغلبي:
ظللت بها أعرى وأشعر سخنة
…
كما اعتاد محمومًا بخيبر صالب
وقول عبدة بن الطبيب:
رس كرس أخي الحمى إذا غبرت
…
يومًا تأوبه منها عقابيل
وكان رحمه الله يقول إن مرض النبي صلى الله عليه وسلم الذي توفى فيه ما كان إلا الورد، فالله أعلم أي ذلك كان وصلى الله على نبينا أفضل صلاة وتسليم وعلى آله وصحبه أجمعين، ورحم الله التيجاني الماحي، أدبيا وعالمًا وطبيبًا، رحمة واسعة أنه سميع مجيب.
(1)() وكان كبير الأطبة النفسانيين بالخرطوم وأستاذ الاختصاص بجامعة الخرطوم وكان عضو مجلس السيادة سنة 1964 وله كتاب تاريخ الطب العربي وكان عالمًا أدبيًّا ومن أولي الألباب رحمه الله تعالى.
وكأن الذي صنعه البحتري وأبو الطيب من قصائد الشكوى هذه إن كان إلا تمهيدًا لما أخذ فيه الشعراء من بعد من أصناف التأمليات وما أشبه مما يجعله الشاعر خالصًا للشكوى وللفن ولا يعمد فيه إلى المدح.
وقد أصاب أبو العلاء من المدح جانبًا ثم أضرب عنه. وقد نظم في عينيته:
لا وضع للرحل إلا بعد إيضاع
فخاطب بها الإسفرائيني أبا حامد فلم يجد عنده عونًا. وقصيدته في رثاء ذي المناقب والد الشريف الرضي:
أودى فليت الحادثات كفاف
…
مال المسيف وعنبر المستاف
كأنها لون من المدح وقد مدح فيها الرضي والمرتضى والمرضي أبناء ذي المناقب.
الموقدي نار القرى الآصال والـ
…
أسحار بالأهضام والأشعاف
حمراء ساطعة الذوائب في الذرى
…
ترمي بكل شرارةٍ كطواف
وهذا كما فطن الزمخشري يشير به أبو العلاء إلى آية «المرسلات» إلا أنني أحسب جار الله قد جار شيئًا على رهين المحبسين.
وكانت مدائح الشريف من مدحهم بمنزلة الإخوانيات لعلو مرتبته حتى لم يكن فوقه إلا الخليفة وقد ذكر ذلك صريحًا حيث قال:
مهلًا أمير المؤمنين فإننا
…
في دوحة العلياء لا نتفرق
إلا الخلافة ميزتك فإنني
…
أنا عاطل منها وأنت مطوق
وكانت مراثية بمنزلة المدائح، وحتى فيهن لم يكن ينسى علو منزلته وشرفه كقوله في الصابي:
ألا تكن من أخوتي وعشيرتي
…
فلأنت أعلقهم يدًا بفؤادي
وكقوله في الصاحب:
قد كنت آمل أن أراك فأجتني
…
فضلًا إذا غيري جنى أفضالا
وأفيد سمعك منطقي وفضائلي
…
وتفيدني أيامك الإقبالا
فهو سيجني من الصاحب لو كان لقيه فضلًا واحدًا وهو جاهه كما فسره من بعد في قوله «وتفيدني أيامك الإقبالا» ولكن الصاحب سيفيد منه منطقه وفضائله من شرف وبركة ويمن، ولا ريب أن الشريف كان يطمع في الخلافة لو وجد إليها سبيلًا، وقد كان لها أهلًا بنسبه الشريف وعلمه وعلو منزلته إلا أنه حرص على منازعة المتنبي لواء الشعر، ولا ريب أن أهليته له كانت دون أهليته للخلافة، ولله در لبيد إذ يقول:
فاقنع بما قسم المليك فإنما
…
قسم الخلائق بيننا علامها
هذا، وبعد فمن أصناف التأمليات لزوميات المعري وقد أعجب بها جماعة من المستشرقين أشد الإعجاب لما تضمنته من الطعون في الإسلام وقد صرح نيكلسون بهذا في كتابه عن تأملات المعري وقد ترجم منه قطعًا واختيارات عددًا. وفي اللزوميات أشعار جياد مما ضمنه أبو العلاء غضبة أو حزنًا أو رنة جزالة مثل القطعة الأولى:
أولو الفضل في أوطانهم غرباء
…
تشذ وتنأى عنهم القرباء
وبعض ما جاء فيها لم يخل من أنفاس زندقة كقولة:
وقد زوحمت بالجيش رضوى فلم تبل
…
ولز برايات الخميس قباء
هل ضلع مع أبي سفيان ووحشي في أحد ههنا أو ضلع مع جيش مسلم بن
عقبة؟ وبعض ما جاء فيها موغل في الجبر:
إذا نزل المقدار لم يك للقطا
…
نهوضٌ ولا للمخدرات إباء
وكأن قد نظر من طرف خفي ههنا إلى قول بشار:
عسر النساء إلى مياسرة
…
والصعب يمكن بعد ما جمحا
{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} نعوذ بالله من ذلك ومن الشيطان الرجيم عياذًا.
ومثل القطع التي هجا أو عرض فيها بطارق وهو امرؤ ارتد عن الإسلام فتنصر وقد كان فيما يبدو من حفظة القرآن، وجاوز الثلاثين وتنصر بعد وفاة أمه، فقال أبو العلاء:
ألا هل أتى قبر الفقيرة طارق
…
ينبئها بالغيب عن فعل طارق
تنصر من بعد الثلاثين ضلة
…
وكم لاح شيب قبلها في المفارق
وكان امرأ ما لم يخل من روح تعصب كره ضلة هذه فجعل مكانها «حجة» في إحدى طبعات اللزوميات، وليست بشيء إذ في الثلاثين دلالة على أنها سنوات. وقد تلتبس حجة بمعنى الحج وليس هذا مراد المعري. وإنما مراده الإشارة إلى ما فسروا به قوله تعالى {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فالمغضوب عليهم اليهود والضالون النصارى.
وبلغني في عصورنا هذه عن بعض أهل بلاد المسلمين بأفريقية حج ثم استزله الشيطان فتنصر مرجعه من الحج وحول زاويته فصارت كنيسة وتابعه على ذلك نفر فأدر عليهم مات صنعوا بعض أخلاف الدنيا {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} .
ثم يقول المعري في طارق هذا:
وفارق دين الوالدين بزائل
…
ولولا ضلال بالفتى لم يفارق
فعاد إلى معنى الضلال كما ترى. ولم يخل من خطأ إذ جعل أمر الدين عصبية نسب، وكأن هذا راجع إلى ما قال به في اللزوميات أيضًا:
وينشأ ناشئ الفتيان منا
…
على ما كان عوده أبوه
ثم أصلح ما أفسده بقوله من بعد يخاطب طارقًا ويذكره أيام كان مسلمًا حافظًا:
عددت زمانًا في السيوف وفي القنا
…
فأصبحت نكسًا في السهام الموارق
وحسبك من عارٍ يشب وقوده
…
سجودك للصلبان في كل شارق
وما حزن الإسلام مغداك زاريا
…
عليه ولكن رحت روحه فارق
تركت ضياء الشمس يهديك نورها
…
وتبعت في الظلماء لمحة بارق
صلاة الأمير الهاشمي بمسجد
…
أبر وأزكى من صلاة البطارق
مخاريق تبدو في الكنيسة منهم
…
بلحن يهم ويحكى غناء مخارق
رأيت وجوهًا كالدنانير أحكمت
…
زنانير فانظر ما حديث المفارق
فدونك خنزيرًا تعرق عظمه
…
لتوجد كالطائي تدعى بعارق
جعل صلاة الأمير الهاشمي أزكى لعدم الاختلاط وكأنه يتهم طارقًا بأن أغوته امرأة وقوله فانظر ما حديث المفارق لعب لفظي جيد أي نظرت إلى الوجوه وإلى الخصور فانظر إلى الشعور فهذا كله غزل. ثم ضمن هذا لعبًا بقولهم وجوه الحديث ومفارق الحديث، فكأن مراده إذ قال رأيت وجوهًا كالدنانير أحكمت على الخصور الزنانير فتأمل ماذا وراء ذلك من حديث إذن فاكفر وكل الخنزير وسيكون ذلك عارًا عليك فتلقب بعارق من عرقك عظمه كما لقب الطائي عارق بهذا من قبل.
ولعل خبر ردة طارق هذا يصحح ما زعموه من أن أبا العلاء لقي في بعض أسفار صباه من قسس النصارى من شككه في دينه لما فيه من الدلالة على نشاط مبشري النصرانية في ذلك الزمان ليفتنوا من يقدرون على فتنته عن الإسلام.
ومن كلمات اللزوميات الحسان ذوات الغضب كلمته في قصة المرأة التي أتت الجامع تشكو إلى الناس عدوانًا من أهل الفجور:
أتت جامعٌ يوم العروبة جامعًا
…
تقص على الشهاد بالمصر أمرها
فلو لم يقوموا ناصرين لصوتها
…
لخلت سما الله تمطر جمرها
فهدوا بناء كان يأوي فناءه
…
فواجر؟ للفواحش خمرها
أي كان يأوي إلى فنائه. ولعلها كان يؤوي فناؤه فواجر بالنصب فهذا أجود من حذف الخافض وما أشبه أن يكون من تحريف الناسخ.
وزامرةٍ ليست من الريد خضبت
…
يديها ورجليها تنفق زمرها
الزامرة عني بها امرأة. ثم جاء بلعب لفظي استعمل فيه مذهب أهل الفقه والضرر- يقول زامرة بشرية لا نعامة وتسمى النعامة زامرة لأن لها زمارًا فيه ترنيم كما مر من كلام علقمة والريد النعام، ثم ليؤكد إنها امرأة قال خضبت يديها ورجليها للفتنة. ولا يخلو هذا الوصف من فكاهة فقهاء- ثم يقول:
ألفنا بلاد الشام ألف ولادة
…
نلاقي بها سود الخطوب وحمرها
فطورًا نداري من سبيعة ليثها
…
وحينًا نصادي من ربيعة نمرها
وما العيش إلا لجة باطلية
…
ومن بلغ الخمسين جاوز غمرها
ومن أجود كلمات اللزوميات أبيات رثى بها أبا القاسم الوزير. وكان له ذا مودة:
ليس يبقى الضرب القصير هذا الدهـ
…
ـر ولاذو العبالة الدرحاية
يا أبا القاسم الوزير تغيبت
…
وغادرتني ثفال رحايه
وتركت الكتب الكثيرة للنا
…
س وما فزت منهم منهم بسحاية
إن نحتك المنون قبلي فإني
…
منتحاها وإنها منتحايه
إن يخط الذنب الصغير حفيظا
…
ك فكم من فضيلةٍ محايه
ولأبي العلاء غير اللزوميات فنون فيما يجري مجرى الفن الخالص والتأمل والبديع مثل ملقى السبيل وما ألفه الألغاز وديوان له يقال له استغفر واستغفري وأحسب منه كلمته:
أستغفر الله في أمني وأوجالي
وقد مر الاستشهاد بها من قبل.
وله الدرعيات وقد نبهنا إلى أمرها من قبل وذكرنا منها قطعًا وقد نشرت لنا كلمة عنها في مجلة المجمع وفي كتابنا «القصيدة المادحة» وأكثر ما هناك منشور في مواضع من هذا الكتاب.
وقد نبهنا إلى مكان الشعر الذي صنعه أبو العلاء على لسان أبي هدرش جني رسالة الغفران.
ولقد كان أبو العلاء ضخم الملكة غزير العلم عجيب البيان. وقد كان شديد التقديم لأبي الطيب. ولا أشك أنه كانت تدفعه إلى طلب التفوق عليه رغبات غير أنه كان أعقل من أن يخدع نفسه أو تخدعه بأنه سيربي عليه.
نتساءل لماذا قدموا أبا الطيب على أبي العلاء، وقد طرق كل فنون الشعر التي طرقها أبو الطيب، وزاد عليه فنونًا- نتساءل على لسان الذين اتبعوا نيكلسون وغيره من المستشرقين في تقديم أبي العلاء؟
والجواب عن ذلك قريب غير عسير إن شاء الله.
أولًا: إن أكثر شعر الفلسفة وما يذهب به مذهب الكلام مما يكون في الغالب خاليًّا من جمال الشعر. وقد أخذوا على صاحب الزينبية هذا المذهب. ولم يبق بأيدينا من طويلة أبي العتاهية ذات الأمثال شيء كثير إنما بقيت أبيات، وقد ذهبت أكثر الطرافة التي كان يجدها معاصروه غف زهدياته مع أنه ذهب بأكثرها مذهبًا وعظيًّا وجدانيًّا لا جدليًّا فكان ذلك أقرب بها إلى الناس، مثل كلمته:
خانك الطرف الطموح
…
أيها القلب الجموح
لدواعي الخير والشر
…
دنو ونزوح
لتموتن وإن عمر
…
ت ما عمر نوح
وقد نظم اللاحقي كليلة ودمنة فلم يحفظ منها شيء. وقد أورد الجاحظ شعرًا كثيرًا لأصحابه المعتزلة يتحدثون فيه عن مسائل فكرية وكونية في كتابيه الحيوان والبيان، وقل من أصحاب الاختيارات ونقاد الأدب من يهتم بذلك في باب الجودة، مع أن دالية صفوان الأنصاري التي يحتج فيها للأرض على النار لا تخلو من بعض الإحسان.
نبه أبو العلاء إلى أن الشعر متى حمل على وجه الحق أدركه الضعف وإنما يقوى في الباطل، ذكر هذا يعتذر به في مقدمة اللزوميات عما عسى أن يفتقده القارئ فيها من جمال الشعر الجيد. وجانب من هذا الذي اعتذر به لا يخلو من صواب. إلا أنه كله لا يمكن أن يقبل هكذا بلا تأمل ونظر. كثير من الشعر الذي يراد به الحق لا الباطل يجود وتطرب له الأسماع والقلوب.
مثلًا شعر الحكمة الذي تخالطه حرارة روح الفؤاد، مثل قول زهير:
ومن يوف لا يذمم ومن يهد قلبه
…
إلى مطمئن البر لا يتجمجم
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه
…
بهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
الأبيات- وقول طرفة:
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى
…
لكالطول المرخي وثنياه باليد
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا
…
ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وقول علقمة:
بل كل قوم وإن عزوا وإن كثروا
…
عريفهم بأثافي الشر مرجوم
والمال صوف قرار يعلبون به
…
على نفاذته وافٍ ومجلوم
وقول عنترة:
نبئت عمرًا غير شاكر نعمتي
…
والكفر مخبثة لنفس المنعم
وقول حبيب:
وإذا أراد الله نشر فضيلة
…
طويت أتاح لها لسان حسود
وكان عبد الله بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه رقيق أنفاس الشعر ساخنها صادق حرارة إيمانها، فهذا شهر لم يحمل على وجه من الباطل، وهو مع ذلك قوي جيد لا ريب في ذلك ما كان منه رجزًا وما كان قصيدًا. وقد ذكروا أنه كان يهجو المشركين بكرهم فكانوا كأنهم لا يبالون بذلك ثم لما أسلم منهم من أسلم تبينت لكثير منهم قوة مذهبه.
وقد ذكروا أن الأخطل لما سمع بيت جرير:
فمالك في نجدٍ حصاة تعدها
…
ومالك في غوري تهامة أبطح
زعم أنه لا يبالي بذلك وحق الصليب. وقد نرى أنه بالى لما في هذا القسم من الدلالة على أنه فطن لمراد جرير أن ينفيه من باحة الشرف التي شرفها العرب برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالإسلام.
وتأمل حلاوة هذه الأبيات والأشطار ورنة إيقاعهن:
بسم الإله وبه بدينا
…
ولو عبدنا غيره شقينا
تقول بدى بيدي كيرمي ويبدي كيسعى ويبدو كيرجو وقد استشهد بهذين الشطرين أبو عبيدة في مجاز القرآن. والعجب ممن زعم أن أبا عبيدة كان يلحن مع هذا العلم العميق الغزير. وكان بينه وبين الأصمعي تنافر. وكان هذا مقربًا عند الخلفاء فمن الراجح عند الظن أن يكون هذا ونحوه من دعاية تلاميذ الأصمعي وحزبه وكانوا على ذلك قادرين، والله تعالى أعلم.
وقال ابن رواحة رضي الله عنه:
لاهم لولا أنت ما اهتدينا
…
ولا تصدقنا ولا صلينا
إن الأعداء قد بغوا علينا
…
إذا أرادوا فتنة أبينا
فأنزلن سكينةً علينا
…
وثبت الأقدام إن لاقينا
وهذه الأشطار مما رواها البخاري في صحيحة كما رويت في السيرة.
وقال:
خلوا بني الكفار عن سبيله
…
خلوا فكل الخير في رسوله
نحن ضربناكم على تنزيله
…
كما ضربناكم على تأويله
ضربًا يزيل الهام عن مقيله
…
ويذهل الخليل عن خليله
وقد تمثل بهذه الأشطار أو ببعضها عمار بن ياسر رضي الله عنهما في صفين وقال:
فثبت الله ما أتاك من حسن
…
تثبيت موسى ونصرًا كالذي نصروا
وقال:
إذا بلغتني وحملت رحلي
…
مسيرة أربع بعد الحساء
فسيري وأربعي وخلاك ذم
…
ولا أرجع إلى أهلي ورائي
قال هذا في مسيره إلى مؤتة وبها استشهد وبيده اللواء رحمه الله ورضي عنه وأرضاه.
وإذن فالذي ينبغي أن يؤخذ على الأشعار التي يزعم أنه يراد به وجه الحق ثم توجد ضعيفة أنها لم تصدر عن حرارة عاطفة أو عن ملكة جيدة- وإذ ملكة أبي العلاء لا ريب في جودتها، فالذي يؤخذ عليه الوجه الأول مع ما صحب ذلك من الصناعة وتعب العمل.
ثانيًّا: إن أبا العلاء في اللزوميات وفي كثير مما نظمه، لم يعط الشعر من انطلاق النفس وقيادها كمثل ما أعطاه الشعر من الملكة والمقدرة على تجويد الصناعة. وقد فطن رحمه الله إلى هذا الجانب من نفسه إذ قال:
خليلي لا يخفى انحساري عن الصبا
…
فحلا إساري قد أضر بي الربط
كان أبو العلاء عالمًا ذكيًّا حر الفكر وقد اتهم بالزندقة وكتب الأدب والتراجم التي تذكره يذكر فيها الاستشهاد بما يريب من مقالاته مثل:
هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت
…
ويهود حارث والمجوس مضللة
اثنان أهل الأرض ذو عقلٍ بلا
…
دين وآخر دينٌ لا عقل له
ومثل:
أتى عيسى فأبطل دين موسى
…
وجاء محمد بصلاة خمس
وقبل يجيء دينٌ بعد هذا
…
فأودى الناس بين غد وأمس
ويقال إن الإمبراطور فردريك الثاني (589 - 647 هـ- 1194 - 1250 م) كان يتمثل بمعنى أبيات المعري هذه قالوا وكان يعرف العربية وقيل كان مسلمًا في السر. وقد حاربته كنيسة روما ثم حاربت أسرته من بعده حربًا كبيرة لا هوادة فيها.
على أن أبا العلاء إنما كان جريئًا مقداما على القول في العموميات من مسائل الفكر والسياسة والاجتماع والدين، والشواهد على ذلك كثيرة، وكان مع هذا كثير الاحتراس، مستعملًا لأسلوب التقية يخاتل به نحو:«وقيل يجيء دين بعد هذا» ونحو:
جائز أن يكون آدم هذا
…
قبله آدم على إثر آدم
وقوله:
ما الحج في رأي قوم لست أذكرهم
…
إلا بقية أوثان وأنصاب
وأشياء كثيرة من هذا المجرى في اللزوميات ورسالة الغفران.
ولم يكن أبو العلاء جريئًا مقدامًا على القول الصريح فيما يتناول أناسًا بأعيانهم أو قضايا بأعيانها. وقد فطن لهذا من أمره ياقوت حيث أورد المناظرة الرسائلية بينه وبين داعي الدعاة. وجلي أن أبا العلاء آثر التقية والمراوغة. وأما نحو قوله الذي مر في طارق الذي ارتد فإنما جسره عليه أن الرجل قد غيظ منه المسلمون بذلك الصقع أجمعون فكان أبو العلاء في مأمن إذ هجاه وقد سر الناس بما قال وصحح أمر عقيدته عند من عسى أني كون شاكًّا غف أمره، إذ الغضب للإسلام من أدلة صحة العقيدة وصدق الإيمان. ونحو قوله:
أقيمي لا أعد الحج فرضًا
…
على عجز النساء ولا العذارى
فما عدا فيه قول من منع النساء من المساجد، ثم قد احتج بقوله:
ففي بطحاء مكة شر قوم
…
وليسوا بالحماة ولا الغيارى
ترى أبناء شيبة سادنيها
…
إذا راحت لكعبتها الجمارى
قيامًا يدفعون الناس شفعا
…
إلى البيت الحرام وهم سكارى
وهذا إنما حكى به بعض ما روى له، وكان في بعد المسافة بين الشام
والحجاز ما يؤمنه ألا يؤاخذه على مقالته هذه من يغضب لها من خادمي البيت الحرام، وعسى ألا تبلغهم.
وازن بين تحرز أبي العلاء وبين جسارة أبي الطيب حيث يقول:
بأي لفظ تقول الشعر زعنفةٌ
…
تجوز عندك لا عرب ولا عجم
يا أعدل الناس إلا في معاملتي
…
فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
أعيذها نظرات منك صادقة
…
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
فهذه مواجهة صارحة وقد قاتل مقالًا بمشهد من زعانف الشعر المعنيين بهذا الهجوم وذوي الورم المحسوم أنه شحم.
وقال بشامة بن الغدير وهو جاهلي. خال زهير بن أبي سلمى:
وخبرت قومي ولم ألقهم
…
أجدوا على ذي شويسٍ حلولا
فأمل هلكت ولم آتهم
…
فأبلغ أماثل سهم رسولا
بأن قومكم خيروا خصلتين
…
كلتاهما جعلوها عدولا
خزي الحياة وحرب الصديق
…
وكلا أراه طعامًا وبيلا
فإن لم يكن غير إحداهما
…
فسيروا إلى الموت سيرًا جميلًا
ولا تقعدوا وبكم منة
…
كفى بالحوادث للمرء غولا
وحشوا الحروب إذا أوقدت
…
رماحًا طوالًا وخيلًا فحولا
ومن نسج داود موضونة
…
للقواضب فيها صليلا
قال بشامة هذا ونصح قومه وتنحل لهم الرأي، وفيه ما ترى من جراءة، ومن وضوح فهم للقضية وشرح لها: أنتم بين أمرين أن تقبلوا خطة استسلام تكون عليكم عارًا وخزيًّا، وأن تحاربوا من يسومكموها وهم كانوا حتى الآن لكم صديقًا
وإذ لا بد من الاختيار فأنا أختار لكم الحرب، وإن يكن فيها هلاككم، على أن
فيكم قوة، وكل ذي قوة فليس من حدثان الدهر ولا من حمام الموت بمأمن، فسيروا إلى الموت سيرًا جميلًا- سير شجعان مقدمين على الحرب معدين لها عدتها رماحًا وخيلًا ودروعًا جيادًا.
تربص أبو العلاء وتريث حتى ثار أهل المعرة بصاحب الماخور ثم قال:
أنت جامع يوم العروبة جامعا
الأبيات، وفيها غضبة، ولكنها تتضمن مدحًا لقوم غضبوا قبله، فقال ما قال وهو آمن.
وتأمل قوله لصالح بن مرداس، وقد بعثه قومه بالمعرة شفيعًا فيهم:
ولما مضى العمر إلا الأقل
…
وحان لروحي فراق الجسد
بعثت شفيعًا إلى صالح
…
وذاك من القوم رأى فسد
فيسمع مني سجع الحمام
…
وأسمع منه زئير الأسد
فلا يعجبني هذا النفاق
…
فكم نفقت محنة ما كسد
يعني بهذا النفاق، الملق الذي تملق هو به صالحًا في سجعات ذكروها. وقد ذهب أبو العلاء في هذه الأبيات مذهب أهل الزهد والمسكنة- وعسى أن يكون عبر بها عن ندم صادق.
وتأمل أبيات بشامة، كيف رتب على الفكرة الواضحة عنده، إما الذل وإما حرب الصديق، اختيار الحرب ثم فرع من ذلك أمر السير إلى الموت والاستعداد للحرب وألا يقعدوا وبهم منة- ونقول على باب الاستطراد والشيء بالشيء يذكر أن زهيرًا إنما نظر في المعلقة إلى أبيات خاله هذه، حيث قال:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمو
…
وما هو عنها بالحديث المرجم
الأبيات، فرع من معاني شؤم الحرب وكراهتها ما يشبه في طريقة التفريع
والتدرج مذهب خاله الذي قدمنا. وعندنا أن جعل زهير تلميذًا لأوس حج أمرٌ فيه نظر. وقد نبهنا القدماء إلى تعلمه الشعر من خاله بشامة في خبر الميراث الذي ذكروه.
هذا ولم يكن المعري جبان القلب، أمرًا حتمًا نقول به، لا ولا منافقًا عن غريزة نفس. ولكنه قد صار ضريرًا. فأكثر تهيبه وتحرزه راجع إلى ضرره. وقد مر بك قوله يعتذر عن ترك الحج:
فقلت إني ضرير والذين لهم
…
رأي رأوا غير فرضٍ حج أمثالي
ولقد كان بارعًا رحمه الله في الاحتماء بما أتاح له ضرره، وعلمه وذكاؤه وهو ضرير، من أساليب التقية. وقد أمكنه هذا المذهب من التقية من ضروب من حرية القول في الأديان وأحوال المجتمع- ولكنه قد جعل النظم مركبًا ذلولًا، فينبغي التنبيه ههنا على أن شعره إنما هو في سقط الزند والدرعيات وأشياء قليلة بعد ذلك. وقد كان الدكتور طه حسين على شدة حبه لأبي العلاء يرى أن شعره الجيد في سقط الزند. وكان في سقط الزند متبعًا لأبي الطيب وأبي تمام معًا وللبحتري أحيانًا.
واعلم أصلحك الله أن الشعر حق الشعر والتقية لا يجتمعان لأن الشعر من أصل معدنه ألا يتهيب.
وقد كان بشار ضريرًا ولكنه لم يكن صاحب تقية، فجر ذلك عليه أن قتله خليفة كان يسعه عفوه وهو له نديم. وأشد من ذلك جر عليه أن أهمل شعره الذي هجا فيه بعض من له خطر من أهل المقالات في زمانه. وأورد له الجاحظ البيت والبيتين في هجاء واصل:
مالي أشايع غزالًا له عنق
…
كنقنق الدو إن ولى وإن مثلا
وينبغي أن يكون بعض خلصاء بشار قد وصف له هيئة واصل مقبلًا وموليًّا.
عنق الزرافة ما بالي وبالكمو
…
تكفرون رجالًا كفروا رجلا
وأتبع ذلك بهجاء من هجوه فأفاض.
وقد كان شعر أهل الزندقة وأهل الأهواء المحفوظ لدى المروي كثيرًا. من شواهد ذلك إثبات أبي العلاء ما أثبت منه في رسالة الغفران ولكنه أضاعه عدم التقية فكره أهل الصلاح روايته من بعد فأضيع.
ومما أعان على بقاء لزوميات أبي العلاء على ما فيها من التقية والعقربيات (بتقديم العين على القاف) ما حلاها به من صناعة البديع ومن الإشارات اللغوية والغريب- وكأن هذا انحراف انحرف به أبو العلاء عن مذهب أبي الطيب لما تبين له أنه غير مستطيعه. وقد كان بهذا أحزم في باب الأدب، وأعلم بحدود ملكته ومدى مقدرته على جسارة الشعر الضرورية للتبريز به والبلوغ مبلغ أبي الطيب وأبي تمام وأبي عبادة من معاصره الشريف الرضي.
وقد افتن الناس في البديع وصناعة الشعر عليه افتنانًا -ما كان لفظيًّا منه وما كان معنويًّا- مثلًا كلمة الأرجاني في صفة الشمعة، التي حاكى بوزنها ورويها أبيات القطاة:
أما القطاة فإني سوف أنعتها
…
نعتًا يوافق نعتي بعض ما فيها
وقد أورد صاحب معاهد التنصيص قطعًا منها وهي طويلة- مثلًا منها:
نمت بأسرتار ليلٍ كان يخفيها
…
وأطلعت قبلها للناس من فيها
قلب لها لم يرعنا وهو مكتمن
…
ألا ترى فيه نارًا من تراقيها
فيهة لم يزل طول اللسان لها
…
في الحي يحني عليها خ=حذف هاديها
غريقة في دموع وهي تحرقها
…
أنفاسها بدوام من تلظيها
يخشى عليها الردى مهما ألم بها
…
نسيم ريح إذا وافى يحييها
لها غرائب تبدو من محاسنها
…
إذا تفكرت يومًا في معانيها
فالوجنة الورد إلا في تناولها
…
والقامة الغضن إلا في تثنيها
قد أثمرت وردة حمراء طالعة
…
تجني على الكف أن أهويت تجنيها
صفر غلائلها حمر عمائمها
…
سودٌ ذوائبها بيض لياليها
وصيفة لست منها قاضيًّا وطرًا
…
إن أنت لم تكسها تاجًا يحليها
صفراء هندية في اللون إن نعتت
…
والقد واللين إن أتممت تشبيها
قال صاحب المعاهد في التقديم لهذه القصيدة لما اختاره منها (طبعة مصطفى محمد- القاهرة- 1367 هـ- ح 3 - ص 42/ 43): «وله قصيدة يصف فيها الشمعة وقد أحسن فيها كل الإحسان واستغرق سائر الصفات ولم يكد يخلى لمن بعده فيها فضلًا، ولنذكر منها طرفًا منها إلخ» .
والمتأمل لأبيات الشمعة هذه واجد فيها مذهبًا بين اللغز والتشبيه- وهذا هو جانب البديع المعنوي فيها، غوص وتصيد. والبديع اللفظي ظاهر في الجناس والطباق والتقسيم وما هو بهذا المجرى.
هذا وقد بلغ الافتنان البديعي أوجه في مقامات الحريري- وقد جمع فيها بين جاحظية بديع الزمان ومعاصريه من بلغاء أهل الرسائل وصناعة أبي العلاء الفلسفية اللغوية الآخذة بمظهر وقار العلماء وسمت جدهم وفكاهتهم.
وقد كتب الدكتور زكي مبارك رحمه الله وغيره فصولًا صالحة عن المقامة وأصولها وزعم أن ابن دريد وأحاديثه أصل ذلك. ولعل هذا الوجه الذي ذهب إليه هو الصواب. غير أن في كتب الأدب التي بين أيدينا ما يدل على أن المقامة شيء قديم عرفه العرب في جاهليتهم وإسلامهم. قال زهير:
وفيهم مقامات حسان وجوههم
…
وأندية ينتابها القول والفعل
وقال تعالى انبينا عليه أفضل الصلاة والسلام: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا
مَحْمُودًا} والمقامة المجلس وكذلك المقام ولا يكون المجلس مجلسًا إلا وفيه حديث وقد كان في كلتا الدولتين الأموية والعباسية أصحاب مقامات، مثل سحبان وخالد بن صفوان من أهل الخطابة وغيرها من ضروب الوعاظ والقصاص الذين أورد الجاحظ نوادر وملحًا عنهم وأصحاب الكدية ومن إليهم. ومقامات الزمخشري قد نحا فيها نحو الوعاظ وليس له فيها عيسى ولا حارث. وما كان مكان الراوي في نهج البديع والحريري عليه بذي خفاء وهو بعد الذي قال:
«إن الحريري حريٌّ بأن
…
نكتب بالتبر مقاماته»
وقد كان بديع الزمان حاد الذهن، ذا جرأة وشر وخبث لسان ودهاء وبديهة وارتجال، نقل الشريشي عن بعض أشياخه أن البديع أملى مقاماته كلها ارتجالًا قال كان يقول لأصحابه في آخر مجلسه اقترحوا غرضًا نبني عليه مقامه فيقترحون ما شاءوا فيملي عليهم المقامة ارتجالًا في الغرض الذي اقترحوه وهذا أقوى دليل إن صح على فضل البديع. أ. هـ.
وإن صح وهو صحيح إن شاء الله تعالى لما عرف من بديهة البديع وفوران مرجله قال البديع لا يكون قد اخترع فن المقامة، ولكنه حاكاه، إذ هو لم يقم بما صنع مقام خطيب سحباني أو صفواني أو مقام مكد ساساني أو واعظ أو قاص- ولكن صنع صناعة أديب يحاكي عمل هؤلاء، على سبيل المباراة والمباهاة والإمتاع. مثلًا في المقامة الأذربيجانية: «قال عيسى بن هشام، لما نطقني الغنى بفاضل ذيله، اتهمت بمالٍ سلبته أو كنز أصبته. فحفزني الليل، وسرت بي الخيل. وسلكت في هربي مسالك لم يرضها السير ولا اهتدت إليها الطير. حتى طويت أرض الرعب وتجاوزت حده، وصرت إلى حمى الأمن ووجدت برده. وبلغت أذربيجان وقد حفيت الرواحل وأكلتها المراحل. ولما بلغتها:
نزلنا على أن المقام ثلاثة
…
فطابت لنا حتى أقمنا بها شهرًا
فبينا أنا يومًا في بعض أسواقها إذ طلع رجل بركوةٍ اعتضدها وعصا قد اعتمدها ودنيةٍ قد تقلسها، وفوطة قد تطلسها. فرفع عقيرته وقال: اللهم يا مبدئ الأشياء ومعيدها، ومحيي العظام ومبيدها، وخالق المصباح ومديره، وفالق الإصباح ومنيره، وموصل الآلاء سابغة إلينا، وممسك السماء أن تقع علينا. وبارئ النسم أزواجًا، وجاعل الشمس سراجًا، والسماء سقفًا والأرض فراشًا، وجاعل الليل سكنًا والنهار معاشًا. ومنشئ السحاب ثقالًا، ومرسل الصواعق نكالًا. وعالم ما فوق النجوم، وما تحت التخوم. أسألك الصلاة على سيد المرسلين محمد وآله الطاهرين، وأن تعينني على الغربة أثنى حبلها، وعلى العسرة أعدو ظلها، وأن تسهل على يدي من فطرته وأطلعته الطهرة، وسعد بالدين المتين، ولم يعم عن الحق المبين، راحلة تطوي هذا الطريق، وزادًا يسعني والرفيق. قال عيسى بن هشام: فناجيت نفسي بأن هذا الرجل أفصح من إسكندرينا أبي الفتح، والتفت لفتةً فإذا هو والله أبو الفتح. فقلت يا أبا الفتح بلغ هذه الأرض كيدك، وانتهى إلى هذا الشعب صيدك، فأنشأ يقول:
أنا جوالة البلا
…
د وجوابة الأفق
أنا خذروفة الزما
…
ن وعمارة الطرق
لا تلمني لك الرشا
…
د على كديتي وذق»
أ. هـ.
فهذه كما ترى مقامة مكد غير أن البديع إنما كان معلمًا يحكي بصناعة بيانه مقامة المكدين.
على هذا تكون المقامة شيئًا بين القصص والدرامة ثم لا هو بقصص ولا بدرامة. إما كونها ذات طبيعة قصصية لأن السياق خبرٌ وحكاية عن أشخاص وأحداث. وإما كونها ذات طبيعة درامية لأنها تحكي حال أشخاص من طريق مقال
على ألسنة مزعومة لهم. وإما كونها غير قصصية لأن قوام القصة على العقدة والعقدة هنا معروفة منذ البدء ان المتكلم مكد وهو أبو الفتح وأن الراوي سيفطن أو قد فطن له. اللهم إلا أشياء شذت كخبر الهزبر وبشر، والقصد إلى الإمتاع بخبر قصير أو نادرة أغلب وأظهر من القصد إلى إيراد حكاية قصة متسلسلة الأحداث منيرة العقدة محكمتها. وإما كونها غير درامية لأنها رواية مملاة ليستمتع ببلاغتها كما يستمتع ببلاغة الرسائل والخطب والقصائد وليست مرادة للتمثيل بالفعل أو بالقوة أو على سبيل التوهم.
المقامة فن جاء به البديع للإمتاع وللسخرية من أناس بأعيانهم وأحوالٍ بأعيانها في عصره وتقمص به من طريق الإملاء في مجالسه قميص صاحب المقامة المكدي، واستعمل أسلوب أصحاب الحديث والجد في العلوم فأسند كلامه إلى راوٍ مزعوم عن بطل مزعوم، الراوي عيسى بن هشام، والبطل أبو الفتح الإسكندري، نسبة إلى إسكندرية الأندلس، بلدة كانت بالوادي الكبير درست معالمها كما ذكر الشيخ محمد عبده رحمه الله في شرحه.
وسوغ له هذا الوجه ما كان من مذهب العرب في الرواية في الشعر والأخبار. وكان قد ألمع إلى هذا من مذهبه حيث زعم في إحدى مقاماته أن راويه عيسى بن هشام لقي عصمة الفزاري راوية غيلان ذي الرمة، وهي المقامة الغيلانية. وعيسى بن هشام والإسكندري كلاهما جعله البديع كناية عن نفسه ليتقمصه ويملي ما عن له وما اقترح عليه على لسانه. وأن يقترح عليه أشبه لما كان مطبوعًا عليه من الجرأة والدهاء والسخرية والهجاء، ولا يخفى أن المقترحين يعمدون إلى أحداث وأحوال وأشخاص مما يعهد فيلتمسون أن يجعله البديع بعبقريته موضوع مقامة.
وكون البديع هو عيسى وأبو الفتح كلاهما، سوغ له مثل إيراد خبر بشر
والأسد والحية ومثل خبر عصمة وذي الرمة- في خبر ذي الرمة ما عيسى بن هشام إلا رمز لتحصيل البديع وعلمه، وفي خبر بشر كذلك فأغنى ذلك عن أبي الفتح.
ولا يتسع المجال ههنا للحديث عن البديع وتدفقه المذهل ومقدرته الفائقة على التضمين والاقتباس وهو يرتجل ووصله الشعر بالنثر سهلًا رهوًا كأنه جزء ملتحم به كقوله مثلًا في المقامة الأسدية (وأخذ أكثر أمرها من شعر أبي زبيد وأخبار): وتبادر إليه من سرعان الرفقة فتى:
أخضر الجلدة من بيت العرب
…
يملأ الدلو إلى عقد الكرب
بقلبٍ ساقه قدر وسيفٍ كله أثر وعدنا إلى الرفيق لنجهزه:
فلما حثونا الترب فوق رفيقنا
…
جزعنا ولكن أي ساعة مجزع
وعدنا إلى الفلاة وهبطنا ارضها
…
أ. هـ.
يجوز أن يكون البديع قصد في بعض ما قصده مجاراة شيخ الأدب ابن دريد في أحاديثه كما ذكر الشريشي في نقله عن صاحب زهر الآداب أنه قال إن الذي سبب للبديع رحمه الله تأليف مقاماته هو أنه رأى أبا بكر بن الحسن بن دريد قد أغرب بأربعين حديثًا ذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره وانتخبها من معادن فكره على طبع العرب الجاهلية، بألفاظ بديعة حوشية، فعارضه البديع بأربعمائة مقامة لطيفة الأغراض والمقاصد، بديعة المصادر والموارد. انتهى كلامه. قال الشريشي بعد هذا والذي قصد بها إمتاعه السامع من حديثها وفيها مقامات لا تبلغ عشرة أسطار فجاءت مقامات الحريري أحفل وأجزل وأكمل فلذلك فضلت المقامة البديعية. أ. هـ.
أحسب أن الذي ذكره الدكتور ذكي مبارك رحمه الله في النثر الفني أن
أحاديث ابن دريد المشار إليها هي التي رواها عنه صاحب الأمالي. قلت في هذا نظر. صاحب الأمالي، وليس بذي غفلة، يسوق ما رواه عن ابن دريد على أنه رواية لا اختراع. هل الأربعون حديثًا التي زعم صاحب زهر الآداب أن ابن دريد اخترعها غير هذه التي روى القالي؟ هل كانت مجموعة قائمة بنفسها أم وهم صاحب زهر الآداب؟ ويبدو أنه لم يهم بدليل ما نسب إليه ابن دريد من الكذب والافتعال، فلا يكون ذلك فيما أخذ عنه في الجمهرة وما رواه العلماء من تلاميذه رواية تحقيق عنه، وإنما يكون ذلك من قبيل الطعن عليه في هذا الذي حاكى به أساليب أهل الجاهلية- إما حسدًا له وإما لم يجدوا فيه ما ظنه هو مضاهيًّا لكلام الجاهليين وقد سلك ابن دريد في نظم الشعر مسلكًا يجعل مجيء مثل هذا منه في المنثور والمسجوع مما لا يستبعد حقًّا.
ومما يشهد بالتحامل على ابن دريد هجوم الأزهري عليه في مقدمة التهذيب وقد أحسن السيوطي في الدفاع عنه في المزهر رحمهم الله جميعًا. وظاهر كلام الشريشي يستفاد منه تضعيف ما ذكره صاحب زهر الآداب.
هذا، وقولنا آنفًا أن بديع الزمان جاحظي المذهب عنينا به أنه لما عمد إلى محاكاة مذهب أهل المقامات، اتبع منهجًا يتدفق به كتدفق الجاحظ مع سرعة النادرة والبادرة والارتياح إلى الاستشهاد بالشعر والانشراح إلى بسط الوصف في فقرات متتابعات الإيقاع آخذ بعضها برقاب بعض.
وقد نبه الدكتور طه حسين في كتابه القيم المفيد «من حديث الشعر والنثر» على أن النثر قد جعل يخلف الشعر، ويستخدم فنونًا كن له، فحازهن إلى فنون ترسله وازدواجه وسجعه. وزعم أن نثر الجاحظ على الخصوص ذو حظ من الشاعرية عظيم. وقد كان الجاحظ شاعرًا حسن الشعر، غير أنه كان أمرأً عاقلًا، علم أنه لا تبلغ ملكته في الشعر ملكة أبي نواس من أبناء جيله أو ملكه أبي تمام من
الجيل الذي تلا، وكانت له قدوة حسنة في فضلاء آثروا أن يدعو الشعر لأهله كابن المقفع والخليل بن أحمد. وما جعل النثر يخلف الشعر إلا لتضعضع منزلته.
وما كان محمد بن عبد الملك الزيات إلا شاعرًا، ولكنه لما رأى سبيل المجد من طريق الكتابة، صار إليها فبلغ الوزارة -والوزارة منصب، كما قال له أبو تمام يعيبه بذلك، «يغص به بعد اللذاذة شاربه» .
وقد أشرنا إلى أنه لما ضعفت الدولة، ضعفت منزلة الكتابة أيضًا. غير أنها ظلت مع ذلك سبيلًا يترقى على درجها إلى الوزارة. على أنه ربما ترقي بالشعر أحيانًا كما كان من أمر الطغرائي.
وزعم المرزوقي أن الشعر دون النثر ونسب قوله هذا إلى العرب أنه من مذهبهم واحتج بالقرآن لإعجازه أن به النثر أفضل من الشعر، والقرآن كلام الله، والنظم والنثر كلاهما كلام الناس فما احتج به مراء وجدل. وله بعد تقعر لا بلع به من النثر طلاوة ولا من النظم حلاوة.
أبو العلاء المعري معاصر لزمان بديع الزمان. وفصوله وغاياته فيهن مشابه من المقامات وأغلب الظن أن صنعها بعد انصرافه من بغداد لأن فيها روح ما عزم عليه من ترك اللحم وهلم جرا ثم كأن أسلوبه رياضة لما حمل عليه نفسه من النظم بلزوم ما لا يلزم مع التصنيع والإغراب. ورسالة الغفران مقامية الأسلوب في شطرها الأول، فحديث: الأسود والسويداء من ضرب اللعب اللفظي الذي عند البديع وبلغ به الحريري غايات وحديث:
ألم بصحبتي وهم هجوع
…
خيالٌ طارق من أم حصن
وتفريع ما فرعه عليها، كذلك.
واجعل ابن القارح بمنزلة عيسى بن هشام. وخبر المحشر وجواز الصراط
كل ذلك مقامة. وللبديع مقامة إبليسية يذكر فيها أن عيساه لقي أبا مرة فأنشده:
بان الخليط ولو طووعت ما بانا
وزعم أنها له وأنه نحلها جريرًا، واستنشده لبي نواس قال: فأنشدته
لا أندب الدهر ربعًا غير مأنوس
…
ولست أصبو إلى الحادين بالعيس
أحق منزلةٍ بالهجر منزلة
…
وطل الحبيب عليها غير ملبوس
يا ليلة غبرت ما كان أطيبها
…
والكوس تعمل في إخواننا الشوس
وشادنٍ نطقت بالسحر مقلته
…
مزنر حلف تسبيحٍ وتقديس
نازعته الريق والصهباء صافيةً
…
في زي قاض ونسك الشيخ إبليس
لما ثملنا وكلا الناس قد ثملوا
…
وخفت صرعته إياي بالكوس
غططت مستنعسًا نومًا لأنعسه
…
فاستشعرت مقلتاه النوم من كيسي
وامتد فوق سرير كان أرفق بي
…
على تشعثه من عرش بلقيس
وزرت مضجعه قبل الصباح وقد
…
دلت على الصبح أصوات النواقيس
فقال من ذا فقلت القس زار ولا
…
بد لديرك من تشميس قسيس
فقال بئس لعمري أنت من رجل
…
فقلت كلا فإني لست بالبيس
قال وطرب وشهق وزعق إلخ».
قلت فأبو العلاء جاء في خبر رضوان ببيت جرير قال: «فغبرت برهة نحو عشرة أيام الفانية ثم عملت أبياتًا في وزن:
بان الخليط ولو طووعت ما بانا إلخ».
ثم يقول له أحد أعوان رضوان اسمه زفر بعد أن أنشده رائية على وزن كلمة لبيد.
تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما
…
وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
فهل مجرد مصادفة مجيء إبليس وبيت جرير في كلام أبي العلاء من دون سابق تأثر بالبديع؟
ثم قد ترى الأبيات الخبيثة التي طرب لها إبليس - (وما أحسب إلا أن البديع أراد التعريض ببعض ما يقع عند أهل الرهبنة، وقد جاء كمثل ما عرض به في اعترافات جان جاك روسو فتأمل) - هل أيضًا من قبيل المصادفة أن أبا العلاء جعل إبليس جحيمه يقول وهو يضطرب في الأغلال والسلاسل: «إني لا أسألك في شيء من ذلك، ولكن أسألك عن خبر تخبرينه: إن الخمر حرمت عليكم في الدنيا وأحلت لكم في الآخرة، فهلا يفعل أهل الجنة بالولدان المخلدين فعل أهل القريات؟ » .
فهذا كما ترى عين ما ذهب إليه بديع الزمان.
وأحسب أنه قد تقدم منا من قبل الإلماع إلى أخذ أبي العلاء من مواضع أخرى كثيرة سبق إليها الأدباء والعلماء والقصاص وليس ههنا موضع استقصاء ذلك. وليس بمخرج رسالة الغفران عن صنف المقامات طولها وان صاحبها سماها رسالة لا مقامة وأنه جعل مسرح حوادثها الدار الآخرة محاكيًّا في ذلك كتاب التوهم للحارث بن أسد المحاسبي وما أشبهه مما وصلنا وما لم يصلنا والحارث بن أسد رحمه الله من زمان ابن حنبل رضي الله عنه وذلك ومان سابق لعصر المعري بقرن وزيادة.
وإليك نتفة يسيرة من كتاب التوهم لترى مصداق ما نزعمه من أخذ المعري منه ومن مثله: «فتوهم النجائب حين أخذت في السير بأخفافٍ من الياقوت سيرًا واحدًا بخط واحد لا يتقدم بعضها بعضًا، تهتز أجسام أولياء الله عليها من نعيمها وأكتافهم متحاذية في سيرهم وأخفاف رواحلهم وركبها متحاذية في خببها، فانطلقوا كذلك تثير رواحلهم المسك بأخفافها، وتهتز رياض الزعفران بأرجلها، فلما دنوا
من أشجار الجنة رمت الأشجار إليهم من ثمارها فصارت الثمار وهم يسيرون في أيديهم، فيا حسن تلك الثمار في أكفهم إلخ».
قال المعري في أوائل رسالة الغفران: «فإذا رأى نجيبه يملع بين كثبان العنبر، وضميرانٍ وصل بصعبر رفع صوته متمثلًا إلخ» .
انظر إلى التشابه في نعت سير نجائب الجنة وقد جعل أبو العلاء مسك الحارث وزعفرانه عنبرًا وضيمرانًا وصعبرًا كما ترى.
لم يكن المعري صاحب بديهة واقدة سريعة كالبديع ولكن صاحب أناة وعمق. وكلاهما ذو فكاهة، ولكن البديع كان ابن وقته، عقارب سخريته ومقته وجهها إلى ضروب من معاصريه، فيبدو عمله كأنه فيه سطحي- كمقامته المضيرية مثلًا، فقد انتهج فيها نهج الجاحظ وكاد يمل بالتكرار للفكرة الواحدة التي استولت على التاجر وهو أن يزكي نفسه وكل ما عنده تزكية لا يمازجها أدنى شعور بالتواضع أو رقة الإحساس. مثلًا قوله:«أنا بحمد الله مجدود، في مثل هذه الأحوال محمود، وحسبك يا مولاي أني كنت منذ ليال نائمًا في البيت مع من فيه، إذ قرع علينا الباب فقلت من الطارق المنتاب، فإذا امرأة معها عقد لآل، في جلدة ماء ورقة آل تعرضه للبيع، فأخذته منها أخذة خلس، واشتريته بثمن بخس، وسيكون له نفعٌ ظاهر، وربح وافر، بعون الله ودولتك، وإنما حدثتك هذا الحديث لتعلم سعادة جدي في التجارة إلخ» وأحسب أن مضي الزمن على هذه المقامة وزوال ملابسات زمانها لها هو الذي يجعلنا نستشعر نحو تتتابع موضوعات تزكية التاجر أبريقه وطسته والما الأزرق كعين السنور والمنديل الذي هو من نسج جرجان وعمل أرجان وهلم جرا ونحس من أجل هذا أن في البديع مع حسن بديعه سطحية. والحق أن البديع بعيد عن السطحية. ولا شك أن أصحاب مجلسه كانوا يعلمون مواضع الغمز واللمز والتعريض في كل ما قال. وهذا أمر فاتنا ضربة لازم.
أخذ الحريري من أناة المعري من دون تقيته وخبثه إزاء الأديان خاصة. إذ لم تكن به حاجة إلى ذلك. وقد فطن إلى أبي العلاء الفاطنون كما يدل على ذلك خبر من قيل إنه سمعه يزكي نفسه بأنه لم يهج أحدًا فقال له إلا الأنبياء.
وأخذ الحريري من حيوية البديع وإحساسه بأفراد البشر حول رغبته في نقدهم وهجوهم. إلا أنه بحكم أناته كان أرفق. ثم لم تكن له من أصناف المصارعات والمقارعات ما كاتن مثلًا بين البديع وأبي بكر الخوارزمي. فأكسبه ذلك القدرة على أن يجعل نقده ذا لونٍ عام موضوع النظرة فنيها غير ملتهب العلوق بالذاتية المنفعلة كما عند البديع. وأسلوب البديع أسمح وأطبع. وأسلوب الحريري أصنع وأروع. وربما جادت صناعته فدانت انسياب الطبع المتدفق كما في المقامة الشعرية وكما في المقامة الإسكندرانية مثل قوله «إذ دخل شيخ عفرية تعتله امرأة مصبية فقالت أيد الله القاضي وأدام به التراضي، إني امرأة من أكرم جرثومة وأطيب أرومةٍ، وأشرف خئولةٍ وعمومةٍ، ميسمي الصون، وشيمتي الهون، وخلقي نعم العون، وبيني وبين جاراتي بون. وكان أبي إذا خطبني بناة المجد، وأرباب الجد، سكتهم وبكتهم إلخ» .
ومثلًا قوله في أول الحلبية: «نزع بي إلى حلب، شوق غلب، وطلبٌ ياله من طلب، وكنت يومئذ خفيف الحاذ، حثيث النفاذ، فأخذت أهبة السير، وخففت نحوها خفوف الطير، ولم أزل مذ حللت ربوعها وارتبعت ربيعها، أفاني الأيام، فيما يشفي الغرام، ويروي الأوام
…
إلخ».
ومثلًا قوله في البصرية في آخرها:
«يا من عليه المتكل
…
قد زاد ما بي من وجل
لما اجترحت من زلل
…
في عمري المضيع
فاغفر لعبدٍ مجترم
…
وارحم بكاء المنسجم
فأنت أولى من رحم
…
وخير مدعو دعي
قال الحارث بن همام، فلم يزل يرددها بصوت رقيق، ويصلها بزفير وشهيق حتى بكيت لبكاء عينيه، كما كنت من قبل أبكي عليه، ثم برز إلى مسجده، بوضوء تهجده، فانطلقت ردفه وصليت مع من صلى خلفه، ولما انفض من حضر، وتفرقوا شغر بغر، أخذ يهينهم بدرسه، ويسبك يومه في قالب أمسه إلخ».
ولا ريب أن في الحريري أناة ومدى سجعاته أمد من متتابعات البديع. ولكن الحريري قد أحكم بناء المقامة على طريقة فارق بها معناها الأول الذي ما غاب عن نظر البديع، وكما قدمنا حاكاه واتخذه مطية للإمتاع والسخرية والهجاء والتعبير عن ذات نفسه بنفسٍ منطلق، مع شيءٍ من الهوائية المدانية للسطحية ولو ظاهرًا. وقد اقترب الحريري بإحكامه فنه إلى شيءٍ بين المسرحية القصيرة والقصة القصيرة. وقد رزقت مقاماته السيرورة لما تضمنته من التنويع نظمًا ونثرًا في شتى ضروب المعارف والجد والهزل المتعمد للإحماض (وهذا يختلف فيه عن البديع الذي كأنه عمد بمقاماته كلها إلى نوع من الإمتاع الجاحظي الذي تخالطه عقارب الوخزات المتعمدة) ومع السيرورة رضا أهل الفضل وجماعة علماء المسلمين. وحسبك قول جار الله الزمخشري شاهدًا:
أقسم بالله وآياته
…
ومشعر الحج وميقاته
أن الحريري حرى بأن
…
تكتب بالتبر مقاماته
وقد بلغت سيرورة المقامات أوربة. وقصص شوسير 1340 - 1400 م مع استعارتها من منهج ألف ليلة وليلة إما مباشرة وإما من طريق بلوكاشيو الطلياني كما قيل، شديدة الشبه من حيث منهج روايتها وازدواجية أسجاعها، وأناتها وفكاهتها بطريقة مقامات الحريري ويحسن التنبيه ههنا على أنا نعتقد أن شوسير كان له علم
بالعربية بدليل رسالة له كتبها عن الاسطرلاب وما كان أمر علم الاسطرلاب يعرف إلا من طريق علوم العرب. وقد سبق أنه نبه الناس إلى اتساع علوم العرب مواطنه الراهب روجر بيكون 1214 - 1294 م من رجال القرن الثالث عشر الميلادي في عهد غير بعيد من زمان شوسير. وقصة الواعظ The Pardoners Tale مؤلفة على ما ورد في الأثر أن حب الدنيا رأس كل خطيئة وصياغتها صياغة مقامة وواعظها كأنما هو سراج سروج. ومعاصر شوسير لانجلاند وفي سبقت الإشارة إليه كأنما أخذ اسم بطله Piers Ploughman من اسم الحارث بن همام. والله تعالى أعلم.
ومرد أصول القصة الأوروبية الطويلة إلى هذا وإلى ألف ليلة وليلة وسيرة عنترة والزير سالم وأبي زيد الهلالي وما أشبه أمر لا يخفى.
هذا وقد ضمن الحريري مقاماته مع ما افتن فيه من النثر وبديعه وبدائعه غرائب من المنظوم تناول فيها اغراضًا عهدة من أغراض المنظوم وأصنافًا من الأوزان من محكم ومسمط ورجز كرجز الأعراب، مثلًا ما مر بك من مدح الدينار وذمه، وقوله في الكوفية على لسان سائل طرق:
يأهل ذا المغنى وقيتم شرًّا
ولا لقيتم ما بقيتم ضرًّا
قد دفع الليل الذي اكفهرا
إلى ذراكم شعثًا مغبرا
أخا سفار طال واسبطرا
حتى انثنى محقوقفًا مصغرا
مثل هلال الأفق حين افترا
وقد عرا فناءكم معترا
وأمكم دون الأنام طرًّا
يبغي قرًى منكم ومستقرا
فدونكم ضيفًا قنوعا حرا
يرضى بما احلولي وما أمرا
وينثني عنكم ينبث البرا
والأبيات الستة الأوائل- إلى قوله محقوقفًا مصفرًا أدنى إلى جزالة الأعراب الذين يحكي مقالهم ثم أدركه نفسٌ من ابن المعتز من عند قوله مثل هلال الأفق، وقد حاكى بعض طريقة البديع في القريضية إذ جاء برجز رائي على لسان صاحبه:
أما تروني أتغشى طمرا .... ممتطيا في الضر أمرًا إمرا
مضطبنا على الليالي غمرا
…
ملاقيا منها صروفا حمرا
أقصى أماني طلوع الشعري
…
فقد عنينا بالأماني دهرا
وكان هذا الحر أعلى قدرا
…
وماء هذا الوجه أغلى سعرا
ضربت للسرا قبابًا خضرا
…
في دار دارا وإوان كسرى
فانقلب الدهر لبطن ظهرا
…
وعاد عرف العيش عندي نكرا
لم يبق من وفري إلا ذكرا
…
ثم إلى اليوم هلم جرا
لولا عجوز لي بسر من را
…
وأفرخ دون جبال بصري
قد جلب الدهر عليهم ضرا
…
قتلت يا سادة نفسي صبرا
وهنا الأبيات الستة الأوليات أدنى إلى منطق الأعراب الذي تحاكيه- وأبيات البديع في جملتها اطبع. وأمثلة مجاراة الحريري للبديع كثيرة وهو نفسه نبه على ذلك ونوه به.
من أمثلة تنويع القوافي وتسميطها ما جاء في المقامة الحادية عشرة من قوله:
أيا من يدعي الفهم
…
إلى كم يا أخا الوهم
تعبي الذنب والذم
…
وتخطي الخطأ الجم
أما بان لك العيب
…
أما أنذرك الشيب
وما في نصحه ريب
…
ولا سمعك قد صم
أما نادى بك الموت
…
أما أسمعك الصوت
أما تخشى من الفوت
…
فتحتاط وتهتم
وهي من أربع وعشرين مربعة جاء فيها بالسين والظاء والطاء والشين والثاء والصاد- مثلًا:
وخفض من تراقيك
…
فإن الموت لاقيك
وسارٍ في تراقيك
…
وما ينكل إن هم
وجانب صعر الخد
…
إذ ساعدك الجد
وزم اللفظ إن ند
…
فما أسعد من زم
أي اضبطه واجعل له زمامًا تحكمه به كما يفعل بالبعير إذا ند:
ونفس عن أخي البث
…
وصدقه إذا نث
ورم العمل الرث
…
فقد أفلح من رم
ورش من ريشه انحص
…
بما عم وما خص
ولا تأس على النقص
…
ولا تحرص على اللم
ومن الافتنان المقارب للتنويع ما صنع في متقاربية على الحاء المقيدة منها:
لزمت السفار وجبت القفار
…
وعفت النفار لأجني الفرح
وخضت السيول ورضت الخيول
…
لجر ذيول الصبا والمرح
ولولا الطماح إلى شرب راح
…
لما كان باح فمي بالملح
ومما يشهد بشدة نظره في لزوميات أبي العلاء وسقطه تائيته التي حاكى بها «هات الحديث عن الزوراء أو هيتا» من السقطيات وقد عرضنا لها من قبل عند ذكر ضروب المجاراة -قال في المقامة المروية- المروية نسبة إلى مرو يقال مروي ومروزي في النسبة، وقال الشريشي في شرحه أنه يقال للثوب مروي وللرجل مروزي وهي من شاذ النسب ونبه إلى أن مرو هي التي خرج منها أبو مسلم صاحب الدعوة أول ما خرج وأنها كانت عاصمة المأمون ولأهل المغرب طعام يقال له المروزية يطيبون فيه العظام بالزبيب فهذا ينبئ أن الزاي لا تزاد في النسبة الخاصة بالبشر وحدهم. قال:
لا تحقرن أبيت اللعن ذا أدب
…
لأن بدا خلق السربال سبروتا
ولا تضع لأخي التأميل حرمته
…
أكان ذا لسنٍ أم كان سكيتا
وهذا ينبغي أن يكون من محفوظات أهل الكدية- ويشهد بأخذه من المعري قوله:
لولا المروءة ضاق العذر عن فطن
…
إذا أشراب إلى كما جاوز القوتا
وقال المعري:
فالموت أجمل بالنفس التي ألفت
…
عز القناعة من أن تسأل القوتا
فكأن الحريري يستدرك على المعري على لسان صاحب الكدية- وجاء في قوافيه بالضب والحوت (حتى لقد خيل ذا ضبا وذا حوتا) فهذا ينظر إلى قول المعري (ظبي العرار ولا ضبا ولا حوتا) وقوافٍ أخر كثيرة مشتركة بينهما ومعان متصلة بها- نحو «تبكيتا» في قوله:
وللشحيح على أحواله علل
…
يوسعنه أبدًا ذمًّا وتبكيتا
فهذا كقول المعري:
فإن لقيت وليدًا والنوى قذف
…
يوم القيامة لم أعدمه تبكيتا
وقال في كلمة حاكى بها كثيرًا من تصنيع اللزوميات من المقامة الحجرية:
بني استقم فالعود تنمى عروقه
…
قويمًا ويغشاه إذا ما التوى التوى
ولا تطع الحرص المذل وكن فتى
…
إذا التهبت أحشاؤه بالطوى طوى
وعاص الهوى المردى فكم من محلق
…
إلى النجم لما أن أطاع الهوى هوى
فهذا كنهج أبي العلاء في أصناف مما نظم نحو «أواني هم» و «خوى دن شرب» وقال فحاكى أبا العلاء شيئًا في موضوع الحج:
ما الحج سيرك تأويبًا وإدلاجًا
…
ولا اعتيامك إجمالًا وأحداجًا
الحج أن تقصد البيت الحرام على
…
تجريدك الحج لا تقضي به حاجا
وتمتطي كاهل الأنصاف متخذا
…
ردع الهوى هاديًّا والحق منهاجا
وهي أبيات، سلك بها الحريري سبيل الوعظ في المقامة الرملية. وعلى عكس ذلك ما قاله في المقامة الصعدية:
لا تقعدن على ضرٍّ ومسغبة
…
لكي يقال عزيز النفس مصطبر
وانظر بعينيك هل أرض معطلة .... من النبات كأرض حفها الشجر
فعد عما تشير الأغبياء به
…
فأي فضل لعود ما له ثمر
وارحل ركابك عن ربعٍ ظمئت به
…
إلى الجناب الذي يهمي به المطر
واستنزل الري من جر السحاب فإن
…
بلت يداك به فليهنك الظفر
وإن رددت فما في الرد منقصة
…
عليك قد رد موسى قبل والخضر
وكأن نفس الشر أشد حرارة وأقوى عاطفة نفس الخير إذ بين هذه الأبيات الرائية وما سبقها بون من حيث الرنين والأسر على أن الصياغة ونهج البيان واحد.
ومما سار سير الحكمة المأثورة من نظم الحريري قوله في الشعرية:
سامح أخاك إذا خلط
…
منه الإساءة بالغلط
وتجاف عن تعنيفه
…
إن زاغ يومًا أو قسط
واعلم بأنك إن طلبـ
…
ـت مهذبًا رمت الشطط
من ذا الذي ما ساء قط
…
ومن له الحسنى فقط
ومما رق فيه وتعمد أن يصيب شعرًا به فيها- وقد سبق الاستشهاد به في مواضع:
وأحوى حوى رقى برقة أسره
…
وغادرني ألف السهاد بغدره
تصدى لقتلي بالصدود وإنني
…
لفي أسره مذ حاز قلبي بأسره
أصدق منه الزور خوف ازوراره
…
وأرضى استماع الهجر خشية هجره
وأستعذب التعذيب منه وكلما
…
أجد عذابي جد بي حب بره
تناسى ذمامي والتناسي مذمةٌ
…
واحفظ قلبي وهو حافظ سره
وأعجب ما فيه التباهي بعجبه
…
وأكبره عن أفوه بكبره
له مني المدح الذي طاب نشره
…
ولي منه طي الود من بعد نشره
ولو كان عدلًا ما تجنى وقد جنى
…
علي وغيري يجتني رشف ثغره
ولولا تثنيه ثنيت أعتني
…
بدارًا إلى من أجتلى نور بدره
وإني على تصريف أمري وأمره
…
أرى المر حلوًا في انقيادي لأمره
ههنا وشج ديباج ناعم.
فرق ما بين ما ههنا وما عند مسلم بن الوليد مثلًا أن مسلمًا أعنى أولا بقوة الأسر وجزالته وإحكام المعاني وشرفها أرقيقة كانت أم فخمة. وفرق بينه وبين حبيب أن المعاني والصور والمحسنات جميعًا نتجن عن إبعاد غوص وتأمل مذهل.
وفرق بينه وبين البحتري أن المحسنات طرف من رنين الإيقاع ومتممات له. وليس ههنا صناعة المعاني كما عند ابن الرومي. ولا صناعة التشبيه كما عند ابن المعتز. ولا محض التلهي بقوة الملكة وسعة العلم وتبحره مع حب الترنم وكثرة الفطمة كما عند أبي العلاء. ولا ههنا حسام شعر صلت كما عند أبي الطيب. ههنا وشي رقيق مراد لنفسه- صناعة تطريز ناعم. وهذه الأبيات مما تستطيعه ملكة الحريري ذروة. ولا اعلو إن زعمت أن أثرها كان بعيدًا من بعد في وادي روم مجانسة الأحرف، وأن منها بلا ريب أصداء في نحو نهج لانجلاند الإنجليزي.
In some season when soft was the son
وما سبق أن تحدثنا عنه في أول هذا الجزء وهذا باب ينبغي أن يقتل بحثًا والله المستعان.
ولكأن الحريري يعرض بكساد المدح، وانحراف حرفة الأدب على وجه العموم في الأبيات البائية التي قولها أبا زيد في المعربة (وقد أبى تأثر أبي محمد بأبي العلاء إلا أن يسم باسم بلدته إحدى مقاماته كالاعتراف بذلك، والله أعلم): قال «فأطرق إطراق الأفعوان، ثم شمر للحرب العوان، وقال:
اسمع حديثي فإنه عجب
…
يضحك من شرحه وينتحب
أنا امرؤ ليس في خصائصه
…
عيبٌ ولا في فخاره ريب
سروج داري التي ولدت بها
…
والأصل غسان حين انتسب
وشغلي الدرس والتبحر في الـ
…
ـعلم طلابي وحبذا الطلب
ورأس مالي سحر الكلام الذي منـ
…
ـه يصاغ القريض والخطب
أغوص في لجة البيان فأخـ
…
ـتار الآلي منها وأنتخب
وأجتني اليانع الجني من الـ
…
ـقول وغبري للعود يحتطب
وآخذ اللفظ فضة فإذا
…
ما صنعته قيل إنه ذهب
وكنت من قبل امتري نشبًا
…
بالأدب المقتنى وأحتلب
ويمتطي أخمصي لحرمته
…
مراتبًا ليس فوقها رتب
وطالما زفت الصلات إلى
…
ربعي فلم أرض كل من يهب
وكأن المتحدث ههنا ليس أبا زيد المكدي، ولكن ما له أبو زيد رمز بين رجال الأدب شعرًا ونثرًا من لدن زمان بني أمية إلى زمان المتوكل وسيف الدولة بن حمدان:
فاليوم من يعلق الرجاء به
…
أكسد شيءٍ في سوقه الأدب
لا عرض أبنائه يصان ولا
…
يرقب فيهم ال ولا نسب
كأنهم في عراصهم جيفٌ يبعد من نتنها ويجتنب
فحار لبي لما منيت به
…
من الليالي وصرفها عجب
وضاق ذرعي لضيق ذات يدي
…
وساورتني الهموم والكرب
فلما دالت دولة الأدب فلم يجد أصحابه المشتغلون به ما يأكلون به، من أهل المروءات، أقبلوا على أنفسهم يأكلونها. فزعم أبو زيد ههنا أنه قد اضطره الفقر إلى بيع جهاز عروسه، وأنه ما فعل ذلك إلا عن رضا منها. وإذا فرضنا -وهو فرض غير جد بعيد أن العروس قد يكنى بها عن الشعر -أليس حبيب يقول:
خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى
…
والليل أسود رقعة الجلباب
بكرًا تورث في الحياة وتغتدي
…
في السلم وهي كثيرة الأسلاب
إذا فرضنا هذا، فلا تستبعد أن يكون ضمن معنى عرسه ههنا معنى الكناية عن القصيدة، وما صير به إلى ابتذالها بعد أن كانت مكرمة مصونة. وذلك قوله:
وقادني دهري المليم إلى
…
سلوك ما يستشينه الحسب
فبعت حتى لم يبق لي سبد
…
ولا بتاتٌ إليه ينقلب
وأدنت حتى أثقلت سالفتي
…
بحمل دينٍ من دونه العطب
ثم طويت الحشا على سغب
…
خمسًا فلما أمضني السغب
لم أر إلا جهازها عرضا
…
أجول في بيعه وأضطرب
تأمل التضمين هنا فإنه مما يحسنه أن فيه عنصر التشويق إلى ما سيلي. وكأن الحرير قد فطن أن هذا العنصر نفسه هو الذي سوغ لابن أبي ربيعة تضمينه المشهور: «وانظر- إليهم إلخ» . والشاهد الذي ذكرناه من الفرزدق قريب من ذلك وكذلك بيتا النابغة.
اضطر أبو زيد بعد أن نفد ما عنده ولم ينفعه أدبه أن يجول في جهاز ربة بيته ونفسه كارهة. وظاهر سياق الحكاية لطيف جار على حيل أهل الكدية. وباطنه فيه كما قدمنا كناي عن حال الأدب عامة وعن حال الشعر خاصة. وسواءٌ أعنى الحريري ذلك أم لم يعنه، فإن بيع جهاز العروس، على تقدير أن العروس هي القصيدة، لا يخلو من معنى أخذ زينتها وعرضها لتشترى- وزينة عروس الشعر بديعها ومعانيه ومحاسنها. وإلى عرض ضروب من هذه المحاسن مصنوعة، بدل القصيدة المحكمة نفسها، قد آل أمر الشعر بعد زوال سلطانه ومجده. هذا الوجه من الكناية والدلالة سواء أعناه الحريري أم لم يعنه مستكن في كلامه لمن تأمله وما أحسبنا غلونا في التأويل أو باعدنا.
فجلت فيه والنفس كارهةٌ
…
والعين عبرى والقلب مكتئب
وما تجاوزت إذ عبثت به
…
حد التراضي فيحدث الغضب
فإن يكن غاظها توهمها
…
أن بناني بالنظم تكتسب
أو أنني إذ عزمت خطبتها
…
زخرفت قولي لينجح الأرب
فوالذي سارت الرفاق إلى
…
كعبته تستحثها النجب
أي سارت الناس رفاقًا إلى كعبته لا يعني رفاقي على أن «أل» عهدية.
ما المكر بالمحصنات من خلقي
…
ولا شعاري التمويه والكذب
ولا يدي مذ نشأت نيط بها
…
إلا مواضي اليراع والكتب
بل فكرتي تنظم القلائد لا
…
كفي وشعري المنظوم لا السخب
والسخب عني بها القلائد وأصل السخب جمع سخاب بكسر السين وهي قلادة من الطيب ونحوه تجعل للطفل وليس مجيء الحريري بالسخب ههنا تكلفًا منه لقافية فأرجح عندي أنه يعرض بالمرأة أنها هي تنظم السخب بكفها ولكني أنظم قلائد الشعر.
فهذه الحرفة المشار إلى
…
ما كنت أحوي بها وأحتلب
فأذن بشرحي كما أذنت لها
…
ولا تراقب واحكم بما يجب
ثم يعقب الحريري بما هو نص في معنى ما قدمناه:
سقنا هذه التتمة المسجوعة بعد المنظومة البائية للدلالة على ما نعتقده من أن المقامة كل واحد نظمها ونثرها المسجوع. والحق أنه من باب قريب من الشعر. وكلاهما معًا قد خلفا قصيدة التكسب بهذه القطعة التي ظاهرها درس وتسلية وباطنها تعويض عما كانت تقوم به القصيدة. وذكر صاحب الأغاني في أخبار ابن ميادة أنه كانت له أسجاع يهاجي بها. ولا زال السجع من درجات البيان المقاربة جدًّا للشعر في أساليب اللغات الدارجة. وما اتصال منظوم الحريري ومسجوعاته إلا كما تتصل ألوان قوس قزح بعضها ببعض ثم بالسحاب من بعد.
لعله يبدو في تشبيهنا (بالنسبة إلى جانب الرمز والكناية الذي افترضناه) جهاز المرأة بزينة من محسنات لفظية ومعنوية بعض المخالفة؛ لأن الذي يحوز القصيدة عروسًا هو الممدوح والشاعر يزفها إليه، ونحن جعلنا أهل الأدب والشعر بمنزلة السروجي وهو زوج والقصيدة بمنزلة امرأته التي باع جهازها. ولكن هذه المخالفة تختفي إن تذكرنا ما آلت إليه حال الكساد بآباء عرائس الشعر من اضطرارهم إلى أن يستأثروا بهن كآباء عذرهن على نوع من مذهب مجوسي، كالذي ذكره أبو الطيب حيث قال:
يا أخت معتنق الفوارس في الوغى
…
لأخوك ثم أرق منك وأرحم
يرنو إليك مع العفاف وعنده
…
أن المجوس تصيب فيما تحكم
ومن قبل قد كانوا لهن آباء وكن عوانس طال تعنيسهن- وقد ألمع أبو تمام إلى هذا المعنى في قوله:
يا خاطبًا مدحي إليه بجوده
…
ولقد خطبت قليلة الخطاب (1)
(1)() قال التبريزي في الشرح (دار المعارف تحقيق د. م. عبده عزام) ذم أهل زمانه لأنهم لا يرغبون في مدحه وفي الهامش 5 قال ابن المستوفي جعلها قليلة الخطاب لغلاء مهرها وقيل لأنه لم يكن لها كفء سواك قلت والذي ذهب إليه التبريزي هو الصواب إن شاء الله.
قليلة الخطاب عني بها قصيدة المدح كما ترى.
لا جرم، لم تسد زينة القصيدة مسد القصيدة، ولم تغن غناءها. والمقامة على براعتها لم تعلق بها القلوب علوقها بالقصيد إنما هي لعبه بالنسبة إلى القصيد. والمفتنون في قصائد المدح وإن أصابوا عليهن الجوائز حينًا بعد حين إنما كانوا يجاوزون ببقية من حكم العرف. ويجاوزون على الإجادة أكثر من أن يكون ذلك من أجل المدح نفسه.
وقد لم ابن طباطبا هنا بمسألة من أعوص مسائل النقد وهي قضية الصدق واحترس بما قدر عليه أن يحترس به. وقوله في جملته جيد كما قدمنا، إذ أن قضية الصدق مما يعسر القطع فيها برأي ينتهي عنده كل الانتهاء. والحرارة التي نحس
الكلام مندفعًا بها من قلب الشاعر نسميها صدقًا لفقدان ما ينطبق على نعتها تمام الانطباق كقولك رجل صدق وسيف صدق لما يبدو أو ما يكون خالصًا كل الخالصية في أصالته. وعلى هذا الوجه عند أبي تمام صدق وعند ابن الرومي بالنسبة إليه صديق بصيغة التصغير.
ومما كأنه يصح كل الصحة على نسج المقامة، وما هو بمنزلة المقامة كفكريات المعري في اللزوميات وككثير مما أطاله ابن الرومي، ما جعله ابن طباطبا معيارًا لتجويد الشعر وما عدا أن وصف به أكثر عمل أهل عصره هؤلاء الذين إنما كانوا يثابون على لطيف ما يوردونه إلى آخر ما قاله مما سبق ذكره، وذلك في قوله في أوائل كتابه:«فإذا أراد الشاعر بناء قصيدة مخض المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرًا وأعد ما يلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه. أ. هـ.» .
قوله مخض المعنى أخذه من قول حبيب:
حتى إذا مخض الله السنين لها
…
مخض البخيلة كانت زبدة الحقب
وقد يعلم القارئ الكريم حفظه الله مقال الجاحظ في مقدمات الحيوان أن ما ينقل من النثر في أصله إلى الشعر لا يتأتى منه شعر جيد. هل ذهب ابن طباطبا إلى معنى الجاحظ إذ لا ريب قد كان به عالمًا وبدقائق معناه خبيرًا؟ هل بما وصفه ووصى به معاصريه من طريقة عمل الشعر إنما يشير إلى أن قصارى ما يبلغه المحدث من التجويد هو ما يستطرف من الصياغة والبديع ليس غير، إذ لا يقدر على ما كان عليه القدماء من مذهب الصدق في التعبير؟
وقد ترى أن المقامة نظمها أصله نثر فكر فيه الأديب ورتبه، وأن نثرها جانح إلى إيقاع الشعر متحل بمثل سموط قوافيه؟
وعسى أن يكون هذا الذي ذكره ابن طباطبا إنما يعرض به تجربته هو نفسه للقارئ وهذا ما ذهب إليه الأستاذ الفاضل محقق طبعة كتابه في مقدمته (1). ولكن هذا لا يخرج في جملة معناه عما قدمناه إذ كأن هذه كانت طريقة معروفة سائرًا عليها عمل الشعراء في زمانه. وقد سبق التنبيه إلى طريقة النثر في نظم علي بن العباس، ولعل ابن المعتز كان يصنع مثقل هذا الصنيع لفتور الإيقاع عنده.
وما كان الشعراء الفحول على قريب من عهد ابن طباطبا يصنعون هذا الصنيع. أبو تمام، شيخ الغوص والبديع والإشارات والتضمين كان يقدم على النظم نظمًا شعرًا لا نثر فيه، وفي كتاب العمدة خبر عنائه في أخذ قول أبي نواس:
كالدهر فيه شراسة وليان
كيف صاغ ذلك يقطع إيقاعه في نفسه تقطيعًا:
شرست بل لنت بل قانيت ذاك بذا
…
فأنت لا شك فيك السهل والجبل
وقد وصف أبو تمام أمر تزاحم الإيقاع في صدره حيث قال:
تغاير الشعر فيه إذ سهرت له
…
حتى ظننت قوافيه ستقتتل
وهذا البيت فطن لجودته معاصروه وهو على مذهبه قوي الدلالة.
وذكروا أن علي بن الجهم كان يقاتل وينشد:
أزيد في الليل ليل
…
أم سال بالقوم سيل
يا إخوتي بدجيل
…
وأين مني دجيل
(1)() عيار الشعر لمحمد بن أحمد بن طباطبا العلوي دراسة وتحقيق دكتور محمد زغلول سلام طبع إسكندرية 1980 م- راجع تقديم المحقق ص 11 خاصة وص 23 وص 19 من قبل.
وهذا يدل على أنه كان من أصحاب الترنم. ومذهب البحتري في الإيقاع جلي. وكان أبو الطيب يترنم شعره وهو يصوغه وزمانه بعد زمان ابن طباطبا كما تعلم. ومذهب الشريف من مذهب ابن طباطبا قريب وقد فضله الثعالبي عليه وعلى سائر الطالبين ولكنه لم يزده في باب التفضيل على ذلك، وأسلوب الخطابة الفخمة أغلب عليه، فهل كان يصوغ ما ينظمه خطبًا اول الأمر؟ أم لم يتهمه بعضهم بأن الذي في نهج البلاغة إنما انتحله هو على الإمام كرم الله وجهه- وهو جيد كما لا يخفى.
لم تكن المقامة لتسد بتصنيع نثرها ونظمها مسد القصيدة المحكمة، ولا ما نظم من منظومات على طريقة وصف الشمعة أو التزامات أبي العلاء. أو حتى درعياته. كل ذلك متعة وأنس وطريف يستملح ونادرة يعجب لها من يعجب. ولكنه ليس بالشعر الذي يلج على القلب وتتغذى بغذائه الروح:
كرقي الأساود والأراقم طالما
…
نزعت حمات سخائم وحقود
أو كما قال أبو الطيب:
وما قلت من شعر كأن سطوره
…
إذا كتبت يبيض من نورها الحبر
فذلك النور يشع على الأفئدة التي في الصدور.
مع قسم جار الله العظيم لم تكن المقامة هي العلاج الناجح.
لذلك ألفى شعر الجد قلوبًا مستجيبة صاغية- رائية ابن عبدون ونونية صالح بن شريف كلتاهما شعر جاد. ورام ابن الأبار كسبيلهما في كلمته:
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا .. ز إن السبيل إلى منجاتها درسا
فأخلى بعد البيت الأول. وما ذلك إلا لأنه قد قال كلما يقال في صدر هذا المطلع وعجزه، وكيف يستطاع إدراك ما سبيل منجاته قد درس. وقد روى عن الأمير عبد المؤمن بن علي أن شاعرًا أنشده (1):
ما للعدا جنة أوقى من الهرب
…
أين المفر وخيل الله في الطلب
فاكتفى منه بسماع البيت الأول وأجازه، وكان عبد المؤمن أديبًا شاعرًا ناقدًا فكأن قفد أحسن بأن ما بعد هذا البيت سيكون دونه- وما كذلك شأن حبيب إذ قال:
السيف أصدق أنباء من الكتب
فالسامع ينتظر هذه الأنباء، وإذ قال:
الحق أبلج والسيوف عواري
فالسامع ينتظر ما بعد هذا التهويل المجمل من تفصيل.
ولحرص الناس على جد الشعر أن يصيبوه عظم أمر لامية الطغرائي:
أصالة الرأي صانتني عن الخطل
…
وحلية الفضل زانتني لدى العطل
مجدي أخيرًا ومجدي أولًا شرع
…
والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل
وأمر لامية ابن الوردي:
اعتزل ذكر الأغاني والغزل
…
وقل الفصل وجانب من هزل
(1)() نفح الطيب: للمقري طبعة دار صادر بيروت 3 ص 592 وبعد هذا البيت:
وأين يذهب من في رأس شاهقةٍ
…
وقد رمته سماء الله بالشهب
وقد نرى وهن هذا البيت بالنسبة لما استهل به والشاعر هو الأصم المروي كما في نفح الطيب وذكر في الهامش أن جده هو الشريف الطليق أ. هـ. الشاعر الطليق المروي؟ ؟ . وقد سبقت منا الإشارة إلى ابن الآبار؟ نصف بيت المروي وهذا موضع تفصيل. أ. هـ.
وهذه على جودتها لا تبلغ مبلغ لامية العجم في الرصانة، وفيها بعد صدق عظة ونفحات صلاح.
وكانت في مهيار رقة ونسمات من صدق المقال. وقد علا له بذلك، وبطول النفس، صيت حينًا من الدهر وحاكاه جماعة. وكانت في أبي الحين التهامي رنة من جزالة وأجود شعره المرثية:
حكم المنية في البرية جاري
…
ما هذه الدنيا بدار قرار
وله غزل لا بأس به وكذلك للبهاء زهير:
ولو جاز أن ننسب إلى قدماء شعرائنا عقدات كما يقال في النفسانيات اليوم مثلًا «عقدة أوديب» لتحدثنا إذن عن عقدة ابن أبي ربيعة وعقدة أبي الطيب وهلم جرا. وكم من مشبه باجتهاده في ترقيق الغزل صاحب حمار أعرج قميء وهو يظن أنه كما قال عمر:
بينما يذكرنني أبصرنني
…
دون قيد الميل يعدو بي الأغر
وما أكثر مقلدي أبي الطيب منذ زمان أبي فراس والشريف إلى ما شاء الله سبحانه وتعالى.
وكانت في عمارة اليمني جودة وحرارة ما وآخرين كالأبيوردي ممن ذكر البارودي في مختاراته ومن لم يذكر. لكنه على الجملة قد خلا مكان الجد والصدق في الشعر بعد ثلاثته الكبار- خلا إلا من ضرب واحد من القصائد، هو وحده الذي صح له أن يخلف قصيدة المدح وما كان في مستواها من روائع شعر الأوائل من قدماء ومحدثين وما أجمع أهل العلم والنقاد على تقديمه من جياد حبيب وأبي عبادة وأبي الطيب والنادر الملحق بهن كلاميتي الطغرائي وابن الوردي ورائية التهامي.
ذلك الضرب الواحد الفريد هو قصيدة مدح الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام. فنذكر للقارئ الكريم فيما يلي كلمة عن ذلك إن شاء الله وهو المستعان.