الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوزن:
أما الوزن فهو الخاصة التي يميز بها الشعر ويعرف في أساليب العربية ومن النقاد من يمدح الشعر ويحسب بذلك أنه يعرفه كالذي يصنعه كثير من المعاصرين حين يتحدثون عن الشعر أنه خلق وإبداع (1) ورؤيا وقفزة ودفقة ووثبة وانتفاضة وبعض الألفاظ التي يتحدثون بها عن الشعر مستعارة من أصل كلمة بويتري Poetry وهي في الاشتقاق، ذكر ذلك معجم اكسفورد، من «بويو» Poieo اليونانية ومعناها يصنع. وبعض هذه الألفاظ مستعار من النقاد الغربيين من كلامهم في معرض الدفاع عن الشعر والتصدي لمذاهبه مثل دفاع شيلي ومقدمة وردزورث وكلاهما من كبار شعراء الحركة الرومانتيكية الإنجليز. وشبه كارلايل بطولة الشاعر ببطولة النبي في كتابه عن الأبطال وقدسية البطل، كلاهما فيما زعم يخترق الحجب إلى السر المكشوف ويراه حين لا يراه الآخرون، وزعم أن الفرق بينهما هو أن النبي يشرع الشريعة ويهدي ولكن الشاعر يبين الجمال ويتغنى بالحب، على أن هذه أمور تتداخل.
وقد مدح القدماء الشعر فنسب إليه أرسطو طاليس في ما نقلوا، في معرض الرد على أفلاطون أنه يطهر النفوس من أدرانها بما يتيح لها من التنفيس حين تنفعل بالبكاء ونحوه لفجائع المأساة وبالانشراح والضحك ونحو ذلك عند هزل الملهاة وقد زعم أفلاطون أن الشعر يسلب المرء ضبط النفس فيبكي كالمرأة للمأساة ويضحك مسرورًا راضيًّا عندما ينبغي أن يخجل من مثله ويندى له جبينه. وتبع لونجينس صاحب رسالة شرف المعنى. (وهو ناقد مجهول الشخصية، وزعم بعضهم أنه كان من أهل تدمر في القرن الثالث الميلادي) تبع جانبًا من مذهب أرسطو طاليس حيث ذكر أن جيد الشعر ينبغي أن يسمو بالنفوس إلى شرف من المعاني.
(1)() فكرة الخلق والإبداع فلسفية أصلها من قدامة وأصل كلام قدامة يوناني مداره على الهيولي والصورة، والفكرة غير مقبولة لا في الإسلام ولا في عرف العربية.
وتبع فيليب سيدني، الشاعر والناقد الإنجليزي، مذهب لونجينس فزعم أن الشعر فيه القدوة الحسنة، ونسي أن فيه أيضًا المثل السيء كشخصية أياغو في مسرحية «أوثيلو» لشكسبير مثلًا وله مشابه في ما كتب القدماء ممن يكون السير فيليب سيدني قد اطلع على آثارهم. وأدق من مذهبه مذهب أبي تمام في قوله:
ولولا خلال سنها الشعر ما درى
…
بغاة الندى من أين تؤتى المكارم
وقال الأعشى:
قلدتك الشعر بسلاسة ذا
…
فائش والمرء حيثما جعلا
ويروى عن عمر رضي الله عنه أنه نعت الشعر بأنه كان علم قوة لم يكن عندهم علم أصح منه. وفرع من هذا ما روي عن أبي عمرو بن العلاء أنه ذكر أن شعراء العرب كانوا فيهم بمنزلة أنبياء بني إسرائيل في بني إسرائيل. وقول النبي صلى الله عليه وسلم «إن من الشعر لحكمًا أو لحكمة» شامل لهذه المعاني، والحكم هو الحكمة وهي أخت النبوة، قال تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} والحكم بضم الحاء القضاء وهو من معاني النبوة قال الأعشى وجعل نفسه قاضيًّا:
حكمتموه فقضى بينكم
…
أبلج مثل القمر الزاهر
لا يقبل الرشوة في حكمه
…
ولا يبالي غبن الخاسر
وتتمة الحديث: «وإن من البيان لسحرًا» ، لما يكون فيه من قوة التأثير، وكما مدح الشعر ذم، ومن قديم ذمه نسبته إلى الكذب.
وذكر (1) نورثروب فراي أحد النقاد الإنجليز المعاصرين في المقالة الثانية من كتابه عن تشريح النقد أن عادة الشاعر في تجاهل الحقائق هذا التي جرت عليه سمعة رخصة الكذب وذكر أن كلمة «دغتر» digter النرويجية معناها الكاذب كما أن معناها أيضًا الشاعر وموقف أفلاطون معروف حيث زعم أن الشاعر بعيد عن
(1)() Anatomy of Criticism by Northrop Frye Princeton Press طبع برنستون بأمريكا- الطبعة الثالثة 1973.
الحقيقة بمرحلتين إذ هو كالرسام الذي يصور سريرًا صنعه النجار وصناعة النجار إن هي إلا أداء جزئي منظور فيه على وجه التقليد للفكرة الكاملة للسرير، والفكرة الكاملة للسرير لا يكون منها إلا سرير واحد مثالي.
وفي الكتاب العزيز في آخر سورة الشعراء مدح لشعراء الحزب المؤمن وذم لشعراء الشرك والطاغوت وذلك قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} ، وليس وراء هذا لقائل من مقال.
قولنا من قبل أن الوزن هو الخاصة التي يميز بها الشعر ويعرف، نحترس به من أن تعريف الشعر بحد تام ليس بالممكن، والحد التام لا يتأتى بالخاصة ولكن بالفصل، والوزن خاصة لا فصل يدلك على ذلك مثلًا قول ابن الرومي:
مستفعلن فاعلن فعولن
…
مستفعلن فاعلن فعولو
بيت كمنعاك ليس فيه
…
شيء سوى أنه فضول
على أنه خاصة قوية تقارب أن تكون فصلًا وليست به.
ولذلك قالوا: الشعر هو الكلام الموزون المقفى. وقال ابن رشيق «بعد النية» يخرج بذلك من الشعر ما يقع موزونًا من الكلام ولم يرد لأن يكون شعرًا وإنما وقع اتفاقًا. وفي هذا من صنيعه ما يؤخذ عليه إن كان إنما أراد به الاحتراس للقرآن لئلا يقال هو شعر، قال في باب حد الشعر وبنيته:«الشعر يقوم بعد النية من أربعة أشياء وهي اللفظ والوزن والمعنى والقافية فهذا هو حد الشعر لأن من الكلام موزونًا مقفى وليس بشعر لعدم القصد والنية كأشياء أنزلت من القرآن ومن كلام النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما يطلق عليه أنه شعر» . أ. هـ. أقول وكأن ابن رشيق قد فطن إلى أن قوله: «بعد النية» وحده مما يؤخذ عليه إذ لا يعقل في شيء من القرآن والحديث أن يقع فيه الشعر اتفاقًا بلا نية الشعر، فجاء ابن رشيق بقوله:«لعدم القصد» وهي أدق،
إذ ما يجيء منظومًا محكمًا وليس مقصودًا به الشعر فليس بشعر مثل حاق المنظومات التعليمية، فهذا فيه الوزن والقافية واللفظ والمعنى معهما، كل أولئك منوي، ولكن القص ليس إلى الشعر. وكلمة القصد استعملها الجاحظ، ومن عند الجاحظ جاء ابن رشيق بقوله بعد النية ثم تلافاه بقوله «لعدم القصد والنية» وعبارة الجاحظ أدق وهي في الجزء الأول من البيان (1: 289) قال «ولو أن رجلًا من الباعة صاح: من يشتري باذنجان، لقد كان تكلم بكلام في وزن مستفعلن مفعولات، وكيف يكون هذا شعرًا وصاحبه لم يقصد إلى الشعر» وهذا من كلام الجاحظ دقيق واضح، إذ الشعر فن يجمع بين الخيال والوهم والتغني والتعبير بانفعال عاطفي والتصوير والتأثير والحكمة وسحر البيان في عناصر أخرى مع الوزن والقافية، وللشاعر أن يهيم في كل واد وأن يناقض نفسه فيمدح اليوم ويهجو غدًا لأنه يصدر به عن قلب العاطفة الإنسانية المتقلب، وصاحب الحقائق العلمية وإن نظمها مقفاة موزونة وتخير لها اللفظ النقي ليس قصده إلى أجواء الشعر لينطلق فيها فلا يكون كلامه شعرًا والقرآن وكلام النبي عليه الصلاة والسلام وحي يوحى ليس بصادر عن تقلب قلب العاطفة، ولا ينطق عن الهوى. قال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} والناسخ والمنسوخ تدرج في التشريع لا تناقض صادر من قلب متقلب.
هذا وأضاف الجاحظ بعدما تقدم من قوله: «وصاحبه لم يقصد إلى الشعر» قوله: «ومثل هذا المقدار (يعني من يشتري باذنجان) من الوزن قد يتهيأ في جميع الكلام» .
أي مع كونه غير مقصود به الشعر فهذا يخرجه من الشعر مع اتزانه وقافيته، مع ذلك مثله قد يرد في الكلام اتفاقًا لطبيعة راسخة في سنخ الكلام، تجعل ورود ذلك فيه عن قصد أو عن غير قصد وبنية وبلا نية مما قد يتفق ثم قال الجاحظ:«وإذا جاء هذا المقدار الذي يعلم أنه من نتاج المعرفة بالأوزان والقصد إليها كان ذلك شعرًا وهذا قريب والجواب سهل بحمد الله» ويعني الجواب عن مسألة ورود أمثال:
{تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} -وزعم قوم، وأحسبهم أخذوه من مقال الجاحظ هذا، أن البيت الواحد ليس بشعر ولكن البيتان فأكثر. ولم يرد الجاحظ الكم وحده، لاشتراطه مع معرفة الأوزان القصد إليها بغرض أن يكون الكلام شعرًا. وقد كان الجاحظ من علماء الكلام، فينبغي ألا يغفل عن جانب الدقة في عباراته، والله أعلم وعرف أبو العلاء المعري الشعر في رسالة الغفران على لسان صاحبه في وضعه الخيالي يجيب رضوان خازن الجنان قال:«فقلت الأشعار جمع شعر والشعر كلام موزون تقبله الغريزة على شرائط إن زاد أو نقص أبانه الحس» وكان للمعري علم بالموسيقا (1) والإيقاع يشهد بذلك فصل له عن أوزان الغناء في كتابه الفصول والغايات. ولا يخلو المعري من أن يكون نظر في تعريفه للشعر وهو تعريف إيقاعي موسيقي إلى أبي نصر الفارابي فإنه عنده أن الشعر هو الأقاويل الموزونة إلا أن العرب في أشعارها القافية، قال:«وأشعار العرب في القديم والحديث فكلها ذوات قواف إلا الشاذ منها، وأما أشعار سائر الأمم الذين سمعنا أشعارهم فجلها غير ذات قواف وخاصة القديمة منها، وأما المحدثة منها فهم يرومون أن يحتذوا في نهاياتها حذو العرب» أ. هـ. (راجع الموسيقي الكبير، طبع القاهرة ص 1072 - 1092) وفي كتاب أبي حاتم الرازي، الزينة، وهو من رجال أوائل القرن الرابع الهجري، أن شعر الفرس القديم لم يكن محكم الوزن وإنهم أخذوا القافية والوزن من العرب.
وأكثر ما اطلعنا عليه من معجمات الإنجليز يعرف الشعر بأنه الكلام الموزون وربما زاد على ذلك ما يحترس به من غث الكلام الموزون. وقد اعترف كارلايل بأن تعريف الشعر بأنه الكلام الموزون metric أدل من سواه وإلى هذا الوجه ذهب الدكتور صمويل جونسون (1709 - 1784 م) من قبل. ومن طريف ما روي عنه صاحب ترجمته قال إنه بلي مرة برجل ينظم لم تكن عنده أدنى فكرة عن الشعر غير
(1)() الوجه في الموسيقا أن تكتب بالألف لعجمة أصلها ولكن كثرت كتابتها بالياء فصرنا بذلك من غزية أحيانًا في غوايتها.
أن السطر منه فيه عشرة مقاطع، غير أنه نظم شيئًا كثيرًا، فكانت تتفق له الأبيات الحسنة ولكنه لم يكن يعرف أنها أبيات حسنة، وكان نحو قول القائل:«ضع السكين والشوكة من فوق على صحنك مفاعيلن مفاعيل مفاعيل مفاعيلن» من الشعر في نظره: Lay your knife and your fork across your plate وهذا السطر بالإنجليزية عشرة مقاطع وانظره في ص 138 من ترجمة جونسون لصاحبه بوزويل The life of Johnson by James Boswell- Penguim ولعل الجاحظ أدق في الذي ذهب إليه من صمويل جونسون؛ لأن هذا الرجل الذي ذكروه كان يعرف الوزن ويكثر من النظم عليه ويقصد من ذلك الشعر، فإن كان هذا السطر الذي زعمه جونسون من نظمه فهو شعر بلا ريب إلا أنه شعر في الدرك الأسفل من الرداءة، ولعل هذا ما أراده جونسون والله أعلم.
هذا وقد كان سبق منا القول بأن طريقة وزن الشعر بالمقاطع فيها يسر تعليمي غير أن طريقة علم العروض كما وضعه الخليل أدق وأقوى في بيان الإيقاع. ولعلنا تبدو لنا طريقة المقاطع كأنها أيسر لسابق معرفتنا نغم أشعارنا من طريق الأناشيد. وتأمل نظام المقاطع يرينا أنها مما تعجز عن بيان حقيقة النغم المستكن في الأشعار بالإنجليزية ولذلك جعل بعض المعاصرين من نقاد الإنجليزية يستعمل الكتابة الموسيقية في توضيح الإيقاع. وما طريقة الخليل إلا ضرب من الكتابة الموسيقية، يدلك على ذلك استعارة أصحاب الموسيقا -كما في كتاب «الموسيقي الكبير» - من ألفاظ علم الخليل (1) كالسبب والوتد والفاصلة وزيادتهم قياسًا على ما أخذوه من الخليل مما كانوا محتاجين إلى ذكره، الوتد المفرد للمتحرك بعده مد وسكون أو ساكنان مثل قال بسكون اللام، والسبب المتوالي لما ينقص عن الفاصلة الصغرى بأن ليس فيه الساكن الأخير مثل فعل المتحركات جميعًا، كلاهما ذكره الفارابي. وفارق أصحاب الموسيقا الخليل باستعمال المقطع الصغير مكان الحرف
(1)() في المزهر للسيوطي ما يدل على أن إسحق الموصلي أخذ كتابه الموسيقا عن الخليل (ج 1 - ص 81).
المتحرك والمقطع الطويل للدلالة على السبب الخفيف أحيانًا وإنما آثر الخليل الحرف المتحرك في ما يبدو لنا لأنه يتصل بما قبله وما بعده وليس في العربية مقطع قصير يستقل بنفسه كما يتفق في لغات الإفرنج مثلًا، والسبب الثقيل في العربية حركته محدودة إذ يصير سببًا خفيفًا عند الوقف نحو «مَعَ» بسكون العين و «مَعَ» المتحركة العين في الوصل والوقف. والحرف المتحرك يمطل فيصير سببًا خفيفًا إذا انفرد ووقفت عنده مثل قول الآخر:
قد وعدتني أم عمرو أن تا
…
تدهن رأسي وتفليني وا
وما أرى إلا أن القدماء عرفوا لفظ المقطع المصطلح في الموسيقا بدليل ذكر الفارابي له مع تفسيره. وقال المعلى الطائي، من شعراء البصرة، ذكره ابن المعتز في طبقات الشعراء العباسيين، يصف مغنية.
تزيا بأزياء الرجال تمردا
…
وتأنف من لبس القلادة والشنف
وتجمع بين السجع والرجز في الغنا
…
وتسكت من حذق على مقطع الحرف
يعني تسكت عند الجيم من الرجز فلا ينكسر البيت ولم يرد المقطع بمعنى الموقف إذ ليس هذا بموضع وقف، وقولنا لم يرد المقطع بمعنى الموقف نحترس به من قولهم مقاطع قرآن أي مواقفه، ومقاطع الشعر أي أواخره، ويجوز عقلًا أن يكون أراد بمقطع آخر حرف الجيم وهو فتحة في مذهب الخليل ولكن في هذا من التكلف في تفسير كلامه وهو كما ترى، ما لا يخفى، ثم ما كل من كان على زمان الشاعر كان إن كان من أهل الأدب والعربية يقول بتأخر الحركة عن الحرف كما كان يقول الخليل، وإن كان قول الخليل هو الصحيح، قال سيبويه في باب حروف البدل في غير الإدغام، «وزعم الخليل أن الفتحة والكسرة والضمة زوائد وهن يلحقن الحرف ليوصل إلى التكلم به والبناء هو الساكن ذلا زيادة فيه فالفتحة من الألف والكسرة من الياء والضمة من الواو فكل واحدة شيء مما ذكرت لك» . أ. هـ. قلت
وإنما ذكر حروف الزيادة من قبل. وما أرى إلا أن الشاعر المعلى عني المقطع الموسيقي، وهو يعادل الحرف المتحرك كما فسره الفارابي، وذلك لأن حديث المعلى عن مغنية. وقصده إلى التظرف واضح من صفة الزي المتمرد الذي ذكره.
وقال الفارابي أن الأقاويل تصير موزونة بنقلة منتظمة متى كانت لها فواصل وعني بالفواصل نحو أواخر الأبيات والأعاريض.
وزعم أبو بكر بن الباقلاني في كتابه عن إعجاز القرآن يرويه عن أبي عمر المطرز غلام ثعلب أن العرب كانت تعلم أبناءها وزن الشعر بما سماه المتير من متر الحبل إذا مده وجذبه أو قطعه. وقد تكلموا في أبي عمر المطرز غلام ثعلب هـ. ورووا عن الأخفش الصغير عن المبرد أن الخليل إنما تعلم العروض من شيء اسمه التنعيم بالمهملة كانت تعلم به العرب أبناءها وزن الشعر ونغم الأعاريض وربما قيل له التنغيم بالغين المعجمة ومداره على نَعْم نَعَمْ لا لا وهذه تساوي فعولن مفاعلين ونحو ذلك. وما أشبه هذا أن يكون من باب التنافس في التحصيل بين تلاميذ المبرد وثعلب إن صحت هذه الرواية، يقول أبو عمر المطرز شيئًا فيعارضه الأخفش الصغير بشيء آخر مثله أو يقاربه والله تعالى أعلم (1).
وفي معجم أكسفورد الإنجليزي أن اشتقاق: metre (ميتر) و metric (مترك) الإنجليزيتين و metre (متر) و metrique (متريك) الفرنسيتين وهاتان الفرنسيتان هما أصل الإنجليزيتين، كل أولئك من (مترون) اليونانية.
وعسى قائل أن يقول لعل «متر» الحبل العربية من هذا الأصل اليوناني أيضًا ويمنح هذا أن يقال به أن «متر الحبل» لها نظائر في العربية مثل «بتر» بمعنى قطع و «فطر» بمعنى شق و «مدر» من المدر وهو الطين أو قطع الطين اليابس كما في القاموس و «مطر» تقول مطر الرجل في الأرض أي ذهب وهو من المطر المعروف والميم والباء
(1)() راجع العروض والقافية، محمد العلمي، المغرب 1983 م ص 33 - 44.
والفاء متقاربات، فهذا يدل على قدم هذه المادة وأصالتها في العربية. ولئن تك يونان أمة أقدم من عرب جاهلية عنترة وامرئ القيس ومهلهل وقصي بن كلاب، فليست يونان بأقدم من العرب القدمى كطسم وجديس وجرهم واميم وعاد وثمود وأمم اليمن الأولين من عهد سبأ أو قبل ذلك. وقد أخذ اليونان من أمم سامية لغاتها قريبة من لغة العرب كالكنعانيين أي الفينيقيين، ذكر أخذ اليونان عنهم حروف الهجاء المؤرخ هيرودتس. وأخذ اليونان عن مصر القديمة وبابل القديمة لا يخفى. وزعم روبرت قرنـ? ـل تمبل، صاحب كتاب أسرار الشعري (النجم بكسر الشين والعين ساكنة بعدها راء وألف لينة) بالإنجليزية طبع 1976 م أن العرب والعبرانيين أخذوا لفظ الخمس والخمسين من مصر القديمة وأن مصر القديمة وسومر القديمة لهما أصول في مدنية قوم أقدم منها. وإنما نذكر هذا للزيادة في التنبيه على أن اليونان ليس أمرهم بالموغل في القدم حتى يجعلوا أصلًا نهائيًّا يوقف عنده ولا يتجاوز.
نظام الخليل بأجزائه ودوائره وبحوره وأسبابه وأوتاده وفاصلته وزحافه وعلله وتشعيثه ومراقبته ومعاقبته وهلم جرا نظام متقن محكم، وقد بني الخليل على أسس من قديم علم النحو وعلوم الإيقاع. وقد زعم الجاحظ في موضع من الحيوان أن الخليل كتب في الألحان وفي الكلام فقصر تقصيرًا، وزعم في موضع آخر أن إسحق الموصلي أثنى على الخليل ونسب إليه أصل كتابة الموسيقا (1).
فإما يكون الجاحظ نسي في الموضع الذي أشرنا إليه في الحيوان مقاله هذا وإما يكون أحد القولين نسب إليه وليس له، والله تعالى أعلم.
وقد سبق الخليل في علم الألحان والموسيقا معبد وأصحاب الغناء المتقن أيام بني أمية وقد كانت لأصواتهم نقرات محفوظة، قال البحتري يصف جوادًا من كرام الخيل:
هزج الصهيل كأن في نبراته
…
نبرات معبد في الثقيل الأول
وقد ذكر المعري وزن الثقيل الأول في الفصول والغايات.
(1)() هذا في مزهر السيوطي كما مر في هامش من قبل.
والغناء عند العرب قديم، وقلت أمة من الأمم تخلو من تجويد الغناء على منهج لها. قال عبد يغوث الحارثي:
أحقًّا عباد الله أن لست سامعًا
…
نشيد الرعاء المعزبين المتاليا
وقالوا إن وفد عادٍ في الزمان القديم شغلتهم الجرادتان المغنيتان عما قدموا له من الاستسقاء وإلى ذلك أشار عمرو بن أحمر في قوله:
كشراب قيلٍ عن مطيته
…
ولكل أمرٍ واقعٍ قدر
وجرادتان تتغنيانهم
…
وتلألأ المرجان والشذر
وفي كتاب الوافي للتبريزي بمعرض الحديث عن الخبب استشهد بالكلمات المنسوبة إلى علي كرم الله وجهه:
حقًّا حقًّا حقًّا حقًّا
…
صدقًا صدقًا صدقًا صدقًا
يابن الدنيا جمعًا جمعًا
…
إن الدنيا ق غرتنا
يابن الدنيا مهلًا مهلًا
…
اسنا ندري ما فرطنا
ما من يوم يمضي عنا
…
إلا أوهى منا ركنا
ما من يوم يمضي عنا
…
إلا أمضي منا قرنا
ثم قال: «فإن شئت جعلت تقطيع هذه الأبيات على «فعلن فعلن» فتكون على ثمانية أجزاء، وإن شئت جعلت تقطيعها على مفعولاتن فتكون على أربعة أجزاء». أ. هـ. الأجزاء هي ما نسميه الآن التفعيلات، جمع تفعيلة.
أحسبنا استخففنا هذه اللفظة «التفعيلة» وليست بدقيقة، والصواب أن يقال لمثل «فعولن» ولمثل «مستفعلن» جزء. وكانوا يقولون التقطيع لنحو قولك في:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا
…
حنانيك بعض الشر أهون من بعض
أبا من -ذرن افنيـ -تفستبْ- قبعضنا إلخ.
ويقولون تفعيل هذا:
فعولن- مفاعيلن- فعولن- مفاعلن- إلخ.
فعنوان الهامش الذي وضعه محقق كتاب العمدة الشيخ محي الدين عبد الحميد رحمه الله وهو أجزاء التفاعيل عند قول ابن رشيق «وجميع أجزاء الشعر تتألف من ثلاثة أشياء سبب ووتد وفاصلة إلخ» . أراد به جمع قولهم «تفعيل» أي تقطيع البيت على الأجزاء لا على لفظه. وقول المعاصرين تفعيلة بصيغة المرة من التفعيل كأنما أرادوا به ترجمة قولهم بالإنجليزية «فوت» foot أي قدم وهو الذي صرح به الدكتور محمد مندور في كتابه في الميزان الجديد (مصر 1944 ص 175) ويطلق قولهم «فوت» على جزء الوزن في أشعارهم وأنواعه أربعة، الأول مقطع ضعيف بعده مقطع شديد ويقال له أيامبيك Iambic ومثل له أنطوني بيرغس في أخريات كتابه عن الأدب الإنجليزي بأمثلة منها Away ويشبهها قولنا تتا -فعول. واللفظ الإنجليزي تختلف طريقة النطق به عن اللفظ العربي وإنما أردنا التقريب. والنوع الثاني مقطع شديد بعده مقطع ضعيف ويقال له تروتشيك Trochaic ومثل له بأمثله منها Father ويشبهها قولنا: تات، فعل. والنوع الثالث مقطعان ضعيفان بعدهما مقطع شديد ويقال له أنبيستك Anapaestic ومثاله go away (ت تتا- فعلن) والنوع الرابع مقطع شديد بعده ضعيفان ويقال له دكتلك Dactylic ومثاله merrily أي نحو تاتت وفاعل على وجه التقريب.
هذا وقاد بعض المعاصرين الباحثين في علم الأوزان، (وقد كثر الإقبال عليه بأخره)، مقال التبريزي إلى أن يتعقبوا الخليل، فزعموا أن رنات مف * عو * لا * تن *) أصل في إيقاع الشعر ونقرات أوزانه. وفي هذا نظر. وأحسب أن التبريزي عدل عن «فعلن فعلن» لمكان سكون العين وهي في أصل الجزء «فاعلن» أول الوتد المجموع (علن) فمكان السكون شاذ. ويجوز تخريج ذلك على أن كسرة العين اختلست، ثم حذفت الألف قبلها وأخلص الاختلاس