المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

صلة أنغامها بالبحور التي يمكن ورودها فيها واضحة (1). في حديث - المرشد إلى فهم أشعار العرب - جـ ٤

[عبد الله الطيب المجذوب]

الفصل: صلة أنغامها بالبحور التي يمكن ورودها فيها واضحة (1). في حديث

صلة أنغامها بالبحور التي يمكن ورودها فيها واضحة (1).

في حديث الفارابي عن القوافي الذي تقدم ذكره قال: «وأشعار العرب في القديم والحديث فكلها ذوات قواف إلا الشاذ منها إلخ» لعله عني بالشاذ نحو هذا الذي ذكره أبو الحسن وقال إنه «غلط ويشبه من الكلام هذا جحر ضب خرب» على أن ما وقع من اختلاف الروى في ما تتقارب مخارجه نحو:

بني إن البر شيءٌ هين

المنطق اللين والطعيم

زعم أنه كثير، قال: «وقد سمعت من العرب مثل هذا ما لا أحصي

» ويغلب على الظن أن الذي زعم أنه غلط مما تباعدت مخارجه كان أيضًا كثيرًا عندهم ولكن قلة الرواية جعلته كالشاذ، يدلك على ذلك قوله في أبيات الراء واللام والميم والباء التي مرت «والذي أنشدها عربي فصيح لا يحتشم من إنشاد كذا، ونهيناه غير مرة فلم يستنكر ما يجيء به» أ. هـ. ومثل هذا لا يعلق بالذاكرة علوق ما القوافي منه محكمة، فهذا سبب قلة روايته. قال الجاحظ في البيان:«وقيل لعبد الصمد بن الفضل بن عيسى الرقاشي لم تؤثر السجع على المنثور، وتلزم نفسك بالقوافي وإقامة الوزن، قال: إن كلامي لو كنت لا آمل فيه إلا سماع الشاهد لقل خلافي عليك، ولكني أريد الغائب والحاضر والراهن والغابر، فالحفظ إليه أسرع، والآذان لسماعه أنشط، وهو أحق بالتقييد وبقلة التفلت، وما تكلمت به العرب من جي المنثور أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون فلم يحفظ من المنثور عشره ولا ضاع من الموزون عشره» أ. هـ. قلت هذا على زمان الرقاشي المذكور أما الآن فالضياع أعم وأغلب والله المستعان.

‌الإيقاع الداخلي:

وهو كل الإيقاع والرنين المنبعث من الشعر. واعلم أصلحك الله أن للشاعر

(1)() لنا كلمة ذكرنا فيها قوافي الخليل الثلاثين نشرت بمجلة المجمع سنة 1981 م وبمجلة المناهل من بعد.

ص: 46

ملكة منحها الله إياه هي المقدرة على التعبير بالرنين والإيقاع. والوزن بالبحر والقافية كالإطار للإيقاع كله. داخل هذا الإطار الألفاظ التي تتبع نقراتها نقراته وتزيدهن رنينًا وإيقاعًا. وتراكيب الألفاظ بضروب تقسيماتها وموازناتها وطباقها وجناسها وتكرارها. ثم يوجد وراء هذا كله الإيقاع الرئيسي (1) الذي خص الشاعر به كلامه ليكون هو ذاته من وسائل بيانه وطرقه إلى الإيحاء والتأثير. مثلًا قصيدة زهير:

صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو

وأقفر من سلمى التعانيق فالثقل

إيقاعها ببحر الطويل الأول وقافية من المتواتر رويها اللام المضمومة بعدها واو الوصل وبضروب الأوزان الفرعية من جناس وتقسيم ونحو ذلك كما في قوله:

وفيهم مقامات حسان وجوههم

وأندية ينتابها القول والفعل

على مكثريهم رزق من يعتريهمو

وعند المقلين السماحة والبذل

فهذا موازنة وتقسيم، وكما في قوله:

إذا لقحت حرب عوان مضرة

ضروس تهر الناس أنيابها عصل

تجدهم على ما خيلت هم إزاءها

وإن أفسد المال الجماعات والأزل

فههنا الجناس بالحروف في الضاد والراء والسين والزاي.

التقسيم والموازنة ورنة الحروف، جميع هؤلاء ضروب من الإيقاع في داخل إطار الوزن الكبير من البحر والقافية، ثم هؤلاء كلهن، بمنزلة الإطار والغشاء الخارجي لإيقاع الشاعر المنبعث من نفسه، الذي هو به يبين، لذلك قديمًا قيل إن الكلام إذا خرج من القلب ولج إلى القلب وإذا خرج من اللسان لم يتجاوز الآذان.

(1)() الياء للنسبة والرئيسي في مثل هذا الموضوع أحب إلي وأحسبها أصح.

ص: 47

يوجد لهذه القصيدة:

صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو

صورة إيقاع روحاني، جميع ظواهر إيقاعها بنقرات الوزن والقافية واللفظ وتراكيبه هن وسيلة ومظهر لصورة الإيقاع الروحانية التي هي في الحقيقة روح موسيقا الشعر وسائر الذي ذكرناه لها كالبدن. هذا الروح الموسيقى هو مرادنا بالإيقاع الداخل. طويل زهير وإيقاعه في المعلقة مختلفة عن طويل امرئ القيس وإيقاعه في المعلقة مختلف عن طويل زهير نفسه في قصائد أخر.

سبب الاختلاف هو روح الإيقاع الذي يشع من هذا الذي هو كبدن للإيقاع. ولعمري لو قد فارق روح طرفة الإيقاعي معلقته لعادت كلها جنازة إيقاعية تسجى وتدفن برويها وبحرها وضروب جناسها وطباقها وموازناتها. وكمثل ذلك قل في لامية امرئ القيس «قفا نبك» وفي سائر المعلقات ولأمر ما اختاروا: «هل بالديار أن تجيب صمم» التي للمرقش، ومهما نضطرب فيه من إدراك تقطيع بحرها ونظام قوافيها فلن نخطئ إدراك روحها الإيقاعي الذي يصل إلينا برناته لا ريب فيها.

ويعجبني منها قوله:

بل هل شجتك الظعن باكرة

كأنهن النخل من ملهم

النشر مسك والوجوه دنا

نير وأطراف الأكف عنم

لم يشج قلبي ملحوادث إلا

صاحبي المتروك في تغلم

ثعلب ضراب القوانس بالسيف

وهادي القوم إذ أظلم

فاذهب فدى لك ابن عمك

لا يخلد إلا شابه وأدم

وهما جبلان:

ليس على طول الحياة ندم

ومن وراء المرء ما يعلم

ص: 48

لسنا كأقوام مطاعمهم

كسب الخنا ونهكة المحرم

إن يخصبوا يعيوا بخصبهم

أو يجدبوا فهمو به الأم

أموالنا نقي النفوس بها

من كل ما يدني إليه الذم

يأتي الشباب الأقورين ولا

تحسد أخاك أن يقال حكم

الأقورين بصيغة جمعه المذكر السالم أي الدواهي ومثلها الأمرين والبرجين بكسر الياء وفتح الراء.

وكذلك لأمر ما اختاروا أبيات سلمي بن ربيعة وقد مرت في أول الجزء الأول من كتابنا وأول بيت فيها:

إن شواء ونشوة

وخبب البازل الأمون

وقد اختارها أبو تمام في الحماسة وهو من نقدة الشعر لا يشك في ذوقه، ونبه على ذلك المرزوقي في مقدمته لشرح الحماسة كل التنبيه (1).

ومثل ذلك قله في بائية عبيد بن الأبرص: «أقفر من أهله ملحوب» . وقال أبو العلاء المعري:

وقد يخطئ الرأي الفتى وهو حازم

كما اختل في وزن القريض عبيد

وزعم التبريزي أن البائية العبيدية ضرب من الشعر الذي يقال له الرمل في مقابلة لا يعني وزن الرمل العروضي فاعلاتن الأجزاء الستة، قال: «وأما الرمل فهو كل شعر مهزول ليس بمؤلف البناء لا يحدون في ذلك شيئًا وهو كقول عبيد بن الأبرص:

اقفر من أهله ملحوب

فالقطبيات فالذنوب» أ. هـ.

وهذا من غريب القول لما نعلمه من أن هذه البائية مما رواه الجاهليون

(1)() هذا التنبيه هو أجود ما في هذه المقدمة وأوضحه.

ص: 49

وقدموه، وفي خبر عبيد أن النعمان بن المنذر استنشده إياها في يوم بؤسه فقال:

أقفر من أهله عبيد

فاليوم لا يبدي ولا يعيد

وقال: «حال الجريض دون القريض» . وعندي أن أبا العلاء أراد بقوله:

«كما اختل في وزن القريض عبيد» أن يشير إلى هذا وهو يناسب وصفه له بأنه حازم محكم للشعر أخطأ في وزنه حيث قال: «فاليوم لا يبدي ولا يعيد» كما يخطئ الحازم وجه الرأي إذا وقع القدر، وقد عبر هو صادقًا عن جزعه من الموت بقوله:«حال الجريض دون القريض» إنشاده أو صياغته، وقد أخذ التبريزي قوله:«كل شعر مهزول» من قول أبي الحسن في كتاب القوافي. وذكر أبو الحسن مع بائية عبيد قول عبد الله بن الزبعري شاعر قريش:

ألا لله قوم و

لدت أخت بني سهم

وهذا تام الوزن في بعض أجزائه الكف ولا يعاب، وهو بعد إنما وصف بأنه مهزول من حيث تأليفه وليس من الإنصاف لعبيد في شيء أن يقرن كلامه وهو مختار بهذا. ومما يدل على أن أبا العلاء كان يستحسن البائية أنه أدخل عبيدًا جنته ببيت منها وهو قوله:

من يسأل الناس يحرموه

وسائل الله لا يخيب

ويعجبني منها قوله:

تصبو وأني لك التصابي

أني وقد راعك المشيب

إن يك حول منها أهلها

فلا بدي ولا عجيب

أويك قد أقفر منها جوها

وعادها المحل والجدوب

فكل ذي نعمة مخلوسها

وكل ذي أمل مكذوب

وكل ذي غيبةٍ يئوب

وغائب الموت لا يئوب

ص: 50

من يسأل الناس يحرموه

وسائل الله لا يخيب

أفلح بما شئت فقد

يبلغ بالضعف، وقد يخدع الريب

لا يعظ الناس من

لا يعظ الدهر، ولا ينفع التلبيب

إلا سجيات ما القلوب

وكم يصيرن شائنا حبيب

ساعد بأرض إذا كنت بها

ولا تقل إنني غريب

قد يوصل النازح النائي وقد

يقطع ذو السهمة القريب

والمرء ما عاش في تكذيب

طول الحياة له تعذيب

من هنا أخذ أبو الطيب قوله:

ومن صحب الدنيا طويلًا تنكرت

على عينه حتى يرى صدقها كذبا

ليس العيب في طريقة عبيد. ولكن في طريقة تناولنا شعره، إذ حق الشعر أن يتغنى به، وحينئذ تتجاوب أصداؤه، وتنبلج حقيقة موسيقا إيقاعه، وأحسب أن أبا العلاء ربما يكون قد قصد إلى شيء من هذا المعنى حين قال في رسالة الغفران على لسان امرئ القيس:«فأما أنا وطبقتي فكنا نمر في البيت حتى نأتي إلى آخره، فإذا فني أو قارب تبين أمره للسامع» أ. هـ. وقد تتبعت ابيات هذه البائية، أعني:

أقفر من أهله ملحوب

فوجدت أن ما يظهر من اضطرابها هو في صدورها وأوائلها. ولكن الإعجاز من أول بيت إلى آخر بيت على نمط واحد، هو الذي مما يتفق مثله في العروض الثالثة من مجزوء البسيط التي يجوز الخبن في جزء الضرب منها وهو مفعولن فيصير فعولن كما يجوز الخبن والطي في أول أجزائها وهو مستفعلن والخبن في ثاني أجزائها وهو فاعلن.

وهناك أمثلة من الإعجاز: «دهر ولا ينفع التلبيب» ، فهذا آخره مفعولن وأوله فيه الطي وقوله:«ضعف وقد يخدع إلا ريب» ، فهذا آخره فعولن وأوله فيه الطي وقوله:«وكل ذي أمل مكذوب» فهذا آخره مفعولن وأوله فيه الخبن وكذلك

ص: 51

في ثانيه ونحو قوله: «لا حقة هي ولا نيوب» تشبع كسرة الهاء ولا تفتح الياء وقوله: «وأرسلته وهو مكروب» تشبع ضمة الهاء من هو ولا تفتح الواو، وقوله:«يصيرن شانئًا حبيب» الفعل من صير الرباعي المضعف، المضارع منه، مبنيًّا للمجهول مع النون الخفيفة، لا مضارع الثلاثي مع النون الثقيلة. وليرجع القارئ الكريم إلى أبيات المعلقة في نصها.

وعلى هذا النمط يتفق مجيء مخلع البسيط الذي فيه فعولن مع سائر العروض الثالثة التي ضربها غير مخبون (مفعولن). ويظهر أن:

مستفعلن فاعلن فعولن

التزمها المتأخرون حين نظموا على هذا القرى إحكامًا منهم للصنعة. وقال المعري في رسالة الغفران بمعرض خبر ابن أحمر ووقفه صاحبه معه في إحدى لقاءات الجنة (1): «ولقد وجدت في بعض كتب الأغاني صوتًا غنته الجرادتان فتفكنت لذلك الصوت:

أقفر من أهله المصيف

فبطن عودة فالغريف

هل تبلغني ديار قومي

مهرية سيرها تلقيف

يا أم نعمان نوليني

هل ينفع النائل الطفيف

وهذا شعر على قرى: «أقفر من أهله ملحوب» فقول المعري هذا يسند ما ذهبنا إليه في صفة إعجاز أبيات البائية. وأما الاضطراب الذي يبدو في صدورها فهي جارية على مجزوء البسيط يكون مزاحفًا في أوله مثل: «فكل ذي نعمة مخلوسها» وأحيانًا في آخر الصدر مثل: «عيرانة مؤجد فقارها» وأحيانًا من العروض الثالثة نحو: «وكل ذي إبل موروث» وهذا كأنه جار مجرى التصريع

(1)() رسالة الغفران، تحقيق ابنة الشاطئ- طبعة دار المعارف ص 243 - 244.

ص: 52

على مذهب ما زعمه الأخفش في قوافي قول الآخر:

خليلي حلا واتركا الرحل إنني

بمهلكة والعاقبات تدور

فبيناه يشري رحله قال قائل

لمن جمل رخو الملاط نجيب

وأحيانًا على التصريع كما في قوله: «أرض توارثها شعوب» وقوله: «عيناك دمعها سروب» ومجيء عروض المجزوء التامة مع ما دونها من الأضرب مما يحتمل.

وكالشاذ الخارج عن مجزوء البسيط:

وبدلت من أهلها وحوشًا

وغيرت حالها الخطوب

إذ صدره رجز من قبيل الضرب المقطوع وكونه صدرًا ليس فيه تصريع يمنع من القول بذلك. وقوله: «وحوشًا» إنما هو «فعولن» وهي من سنخ وزنه. وأخذًا بقول المعري على لسان امرئ القيس علينا أن نحمل سائر البيت على وزن البسيط الذي هو منه ونلتمس تأويلًا لوقوع جزء رجزي في مكان الجزء الذي ينبغي أن يكون على «فاعلن» أو «فعلن» بالخبن وهو الجزء الثاني. والتأويل أن هذا وقعت فيه زيادة يسمح بمثلها مذهب التغني وهي (من) ويستقيم الوزن على:

وبدلت أهلها وحوشًا

فأظهر الشاعر ما يمكنه إضماره. كما أظهروا «اشدد» في الذي روي من إنشاد علي كرم الله وجهه:

اشدد حيازيمك للموت

فإن الموت لاقيكا

وشبيه بهذا الصدر في شذوذه:

أويك قد أقفر منها جوها

وعادها المحل والجدوب

ويستقيم على مجزوء البسيط بحذف (قد) وهي مما يقع مضمرًا في الكلام فاختير هنا إظهاره لأن طريقة التغني تسمح بذلك وأمر الوزن أنه جار على مجزوء

ص: 53

البسيط مستبين، وزنه بعد حذف قد «مفتعلن فعلن مستفعلن مفاعلن فاعلن فعولن». وكأن أكبر شذوذ في القصيدة بيت العاناة حيث قال:

كأنها من حمير عاناتٍ

جونٌ بصفحته ندوب

فإن الوزن يصح بقولك «كأنها من حمير عانا» وقوله (تن) من بعد زيادة يحتملها تنغيم الغناء لأن فيه السكتات كما فيه التمطيط وليست (تن) ههنا بأبعد من التنوين الذي زيد بعد قاف رؤبة ولعل الرواية وقفت بصدر البيت عند (من حمير عانا) لعلم السامع أنها (عانات) كما علم من قول علقمة (بسبا الكتان) إنه يريد (بسبائب الكتان) ثم مع هذا الذي نقول به من أن الترنم قد يسوغ ضروبًا من الزيادة والحذف ينبغي أن نتذكر أن أمثال زيادة قد ومن وحذف أمثالهن مما يقع في التصحيف وقد روى أبو عكرمة البيت السادس عشر في ميمية المرقش هكذا:

يهلك والد ويخلف مو

لود وكل أب يتيم

وروى غيره (وكل ذي أب يتيم) وهو الذي به يتم الوزن ويستقيم المعنى ولكن أبا عكرمة هو أساس الرواية، فتأمل هذه الدقة.

ومما ينبه عليه في معرض الحديث عن التغني أن هذا البحر الذي منه هذه القصيدة كان مما يتغنى به كما يدل على ذلك خبر الجرادتين وغناؤهما بالأبيات الفائية التي منها قوله:

يا أم نعمان نولينا

هل ينفع النائل الطفيف

ويروى «هل ينفع النائل الطفيف» وأحسب أنها عليها رواية أغاني أبي الفرج.

ويدل على ذلك أيضًا قول سلمى بن ربيعة وهو في وزن من هذا القرى على حذو عبارة المعري:

ص: 54

إن شواء ونشوةً

وخبب البازل الأمون

والكثر والخفض آمنًا

وشرع المزهر الحنون

وقد مرت الأبيات في أوائل الجزء الأول من هذا الكتاب وذكرناها ههنا لننبه على موضع قوله: «وشرع المزهر الحنون» فهو يقوي ما قدمنا من خبر الجرادتين والتغني في هذا الوزن وإن رنات المزهر قد تجيء معها السكتات والزيادات التي تجري مجرى الترنم مثل السبب الخفيف في (من) و (قد) و (تن) التي في (عاناتن).

وسائر بائية عبيد سوى الأبيات أو قل الصدور الثلاثة جار على جملة الوزن. ثم في داخل الأبيات قطع تتوازن ولا ريب أن ترجيع الغناء والمزهر مما كان يقويها نحو: «أفلح بما شئت فقد» ونحو قوله «يبلغ بالضعف وقد» وقوله «لا يعظ الناس من» وقوله «لا يعظ الدهر» وحسبنا هذا القدر من التمثيل وعسى أن يضح به ما أردنا إليه من معنى، والله أعلم.

وبعد فالإيقاع الداخلي هو سر التعبير في الشعر وجميع أصناف الوزن ووسائله هن كالمفاتيح له وفيهن محاكاة له. وقد يهم (من الوهم) بعضهم فيظن أنه ينبغي على الشاعر الحق أن يخلص إلى إيقاع نفسه الداخلي من دون استعانة بوسائل الوزن، لأنهن حواجب وقيود وأثقال.

يقول صاحب كتاب شعر التصويريين بيتر جونز Imagist Poerty- Peter Jones (بنجوين) في ص 15، 16 إن مجموعة شعراء الصورة والتصوير عقدت أول اجتماع لها في 25 من مارس سنة 1909 في مطعم من حي سوهو في لندن اسمه «برج إيفل» وكانوا يجتمعون كل خميس مساء ويتحدثون عن حال الشعر على زمانهم المعاصر وأنه ينبغي أن يستبدل الشعر الحر Vers libres وبالتانكا اليابانية وبمنظوم من نوع الشعر العبراني في العهد القديم من الكتاب المقدس، وكأن بعضهم ينكر فائدة الوزن الايامبيك الخماسي (أي الذي فيه عشرة مقاطع الأول من كل

ص: 55

اثنين منها ضعيف) بل من ينكر فائدة الوزن وإيقاعه كائنًا ما كان ويزعم أن ذلك عبث أطفال.

واعلم أن دعوى أن يخلص امرؤٌ إلى إيقاع نفسه بغير وسائل الإيقاع من باب المستحيل لأن هذا هو الخرس البحت والعي وامتناع البيان.

ولقد سمت العرب الحمامة وهي ذات بيان شجني بهديلها المطرب عجماء، لأن غناءها على إطرابها ذو إبهام فيه قصور عن وضوح فصاحة التعبير. قال حميد بن ثور:

فلم أر مثلي شاقه صوت مثلها

ولا عربيًّا شاقه صوت أعجما

وقد وهم جماعة من المعاصرين حين التمسوا أن يحرروا الوزن والإيقاع العربي بزعمهم باستعمال الجناس الداخلي يقتدون في ذلك بالشاعر الأميركي البريطاني إليوت. ومذهب الجناس الداخلي أن يك مما يستقيم عليه مظهر إيقاع أو وزن شعري في الإنجليزية، فهو في العربية داخل في حيز زينة الكلام المنثور، وقد تعرضنا لبيان هذا المعنى في مقدمة الجزء الأول وفي أول الجزء الثالث عند الحديث على شاعرية النثر العربي، لكثرة ما في العربية من وسائل الإيقاع وأساليبه حتى قال الجاحظ في الحيوان:«وفضيلة الشعر مقصورة على العرب وعلى من تكلم بلسان العرب» وقال في البيان إن العرب تقطع الألحان الموزونة على الأشعار غير الموزونة «فتضع موزونًا على غير موزون، والعجم تقطع الألحان الموزونة على الأشعار غير الموزونة، فتضع موزونًا على غير موزون» . وزعم أن هذا من باب الفرق بين أشعار العرب بين الكلام الذي يسميه الروم والفرس شعرًا. (راجع البيان ح 1 - 384 - 385 تحقيق عبد السلام هرون).

عند كاتب هذه الأسطر أيها القارئ الكريم ترجيح لأن أولي الإفرنج من الأدباء والشعراء أخذوا أمر ما يقال له الجناس الداخلي الآن من العرب، كأخذهم القافية. وشاهد ذلك كثرة الجناس والصنعة البديعية في أوائل نظمهم عند نهضة

ص: 56

حضارة قرونهم الوسطة المتصلة بنهضتهم في أوائل ما يسمونه العصور الحديثة عندهم. أخذ إزرا باوند Ezra Pound (1885 - 1972) الشاعر الأميركي الأصل وصاحبه إليوت T.S. Eliot (1888 - 1965) من مذهب الشاعر الإنجليزي جرارد مانلي هوبكنز Gerard Manley Hopkins (1844 - 1889) وهذا تأثر بأساليب قدماء أهل الصنعة في الشعر الإنجليزي ويمثل لذلك بمنظومة وليم لانجلاند William Langland (1332 - 1400) واسمها بيرز بلاومان Piers Ploughman أي بطرس صاحب المحراث أو الحرث -وما أشبه أن يكون ههنا بعض الأخذ من المقامات حيث سمي الحريري راوية الحارث بن همام (1) وأوائل أبيات منظومة لانجلاند مع ترجمة تقريبية عمدنا فيها إلى محاكاة تكراره ما بني عليه قريضة من الجناس الحرفي (وراجع ما تقدم من قولنا في هذا الصدد في الجزء الثاني عند الحديث عن أصناف الجناس السجعي وأول أجناسه الحرفي ص 579 الطبعة الثانية- بيروت 1970).

In somer season when soft was the son

«في فصل الصيف، إذ صافية صارت الشمس» .

I shope me in shrouds، as a shepherd were

«لثت على ثيابًا، كما لو راعي ثلة»

In habit as an hermit، unholy of works

«في لبس الناسك وبلا قداسة أعمال»

Went wide in this world wonders to here

«سعيت في الدنيا الواسعة، لأسمع العجائب»

(1)() في أدب الأندلس ما يفيد استعمال الحارث بن همام في بعض مقاماتهم اقتداء بالحريري- أورد الأستاذ مصطفى الطاهري في رسالة قدمها بفاس عن ابن أبي الخصال الأندلسي ذكر مقامة له تسمى القرطبية بطلها أبو زيد وراويها الحارث بن همام.

ص: 57

وفي كل سطر وقفة عند نصفه أو نحو ذلك. وأول حرف من المقطع المشبع عند أول السطر يتكرر مرتين أو أكثر. ويسمونه حرف البداية.

الترجمة قافية البداية ولكن هذا لا يستقيم في العربية لأن القافية تقفو. ويجوز أن نقول: روى البداية.

حرف السين (S) هو عماد الجناس في السطر الأول وحاكيناه بالصاد لقربها من السين وهي في فصل والصيف وصارت وصافية وهي ترجمة غير محكمة لقوله Soft أي ناعمة والصفو من النعومة قريب. وحرف الشين عماد السطر الثاني وحاكيناه بالثاء إذ الغرض بيان المجانسة لا الإتيان بنفس الحرف وحرف (R) المتكرر في السطر الثالث حاكيناه بالسين في «لبس الناسك الخ» وحرف (W) في السطر الرابع حاكيناه بتكرار العين في «سعيت في الدنيا الواسعة الخ» .

والذي استعمله جرارد مانلي هوبكنز يسمونه «سبرنع رذم Sprung Rythm» أي الوزن الموثوب به وهو مع التجنيس استعمال ألفاظ مزدوجة التركيب في أسلوب شديد الشبه بأسلوب الازدواج العربي. مثلًا قوله في سياق به مدينة اكسفورد في الزمان القديم:

Towery city and branchy between towers

«مدينة أبراجية وأغصانية بين أبراج»

Cuckoo-echoing، bell-swarmed lark charmed rooi-racked، river-rounded

«أصدائية الصيدح، محشودة الناقوس، غريدة القبرة، مدفدفة الغداف، دائرة النهر»

أخذنا هذا المثال من الكتاب الموجز النفيس لأنطوني بيرغس من طبعته التي باسم جون بيرغس ولسون طبع لنجمان 1958 ص 225.

ص: 58

ومن أمثلة إزرا باوند:

Bitter breast cares have I abided

«هموم صدر مرات مررت بها»

Known on my keel many a care's hold

«كم كلكلى معروفة عنده كانت قبضة هم»

And dire sea-surge

.

«وسوء دفعة دفاع البحر»

عماد النظم ما سبقت الإشارة إليه باسم روى البداية head-rhyme أو حرف المطلع أو الجناس الحرفي أو الداخلي، وحاكيناه بتكرار الميم والراء والكاف والفاء والعين ويلاحظ أن بعضه في الأصل خطي لا ينطق به، حرف k في الكلمة Known مع keel. وعندي أن هذا الأسلوب المعتمد على الجناس الحرفي أو الداخلي قد أخذه الإفرنج من العرب في القرون الوسطى، إذ كانت لغة العرب هذا لغة الحضارة والعلم، كما هي لغة نماذج الأدب الرفيع شعره ونثره. وكان القرن الحادي عشر الميلادي زمان نهضة عند الإفرنج وإقبال شديد على الأخذ من العرب اتصل بالقرون التي بعده، وزادته الحروب الصليبية في المشرق والمغرب حدة وعمقًا. وكانت أساليب البديع في النظم والنثر هن النماذج المقدمة.

ومن البديع لزوم ما لا يلزم في قوافي الشعر، ومن أغرب ما جاء من ذلك التزام حرف بعينه في أول البيت وفي الروى ونظموا على ذلك القصائد الطوال كالوتريات التي سنذكر من شأنها في باب المديح النبوي من بعد إن شاء الله -كقوله:

سلام سلام لا يحد انتشاره

على من له نور يزيد على الشمس

فالسين هي حرف البداية وحروف الروى. وأحسب أن ما قويت عليه العربية في

ص: 59

هذا الباب لم تكن لغات الإفرنج تقوى عليه، ولكنها كانت تطلب محاكاته بشيء يدنو من مذهبه. وقد راجت مقامات الحريري ببديعها وعرفت من أقصى دار الإسلام شرقًا إلى أقصاها غربًا. وتأمل النماذج التي مرت بك من وليم لانجلاند وهوبكنز وإزرا باوند في ضرب هذا الجناس الداخلي أو الحرفي. ووازن بين ذلك وأمثال قول الحريري في إحدى مقاماته وأمثالها عنده كثير:

وأحوى حوى رقي برقة ثغره

وغادرني ألف بالسهاد بغدره

تصدى لقلبي بالصدود وإنني

لفي أسره مذحار قلبي بأسره

وقوله من أخرى:

آليت لا خامرتني الخمر ما علقت

روحي بجسمي وألفاظي بإفصاحي

ولا اكتست لي بكاسات السلاف يد

ولا أجلت قداحي بين أقداحي

ولا صرفت إلى صرف مشعشعة

همي ولا رحت مرتاحًا إلى راح

ولا نظمت على مشمولة أبدًا

شملي ولا اخترت ندمانًا سوى الصاحي

وقال المعري وكان من المشهورين وكأن فردريك الثاني الإمبراطور قد أخذ منه قولته المشهورة في الديانات: «أتى عيسى فأبطل دين موسى الأبيات» - قال:

خوى دن شربٍ فاستراحوا إلى التقى

فعيسهم نحو الطواف خوادي

وله في الديك:

أياديك عدت من أياديك صيحة

بعثت بها ميت الكرى وهو نائم

وهذا الضرب كثير في شعره وإليه نظر الحريري وغيره ومن أجوده في سقط الزند:

سارت فزارت بنا الأنبار سالمة

تزجى وتدفع في موج ودفاع

ص: 60

وكأنه هنا ينظر إلى قول أبي الطيب:

وكرت فمرت في دماء ملطيةٍ

ملطية أم للبنين ثكول

وللحريري في المقامات من المنثور قائلًا: «فتذمرت المرأة وتنمرت وحسرت عن ساعدها وشمرت وقالت له يا الأم من مادرٍ وأشأم من قاشرٍ وأجبن من صافرٍ وأطيش من طامر» .

وله في أخرى في صفة الدهر «كم طمس معلمًا وأمر مطعمًا وطحطح عرمرما ودمر ملكًا مكرمًا همه سك المسامع وسح المدامع وإكداء المطامع وإرداء المسمع والسامع» .

والعربية تستطاع فيها ضروب من الجناس الداخلي مع السجع وبدونه، في النثر والنظم جميعًا وأصناف أخر من البديع مثلهن لا يقدر على مثله إلا فيها نحو:

لا تبك إلفًا نأى ولا دارا

ودر مع الدهر كيفما دارا

واتخذ الناس كلهم سكنا

ومثل الأرض كلها دارا

واصبر على خلق من تعاشره

وداره فاللبيب من دارا

وهذه الأصناف -مع رواجها على زمان البديع عند المحدثين من الشعراء والكتاب- أصيلة في العربية من شواهد أصالتها مثلًا قول زهير:

إذا لقحت حربٌ عوانٌ مضرة

ضروس تهر الناس أنيابها عصل

وقد مر الاستشهاد به وقول النابغة:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

وقول امرئ القيس:

وسنٍ كسنيقٍ سناء وسنما

قطعت بمدلاج الهجير نهوض

ص: 61

وزعم أبو عمرو أن هذا البيت مسجدي أي صنعه المسجديون بالبصرة، وما أشبه هذا أن يكون صوابًا، وإنما نستشهد بهذا البيت بقصد الإشارة إلى قدم هذا النوع من تكرار الحروف، وأبو عمرو بن العلاء ومسجديوه كلاهما شيء قديم.

وقال الشنفري في التائية:

فبتنا كأن البيت حجر فوقنا

بريحانةٍ ريحت عشاء وطلت

وله في اللامية المنسوبة إليه:

دعست على غطش وبغشٍ وصحبتي

سعار وارزيز ووجرٌ وأفكلٌ (1)

وقال ذو الرمة يصف الجندب:

معروريا رمض الرضراض يركضه

والشمس حيرى لها بالجو تدويم

وله:

هنا وهنا ومن هنا لهن بها

ذات الشمائل والإيمان هينوم

وقال تعالى جل من قائل: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} .

وقال تعالى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .

وقال تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} وقال تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} وقال تعالى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} وقال تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} وهذا باب واسع قد مر تفصيل منه في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

(1)() بفتح الهمزة وسكون الفاء وفتح الكاف- الرعدة بكسر الراء.

ص: 62

وقال أبو يصير:

شاوٍ مشلٌّ شلولٌ شلشلٌ شول

وقد يعاب هذا من قوله وعندي أنه مما أحسن فيه لحكايته صوت الشواء واللامية التي منها هذا البيت مما رواه الأولون واختاروه فتأمل. وقال لحارث بن حلزة في المعلقة:

فرياض القطا فأودية الشر

بب فالشعبتان فالإبلاء

وقال أبو العلاء وهو من إحسانه:

صحبت كرانا والركاب سفائن

كعادك فينا والركائب أجمال

وقد أكثر المحدثون من الجناس الحرفي في بديعهم ولهم فيه محاسن كهذا البيت ذي الكافات من أبي العلاء وكقول النواسي:

ولك أدر من هم غير ما شهدت به

بشرقي ساباط الديار البسابس

وقال أبو الطيب:

ودون سميساط المطامير والملا

وأودية مجهولة وهجول

وقال البحتري:

أتسلي عن الحظوظ وآسىى

لمحل من آل ساسان درس

وعيب على مسلم قوله:

سلت وسلت ثم سل سليلها

فغدا سليل سليلها مسلولًا

ولعله أراد نوعًا من الهزل وكذلك صنع حبيب حيث قال:

الله لا يرضى بأن ترضى بأن

يرضى المؤمل منك إلا بالرضا

ص: 63

وهو بعد القائل:

ما ربع مية معمورًا يطيف به

غيلان أبهى ربًا من ربعها الخرب

ولا الخدود وإن أدمين من خجل أشهى إلى ناظرٍ من خدها الترب

تأمل الراء والباء والميم والدال حيث وضعهن. وبعض هذا لو وقع عند ضرب إزرا باوند لتاه به وفي مقامات الحريري من رقطاء وسمرقندية وشعرية وغير ذلك أصناف من هذا وقد التزموا في المقامات والشعر ما لا يلزم. فالذين يظنون أنهم يجددون أخذًا عن الإفرنج باستعمال الجناس الداخلي إنما يردون إلينا بضاعتنا مزيفة.

قال جيفري بريرتون Geoffrey Brereton في كتاب له اسمه ASHORT HISTORY OF FRENCH LITERATURE طبع بنجوين 1958 إلى 1964 م ما معناه في الصفحة 27 (ترجمة اسم الكتاب، مختصر في تأريخ الأدب الفرنسي): («الشعر الليريكي» أصله الأغنية، وبالنسبة إلى أكثر أوروبا الغربية كان اختراع الأغنية من اختراع الطروبدوريين بلغة الليان الجنوبي وهؤلاء بدورهم ربما كانوا قد تعلموا فنهم من عرب الأندلس، أم لعلهم حوروا نماذج لاتينية لما يناسب أغراضهم مما كان مألوفًا لديهم خصوصًا في أناشيد الكنيسة) وغير خاف أن هذه الفكرة الثانية أضعف من الأولى في تقدير المؤلف بحسب سياق كلامه ونصه كما يلي:

Lyric poetry originates in song، and for most of Western Europe the song was invented by the troubadours of the langue d'oc. They in their turn may have learnt their art from the Spanish Arab poets، or they may simply have adapted to their needs the Latin models with which they were familiar particularly the hymns and the chants of the Church.

وشعر الطروبدوريين فيه القافية وهي أمر عربي لا لاتيني. ثم إن أمر درس

ص: 64

اللاتينية لم يلحقه التجويد إلا بعد القرن الحادي عشر ولذلك احتاج الكاتب إلى أن يحصر الأخذ عنه مما كان يسمع في أناشيد الكنائس. ونظرية التأثر بنشيد الكنيسة ضرب من فرار عن بيان الحقيقة قديم. ولم يعد الكاتب ههنا مجرد الاحتراس بذكره وقد ذكره بتمريض يدل عليه قوله «simply» وشتان ما بين أناشيد الكنيسة اللاتينية آنئذ وما بين شهر الطروبدوريين في حرارة معانيه وبراعة أسلوبه ومدى تصنيعه وقد جزم السير وليم جونز Sir William Jones المستشرق الكبير (1746 - 1794) في رسالة له عن الشعر الشرقي يأخذ هؤلاء من إسبانيا العربية.

وذهب إلى ذلك أيضًا الكاتب الفرنسي ستندال في رسالته عن الحب، وقد كان على العربية إقبال مجدد بين أفذاذٍ من طبقات أهل الفكر الأوروبيين في القرن الثامن عشر الميلادي ومن بعد كما لا يخفى (1) على أن مقامات الحريري من بين سائر أصناف البديع العربي مما ذاع وطبقت شهرته الآفاق. وإقبال الإفرنج الأول على الترجمة من العربية والأخذ منها قد كان أوجه في القرن الحادي عشر والثاني عشر إلى الثالث عشر والرابع عشر وكل أولئك عصور ازدهر فيهن البديع العربي بالمشرق والمغرب في الأندلس وشمال أفريقية وحيث كان العرب في صقلية وجنوب إيطاليا وقد كان بعض المترجمين من العربية ربما انتحلوا ذلك لأنفسهم ونسبوه إلى مؤلفين من اليونان القدماء وهميين ولعل الخوف من أن يتهموا عند الكنيسة بالهرطقة قد كان من بعض أسباب ذلك.

هذا ونعود إلى ما كنا قدمناه في معرض حديثنا عن غرابة أوزان:

هل بالديار أن تجيب صمم

وكلمة عبيد:

أقفر من أهله ملحوب

(1)() أحسب أنه كان ثم صدود متعمد عن الاعتراف بفضل العرب مصدره رعب الكنيسة من الإسلام وفرط كراهيتها له.

ص: 65