المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل: قالوا عيب العجاج بأنه لا يحسن الهجاء فأجاب بأن من - المرشد إلى فهم أشعار العرب - جـ ٤

[عبد الله الطيب المجذوب]

الفصل: ‌ ‌فصل: قالوا عيب العجاج بأنه لا يحسن الهجاء فأجاب بأن من

‌فصل:

قالوا عيب العجاج بأنه لا يحسن الهجاء فأجاب بأن من يحسن البناء يحسن الهدم فلا يعسر عليه واعترض ابن قتيبة على هذا بأن الهجاء بناء كما المدح بناء. ولكلا القولين وجه من الصواب. ذلك بأن المدح يخالطه بيان الفضائل وربما احتاج ذاكرها إلى ذكر أضدادها ليبينها ومن أجل ذلك قال أبو الطيب:

ونذمهم وبهم عرفنا فضله

وبضدها تتبين الأشياء

وقد مدح جريرٌ هشامًا بميميته التي أوردنا قدرًا صالحًا منها في الجزء الأوب في معرض الحديث عن الوافر وعدد فيها فضائل هشام فلم يحتج إلى تعريض حتى صار إلى آخر القصيدة فقال:

تواصت من تكرمها قريش

برد الخيل دامية الكلوم

فما الأم التي ولدت قريشًا

بمقرفة النجار ولا عقيم

وما قرمٌ بأنجب من أبيكم

وما خالٌ بأكرم من تميم

سما أولاد برة بنت مر

إلى العلياء في الحسب العظيم

أرب جرير أن يثبت حق تميم وينوه بقوتها. فبدأ بمدح قريش. وبرأها من الهجنة والهجنة تكون من جهة الأم وبرأ أمهم من العقم لأنها ولدتهم وهم شوكة العرب منهم حكماهم بنو هاشم وبنو أمية. ولا ريب أن القرم أباهم وهو النضر بن كنانة جد قريش، قد كان فحلًا منجبًا. ولا ريب أيضًا أن خال قريش ينبغي أن يكون أكرم خال.

ثم أضرب عن ذكر الفحل، ونسب قريشًا إلى أمهم برة بنت مر، فأكد العز بهذا لتميم بن مر. وكأنه قد أبن سوى قريش وتميم بالأقراف أو بقلة الإنجاب أو

ص: 736

بهما معًا فتأمل. فهذا من أخفى الهجاء مداخل للمدح لازمٌ لتشييد بنائه.

وقال في عمر بن عبد العزيز:

أنت ابن عبد العزيز الخير لا رهقٌ

غمر الشباب ولا أزري بك القدم

تدعو قريش وأنصار النبي له

أن يمتعوا بأبي حفص وما ظلموا

راحوا يحيون محمودًا شمائله

صلت الجبين وفي عرنينه شمم

يرجون منك ولا يخشون مظلمة

عرفًا وتمطر من معروفك الديم

أحيا بك الله أقوامًا فكنت لهم

نور البلاد الذي تجلى به الظلم

لم تلق جدًّا كأجداد يعدهم

مروان ذو النور والفاروق والحكم

أشبهت من عمر الفاروق سيرته

سن الفرائض وأئتمت به الأمم

ههنا إشادة بعدل عمر بن عبد العزيز وتفضيل له على سائر ملوك بني أمية. فذكر الأنصار ولا نجده يذكرهم في مدحه عبد الملك أو هشامًا مثلًا، ثم برأه من أن يقال شاب مترف غر وكذلك كان يزيد بن معاوية أو شيخ طال به المدى وسئمه الناس، وكذلك كان مروان ومعاوية من قبل.

وما أراد جرير إلا ذكر الفاروق وحده لينوه بمكان عمر بن عبد العزيز من العدل ولكنه خشي أن يحفظ بني أمية فأقحم اسم الفاروق بين مروان والحكم وكلاهما لم يكن بكبير شيء في الجاهلية أو الإسلام ثم جاء بالفاروق وحده فتبين مراده إذ قال:

أشبهن من عمر الفاروق سيرته

سن الفرائض وائتمت به الأمم

وزعم أن مروان له نور وإنما النور لسيدنا عثمان وكان ابن عمه، فكأن جريرًا ما أراد إلا إياه.

ص: 737

ومراد ابن قتيبة واضح وذلك أن بناء القصيدة كلها على الهجاء ليس بهدم ولكنه إنشاء وعمل فني. وأحسب أن أكثر ذلك إنما يتفق في القطع اللاذعة كهجائيات الفرزدق. وفي المطولات كالنقائض. على أنه في النقائض مما يذكر الشعراء الفضائل لتقع في موازنة الرذائل وتنبه عليها.

ومما جاء في الفخر من التنبيه على الرذائل مع التعريض قول طرفة في المعلقة:

ولو كنت وغلا في الرجال لضرني

عداوة ذي الأصحاب والمتوحد

ولكن نفى عني الرجال جراءتي

عليهم وإقدامي وصدقي ومحتدي

لعمرك ما يومي علي بغمةٍ

نهاري ولا ليلي علي بسرمد

إذا مت فأبكيني بما أنا أهله

وشقي على الجيب يابنة معبد

ولا تجعليني كامرئ ليس همه

كهمي ولا يغني غنائي ومشهدي

بطيء عن الجلي سريع إلى الخنى

ذلولٍ بأجماع الرجال ملهد

فهذه الصفات القبيحة كأن فيها تعريضًا بأناس بأعيانهم. ولكأن أبيات لامية العرب التي يقول فيها «ولا جبإٍ أكهى» تنظر إلى كلام طرفة هذا، فمن زعم أنها منتحلة فهذا وجه من الوجوه التي يحمل عليها قوله.

وقال الفرزدق:

إن الذي سمك السماء بنى لنا

بيتًا دعائمه أعز وأطول

بيتًا زرارة محتبٍ بفنائه

ومجاشع وأبو الفوارس نهشل

لا يحتبي بفناء بيتك مثلهم

يومًا إذا عد الفعال الأفضل

إنا لنضرب رأس كل قبيلةٍ

وأبوك خلف أتانه يتقمل

فوازن بين مجد آبائه وحقارة أبي جريرٍ كما زعم.

ص: 738

وقال جرير:

أمسى الفرزدق يا نوار كأنه

قرد يحث على الزناء قرودا

ما كان يشهد في المجامع مشهدًا

فيه صلاة ذوي التقى مشهودا

إنا لنذكر ما يقال ضحى غد

عند الحفاظ ونقتل الصنديدا

وهذا باب واسع.

هذا وقد مر بك قولنا: «إن العرب كانوا يؤثرون للشاعر أن يتبدى لأن ذلك أدنى إلى القول الصارح والصدق المتوهم في سذاجة البداوة مع الفصاحة والبيان» وأردنا بسذاجة البداوة ما ذهب إليه ابن خلدون في المقدمة من معنى ارتباط الخير بفطرة البداوة لا أن البدوي العربي نفسه قد كان امرأً ساذجًا. وحاجة المجتمع -أي مجتمع وكل مجتمع- إلى الصراحة التي تدل على الفضائل وتنهي عن الرذائل أمر بين.

هذا التبدي لم تكن العرب تتكلفه ولكن تعمد إليه عمدًا مدفوعة بسجية معدنها المركب المزدوج التحامي البداوة والحضارة فيه، كما قال أبو حيان، إن العرب كانوا في باديتهم حاضرين. كانت جزيرة العرب هي الطريق الأعظم لتجارة التوابل والعطر وغير ذلك في الدنيا القديمة. كانت كل بئر حاضرة ومتى كثرن كانت قرية -أو قل واحة كما يقال الآن. ومعرفة العرب بحفر الآبار وطيها في رمالهم المقفرات يدل على تمكن من جانب من المهارة والمعرفة الهندسية السنخ. كانت الآبار والقرى في طريق القوافل من بين شمال الجزيرة وجنوبها ومن بين مشرقها إلى مغربها ومواضع شتى فيما بين ذلك. وكانت التجارة برية بحرية تنتقل من فرضات البحر إلى قرى الأسواق وحواضر الطريق البري. قال تعالى [سور يونس]:{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الآية. وقال تعالى [سورة سبأ]: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} وقال

ص: 739

تعالى [النحل]: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} . وقال تعالى [قريش]: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} .

ولا ريب أن دول العالم القديم الكبريات كانت تتبارى وتتنافس على احتكار هذا الطريق الأعظم والتحكم فيه. وقد حاولت بابل غزو حواضر جزيرة العرب والسيطرة عليها فلم يستقم لها ذلك. وقد رامت الفرس والروم وغيرهما مثل ذلك فكانت طبيعة جزيرة العرب الوعرة لها أعظم حماية. قال الأخنس بن شهاب:

لكيز لها البحران والسيف كله

وإن يأتها بأس فن الهند كارب

تطاير عن أعجاز حوش كأنها

جهام هراق ماءه فهو آئب

والحوش من الإبل قيل أصلها من الجن. وشعر الأخنس يدل على أن الهند أو فارس كانت تروم قهر حواضر المشرق من الجزيرة العربية.

كانت حياة البادية والحاضرة ملتحمتين متكاملتين. البادية تحتاج إلى البئر والسوق والحواضر لأهل البوادي ملجأ في زمان الجدب. والحاضرة ردء لها ومنعة وملاذ في البادية. وقد كانت الحواضر مما تفزع من كل غاز إلى بواديها فيعييه أمرها، كالذي صنعه عبد المطلب وقريش لما غزاهم أصحاب الفيل. لذلك كان العرب حقًّا متبدين وهم في مكة أو الطائف أو حجر، كما لو كانوا بالصمان والمتثلم وبوادي الحجاز ونجد.

وكانوا متحضرين وهم في تلك البوادي لطروق أرقى تجارة ذلك العالم قراهم وإلمامهم بتلك القرى مع الصلة الواشجة بها في جوارٍ وحلف ونسب -كالذي بين قريش وكنانة والأحابيش مثلًا، والذي بين هوازن وثقيف، وبين بني حنيفة وبطون من تميم.

ص: 740

سبق العرب كثيرًا من الناس إلى تأليف الإبل والخيل. وجلي أن طريق التجارة قد كان من أقوى الدوافع التي دفعتهم إلى هذا السبق بتأليفها والتوفر على تربيتها كما لم تفعل أمة من الأمم في الزمان القديم. وفي أساطير العرب أن للإبل أصولًا في الجن. وكذلك الخيل لها أصول روحانية. ولو قد كان في جزيرة العرب ماء وعشب يكفي الفيل لكان العرب قد اعتنوا بتربية الفيل والزندبيل عنايتهم بالعراب من الإبل والخيل، لحاجة التجارة إلى النقل والحماية.

وعند الإنجليز أن أسماء الحصان كثيرة في لغتهم لفروسيتهم ولعنايتهم بتربية الخيل مثل قولهم «هورس وستيد وستاليون ومير» ، وأسماء الخيل في العربية بحر طامٍ. ويقال إن أسماء الخيل في اليونانية مأخوذة عن العربية ولا تستبعدن هذا لقدم العرب ومعرفة قديمات الأمم بهم وقد كان اليمن من أسبق الخلق إلى الحضارة، ثم كانوا مع هذا السبق الحضاري وثيقة صلتهم بباديتهم الشاسعة التي كانت لهم حماية وردءًا. وفي أخبار اليمن أنهم بلغوا أرض التبت كما بلغوا أدغال أفريقية حيث يوجد أقوام رؤوسهم تحت أكتافهم. هذا كما قال شكسبير:

and men whose heads

Do grow beneath their shoulders

ولعله أخذه من أصول عربية وذلك كثير في شعره.

وهذه الأخبار اليمنية إنما تدل على التجارة ولا ريب أن حمايتها كانت تلزم معها شوكة وحد.

ومما يحسن الإلماع إليه في هذا الباب أن اليمن تزعم أن أفريقيس من ملوكهم هو الذي سميت به أفريقية. وهل هي من افتراق بين القارتين؟ أول قل من مادة فرق؟

ص: 741

مما كأنه رمز لمعنى التحام البداوة والحضارة في العرب التحامًا يجعل حضريهم لا يتخلص من معدن البداوة الذي هو فيه أبدًا وبدويهم أبدًا تخالط روحه دعوة الحضارة ونوازعها، خبر التوراة أن الملك بشر هاجر أم إسماعيل بأنها ستلد إنسانًا وحشًا - (سفر التكوين) 16 - رقم 11 - 12 - «وقال لها ملاك الرب ها أنت حبلى فتلدين ابنًا وتدعين اسمه إسماعيل لأن الرب قد سمع لمذلتك وأنه يكون إنسانًا وحشًا يده على كل واحد ويد كل واحد عليه وأمام جميع إخوته يسكن» ، وفي سفر التكوين 21 رقم 17 «ونادى ملاك الله هاجر من السماء وقال لها ملك يا هاجر، لا تخافي لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو. قومي احملي هذا الغلام وشدي يدك به لأني سأجعله أمة عظيمة» . أشار البوصيري رحمه الله إلى مقالة التوراة هذه وأصاب إذ عدها من باب البشارة بسيد الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم حيث قال:

تخبركم التوراة أن قد بشرت

قدمًا بأحمد أم إسماعيلا

ودعته وحش الناس كل ندية

وعلى الجميع له الأيادي الطولا

وأول هذه القصيدة:

جاء المسيح من الإله رسولا

فأبى أقل العالمين عقولا

قوم رأوا بشرًا كريمًا فادعوا

من جهلهم لله فيه حلولا

وشاهد الرمز قول التوراة «إنسانًا وحشًا» أو كما قال البوصيري «وحش الناس» ولعل هذه ترجمة أقدم وهي أفصح من قوله «إنسانًا وحشًا» .

تبدى الشعر الفني طبيعة إنسية وحشية فيه ووحشية إنسية فيه. وكانت العرب تنسب الشعر إلى الجن ويلذها فيه الغريب وأكثر ما كان يعمد الشعراء إلى الغريب إذا

ص: 742

ركبوا الخيل أو الإبل -أما الخيل فالفروسية تخالطها عبقرية التحدي واللامبالاة، كما قال زهير:

بخيلٍ عليها جنة عبقرية

جديرون يومًا أن ينالوا فيستعلوا

وأن يقتلوا فيشتفي بدمائهم

وكانوا قديمًا من مناياهم القتل

وأما الإبل فلأنها كانت تقطع بها المهامه -يتحدى بها الشاعر الهاجرة كما في يقول طرفة:

وإني لأمضي الهم عند احتضاره

بعوجاء مرقالٍ تروح وتغندي

ألحت عليها بالقطيع فأجذمت

وقد خب آل الأمعز المتوقد

والعرب تزعم أن الشياطين لا تقيل فراكب الهجيرة مع الجن يصحبهم أو يتحداهم.

أو يقتحم بها الشاعر ليل السرى وإنما سميت الصحراء دوية لأنه يسمع فيها دوي الجن وإلى هذا أشار ذو الرمة بقوله:

للجن بالليل في أرجائها زجل

كما تناوح يوم الريح عيشوم

هنا وهنا ومن هنا لهن بها

ذات الشمائل والأيمان هينوم

وقال أبو العلاء عن نفسه إنه إنسي المولد وحشي الغريزة يعني حبه التفرد والوحدة. وفي قوله بعض معنى «وحش الناس» كما في معنى البداوة في الحضارة. وقل قول أبي العلاء لا يضمنه إشارة خفية. وقد كان شديد الولع بالغريب. ومع ذلك أنحى على رؤبة باللائمة على لسان ابن القارح وقال له: «تصكون مسامع الممدوح بالجندل» . واستجهله قائلًا: «لو سبك رجزك ورجز أبيك لم تخرج منه قصيدة مستحسنة، ولقد بلغني أن أبا مسلم كلمك بكلام فيه ابن ثأداء فلم تعرفها حتى

ص: 743

سألت عنها بالحي ولقد كنت تأخذ جوائز الملوك بغير استحقاق، وأن غيرك أولى بالأعطية والصلات» أ. هـ.

وليت شعري هل نفس أبو العلاء على رؤبة وأبيه ما أخذا من جوائز أعياه هو مع سعة غريبه أن ينال طيفًا من مثلها إذ زار بغداد؟

وإنما كان يعجب الملوك من كلام رؤبة وأبيه صحة بداوته وكانوا قومًا عربًا. والشاعر أخو الجن تنتظر منه أنفاس من لغة الجن. وأبو العلاء يعلم ذلك وبنى عليه سينيته التي جاء بها على لسان جنية أبي هدرش:

مكة أقوت من بني الدردبيس

فما لجني بها من حسيس

وخبر ابن ثأداء هذا الذي ساقه غريب، إذ لم يكن رؤبة بالذي يجهل قول النابغة:

ردت عليه أعاليه ولبده

ضرب الوليدة بالمسحاة في الثأد

وغرابته أن يقوله أبو مسلم وكانت أمه أمة تدعى وشيكة كما في ميمية بشار، هذا على قول من قال إنه من ولد العباس وأخفى نسبه وليس مقتله على يدي أبي جعفر بنافي نسبه إذ الملك عقيم، وابن ثأداء العاجز، أو ابن الحمقاء وكل ذلك بمعنى، وأصل الاشتقاق من الثأد بمعنى الرطوبة والاسترخاء واضح. ويكون سؤال رؤبة إن صح استغرابه عبارة أبي مسلم إذ لم يكن ظاهر أمره عنده إلا أنه ابن ثأداء. على أن المرء قد يغلبه النسيان فيجهل ما يعلمه. وأن يكون رؤبة يرجع إلى أحياء تعلم الفصاحة والغريب وحده مبرر لأخذه الجوائز. وما أرى إلا أن أبا العلاء أزله ازراؤه بقدر الرجز وأنه دون مرتبة الشعر أن يقول ما قال. وقريب من مذهبه تجاه الرجز مذهب صاحب الأغاني تجاه السجع.

ولتبدي الشعر عناصر أربعة، الفصاحة والشجاعة والفطنة والسخاء،

ص: 744

وأحسب أن الشعراء الأربعة الذين قدموا في الجاهلية كأن قد جعلوا أمثلة لهذه العناصر. وهن يجتمعن في الشاعر المفلق، لا يستغنى عن واحدة منهن، وكل منهن صفة وثيقة الصلة بالبداوة. الفصاحة معدنها البداوة. وكل من كان منها أقرب كان من الفصاحة أقرب. وقد قرأت منذ دهر مضى كلامًا من هذا المعنى للسباعي بيومي رحمه الله يقول فيها إن طبقات القاهرة الشعبية والنساء خاصة لهن من الفصاحة ما لا يوجد في الطبقات التي هي أعلى أو ما هو بهذا المجرى، وهذا أمر مشاهد في كثير من بلاد العربية أن أدنى طبقاتها إلى البداوة -حتى في اللغة الدارجة- أقواها في مجال الفصاحة وأدناها إلى معدن فصاحة العربية الفصحى. هذا، والشجاعة مع البداوة وإليها أقرب منها إلى الحضارة. وكذلك السخاء لبساطة العيش واشتراك الناس فيه وحاجتهم اليومية بعضهم إلى بعض. وقد تعلم أصلحك الله أمر إيقاد العرب على الإيفاع نيران القرى. وقال طرفة:

ولست بحلال التلاع مخافة

ولكن متى يسترفد القوم أرفد

وكان فطنة الأعراب مثل سائر. وقد مر بك قول حبيب:

لا رقة الحضر اللطيف غذتهم

وتباعدوا عن فطنة الأعراب

فالفصاحة كأن النابغة رمز لها. وقالوا أشعر الناس النابغة إذا رهب، والرهبة مما تفحم وما تنطق، فمن أنطقت جاء بالبيان الساحر ليخرج به من مأزقه والشجاعة رمزها الفرس والفارس، وقالوا أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب، وقد كان ملكًا وابن ملك، حال الحضارة ولينها، أشبه به وأقرب إلى مكانه، ولكنه كان مع ذلك بدويًّا مقاتلًا. وفي شعره كما كان يصف الخيل فيجيد، كان كمن ينشده وهو على صهوة مشرفة على الآفاق. وقالوا: أشعرهم زهير إذا رغب، ومن رغب تأتى بلباقة وذكاء وقديمًا قالوا من أحب طب والرغبة فرع المحبة والطلب طرف منها لا ينفصم.

ص: 745

وعند زهير الفطنة. بها قدر على المدح والحكمة والتجويد. وقالوا: الأعشى إذا طرب، ومع الطرب السخاء، وذلك أن يصدر القول والإيقاع وما هو من معدن الشعر كل ذلك بأريحية وتدفق. وكان الأعشى شاعرًا متنقلًا، متغنيًّا كما وصف نفسه فقال:

وكنت امرأً زمنًا بالعراق

عفيف المناخ طويل التغن

وكان من نعات الخمر.

غير خاف أن قولهم امرؤ القيس إذا ركب وزهير إذا رغب والنابغة إذا رهب والأعشى إذا طرب مرادة به الإشارة إلى صفة الخيل والمدح لهرم والاعتذار للنعمان والخمر التي كان بها الأعشى كلفًا ولوصفها محسنًا- ولكنه مراد به أيضًأ نعت عام لهؤلاء الشعراء وتنبيه على الإحسان الذي تفردوا به. وقد جاءت أوصاف أكثر تفصيلًا عنهم رويت عن عمر وعن علي وغيرهما مما يزيد من سعة مدلول الاختصارات الأربعة التي اختصروها.

ثم نعت زهير بالرغبة ليس بناقيها على امرئ القيس ولكن اعتلاء الصهوة أبرز في أمره. وكل من الأربعة شجاع لأنه أقدم فقال. واستخرج القول من أعماق نفسه فسخًا به. وجوده وأعمل الفطنة في اختيار معانيه ومبانيه.

توازن عناصر الشجاعة والفطنة والسخاء والفصاحة توازنًا فنيًّا بيانيًّا هو الذي ينشأ عنه الجزالة وشدة الأسر وصفاء الديباجة ونصوع البيان فتهتز له النفوس وتنشرح له القلوب. وهذا التوازن الشعري الفني البياني تعبير عن التوازن الروحي الكامل بين عناصر بداوة العرب وحضارتهم.

كان العرب عندما أقبلوا على الفتوح أجود خيولًا وأحد سيوفًا وأسد رماية وأكرم قيسًا وسهامًا وأهدى بالطرق وأخبر بأحوال الأمم التي حولهم من الروم والفرس وكانوا أعظم آفاق ثقافة ومدى فكر لأنه لم يكن لا للروم ولا للفرس مثل

ص: 746

كنوز الشعر والأدب والفصاحة التي تفجرت بها عيون المعاني والبيان عند ربيعتهم ويمنهم وتميمهم وقيسهم وهذيلهم وعلى تقدير التسليم بدعوى الانتحال فإن الذي سلموا بأنه غير منحول كشعر زهير والنابغة عند الدكتور طه حسين لم يكن عند ررم القرن الميلادي الخامس والسادس والسابع وفرسه شيء يدانيه. وحسبك ذلك شاهدًا على تفوق ثقافتهم وفكرهم الذي نقول له عن يقين وكانت قراهم بالبر والبحر فرضات التجارة العالمية آنئذ وثغور مجازها. لذلك كانوا بمشيئة الله سبحانه وتعالى مهيئين لحمل الرسالة التي بلغها رسول الله الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام. ولقد كان من قوة شعورهم بها وصدق ثقتهم بالله أنهم قادرون على حملها أن نطقت بها خيولهم أيام الفتوح. فقد ذكروا أن طلال فرس البكير الشداخي لما أرادها أن تجتاز نهرًا يوم القادسية فقال لها: «ثبي أطلال» تكلمت فقالت: «وثب وسورة البقرة» . إحساس فارسها أنه ليس مقدمًا بها على سلب ونهب وأمر من زينة الدنيا وكبريائها ولكن من أجل إعلاء كلمة الله وتبليغ سورة البقرة وعلوم القرآن قد صار لها هي إحساسًا، فقويت به على اجتياز النهر الذي أمامها وثبًا ما كانت لتقوى عليه لولا ما كان على ظهرها من حمل بركة القرآن.

عند كثير من المؤرخين المعاصرين وأهل الأدب أن العرب إنما عرفوا الثقافة والحضارة والعلوم بعد أن انتهى دور الفتوح وضربت الدولة الثانية بجران. وأن القرنين الثالث والرابع كانا قمة تلك الحضارة. وأن القرن السابع كان هو وما بعده عصور الانحطاط وأنه قد كان مستكنًا في أوج زمان حضارة الإسلام عنصر محافظته الذي أدى إلى تحجر تلك الحضارة وجمودها آخر الأمر. وأن التصوف شيء يوناني فارسي هندي مسيحي وأن اشتقاقه من كلمة يونانية وأن أجود شعر المسلمين الصوفي كان باللغة الفارسية. وأوشك كثير من نقد العصر أن يضرب مع الشعوبية والصليبية والعنصرية بسهام. وأوشك بعض العرب أن يستشرقوا مع المستشرقين المنطلقين من

ص: 747

قاعدة تعادي العرب. وقديمًا قال أبو العلاء:

أين امرؤ القيس والعذارى

إذ مال من تحته الغبيط

له كميتان ذات كأس

تزبد والسابح الربيط

استعجم العرب في الموامى

بعدك واستعرب النبيط

وأحسب أن قول القائلين بفطرية العرب من مستشرقي أبنائهم العرب والمستعربين اليوم قد أخذوا بما قال به ابن خلدون. ولا ريب أن في أقوال ابن خلدون عمقًا وبراعة تأمل. ولكنها ينبغي ألا تعزل عن ملابساتها في الزمان والمكان والظروف السياسية والاجتماعية والدينية التي كانت تحيط بابن خلدون نفسه، فقد كان رجلًا داهية سياسيًّا مناضلًا ذا طموح والذي قال به توينبي في كتابه الذي درس فيه التأريخ أن ابن خلدون اعتزل الناس ثم خرج على الناس بكتابه كما يفعل الأنبياء، فيه نظر إذ أن ابن خلدون لم ينفصم حقًّا عن مخالطة الناس ونضالهم. وقد أنكر على العلماء المعرفة بأمور السياسة والمقدرة على النهوض بأعبائها. وكان هو من العلماء وخاض غمار السياسة خوضًا ورأى العلماء على عصره يفعلون ذلك. فإن يك إنما أراد إبعادهم ليخلو الجو لنفسه فعسى ذلك. وقد ذكر خبر العباسة فأنكر أن يكون غرام بينها وبين جعفر هو الذي جر نكبة البرامكة أو كان لها سببًا مباشرًا -كما يقول المؤرخون الآن- بحجة أن الرشيد وزمانه كل ذلك كان قريبًا من سذاجة السلف الصالح. وقد كان الطبري من رجالات العلم ببغداد في زمان أقرب إلى السلف الصالح من زمان ابن خلدون وأعرف بحال بني العباس، ولم يستبعد ما استبعده ابن خلدون ولا نسب إلى زمان الرشيد أيتما سذاجة. وابن خلدون نفسه قد زعم أن الدولة الإسلامية قد داخلها الترف وقويت له في كلتا دولتيها الأولى والثانية، وذلك لا يستقيم ما ادعاه من سذاجة لزمان الرشيد.

اجتهاد الصحابة في تدبير الفتوح والخراج والقضاء وكتابة المصاحف وضبطها

ص: 748

وإنشاء الأسطول حتى هزموا به الروم في ذات الصواري على زمان عثمان رضي الله عنه ثم ما كان من جدل محتدم سبق الفتنة وتلاها حتى قامت الفرق بما فيها من مناظرات وعقائد ومذاهب، وما سيق من خبر السبئية وعبد الله بن سبأ وما أرى إلا أنهم إنما أرادوا النسبة إلى اليمن بهذه التسمية لأنه كانت لعلي كرم الله وجهه باليمن شيعة منذ زمان مبكر كما يفهم من خبر ابن عباس مع الحسين بن علي رضي الله عنهم، إذ نهاه عن التوجه إلى العراق وأشار عليه باليمن لأن لأبيه بها شيعة -كل هذا منبئ عن وجود حيوية فكرية لا يتأتى مثلها عن الفطرية التي هي ضرب من البدائية والسذاجة التي هي ضرب من بساطة الجهلاء- وكلا هذين وصف نقادنا الآن أسرع إلى إطلاقه على العرب الأقدمين يضاهون به كلام بعض متعصبي المستشرقين كما قدمنا.

لما اتسعت رقعة دولة الإسلام ومصرت الأمصار انثال عليها العرب من بواديهم وقراهم وما حولها. وقويت شوكة الخلافة، فأغنت هيبتها عن حاجة قار إلى بادٍ في أمر الحماية والامتناع من الغزاة. كان العرب في صحرائهم بالتحام بداتهم مع حضرهم أعزاء مستعصين على كل غازٍ محتاجة إليهم روم الدول وفرسها. المناذرة والغساسنة كلاهما كان ملكهما شيئًا أحدثه الفرس والروم يتقون به العرب، ويتوصلون به إليهم. كان مجنًّا ومعبرًا. فلما جاءت الخلافة أزالت المجن والمعبر إذ صار العرب هم خلائف الأرض مكان الفرس والروم. ولكنهم بصنيعهم هذا أدخلوا من حيث لا يحتسبون عوامل الضعف والاختلال في التوازن الذي كان حافظًا عليهم كيانهم البدوي الحضري. ولعل الخلافة لو قد استمرت راشدية لكان ذلك أبقى على مادة العرب، ولكنها صارت ملكًا عضوضًا، وداخلته العصبية والاستبداد وسائر المؤثرات التأريخية التي أحسن ابن خلدون تفصيلها في هذا الباب. على أن «لوًّا» قليلة الغناء في هذا الموضع. إذ الخلافة الراشدية نفسها إنما قامت على تقديم قريش لقوة عصبيتها في العرب. وصدق الله العظيم سبحانه وتعالى وجل من قائل إذ يقول:

ص: 749

{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة] وإذ يقول {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران].

أحست العرب على رأسها سادتها في أيام دولة بني أمية بدبيب اختلال التوازن وكان الشعر ديوان العرب. فكان الحرص أشد على أن يظل معبرًا عن مادة البداوة، التي جعلت الآن أهميتها تقل، وحاجة الأمصار إليها تضعف، والتحام خشونتها بلين الحواضر ينفصم. ومن أجل ذلك كان الشعراء يستقدمون من بواديهم فيفدون على الخلفاء وعلى الولاة. وقال الفرزدق يخاطب الخليفة:

إليك أمير المؤمنين رمت بنا

هموم المنى والهوجل المتعسف

وعض الزمان يابن مر وإن لم يدع

من المال إلا مسحتًا أو مجلف

وقال جرير:

تعرضت الهموم لنا فقالت

جعادة أي مرتحلٍ تريد

فقلت لها الخليفة غير شك

هو المهدي والحكم الرشيد

قطعن الدام والأدمى إليكم

ومطلبكم من الأدمى بعيد

نظرت من الرصافة أين حجر

ورملٌ بين أهلهما وبعيد

ثم استقدم الرجاز، وكانوا أشد إيغالًا في وحشية البداوة، ثم انقطعت مادة الشعر الجزل الأصيل البداوة والرجز الخشن أنفاس الصحراء، وذلك على أيام الدولة الثانية، فاستقدم الأمراء والخلفاء العلماء من أمثال الأصمعي والليث بن المظفر بن نصر بن سيار الليثي (نصر بن سيار آخر ولاة بني أمية على خراسان) والفراء، وكان هؤلاء بقية البداوة من بقية فصائحها. كان مربد البصرة زمان بني أمية ملتقى الرجاز والشعراء. ثم صار ملتقى حفظة اللغة وطلابها على زمان أبي نواس وأشياخه، ثم كما كان يفد الرجاز والشعراء من قبل بالغريب على الخلفاء والولاة،

ص: 750

جعل فصحاء البدو يفدون فيأخذ النحويون وأهل الرواية منهم وخبر المسألة الزنبورية معروف.

كان هذا الحرص على اقتناء مادة البداوة في الغريب العويص رجزًا وشعرًا وأوابد كلمات والاشتداد في طلب ذلك صادرًا عن إيمان عميق بأن البداوة شيء ضروري لحيوية روح العرب مهما يصيبوا من نصيب التحضر وعن اعتقاد راسخ أنها متى زالت زال الروح العربي الحي أو باخ أو حدث به ضرر عظيم. روي أن أبا جعفر المنصور أمير المؤمنين سأل إجازة بيت ووعد أن يجيز من أجازه شيئًا كان عليه من ثيابه ردا أو بردًا -وليرجع القارئ الكريم إلى نص الخبر في الأغاني عند أخبار بشار- قالوا وأنشد:

وهاجرة نصبت لها جبيني

يقطع ظهرها ظهر العظاية

فأجاز بشار على الفور:

وقفت بها القلوص فسال دمعي

على خدي وأقصر واعظايه

فأعطاه المنصور ما وعد. وما أجدر هذا الخبر أن يكون صحيحًا لما في بيت بشار من الذكاء وكأنا نبصر رأس ضريره يهتز بإنشاده قالوا وكان بشار جهير الصوت رائع النشيد. وعندي إن صح هذا الخبر، وهو إن شاء الله صحيح، أن المنصور رحمه الله إنما صدر في الذي صنع عن روح تعلق أصيل بأسباب البداوة والعروبة الحقة. والبيتان في رويهما الظاء ولزوم لما لا يلزم. وهذا كما ترى جمع بين غريب وبديع.

وكأن طلب الغريب ضرب من البديع أو أخ له، على ظاهر أمر اقتران الغريب بالبداوة واقتران البديع بالحضارة.

وعلى قرىٍ من نوع قرى المنصور إذ جاء ببيته العظائي فأجازه بشار ببيته الواعظائي كان على الأرجح مجيء رؤبة بما جاء به من قوافي الظاء والغين والشين وما

ص: 751

أشبه مما عابه عليه أبو العلاء، ولقد جاء أبو العلاء بعد زمان رؤبة بثلاث مئات أو نحوها فجاء بل حروف المعجم في لزومياته وفيهن الظاء والشين وما عابه على رؤبة. أم ليت شعري إنما جعل هذا على لسان ابن القارح كراهية أن يجعله صادرًا مباشرة عن نفسه، وإلماعًا إلى أن هذا ذوق أهل عصره؟ مهما يكن من شيء، فإن غريب أبي العلاء قد كان طرفًا من حبه بداوة العربية أن تكون أبدًا ليست عن جوهر بلاغتها بمعزل، إذ لا تكون العربية حقًّا ذات بلاغة بدون بداوتها. وقال في العينية التي ودع بها بغداد:

وما للفصحاء الصيد والبدو دارها

بأفصح يومًا من إمائكم الوكع

ومع فتنته ببغداد هنا، قد ترى أنه قرن الفصاحة بالبداوة. قد كانت عقيدة الإبقاء على البداوة متمكنة من أعماق نفسه. وقد كان كما قال الذهبي، شيخ الأدب.

ذكر ابن المعتز أن البديع في العربية قديم وليس بأول من فطن إلى ذلك وإنما خصصناه بالذكر لمكان كتابه البديع وقد ساق فيه أمثلة من جناس القدماء وصناعة بديعهم.

كان البديع زينة تزين به الفصحاء كلامها. وطلب الزينة من طبع البشر وإن يكونوا بدوًا وإن يكونوا همجيين أو بدائيين. وقد ذكرنا أن بداوة العرب كانت وثيقة الصلة بزينة الحضارة -حتى إن منها ما داناها مداناة آخذة بنصيب وافر منها كالنابغة الذي كان له حصن على رأس جبل منيف أحل به أهله وزعموا أنه كان يأكل في صحاف الذهب، قال:

وحلت بيوتي في يفاع ممنع

تخال به راعي الحمولة طائرا

حذرًا على ألا تنال مقادتي

ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا

ص: 752

وقال ثعلبة بن صعير:

تضحي إذا دق المطي كأنها

فدن ابن حية شاده الآجر

أي بناه بالجص والآجور. قال تعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} .

وذكر علقمة بن عبدة زبنة الهوادج:

عقلا ورقما تظل الطير تخطفه (البيت)

وقال أبو ذؤيب: «كأنما كسيت برود بني تزيد الأكرع» وهي التزيديات التي ذكرها علقمة. وقال امرؤ القيس «وأكرعه وشي البرود من الخال» .

وكان مما تزين به العرب. كلامها السجع والازدواج والتقسيم والترصيع وكل أولئك معدود في أبواب البديع. وكانت مما تزين به كلامها الغريب وربما اخترع الشاعر الكلمة أو جاء بها طريفة مستعارة مما لم يستعمله العرب قبله كقول الأعشى:

بالجلنار وطيب أردانه

بالون يضرب لي يهز الأصبعا

وقول ابن أحمر «حنت قلوصي إلى بابوسها» وتسميته النار مأنوسة. وما ذكروا العريب في أصناف البديع وكأنهم قاربوا ذكره إذ في ما استشهد به قدامة في باب ائتلاف اللفظ والمعنى شيء سماه المطابق وذكر بيت الأفوه الأودي:

وأقطع الهوجل مستأنسًا

بهوجل عيرانةٍ عنتريس

وشرح الهوجل الأولى بأنها الأرض والثانية بأنها الناقة فالحاجة إلى الشرح تنبئ عن الغرابة والاستشهاد بالكلمة المذكورة في مجال بديعي كما ترى.

وقد فرق قدامة بن الغريب والحوشي ثم اضطرب في هذا فزعم أن الحوشي مجوز للقدماء من أجل «أن من شعرائهم من كان أعرابيًّا قد غلبت عليه العجرفة ومست الحاجة إلى الاستشهاد بأشعارهم في الغريب» فتبين من هنا أن الغريب ليس

ص: 753

هو الحوشي ولكن الحاجة إلى الاستدلال عليه قد تدعو إلى طلب شعر الأعراب أولى العجرفة وفيه الحوشي مع الغريب. ثم قال: «ولأن من كان يأتي منهم بالحوشي لم يكن يأتي به على جهة التطلب والتكلف لما استعمله منه لكن بعادته وعلى سجية لفظه» ، ثم زعم أن من الأعراب من يتكلفه، وهذا داخل في ما قدمناه من وفود الأعراب ببضاعة من الغريب وما هو أغرب منه وهو الحوشي يزجونها إلى الأمصار. قال:«فأما أصحاب التكلف لذلك فهم يأتون منه بما ينافر الطبع وينبو عنه السمع مثل شعر أبي حزام غالب بن الحارث العكلي» وأنشد شيئًا من شعره أوله:

تذكرت سلمى وإهلاسها

فلم أنس والشوق ذو مطرؤة

والإهلاس نوع من الضحك والمطرؤة من طرا الشيء أي يجعل الأمر يطرأ على قلبك أي يجعلك تتذكر وهكذا استعمال هذه الكلمة في الدارجة يقولون طرا واطرى (1).

وأنشد كلمة لشاعر محدث أنشدها اللغوي ابن الأعرابي جاء فيها:

حلفت بما أرقلت نحوه

همرجلة خلقها شيظم

وما شبرقت من تنوفيةٍ

بها من وحي الجن زي زيزم

قال قدامة فبلغني أنه أنشد ابن الأعرابي هذه القصيدة فلما بلغ إلى ههنا قال له ابن الأعرابي إن كنت جادًا فحسبك الله.

الزيزم بكسر الزاي صوت الجن وأضاف الشاعر قبله زي يكسر وأشباع.

ومن اضطراب قدامة في هذا الباب رجوعه عما قد قدمه من أن الحوشي يطلب للحاجة الماسة إلى معرفة الغريب وأنه يجيء بلا تكلف فذكر أن من الأعراب من

(1)() طرا حقها أن تكتب بالياء لأن اليائي في دارجتنا تنقل كسرة ثانيه إلى أوله. رضي تصير رضا وكأن الفعل أصله في العامية طري فصار بكسر أوله وكتبناه بالألف نظرًا إلى طرأ المهموز الفصيح واطرى تفعل بتشديد العين.

ص: 754

شعره فظيع التوحيش وأنشد أبياتًا رواها عن ثعلب عن ابن الأعرابي قالها محمد بن علقمة التميمي وقافيتها الخاء:

أفرخ أخا كلب وأفرخ أفرخ

أخطأت وجه الحق في التطخطخ

أما ورب الراقصات الزمخ

يخرجن من بين الجبال الشمخ

يزرن بيت الله عند المصرخ

لتنمطخن برشاءٍ ممطخ

ماءً سوى مائي يابن الفنشخ

أو لتجيئن بوشيٍ بخ بخ

من كيس ذي كيس مئن منفخ

قد ضمه حولين لم يسنخ

ضم الصماليخ صماخ الأصلخ (1)

وما أرى إلا أن صاحب هذا التوحيش قد جاء به يتحف به سامعه الحضري وفيه فكاهة وضحك وجاء بالخاء ليناسب به ابن الفنشخ وهو كما يظهر لقب ونبز إما كان معروفًا لذلك الرجل أو نبزه به لافتراق ساقيه وهو يمطخ بدلوه من البئر.

لما جعل توازن البداوة والحضارة يختل وخالط ذلك الاختلال بيان العرب ودخل اللحن في لسان من كانوا هم معدن الفصاحة -كالذي رووا عن الوليد بن عبد الملك أنه قال للأعرابي من ختنك بفتح النون فقال هذا القابلة امرأة بالبادية يا أمير

(1)() في طبعة نقد الشعر أخطاء وهكذا ينبغي أن تكون رواية الأبيات كما في الموشح وقد فصلنا الحديث عنها في مقال لنا عن خائية ابن خميس في العدد 22. من المناهل بالمغرب ومئن ذو أنين ومنفخ ذو تأفف ومن روى وضأن فهو زيادة في المعنى.

ص: 755

المؤمنين وأن الحجاج وهو الخطيب المصقع قال لأحدكم كم عطاءك فقال ألفين فقال له ويلك كم عطاؤك فقال ألفان -فزع القوم إلى بقية البادية. أول الأمر بجد وإلحاج يطلبون به أمرًا من سنخ معادنهم وضرورة لا يستغنون عنها بحال يدلك على ذلك مثلًا خبر كثير مع يزيد بن عبد الملك إذ أنشده بيتًا للشماخ فيه «قتين» وسأله عن معناه فلما لم يجبه (سأما لا جهلا) جعل يقول له «بصبصن إذ حدين» فزجره يزيد وقال له ما معناه هو القراد أشبه خلق الله بك. ثم صاروا بعد الجد يطلبونه استطرافًا -فصار الغريب كما ترى كأنه ضربٌ من الزينة، كأنه هو ضرب من البديع.

شينات رؤبة وظاءاته وضادية الطرماح وأغراب الكميت وأوابد ذي الرمة- كل ذلك كان لونًا من جد الفزع إلى البداوة مخالطه شيء من روح استطرافها والتزين بها. وإن كان في رؤبة وأبيه وأكثر الرجاز حوشي وتوحيش أحيانًا فقد كان في الكميت أسلوب كأنه درس علمي واستقصاء لأحوال ما كانت عليه البداوة، كقوله مثلًا «ولم يكن لعقبة قدر المستعيرين معقب» ولها أمثال في الهاشميات وكقول الطرماح «أمارت بالبول ماء الكراض» وقوله «حين نيلت يعارة في عراض» ورووا عن رؤبة أو ذي الرمة أن الكميت والطرماح كانا يلقيانه فيأخذان منه الغريب فيوجد من بعد في أشعارهما وكان معلمين. وقد كان في شعر ذي الرمة غريبه عن اختيار وتلذذ. مع ما تقدم ذكره من تتبعه لشعر القدماء بتأمل كالشرح مثل قوله في الظليم:

كأنه حبشي يقتفي أثرًا

أو من معاشر في آذانها الخرب

فهذا تتبع فيه قول عنترة «كالعبد ذي الفرو الطويل الأصلم» وقوله يقتفي أثرًا يشير به إلى طأطأة الرأس. وقوله في آذانها الخرب شرح وتوضيح لقول عنترة «الأصلم» وقد استكمل سائر نعت الصورة في أبيات البائية.

قد نسب النقاد أولية البديع لابن هرمة وبشار مع الذي تقدم من قولهم بقدم

ص: 756

أساليبه. وكان ينبغي أن يذكر مع هذين ذو الرمة وأن يقدم عليهما لما في شعره من متعمد بديع اللفظ كضروب جناساته نحو.

معروريًّا رمض الرضراض يركضه

والشمس حيرى لها بالجو تدويم

وضروب استعاراته وتشبيهاته نحو:

غللت المهارى بينها كل ليلة

وبين الدجى حتى أراها تمزق

ونحو: وساق الثريا في ملاءته الفجر.

ولكني أرى وأحسب أنهم لم يذكروه أول أصحاب البديع لإيثارهم أن يجعلوه آخر المفلقين ويشبهوه في الإسلاميين بامرئ القيس في القدماء. وما أرى أنهم أخروه عن منزلة جرير والفرزدق إلا لما أحسوه في أسلوبه من طرافة لم يخالف بها القدماء ولم يبلغ بها حاق أنفاس بداوة فحولتهم. وقد تعلم مقال أبي عمرو فيه على استحسانه لشعره أنه كنقط العروس وبعر الظباء.

ونظير الذي صنعوه مع ذي الرمة صنيعهم إذ أبوا لبشار أن يكون لاحقًا بآخر من يصح بهم الاستشهاد وجعلوه أول المحدثين وأباهم وزعموا أن سيبويه أنكر عليه «الغزلي» وزعموا أنه كانت بين الرجلين جفوة وأن سيبويه هو الذي وشى له لما أنشد في حلقة يونس بن حبيب الضبي:

بني أمية هبوا طال نومكم

إن الخليفة يعقوب بن داود

ليس الخليفة بالموجود فالتمسوا

خليفة الله بين الناي والعود

قال المعري بعد ذكره هذا الخبر «وسيبويه فيما أحسب كان أجل موضعًا من أن يدخل في هذه الدنيات بل يعمد لأمور سنيات» . وقد كان في المعري رحمه الله شيطنة خبث دباء لا تدعه يكف من الغمز واللمز.

ولعل مما جعلهم يلحقون ابن هرمة بمن يصح بهم الاستشهاد، على ما كان له من

ص: 757

الصناعة، قرشيته وتبؤوه الحجاز. ثم في أسلوبه من متانة الأسر ما هو أكثر وأقوى مما عند بشار. ولا يقدح في أسر بشار أنه كان مولى فقد نشأ عربيًّا. وقد كان إسماعيل بن يسار النسائي مولى وشعوبيًّا يهجو العرب ومع ذلك لم يخرجه هذا من أهل الاستشهاد لصحة أسره ورسوخ قَدَمه وقِدَمه، وأنه مع هذا كان مولى لقريش حجازي الدار.

قال أبو فرج الأصفهاني في الجزء الرابع من الأغاني (طبعة دار الكتب وما صور عنها) في باب ذكر ابن هرمة وأخباره ونسبه: «أنشدني عامر بن صالح قصيدة لابن هرمة نحوًا من أربعين بيتًا ليس فيها حرف يعجم وذكر هذه الأبيات منها، ولم أجد هذه القصيدة في شعر ابن هرمة، ولا كنت أظن أن أحدًا تقدم رزينا العروضي إلى هذا الباب.

وأولها:

أرسم سودة أمسي دارس الطلل

معطلًا رده الأحوال كالحلل

هكذا ذكر يحيى بن علي في خبره أن القصيدة نحوٌ من أربعين بيتًا، ووجدتها في رواية الأصمعي ويعقوب بن السكيت اثني عشر بيتًا فنسختها هاهنا للحاجة إلى ذلك، وليس فيها حرف يعجم إلا ما اصطلح عليه الكتاب من تصييرهم مكان ألف ياء مثل «أعلى» فإنها في اللفظ بالألف وهي تكتب بالياء ومثل «رأى» ونحو هذا، وهو في التحقيق في اللفظ بالألف وإنما اصطلح الكتاب على كتابته بالياء كما ذكرناه، والقصيدة:

أرسم سودة محلٌ دارس الطلل

معطل رده الأحوال كالحلل (1)

لما رأى أهلها سدوا مطالعها

رام الصدود وعاد الود كالمهل

وعاد ودك داءً لا دواء له

ولو دعاك طوال الدهر للرحل

(1)() سودة وشبهه يحسب في المهمل لصيرورة تائه هاء ومثلها حومة وسارحة وملمعة واللوعة ومكرمة وسادة.

ص: 758

ما وصل سودة إلا وصل صارمةٍ

أحلها الدهر دارًا مأكل الوعل

وعاد أمواهها سدمًا وطار لها

سهم دعا أهلها للصرم والعلل

صدوا وصد وساء المرء صدهم

وحام للورد ردهًا حومة العلل

حومة الماء كثرته وغمرته والعلل الشرب الثاني والرده مستنقع الماء.

وحلتوه رداهًا ماءها عسلٌ

ما ماء ردهٍ لعمر الله كالعسل

دعا الحمام حمامًا سد مسمعه

لما رآه دعاه طامح الأمل

طموح سارحةٍ حوم ملمعةٍ

وممرع السر سهل ما كد السهل

وحاملوا رد أمرٍ لا مرد له

والصرم داءٌ لأهل اللوعة الوصل

أحلك الله أعل كل مكرمةٍ

والله أعطاك أعلى صالح العمل

سهلٌ موارده سمحٌ مواعده

مسود لكرام سادة حمل أ. هـ.)

هذا آخر ما أورده أبو الفرج من القصيدة. جلي أنه ضاعت منها أبيات. وهي قصيدة مدح لها مقدمة من نسيب ولا يعقل أنها كلها نسيبها عشرة أبيات ومدحها بيتان. فيظهر أن خبر كونها أربعين بيتًا صحيح. والأبيات التي بأيدينا إما اختيار اختاره الأصمعي وإما هو غاية ما بلغه منها.

المهل بضمتين أصله المهل بضم فسكون والكلمة قرآنية الأصل والمهل من عذاب أهل النار. مأكل الوعل أي حيث أكل الوعل كناية عن بعد دارها وامتناع وصالها. سد ما: أي اندفنت. طار لها سهم أي كانت القرعة بالرحيل والعلل بكسر العين، الصرم المباعدة والعلل أي التعلل بالأعذار والعلل للصد والبعد. وردها مفعول به للورد والردهة حفيرة في الجبل جمعه رده وجعل أبو الفرج الرده واحدًا وحفظ أبي الفرج حجة. حوكة العلل بفتح العين أي الشرب مرة ثانية بعد النهل. وليس قول ابن هرمة صدوا وصد البيت بمعنى ساذج إذ فيه يصف كيف أن فرط الحب إذا الصد أوقع ضربًا من كراهية حينًا وشوقًا حينًا آخر. صدوا وصد وساءه

ص: 759

ذلك من بد وحام ليرد من مستنقع الماء (أي حيث يجتمع الماء) مرة أخرى. وجعل ابن هرمة ورده الأول الذي ورده حلوًا كالعسل إذ الماء الذي ورده وهوع عهد حرارة الحب الأول ما هو إلا عسل. ثم صارمت سودة. وتغيرت موارد الوصل وصارت ماء لا عسلًا فحام مع هذا يطمع في ورد المرة الثانية بعد أن حلئوه أي منعوه ورد الرداه التي ماؤها عسل. ثم شبه حاله وحال سودة بحال حمام هدر يدعو حمامًا آخر بهديره، فسد هذا المدعو مسامعه لما رأى صاحب الداعي له ذا طموح من أمل الوصال. وما الداعي المشتاق إلا الشاعر وطموحه كطموح سوائم عطاش في مكان ذي لمع من النبت أي قليل النبت في حال انها ترى سرارة الوادي ممرعة في سهل كثير الخصب في ترابه الخصيب للقافية سهل بكسر السين وفتح الهاء جمع سهلة. بوزن فعلة كلحية قال الفيروز أبادي في القاموس إنها تراب كالرمل يجيء به الماء قلت وهو المراد ههنا وضبط الكلمة بالتحريك غير واضح المعنى. وملمعة لو نصبت لكان وجهًا أي سارحة في بيداء ملتمعة ولعلها كذلك. قال في القاموس واللمعة بالضم قطعة من النبت أخذت في اليبس. فما أرى إلا أنه أراد أنها ترعى اللمع. والحوم هنا مصدر يدل على معنى العطش لأن الحائم هو العطشان ويجوز، بل أرجح أنها حوم بضم خالص كقول علقمة «حانية حوم» والشعراء مما يتبع بعضهم بعضًا.

الذي صنعه ابن هرمة من صميم البديع. وعلى متانة أسره وقلة فضوله فالعمل فيه ظاهر وقد ذكر أبو الفرج أن بعض أهل العلم بالشعر والنسب على زمان ابن هرمة كان يعيبه فهجاه ابن هرمة أو توعده قائلًا:

إني إذا ما امرؤ خفت نعامته

إلى واستحصدت منه قوى الوذم

عقدت في ملتقى أوداج لبته

طوق الحمامة لا يبلى على القدم

إني امرؤ لا أصوغ الحلي تعمله

كفاء لكن لساني صائغ الكلم

ص: 760

فعله كان يطعن في نحو هذا من تكلفه وفي نسب الخلج رهط ابن هرمة أنهم في قريش زوائد. والله تعالى أعلم.

وقد ذكر أبو الفرج رزينا العروضي أنه كان يتكلف نحو هذا ورزين على زمان دعبل ومسلم وقد اتلأب طريق البديع.

وصناعة أبي العلاء في الجمع بين محسنات الجناس وأوابد الغرب لها أصل في عمل ابن هرمة -تأمل قوله الأحوال كالحلل. وقوله:

سدوا مطالعها- رام الصدود- عاد الود- عاد ودك داء ولو دعاك- وصل صارمة- سدما- سهم- للورد ردها- سهلٌ- ماكد السهل- رد أمر لا مرد- للصرم والعلل- حومة العلل. ثم التقسيم سهل موارده إلخ.

وقد افتن الحريري بهذا النوع من اللعب اللفظي كالجناس الخطي الزخرفي الذي حين تعرى كلماته من الإعجام تشتبه وكتعرية الكلام من الإعجام مرة واحدة كهذا الذي صنع ابن هرمة ولم يبلغ به أربعين بيتًا وقد صنع ألفًا هاشم الفلاتي وهو قريب العهد من زماننا هذا نبوية ذات طول كلها حروفها غير معجمة وشطرها الشيخ مجذوب بن الشيخ الطاهر المجذوب أول ذلك:

ألا واصل الله السلام المرددا

لأكرم رسل الله طرا وأسعدا

وأمثلة هذا الضرب في بديعيات المتأخرين كثير. ولا بأس من إيراد أبيات المقامة الحلبية. هي السادسة والأربعون وسماها الحريري الأبيات العواطل قال:

«فما لبثت أن أشار بعصيته، إلى أكبر أصيبيته وقال له أنشد الأبيات العواطل واحذر أن تماطل، فجثا جثوة ليث وأنشد من غير ريث:

أعدد لحسادك حد السلاح

وأورد الآمل ورد السماح

وصارم اللهو ووصل المها

وأعمل الكوم وسمر الرماح

ص: 761

واسع لإدراك محل سما

عماده لا لإدراع المراح

والله ما السودد حسو الطلا

ولا مراد الحمد رودٌ وراح

واها لحرٍّ واسعٍ صدره

وهمه ما سر أهل الصلاح

مورده حلو لسؤاله

وما له ما سألوه مطاح

ما أسمع الآمل ردًّا ولا

ماطله والمطل لؤمٌ صراح

ولا أطاع اللهو لما دعا

ولا كسا راحاله كأس راح

سوده إصلاحه سره

وردعه أهواءه والطماح

وحصل المدح له علمه

ما مهر العور مهور الصحاح

ولا ريب أن الحريري اطلع على أبيات ابن هرمة وقد تجنب ما اصطلح الكتاب أن يكتبوه بالياء كأعلى ورأى لأن الياء منقوطة وقول أبي الفرج أن اللفظ ألف صحيح ولكنها موضع إمالة وهي ياء أو فيها نفس الياء فهذا تجنبه الحرير (1) والأبيات العشرة قصيدة وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق وقد جاء فيها بجناس جيد بعضه ناقص وبعضه تام في قوله «ولا كسا راحًا له كأس راح» - قال الشريشي رحمه الله: «ومثل هذا الشعر الذي لم ينقط ما أنشد أبو القاسم الزجاجي لأحمد بن الورد.

علم العدو ملامة اللوام

ودوام صدك وهو صد حمام

لولاك ما حدر السهاد دموعه

ولما أطار كراه حر أوام

هل ما أسر وما أومل رادعٌ

هول الهموم وروعة الأحلام

رد السلام وما أراك مسلمًا

ورآك أهل هواك سر كلام

كم حاسدٍ لك أو مسر ودادةٍ

ومعلل أهواه طول ملامي

(1)() كما تجنب تاء التأنيث التي تصير هاء اقتدارًا منه.

ص: 762

وهي قصيدة نحو الثمانين بيتًا وما زال المحدثون يظهرون اقتدارهم في هذا الفن إلا أنه قلما يقع في ذلك بيت مستحسن، فلذلك تركنا أن نمشي مع أشعار هذه المقامة فيما يماثلها، وقد أكثر الناس القول في ذلك، وفائدته أن يقال: قدر على لزوم ما لا يلزم لا أن يقال قد أحسن فيما قال، وقد أنشد أبو القاسم أيضًا أبياتًا لا تنطبق عليها الشفاه، منها:

أتيناك يا جزل العطية إننا

رأيناك أهلًا للعطايا الجزائل

عقيل الندى يا حار عدنا عقيلة

نعدك انتجاعًا للحسان العقائل

-انتهى كلام الشريشي.

قلت هذان البيتان غير داخلين في باب ما ليس بمنقوط ولكن يدخلان في باب لزوم ما لا يلزم والصناعة البديعية على مذهب المعري. ومجيء الشريشي بهما مع ما تقدم من أبيات عدم الإعجام يشهد بأن هذا على تكلفة داخل في البديع. والنسب بينه وبين الغريب والحوشي غير جد بعيد. فهذا كما ترى يرجع بنا إلى ما قلناه في أول كلامنا في هذا الباب وهو المراد.

وقد ظلت أعجب دهرًا لماذا قصر ببشار عن درجة ابن هرمة -أهو أنه لا بقرشي ولا مولي لقرشي، وإن كان نحو هذا مما يكون سببًا ثانيًّا وثالثًا لا سببًا أول. ثم تأملت ميميته التي أولها:

أبا مسلم ما طول عيش بدائم

أو كما ذكر أبو الفرج:

أبا جعفر ما طول عيش بدائم

وانظر الموضوع في الأغاني وفي ملحق ديوان بشار للشيخ محمد الطاهر بن عاشور رحمه الله (طبع القاهرة 1386 هـ- 1966 م الجزء 4 ص 167).

ص: 763

وأبدى لي التأمل لها أن أكثرها ينتهي عظم معنى البيت فيه في صدره ويكون العجز تتمة إما بطباق وإما بمقابلة وإما بزيادة من توضيح ونحو ذلك. فهذا لين إذا وازنت بينه وبين متانة أسر القدماء التي تقتضي أن يكون البيت فيه كلا مصمتًا وألا تقع فيه زيادة لفظ إلا ومعها زيادة معنى نحو قول زهير.

كأن فتات العهن في كل منزل

نزلن به حب الفنا لم يحطم

وفي ميمية بشار بعد أبيات روائع نحو:

مقيما على اللذات حتى بدت له

وجوه المنايا حاسرات العمائم

وقد ترد الأيام غرا وربما

وردن كلوحًا باديات الشكائم

ونحو:

إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن

برأي نصيح أو نصيحة حازم

وحارب إذا لم تعط إلا ظلامة

شبا الحرب خير من قبول المظالم

بل كلها رائعة. ولكن فيها هذا التقابل والتكافؤ المنبئ عن أناة تصنيع وحضارية ذوق ومذهب وأسلوب يمت بصلة واشجة إلى ما افتن فيه الجاحظ من ازدواج في نثره ومقابلات - «بدت له وجوه المنايا، حاسرات العمائم» ليست «كحب الفنا لم يحطم» لأن «لم يحطم» زيادة لا شك فيها على مجرد حب الفنا ولكن حاسرات العمائم أطناب إذ الوجوه قد بدت. ومثل ذلك «كلوحًا» «باديات الشكائم» - «فلست بناج» - «من مضيم وضائم» - وأيضًا قوله: «وتارة يكون ظلامًا- للعدو المزاحم» فليس في المزاحم زيادة في المعنى ذات بال، وهلم جرا.

ابن هرمة وبشار كلاهما على تبربزهما في عصرها لم يتجاوزاه في تقدير الأجيال بعدهما بكثير. وما أرى إلا أن القوم قد أنصفوا إذ جعلوا إبراهيم بن هرمة سكيت حلبة الفصحاء، فبديعه شيء منوط بفصاحته عن تكلف، أشبه شيء إن كان جله من

ص: 764

قبيل ترك الأعجام أو مدانيًا لذلك، بحوشي رؤبة وأبيه. وقد سلمت له أشياء حسان مثل قوله في أبي جعفر المنصور:

له نظرات عن حفافي سريره

إذا كرها فيهن بأس ونائل

فأم الذي آمنت أمنة الردى

وأم الذي خوفت بالثكل ثاكل

وقوله:

ومهما ألام على حبهم

فإني أحب بني فاطمة

بني بنت من جاء بالبينا

ت والدين والسنة القائمة

وكذلك أنصفوا إذ جعلوا بشارًا للمحدثين أبًا، ذلك بأنه على نشأنه عربيًّا قد كانت الحضارة أعلق بنفسه، وكانت بداوة الفصاحة -أعني بداوتها الروحية الفنية- شيئًا منوطًا بذوقه الحضاري كما زعمنا أن البديع المصنوع كان منوطًا بذوق إبراهيم البدوي السنخ. وليست المسألة في جوهرها مسألة نسب، كلا ولا مسألة مقام جغرافي بيئي، فقد مر بك خبر إسماعيل بن يسار، والنصيب الذي كان قبل أن يعتق عبدًا مملوكًا. وإنما البداوة في سنخها شيء من القلوب. وقد كان الوليد بن يزيد بدوي الروح مع تغلغله في الحضارة وسباحته في أنها الخمر وبذلك أمكنه أن يقول:

ذروا لي هندًا والرباب وفرتني

ومسموعة حسبي بذلك مالا

خذوا ملككم لا بارك الله ملككم

فليس يساوي عند ذاك قبالا

وخلوا سبيلي قبل عير وما جرى

ولا تحسدوني أن أموت هزالا

وقد كان الحجاج بن يوسف وجرير بن الخطفي كلاهما عربيًّا قرويًّا، وكانا مع ذلك أبدى بداوة من مالك بن أسماء بن عينية بن حصن بن فزارة وهو ابن الصحراء. وهو القائل:

إن لي عند كل نفحة بستا

ن من الورد أو من الياسمينا

نظرة والتفاتة أتمنى

أن تكوني حللت فيما بلينا

ص: 765

وهو القائل:

ولما حللنا منزلًا طله الندى

أنيقًا وبستانًا من النور حاليا

أجد لنا طيب المكان وحسنه

مني فتمنينا فكنت الأمانيا

وهو القائل:

وحديثًا ألذه هو مما

تشتهيه النفوس يوزن وزنا

منطق صائب وتلحن أحيا

نًا وخير الحديث ما كان لحنا

وخطأ العلماء الجاحظ إذ جعل اللحن ههنا من الخطأ وجعله صاحب الأمالي من ملاحن القول التي كالرموز بين الحبيبيين، ذكر هذا أول الأمالي، وأحسب أن أبا عبيد البكري ممن نبه على خطأ الجاحظ وسيق في ذلك خبر وهو أن الحجاج عاب على هند بنت أسماء لحنًا لحنته فاحتجت بقول أخيها فعاب عليها تفسيرها وأن المراد الملاحن لا الخطأ قالوا فأقر الجاحظ على نفسه بالخطأ ولم يتداركه بإصلاح بل قال ما معناه أنه لن يفعل إذ قد صار الكتاب في أيدي الكتاب ولئن صح بعض هذا الخبر أو جله، فما أرى إلا أن الجاحظ لم يرجع عما قاله وكان بالشعر خبيرًا، ولئن صح خبر ما بين الحجاج وهند فما يعدو أن يكون من باب ما يقع من مغالطة ومكابرة بين الأزواج. وقد كانت هند غاية في الذكاء وكانت بأخيها وكلامه أعلم، ولها خبر معروف في الذكاء أنها دعت على الحجاج أن ينزع كما نزعت كلا من نصف القرآن الأول، ولم يكن وهو الحافظ المداوم للتلاوة قد فطن لذلك حتى نبهته هي إليه من مجرد سماعها أرباعه هو وكان صاحب أرباع فيما ذكروا. وقد ذكروا أنه طلقها وكان لها محبًّا. وما تخلو والله تعالى أعلم أن غمزته بما ساءه وهي ابنة سيد قيس، وثقيف عند أكثر أهل النسب على عزتهم في قيس أدعياء.

كان بديع بشار قوامه وشي الألفاظ والمعاني. وقد سخر ممن سأله في حضرة

ص: 766

الخليفة فقال انه يثقب اللؤلؤ. وعلى سخريته فقد أحسن في نعت نفسه إذ كان كل إحسانه مداره على التحسين والتزيين، منوطة إليه الفصاحة. لم يكن يحتاج إلى أن ينظم كلمات غير معجمة الحروف ليظهر مقدرته على تصريف البيان، فقد أغناه عن ذلك اقتداره على أن ينظم معاني معجمة، إذ إعجام المعاني حتى تنكشف عن شراسة ما في القلوب وجسارة ما في العقول، هذا من أسرار البداوة. إذ البداوة البيانية كما قدمنا أمر روحي. ولذلك زعم أبو عمر بن العلاء أن شعراء العرب د كانوا فيهم كأنبياء بني إسرائيل في بني إسرائيل. وقد كان في بني إسرائيل مدعون للنبوة لأن الناس على حاجتهم إلى النبي، قد كان لما في قوله من الحق بغيضًا. وقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز:{وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} . وكان أنبياؤهم إذا نصروا لم يدعوا أدعياء النبوة حتى يقتلوهم. وقالت العرب:

وإن أحسن بيت أنت قائله

بيت يقال إذا أنشدته صدقا

وقالوا: أحسن الشعر أكذبه، لما فروا من حرارة لفح الصدق. وحمل قوم معنى هذا على المبالغة.

وأهل الحضر أفر شيء من صرامة صراحة القول. فكان الشاعر الوشاء المزخرف أحب إليهم. ثم اهل الحضر يرتاحون إلى لهو القول. فكان بعض هذا الزخرف لهوًا. وكان ذلك صنعة بشار، لآلئ من معان حلوة. ولآلئ من رفث القول:

قد لامني في خليلتي عمر

واللوم في غير كنهه ضجر

أحب إلى ذوق الحضري السوقي المزاج من:

أمن آل نعم أنت غاد فمبكر

غداة غد أم رائح فمهجر

المكشوف الصريح نحو:

ص: 767

وبتنا وسادانا إلى علجانةٍ

وحقف تهاداه الرياح تهاديا

توسدني كفًّا وتثني بمعصم

علي وتحنو رجلها من ورائيا

ينفر منه الذوق الحضاري لما فيه من مكافحة الصدق الذي يروع. ولكن المكشوف الهازل نحو:

أذرت الدمع وقالت ويلتي

من ولوع الكف ركاب الخطر

أمتا بدد هذا لعبي

ووشاحي حله حتى انتثر

فدعيني معه يا أمتا

علنا في خلوةٍ نقضي الوطر

أقبلت مغضبة تضربها

واعتراها كجنون مستعر

بأبي والله ما أحسنه

دمع عين يغسل الكحل قطر

أيها النوام هبوا ويحكم

واسألوني اليوم ما طعم السهر

هذا مما ينشرح له ذوق الحضارة. وما كان بشار بضرره ليرى دمع العين يغسل الكحل ويقطر به، ولكن هذا لؤلؤ تنظمه بصيرة شعره كما ترى.

وقس على ذلك أصنافًا من شعر بشار في الغزل وها هو بمجراه:

ويدخل الهجاء وما فيه من رفث القول في باب ما يلذه الذوق الحضاري. وطريق البداوة والحضارة في هذا مختلفان. البداوة ذات تخشين متعمد حين تقذع بالرفث ويكون ذلك عن انفعال حدة غضبه أو قصد إضحاك في ساعته أو بسالة هجوم صارح. من هذا الضرب الأخير:

مهلًا أبيت اللعن لا تأكل معه

ولذلك احتالت بنو عامر فكا

التي الربيع به على لسان غلام حدث لا يضيره أن يقال سيفه كما قدمنا ذكر ذلك. ومثال حدة الغضبة ما في خبر بدر مثلًا من أفحاش الصحابي بالسائل الذي أراد أن يستخبر ومخالط الغضبة استهزاء وذلك أنه خبأ خبئًا

ص: 768

فزعم أنه يختبر الرسول صلى الله عليه وسلم به فقال له ابن وقش قولًا أفحش به فقال عليه الصلاة والسلام: «مه فقد أفحشت على الرجل» ومن ذلك قولهم يا ابن اللخناء في السب لا يراد به حقًّا أنها لخناء وأكثر ما جاء به الفرزدق وجرير من الأقذاع من هذا الضرب. وسفهت ليلى الأخيلية نابغة بني جعدة إذ قال لها وهو يهجوها:

ألا حييا ليلى وقولا لها هلا

فقد ركبت أمرًا أغر محجلا

فقالت له:

تعيرني داءً بأمك مثله

وأي حصان لا يقال لها هلا

ومثال الإضحاك ما تجده من قصة الأتان ونحوها في شعر الفرزدق نحو قوله:

يقول إذا أقلولي عليها وأقردت

ألا ليت ذا العيش اللذيذ بدائم

ونحو:

قالت وقد عرفت جريرًا أمه

مهلًا جرير إلى جئت تغفل

وبعض هذا ما كانت تعير به القبائل بعضها بعضًا، ففي ذكره قصد إلى الإضحاك والغلبة بذكر المثالب وعلمها نحو:

رضعتم ثم بال على لحاكم

ثعالة حين لم تجدوا شرابا

ونحو:

ولم يك قبلها راعي مخاض

ليأمنه على وركي قلوص

وكانت بنو فزارة ربما غاظها هذا ونحوه فغضبت وقتلت.

وأكثر رفث الهجاء في شعر الذوق الحضري يجمع بين التهكم والهزؤ والإضحاك من المهجو مع خبئ كيد وتدبير عداوة خبئ في ذلك شخصي الطابع أو سياسية أو

ص: 769