الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول
تمهيد
عند المعاصرين أن الشعر العربي غنائي كله. وهذه كلمة صدق قد يراد بها الباطل أحيانًا كثيرة. اتبع فيها جيل المعاصرين مزاعم بعض المستشرقين الذين يزعمون أن الشعر العربي كله من الصنف الذاتي الغنائي «Lyric ليريك» وعند هؤلاء أن الشعر كله أصناف ثلاثة، المسرحي (DRAMA دراما) والملحمي (EPIC ابيك) والغنائي الذاتي (LYRIC ليريك). كلمة صدق لأن الشعر كله ضرب من الغناء. وقد يراد بها الباطل لأن الأوروبيين يعدون كلا صنفي الشعر المسرحي والملحمي أرفع قدرًا من الصنف الغنائي. والغالب عندهم تقديم الصنف المسرحي على الملحمي إلا أنه كالمجمع عندهم على تقديم أوميروس في ملحمتيه الإلياذة والأوديسة ثم يذكرون بعده المسرحيين، فربما قدموا سوفوكليس وربما قدموا يوربيديس وكان الغالب تقديم أسخيلوس، ثم تذكر الموسوعة البريطانية من بعد شاعر الإنجليز شكسبير ولا تقرن به أحدًا بعد الأولين من اليونان وتذكر أن الطليان يقدمون دانتي صاحب الملحمة الإلهية والألمان يقدمون جوته وتجعل مكان الشعر الغنائي بعد ذلك، لأن المقتدر من شعراء المسرح والملحمة يغني كل الألحان ولكن شاعر الصنف الغنائي إنما يقوى على اللحن الواحد أو نحو ذلك. وقدمت الموسوعة المذكورة شعر الكتاب المقدس الغنائي على كل الشعر الغنائي. وجعلت للشعر العربي بعد أن صنفته كله في النوع الغنائي حظًّا من الجودة إلا أن مكانه عندها دون مكان الشعر العبراني المقدس. ولا يخفى أن هذا الحكم مائل مع العنصرية ومع التعصب الديني، وكأن العنصرية مقدمة على الدين.
وقد يحضرني في ههنا قول الجاحظ في كتاب الحيوان في أوائله: «وفضيلة الشعر مقصورة على العرب وعلى من تكلم بلسان العرب» .
على أن الجاحظ إنما بنى زعمه هذا على أن الشعر العربي فيه الوزن وهو سر حسنه المعجز. ولم يكن خافيًّا عن الجاحظ مكان السجع والمزدوج. فكأن أشعار أمم العجم قد كانت عنده من هذا الضرب. على أنه في الذي زعم لم يكن قصده الفخر على أمم العجم بشعر العرب وفضيلتهم بذلك كما كان يريد الاحتجاج لفضل العلوم التي تقيدها الكتابة ويستطاع نقلها بالترجمة على الأشعار التي يعتمد في حفظها على الذاكرة ولا يستطاع نقلها بالترجمة (1).
قال تعالى جل من قائل: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} وقال سبحانه وتعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} .
ولا يلام كاتب أوروبي يذهب إلى تصنيف الشعر العربي في الغنائي دون المسرحي والملحمي بقصد أن يؤخره ويقدم الشعر الأوروبي عليه في المنزلة أو بسبب التقصير عن فهم حقيقة طبيعته لإلفه طبيعةً من نظم الشعر مباينة لها. ولكن يلام الأديب العربي الذي يصنف مثل هذا التصنيف، لما في ذلك من التقليد الأعمى أو الغفلة المؤسفة أو هما معًا
…
هذا إن سلم من بعض بقايا حقد شعوبي قديم.
على أن من المستشرقين من فطن لفرق ما بين طبيعة الشعر العربي وأشعار أوروبا القديمة والحديثة وعبر عن ذلك تعبيرًا جيدًا واضحًا.
قال شارلس ليال في مقدمة كتاب اختيارات له ترجمها من الشعر العربي،
(1)() الحيوان لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، تحقيق عبد السلام محمد هارون، مصر، الطبعة الثانية سنة 1385 هـ- 1965 ج 1 من ص 74 - 76.
قبل ترجمته المشهورة للمفضليات (1). «إن شكل الشعر العربي القديم وروحه أمر متميز غير أنه ليس من السهل أن نجعله في حيز أحد هذه الأضرب التي يعرفها النقد الأوروبي. إنه ليس بملحمي ولا بقصصي إلا حيث يكون وصف الحادث معينًا على إبراز صورة الشخصية وأبعد من ذلك أن يقال مسرحي لأن الشخص الوحيد والمقياس الوحيد المعروفين للمتكلم هما نفسه ومثله الأعلى الذي يعتقده، وعسى أن تكون القطعة الوصفية أو الخبرية القصيرة التي كان اليونان يصوغونها نثرًا أو نظمًا شيئًا قريب الشبه من شكل الشعر العربي القديم. ذلك بأن القصيدة العربية تضع أمامنا سلسلة من صور الحياة التي يحياها صاحبها، مصورة بمهارة مقتدرة واثقة من نفسها وبمعرفة صادرة عن مشاهدة وممارسة، ومن صور الأشياء التي كان يتحرك بينها، ومن صور فرسه وجمله وحيوان الصحراء وأوابدها ومناظر الأرض التي كان هو وهؤلاء جميعًا يتقبلون في وسطها وتحيط بحياتهم، وكل هذه الصور مع ما يبدو من هلهلة الربط بينهما ووهيه، تخضع خضوعًا لفكرة واحدة، هذه الفكرة هذا فض الشاعر مكنون صفحات قلبه تباعًا، من ضروب إعجاب، وضروب بغضاء، ومن قوة نفسه وحرية روحه» . ثم يذكر ليال رأي المستشرق الألماني نولدكه حيث قال: «إن الشعر العربي ليس بالشعر الذي يسعى لأن يعطي شكلًا لما هو فوق الحواس أو يعرض علينا حكايات متعددة ألوان القصص أو يضفي ضوءً شعريًّا على دائرة معنى مكتنز ولكنه شعر يجعل همه الأكبر أن يصور الحياة والطبيعة كما هما من غير ما كبير إضافة من زخرفة الأوهام» ويعقب على ذلك بقوله هو: «لا شعر يصح وينطبق عليه تعريف ماثيو أرنولد أن الشعر نقد للحياة أكثر من الشعر العربي ولم تنجح أمة في تصوير نفسها على وجه الدهر في أسمى ما ترقى إليه وأدنى ما تُسِفُّ فيه وفي عظمتها كما في قصورها، كما نجحت أمة العرب، ولذلك فإن شعر الجاهلية هو حقًّا تأريخها، فيه عاش أولئك الأوائل حياتهم
(1)() Translations of Ancient Arabian Poetry by Charles James Lyall، London 1885 Introduction XVII- XIX (19 - 18).
ووجدوا فيه البيان الذي يعسر على من يحسن فهممه حقًّا أن يبالغ في نعت ما فيه من القوة وصدق الإخلاص. بيت زهير:
وإن أحسن بيت أنت قائله
…
بيت يقال إذا أنشدته صدقًا
شاهد عدل بمثله الأعلى في النشيد، ما كان يقوله الشاعر في قوافيه قد جربه هو نفسه والذي يعجب سامعيه من قوله هو عينه الذي يعجبنا نحن الآن منه، وهو الصدق والصحة اللتان كان يصور بهما ما كان يعلمه هو ويعلمونه هم في تضمينه فكرهم وحياتهم اليومية في أجود ما ينتقي من اللفظ وأنبل شكل بياني تسمح به وتجيزه لغتهم». ا. هـ. قال شارلس ليال هذه المقالة وهو في أول طريق إعجابه بأشعار العرب ثم إنه قد أحكم مذهبه وجوده في مؤلفه القيم الذي اشتمل على تحقيقه لشرح ابن الأنباري (1) للمفضليات ثم على ترجمة لها مع التعليقات الدقيقة الدالة على جودة ذوقه وتمكنه.
هذا وقد كان قدماء يونان أهل ضروب في أشكال المنثور والمنظوم منها هذا الذي أشار إليه شارلس ليال باسم idyll (أي القطعة الوصفية وذات الطابع الريفي). وكانوا يتغنون أشعارهم ويجعلون في المسرحي منها موسيقا تكون معه وتصاحبه. ولم يكن الشعر عندهم هذه الأقسام الثلاثة فقط. وقد يذكر أن من أهم أصناف الشعر عندهم خمسة هي الهجاء والرثاء والملحمة والمأساة المسرحية والغناء. واختصر هذه الخمسة بعض النقاد بأخرة فجعلوها ثلاثة. ويراد بنا أن نجعل الشعر العربي، وهو صنف من البيان ذو أصالة قائمة به، أحد هذه الأصناف الثلاثة وفي أدنى مراتبها وهو الذي يقال له الغنائي (Lyric ليريك). وهذه ثمرة التقليد الأعمى والتكلف.
(1)() الأنباري الكبير وهو أبو محمد القاسم بن بشار الأنباري والصغير شارح المعلقات هو ابنه أبو بكر وكلاهما من كبار أهل الرواية والدراية.
القصيدة العربية ليست بغناء ذاتي ضربة لازم حتى يحكم عليها بأنها من صنف الغناء في تقسيم الشعر الأوروبي الذي يقال له (ليريك Lyric). من القصيدة ما يصح نعته بأنه ذاتي مثل ميمية المرقش المفضلية التي مطلعها:
ألا يا اسلمى لا صرم لي اليوم فاطمًا
…
ولا أبدًا ما دام وصلك دائمًا
وكنونية ابن زيدون:
أضحى التنائي بديلًا من تدانينا
…
وناب عن طيب لقيانا تجافينا
وما لا يصح نعته بأنه ذاتي مثل همزية الحارث المعلقة:
آذنتنا ببينها أسماء
…
رب ثاو يمل منه الثواء
ومثل بائية أبي تمام:
السيف أصدق أنباء من الكتب
…
في حده الحد بين الجد واللعب
والذاتي الذي ضربنا له مثلًا ميمية المرقش ونونية ابن زيدون قد تخالطه عناصر غير جد ذاتية، مثل الحكمة في قول المرقش:
ألم تر أن المرء يجذم كفه
…
ويجشم من لوم الصديق المجاشما
وقوله:
فمن يلق خيرًا يحمد الناس أمره
…
ومن يغو لا يعدم على الغي لائمًا
وقوله:
متى ما يشأ ذو الود يصرم خليله
…
ويعبد عليه لا محالة ظالمًا
قوله ومن يغوِ أي يضل (باب ضرب) ومن روى يغوَ (باب فرح) ولم يذكر في وجوه الرواية ولكن في الشرح ما يدل عليه أي من يعدم الخير من غوي الجدى (باب فرح) إذا ضعف وهزل «ويعبد» أي يغضب ويتجنى. وعن الأصمعي غوي الفصيل إذا شرب حتى يكاد يسكر والنعت في نونية ابن زيدون عنصر فني كأنه فيه بعد عن الذاتية مثل قوله:
ربيب ملك كأن الله أنشأه
…
مسكًا وقدر إنشاء الورى طينًا
وكلا الضربين الذاتي وغير الذاتي من ضروب أشعار العرب كان يتغنى به وينشد. وقال سيبويه في باب وجوه القوافي في الإنشاد في الكتاب: «وإنما ألحقوا هذه المدة في حروف الروى لأن الشعر وضع للغناء والترنم» أ. هـ.
ولأمر ما قرنت العرب الشاعر بالخطيب إذ قالوا إن منزلته كانت أعظم من منزلة الخطيب ثم إن منزلة الخطيب قد صارت أعظم.
القصيدة مذهب من القول الرفيع كان الشاعر به من العرب كالنبي في بني إسرائيل. والخطابة تأثيرها باستجاشة العاطفة وإقناع العقول وجهارة الصوت وجودة الأداء. والشعر تأثيره بأولئك جميعًا ثم بالإلهام والإيحاء والحكمة والوزن والإيقاع. والشعر العربي فيه ذرا شاهقات ما يطاولها قليل. وقد نظر شعر أوروبا الحديثة في قرونه الوسطى وفي أوائل نهضته الحديثة إلى الشعر العربي بلا ريب. ونظر عابر في مختارات الشعر الإنجليزي مثلًا يريك مشابه منه بأشياء نعهدها في أشعار العربية لا يصح حقًّا أن تُجعل كلها من باب وقوع الخاطر على الخاطر كما يقع الحافر على الحافر. من ذلك مثلًا نعت شكسبير لكيلوبترة في المنظر الثاني من الفصل الثاني بلسان اينوباربس أن مر السنين لم ينقص من جمالها وأن عادة لقائها لا تبلي طرافة أنواعها المتجددة بلا نهاية، فيه رجع صدى ذو مشابه من نعت أبي
تمام لعمورية حيث قال:
من عهد إسكندر أو قبل ذلك قد
…
شابت نواصي الليالي وهي لم تشب
بكرٌ فما افترعتها كف حادثة
…
ولا ترقت إليها همة النوب
وقول مايكل دريتون معاصر شكسبير: «إذ لا نستطيع فلنتبادل القبل ونفترق» فيه نحو من قول المثقب: «أفاطم قبل بينك متعيني» ونص دريتون:
Since there is no help، come let us kiss and part
وللشاعر أدموند سبنسر بيت كأنه مأخوذ من قول أبي نواس:
يزيدك وجهه حسنًا
…
إذا ما زدته نظرًا
أو قول أبي الطيب المأخوذ من قول أبي نواس:
«وهو المضاعف حسنه إن كررا» . وبيت سبنسر هو:
Of peeping in her face that seems more fair
The more they on it stare.
والبيت من منظومته أغنية العرس (إبيثالاميون Epithalamion) وكأن ثلاميون هذه أصلها من قولنا السلام وهو قديم في اللسان السامي أقدم من لغة اليونان. وترجمة كلام سبنسر: «أرنو كثيرًا إلى وجهها الذي يبدو أجمل كلما زادوا إليه النظر» وقد كان تضمين أشطار أبي الطيب في الشعر الفارسي الجيد كثيرًا وقد ترجم من هذا إلى أدب الأوروبيين شيء كثير. وللشاعر الفرنسي كورنيل كلمة من نحو قول سبنسر يجوز أن يكون ولدها من كلامه أو من ترجمة عن الشعر الفارسي أو العربي وذلك قوله في (Psyche سايكي) حين عشقت إله الحب: -
Plus J'ai les yeux sur vous، plus Je m'en sens charmer.
أي كلما زدت نظري إليك زاد إحساسي بسحرك لي. وكلمة بنجونسون التي يقول في أولها:
Drink to me only with thine eyes
And I shall pledge with mine
اشربي لي بعينيك فقط وسأعاهدك بعيني
فيها أنفاس معان من شعر الغزل العربي.
وكلمة أندرو مارفيل (Andrew Marvell 1621 - 1673 م) في صفة الحديقة كأنها مأخوذة من: «مغاني الشعب طيبًا في المغاني» .
وقد تحدث فيها عن أبينا آدم عليه السلام وفراقه الجنة كما تحدث أبو الطيب وزعم أن العنب يكاد يعصر رحيقه في فمه وذلك يذكرك قول أبي الطيب:
لها ثمر تشير إليك منه
…
بأشربة وقفن بلا أواني
ولأندرو مارفيل كلمات أخريات كأنما أخذ حذوهن من أبي الطيب وشعراء العرب أخذًا. وكلمة وليم بليك المشهورة في النمر تابع فيها نعت أبي الطيب للأسد متابعة شديدة وقد استسهلها بقوله يا نمر يا نمر مشتعلًا باهرًا في غابات الظلام (1).
Tiger tiger buring bright
In the forests of the night
وهذا لا يخفى أنه كقول أبي الطيب:
ما قوبلت عيناه إلا ظنتا
…
تحت الدجى نار الفريق حلولًا
والأخذ من الشعر العربي لم يقف عند زمان النهضة وعند القرن الثامن عشر والقرن الماضي ولكنه مستمر إلى هذا القرن وإلى زماننا هذا. من ذلك مثلًا كلمة حسنة للشاعر المعاصر روي كامبل، من جنوب إفريقية، عن النخلة يتحدث عن جذورها التي تخترق إلى الأعماق وفروعها التي تضطرب بها الريح فيتساءل المرء هل نظر إلى قول المرار في النخلات:
طلبن البحر بالأذناب حتى
…
شربن جمامة حتى روينا
(1)() قد فصلنا الحديث عنه فيما يلي من بعد.
تطاول مخرمي صددي أُشيٍ
…
بوائك ما يبالين السنينا
كأن فروعها في كل ريح
…
جوارٍ بالذوائب ينتصينا
فقد ترجمه ليال ونشرت ذلك مطبعة أكسفورد سنة 1918 م وكلمة ري كامبل Roy Campbell وهو من شعراء جنوب أفريقية كان نظمها أو نشرها سنة 1935. بوائك بالنصب صفة للنخل على التعظيم أي سوامق ذات حمل. والمخرم الطريق في الجبل والصدد بضم الصاد والدال الجانب. وقول روي كامبل في كلمته الطويلة شيئًا ما -بالنسبة إلى كلمة المرار التي هي أقرب إلى أن تكون مقطوعة (رقم 14 في المفضليات):
The higher I hanker the deeper the drill،
Through the red mortar their claws interlock،
I ferret the water through warrens of rock.
تقول النخلة في هذه الأسطر ما معناه مع وجه التقريب:
«كلما تساميت بشوقي إلى فوق زادت عروقي في عمق الاحتفار تتلاقى وتشتبك مخالبهن في الطين الصلب الأحمر
لكي يصدن الماء (كما تصاد الأرانب) من مخابئها المكتظة في الصخرة».
الشاهد هنا تعمق الجذور وتسامى الرأس، وعندي أن قول المرار «طلبن البحر بالأذناب» أقوى في التصوير. على أن إعطاءه النخلة هيئة حيوانية هو الذي مهد لكامبل فكرة جعل الماء أرنبًا. وعاب الأصمعي قول المرار:
كأن فروعها في كل ريح
…
جوار بالذوائب ينتصينا
«قال غلط المرار في وصف النخل لأنه لا علم له به وإذا تباعد بعضهن من بعض كان أجود له وأصح لثمره» وأقول لله در أبي عثمان حيث أثبت للأصمعي
ومن شابهه أمر الراية واللغة والغريب وأنكر معرفتهم بجودة الشعر وأثبت هذه المزية للكتاب واستثنى خلفًا وحده من جيل أهل اللغة والرواة الذين شاهدهم وأخذ عنهم وفيهم أبو عبيدة والأصمعي وله خبر طريف في تزييف ذوق أبي عمرو الشيباني. وإنما أراد المرار بقوله «ينتصينا» تصوير الرقص الحلو المرح الذي يكون مثله عند تناصي الجواري وقد يكون أراد جودة النخل نفسه بقوله ينتصينا وحديث أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه إذ أعجبه منظر اشتباك فروع نخله يصحح هذا المذهب، خلافًا لما زعمه الأصمعي والله تعالى أعلم.
هذا وممن حاكى مذاهب الشعر العربي القديم وأخذ منه أخذًا الشاعر الأمريكي الإنجليزي ثوماس ستيرنز إليوت (1888 - 1965 م) وقوله المشهور:
Let us go then، you and I
When the evening is spread out against the sky
Like a patient etherized upon a table
أي: «دعنا إذن نذهب أنت وأنا
عندما يكون الليل قد مُدد بإزاء السماء
مثل مريض بنج على منضدة العملية».
يشبه أوله مطالع قصائد العرب: «قفا نبك» «عوجا كذا» ، «عوجوا فحيوا» وهلم جرا. وسائره من باب التشبيه المقلوب وقد نبهنا على ذلك في كلمة نشرتها مجلة الدوحة (1) كما نبهنا على نظره الشديد في منظومته الطويلة «الأرض المقفرة The waste land» التي بنى عليها أساس شهرته إلى المعلقات وغيرها من قديم شعر العرب. وقد حاول إليوت إخفاء أخذه عن العربية بكتمانه فلم يشر إلى شيء قد ينم به في تعليقاته الكثيرة المتنوعة.
(1)() الدوحة فبراير- أبريل 1982.
هذا، وقد وجدت الكاتب المعاصر أدونيس يقول في كتابه زمن الشعر:«القصدة القديمة مجموعة أبيات، أي مجموعة وحدات مستقلة متكررة لا يربط بينها نظام داخلي، إنما تربط بينها القافية وهي قائمة على الوزن، والإيجاز طابعها العام» . أ. هـ.
وهذه العبارة ينقض آخرها أولها إذ ما له طابع عام هو كل واحد ضربة لازم وما هو كل واحد فإنه يشمله نظام داخلي، وقد زعم أدونيس أن الإيجاز يشمله، فتأمل.
ثم لو سلمنا لأدونيس ظاهر قوله فعليه تكون قصيدة النابغة التي مطلعها:
يا دار مية بالعلياء فالسند
…
أقوت وطال عليها سالف الأمد
مجموعة أبيات أي وحدات مستقلة متكررة لا يربط بينها نظام داخلي. وكذلك عينيته التي ذكرها الن رشيق في العمدة عند الحديث عن التخلص في باب المبدأ والخروج والنهاية فقال: وأولى الشعر بأن يسمى تخلصًا ما تخلص فيه الشاعر من معنى إلى معنى ثم عاد إلى الأول وأخذ في غيره ثم رجع إلى ما كان فيه كقول النابغة آخر قصيدة اعتذر بها إلى النعمان بن المنذر.
وكفكفت مني عبرة فرددتها
…
إلى النحر منها مستهل ودامع
على حين عاتبت المشيب على الصبا
…
وقلت الما أصح والشيب وازع
ثم تخلص إلى الاعتذار فقال:
ولكن همًّا دون ذلك شاغلٌ
…
مكان الشغاف تبتغيه الأصابع
وعيد أبي قابوس في غير كنهه
…
أتاني ودوني راكس فالضواجع
ثم وصف حاله عندما سمع ذلك فقال:
فبت كأني ساورتني ضئيلةٌ
…
من الرقش في أنيابها السم ناقع
يُسهَّد بالليل التمام سليمها
…
لحلي النساء في يديه قعاقع
تناذرها الراقون من سوء سمها
…
تطلقه طورًا وطورًا تراجع
فوصف الحية والسليم الذي شبه به نفسه ما شاء ثم تخلص إلى الاعتذار الذي كان فيه فقال:
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني
…
وتلك التي تستك منها المسامع
ويروي وخبرت خير الناس أنك لمتني ثم اطرد له ما شاء من تخلص إلى تخلص حتى انقضت القصيدة. أ. هـ. قلت فهذا الذي زعمه ابن رشيق كلًّا واحدًا ٍإن هو إلا تفكك وفقدان نظام داخلي في زعم أدونيس.
وكذلك معلقة زهير:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم
فعلى قوله هي إذن حولية أنفق شاعرها فيها حولًا كاملًا على لا نظام وقدمتها العرب من أجل لا نظامها.
وكذلك بائية علقمة:
طحا بك قلب في الحسان طروب
…
بعيد الشباب عصر حان مشيب
وقد استمع إليها الملك الغساني فلما بلغ علقمة قوله:
وفي كل حي قد خبطت بنعمة
…
فحق لشأسٍ من نداك ذنوب
أي نصيب قال له: «وأذنبةٌ» طربًا وإعجابًا
…
هي أيضًا لا نظام لها؟ لا شك أن أدونيس مخطئ في هذا الذي ذهب إليه. ومن المؤسف أن نحو خطئه هذا يعد مقالًا. وأيسر فحص للمعلقات ودع ما بعد ذلك- يبين بطلان مقاله. لا بل المنطق والذوق يبين بطلانه، إذ كل تأليف محكم تنتظمه وحدة. الوزن والقوافي جزء من ذلك وما هما بالكل. وليس بعد الوحدة إلا التفكك والفوضى. ولله در شارلس ليال من ناقد، مع أن العربية لم تكن لغته، حيث قال في كلامه الذي ذكرناه آنفًا في وصفه للشعر العربي: «وكل هذه الصور مع ما يبدو من هلهلة الربط بينها ووهيه تخضع
خضوعًا لفكرة واحدة» ونصه الإنجليزي:
but all، however loosely they seem to be bound together، are subordinate to one dominate idea
…
وقديمًا قالت العرب تذم ما يكون على غير نظام جيد من القول:
وشعر كبعر الكبش فرق بينه
…
لسان دعي في القريض دخيل
فقد جعل هذا الفاضل ومن على رأيه جميع شعر العرب كبعر الكبش وكل شعراء العرب أجمعين من فحل ومفلق وخنذيذ دخلاء في الشعر أدعياء، وقد كان عندهم أن ليس الشعر عند أمة غيرهم فتأمل.
والذي يقال له الوحدة العضوية عبارة مترجمة من اللفظ الإنجليزي organic unity وهي ترجمة رديئة غير أنها رزقت السيرورة وأصح أن لو قالوا «الوحدة المحكمة» بضم الميم وسكون الحاء وفتح الكاف أو «المنظمة» بضم الميم وفتح النون وظاء معجمة مفتوحة مشددة أو «الوحدة الأساسية» أو «الوثيقة النسق» أو شيئًا من هذا القبيل. وإنما يصح قول العضوية في باب علم الأحياء وكيمياء الأحياء وما أشبه.
وأصل القول بالوحدة المحكمة التامة مرده إلى أرسطو حيث نص على أن وحدة العمل هي قوام الجودة. وإنما ذكر العمل لأن المأساة كالعمل. وكذلك الملحمة. وأهم ما في المأساة والملحمة طريق ترتيب الأحداث حتى يفضي أولها إلى أوسطها ثم نهايتها، وعقدة المأساة عنده هي روحها. وشبه أرسطو وحدة المأساة بالكائن الحي. وزعم أن الاعتدال والتوسط ضروري لإعطائه الجمال، فما كان ضخمًا حتى لا تستطاع رؤيته كله قدح ذلك في وحدته وفقدانه الوحدة يذهب جماله فلا يراه الناظر. وما كان دقيقًا بالغ الدقة كان نحوًا من ذلك في استحالة إدراك حسنه. وكأن الحاتمي معاصر المتنبي وناقده قد تأثر بأرسطو حيث شبه القصيدة بالإنسان.
وقد عاب نقاد العرب التضمين وذكرناه في أوائل الجزء الأول من هذا
الكتاب ومثلنا له بأمثلة من شعر النابغة وغيره. وليس حسن ثناء نقاد العرب على البيت الوافي التام يستفاد منه أن تمام معاني الأبيات ينافي أن لها اتصالًا بما بعدها تنشأ منه وحدة للقصيدة ونظام. إن جمل الكلام المنثور مما يستحسن في كثير منها أن يحسن الوقوف عليها عند آخرها، وإنما يحسن الوقوف بتمام أجزاء المعاني المتمثلة فيها، وهي بعد أجزاء من جملة الكلام المراد كله. ومكان البيت من القصيدة غير بعيد الشبه من مكان الجملة المكتملة من الكلام الذي هذا جزء منه. وفي الشعر الإنجليزي قد كان السطران في الأسلوب المزدوج الذي شاع في القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلادي مما يستحسن فيهما تمام المعنى، مثلًا قول أندرو مارفيل:
Had we but world enough and time
This coyness Lady were no crime
We could sit down، and think which way
To walk and pass our long love's day
والمعنى على وجه التقريب:
لو قد كانت لنا دنيا كافية وأجل
لم يكن ذنبًا يا سيدتي كل هذا الخجل
نقعد إذن ونفكر أي سبيل
نمشي دربها لنجوز يوم الحب الطويل
والسطران من الشعر الإنجليزي أشبه بالبيت الواحد من الشعر العربي ولا سيما بحوره الطوال كالطويل والبسيط، وذلك لأن كل شطر من أشطار البيت العربي يقارب في طوله سطر الشعر الإنجليزي وربما زاد في عدد المقاطع. الطويل مثلًا ثمانية وأربعون مقطعًا (48) وشطره وهو نصفه (في قفا نبك ولخولة أطلال وأمن أم أوفى المعلقات وما بجري مجراهن) فيه أربعة وعشرون (24) والسطر الإنجليزي الطويل عشرة مقاطع يزيد شيئًا أو ينقض. وقد بلغ الإسكندربوب (1688 -
1744 م) Alexander Pope من الإحكام للوزن والتقفية أنه كثيرًا ما يتم له المعنى في أنصاف ازدواجياته أي في السطر الواحد نحو قوله:
A little learning is a dangerous thing،
Drink deep، or taste not the Pierian spring،
There shallow draughts intoxicate the brain،
And drinking largely sobers us again.
والمعنى على وجه التقريب:
قليل العلم أمر خطير،
لا تذق من نبعه إلا أن تعبَّ الكثير،
إذ يسكر الدماغ منه الحسو الضحل،
لكن الشراب الضخم يرد الصحو إلى العقل.
وقد كان الغالب على شكسبير في ما يجوده من خطب أن يعمد إلى الأسطار ذوات المواقف التي تتم عندها المعاني أو يحسن السكوت، هذا مع ما كان يتطلبه منه أسلوب المسرح مع طريقة النظم المرسل بلا قواف من تتابع الحوار، مثلًا قوله:
All the world's a stage
And all the men and women merely players،
They have their exists and their entrances
And one man in his time plays many parts
المعنى تقريبًا:
كل الدنيا مسرح تمثيل
وكل الرجال والنساء إن هم إلا ممثلون
ولكل منهم دخوله وخروجه
وكل امرئ يمثل في مدى عمره أدوارًا كثيرة
والقطعة المشهورة من كلام شخص يقال له يعقوب Jaques يجيب الأمير في المنظر السابع من الفصل الثاني من «كما تحب As you like» ومثلًا قوله من تاجر البندقية على لسان بورشيا في المنظر الأول من الفصل الرابع:
The of mercy is not strain'd،
it is enthroned in the hearts of kings،
It is an attribute to god himself.
المعنى تقريبًا:
طبيعة الرحمة لا تغتصب
إن لها لعرشًا من قلوب الملوك
إنها لمن صفات الله العظيم
وكان شكسبير أحرص على تمام المعنى أو شبه تمامه في السطر والسطرين مما يكون ذا قواف من نظمه وربما جاء بالتقفية في آخر الخطبة المرسلة على سبيل التأكيد. وقد كان جون ملتون (1608 - 1674 م) John Milton فيما ذكره نقاده لا تيني طريقة النظم، يدخل الجملة في الجملة حتى تنتظم عدة أسطار، وربما عد هذا من المآخذ على أسلوبه. ومدحوا كرستوفر مارلو (1564 - 1593 م) Christopher Marlowe بجودة سطره الشعري وعد به من بناة أشعارهم وقيل لسطره العظيم mighty line وكان على سن شكسبير غير أنه مات قبل أن يبلغ الثلاثين قتيلًا في حان.
وزعم سيسيل داي لويس الشاعر الناقد في بعض ما كتبه أن جودة شعر الشاعر تقاس بعدد أسطاره الجياد، وفي هذا ما يستفاد منه استحسان تمامها، وليس ببعيد عن هذا المذهب مذهب إليوت في رسالته عن الشعر والنقد (The use of poetry and the use of criticism) في حديثه عن الأسطار التي يرى أن الشاعر شيلي قد ارتفع فيها.
سقنا هذه الأمثلة على سبيل الدلالة وللاحتياج على أن الحرص أن يتم المعنى في البيت لا ينبئ بأن القصيدة من أجل هذا لا يجمع بين أطرافها روابط يستفاد منهن نمام معنى كلي. ولكنه أمر في حد ذاته من باب محسنات الكلام ومجودات الصناعة ومتممات قوة البيان. تأمل قول زهير:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمو
…
وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
…
وتضر إذا ضربتموها فتضرم
فتعرككم عرك الرحى بثفالها
…
وتلقح كشافًا ثم تنتج فتتئم
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم
…
كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
فتغلل لكم مالًا تغل لأهلها
…
قرى بالعراق من قفيز ودرهم
ههنا كل بيت مستقل بمعناه في ذات نفسه ثم هو شديد الصلة بما يليه. وتأمل قول طرفة:
وما زال تشرابي الخمور ولذتي
…
وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي
إلى أن تحامتني العشيرة كلها
…
وأفردت أفراد البعير المعبد
رأيت بني غبراء لا ينكرونني
…
ولا أهل هذاك الطراف الممدد
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
…
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي
…
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى
…
وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربةٍ
…
كميتٍ متى ما تعل بالماء تزبد
وكرى إذا نادى المضاف محنبًا
…
كسيد الغضى نبهته المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب
…
ببهكنة تحت الطراف المعمد
أليس البيت الأول ههنا تامًّا في نفسه ومع ذلك هو موصول بالذي يليه، شاهد ذلك حرف الجر «إلى» ، ثم قوله «رأيت بني غبراء» أي الصعاليك منسجم مع ما قبله متمم له، إذ لما تحامته العشيرة صار من الصعاليك، ثم هو عند نفسه وعن من
يمقونه شريف لا يرضي التعبيد ويثور على ذلك ويتمرد.
ليس معنى التضمين الذي يحسن أن يتجنبه الشاعر أنه لا ينبغي اتصال الأبيات بعضها ببعض ولكن معناه ألا تتصل اتصالًا تكون فيه القافية معلقة بما بعدها متصلة به اتصالًا يفسد حسن الوقوف عند حرف الروي وما إليه وحسن الوحدة الترنمية في أداء الغناء وإيقاعه، كالذي رووا من قول النابغة:
وهم وردوا الجفار على تميم
…
وهم أصحاب يوم عكاظ إني
شهدت لهم موارد صادقات
…
شهدن لهم بصدق الود مني
وقد عرف التبريزي التضمين في كتابه الوافي بأنه «أن تتعلق قافية البيت الأول بالبيت التالي كقول النابغة إلخ» فقوله هذا دل على أن التضمين عيب من عيوب القافية مرتبط بأسلوب صناعتها أكثر من ارتباطه بأمر معنى البيت كله وإلا لدخل في مدلول التضمين نحو قول طرفة: «وما زال تشرابي الخمور البيت» إلى قوله «البعير المعبد» في البيت التالي ونحن نعلم أنه لا يدخل. على أنه ليس قول النابغة هذا بمعيب حقًّا لمن تأمله. وقد كان مشهودًا لأبي أمامة أنه من الحذاق وأهل التجويد وذلك أن عجز بيته الأول يصيب تمامًا وحسن موقفٍ مع صدر البيت الذي يليه. وليس بممتنع على مترنم بهذين البيتين أن يكون ترنمه بنهما هكذا:
وهم وردوا الجفار على تميم
وهم أصحاب يوم عكاظ إني
…
شهدت لهم موارد صادقات
شهدن لهم بصدق الود مني
وتحرص العربية في نثرها على أن تكون الفقرات التي يحسن السكوت عندها مكتملات المعاني مستقلات أو كالمستقلات، مع الذي بينها من الاتصال الوثيق والتشابك الذي تقتضيه طبيعة النثر. فلا عجب أن تكون العربية أحرص على بروز هذه الصفة في الشعر.