المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كلمة عن الرثاء: - المرشد إلى فهم أشعار العرب - جـ ٤

[عبد الله الطيب المجذوب]

الفصل: ‌كلمة عن الرثاء:

قد بادر فعقرها لينعم بأكلها في زمان لذته، وعسى أن يقوي هذا المعنى أو ينبئ عن معنى مقارب له قوله:

وقال ذروة إنما نفعها له

وإلا تردوا قاصي البرك يزدد

ومما يتصل بمعنى شعبية النوح ما كنا قدمناه من قول الربيع بن زياد في مقتل مالك ابن زهير: (وإنما ناحت نساؤه بعد أن أدرك ثأره):

من كان مسرورًا بمقتل مالكٍ فليأت نسوتنا بوجه نهار

يجد النساء سوافرًا يبكينه

يلطمن أوجههن بالأسحار

وقد تعلم قول لبيد لابنتيه:

إذا حان يومًا أن يموت أبوكما

فلا تخمشا وجهًا ولا تحلقا شعر

وقولا هو المرء الذي لا حريمة

أضاع ولا خان الصديق ولا غدر

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

ومن بيك حولًا كاملًا فقد اعتذر

وتعداد مآثر الميت، وذلك تأبينه، كان فرعًا من النوح، ثم كأن الرثاء قد ظل منه النوح شعبيًّا، وتفرع ضرب آخر أقوى أسرًا وأشد أحكامًا فكانت منه قصائد تروى.

‌كلمة عن الرثاء:

وبعدما قدمناه وفي ضوئه يمكننا أن نقسم الرثاء أربعة أقسام أولها تفجيع أهل الميت والمناحة الشعبية طرفٌ منه وللإسراف في أمرها نهي عنها لبيد وأحسب أن نهيه كان في الجاهلية وكان من فضلائها وسادتها وقد زاد النهي عنه في الإسلام. على أن السيرة تخبرنا أن النساء بكين قتلى أحد ومن ذلك قول كعب بن مالك:

صفية قومي ولا تعجزي

وبكي النساء على حمزة

ص: 396

وقد ناحت النساء موجعات على عثمان رضي الله عنه وعلى الحسين رضي الله عنه يدلك على ذلك قول مروان لما جاء نبأ قتله المدينة يتمثل به:

عجت نساء بني زبيد عجةً

كعجيج نسوتنا غداة الأرنب

وقال جرير في أمر الزبير رضي الله عنه:

إن الرزية من تضمن قبره

وادي السباع لكل جنبٍ مصرع

لما أتى خبر الزبير تواضعت

سور المدينة والجبال الخشع

وبكى الزبير بناته في مأتم

ماذا يرد بكاء من لا يسمع

قال النوائح من قريشٍ إنما

غدر الحتات وغالبٌ والأقرع

ويروى «لين» مكان غالب وهو لقب لأبي الفرزدق غالب ويقال إن لينًا أراد به الأحنف وهذا أصح. وقد حاكى ابن الرقيات طريقة نوح النساء في مراثيه وقد ذكرنا بعض ذلك في معرض الحديث عن القوافي.

وفي السيرة أن مطرودًا الخزاعي لما جاء في مرثيته الأولى يرثي بها نوفلًا أو هاشم بن عبد مناف بقوله:

يا ليلة هيجت ليلات

إحدى ليالي القسيات

قيل له لو كان أفحل لكان أحسن فجاء بمرثيته الثانية التي يقول فيها:

يا عين فابكي أبا الشعث الشجيات

يندبنه خسرًا مثل البليات

فالمرثية الأولى كأنما أريد بها النوح والثانية إلى أن تكون تأبينًا بقصيدة فخمة تروى على الزمان.

شعر الخنساء رضي الله عنها فيه لوعة الفجيعة ورقة مناحة النساء مع ما في ذلك من تعداد المآثر ثم فيه مع اللوعة شدة الأسر وفحولة ما تستحب روايته من جياد القصيد. ثم يخالط مذهب تأبينها وبكائها استشعار فخر وعزاء بذكرى المجد

ص: 397

والفضل الذي بلغه أخواها. كقولها في كلمتها الرائية التي مطلعها:

قذًى بعينك أم بالعين عوار

أم ذرفت إذ خلت من أهلها الدار

وهو من فخمات المطالع التي تقرع السمع، قالت:

وإن صخرًا لهادينا وسيدنا

وإن صخرًا إذا نشتو لنحار

وإن صخرًا لتأتم الهداة به

كأنه علمٌ في رأسه نار

مشى السبنتي إلى هيجاء معضلةٍ

له سلاحان أنياب وأظفار

فما عجولٌ على بوٍّ تطيف به

لها حنينان إعلام وإسرار

ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت

فإنما هي إقبالٌ وإدبار

يومًا بأوجع مني يوم فارقني

صخرٌ وللدهر إحلاء وإمرار

لم تره جارةٌ يسعى بساحتها

لريبةٍ حين يخلى بيته الجار

ومنها في أولها:

كأن عيني لذكراه إذا خطرت

فيضٌ يسيل على الخدين مدرار

تبكي خناس على صخر وحق لها

أزرى بها الدهر إن الدهر ضرار

تبكي خناس فما تنفك ما عمرت

لها عليه رنين وهي مفتار

يا صخر وراد ماءٍ قد تناذره

أهل المياه وما في ورده عار

وقولها خناس فهو اسم تحبيب لعل أخاها كان يناديها به، فهذا مما يزيد موقعه في الشعر حرارة كما ترى.

ومن رثائها وقد أورده صاحب الكامل من المختارات التي اختارها:

أعيني جودا ولا تجمدا

ألا تبكيان لصخر الندى

ألا تبكيان الجريء الجميل

ألا تبكيان الفتى السيدا

طويل النجاد رفيع العماد

ساد عشيرته أمردا

ص: 398

إذا القوم مدوا بأيديهم

إلى المجد مد إليه يدا

فنال الذي فوق أيديهم

من المجد ثم انثنى مصعدا

يكلفهم الناس ما عالهم

وإن كان أحدثهم مولدا

ومنه وهي مما اختاره المبرد:

يذكرني طلوع الشمس صخرا

وأذكره لكل غروب شمس

ولم أر مثله رزءًا لجن

ولم أر مثله رزءًا لإنس

ولولا كثرة الباكين حولي

على إخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن

أعزي النفس عنه بالتأسي

ولها:

أعيني هلا تبكيان على صخر

بدمعٍ حثيث لابكئ ولا نزر

ألا ثكلت أم الذين غدوا به

إلى القبر ماذا يحملون إلى القبر

وقائلةٍ والنعش قد فات خطوها

لتدركه يا لهف نفسي على صخر

وهذه صورة حية تامة الحيوية ولعل الموصوفة ههنا أم صخر، وليست أم الخنساء لأن الخنساء كانت أخته لأبيه، وإياها عني صخر في أبياته النونية:

أرى أم صخر ما تمل عيادتي

وملت سليمي مضجعي ومكاني

وسليمي زوجته- وبعد الأبيات الرائية التي تقدمت من الخنساء قولها:

فمن يضمن المعروف في صلب ماله

ضمانك أو يقرى الضيوف كما تقرى

فشأن المنايا إذا أصابك ريبها

لتغد على الفتيان بعدك أو تسرى

ومذهب جنوب أخت عمرو ذي الكلب قريب من مذهب الخنساء في حرارة الدمعة وصلابة البيان وهي القائلة:

أبلغ هذيلًا وأبلغ من يبلغها

قولًا صريحًا وبعض القول مكذوب

ص: 399

بأن ذات الكلب عمرًا خيرهم نسبًا

ببطن شريان يعوي حوله الذيب

المخرج الكاعب الحسناء مذعنةً

في السبي ينفح من أرادانها الطيب

والقائلة وقد بلغها أن أخاها عدا عليه نمران بجبل فاغتالاه:

فأقسمت يا عمرو لو نبهاك

إذن نبها منك داءً عضالا

إذن نبها ليث عريسةٍ

مفيتًا مفيدًا نفوسًا ومالا

وخرق تجاوزت مجهولة

بوجناء حرفٍ تشكي الكلالا

فكنت النهار به شمسه

وكنت دجى الليل فيه الهلالا

وقد ترى أنها لم تترك القائل من البديعين من مقال في قولها «مفيتًا» تريد به النفوس و «مفيدًا» تريد به المال مع ما ترى من صناعة الجناس وكذلك جعلها إياه شمس النهار وهلال الليل. وسمى ابن رشيق هذا من صناعتها التسهيم وذكر فيه اختلافًا وأنه الذي يسميه قدامة التوشيح (2/ 32 من العمدة) وأورد الأبيات الغرناطي في شرح المقصورة تفسيرًا للتوشيح والتسهيم قال: «قلت وقد شرح بعض المتأخرين معنى هذه القصيدة فقال التسهيم أن يكون صدر الفقرة أو البيت مقتضيًّا لعجزه ودالًا عليه بما يستدعي المجيء به ليكون الكلام في استواء أقسامه واعتدال أحكامه كالبرد المسهم في استواء خطوطه» (شرح مقصورة حازم الغرناطي طبع القاهرة سنة 1344 - ج 1 - ص 29).

وقال الغرناطي عن الخنساء (نفسه 2/ 128)«وأجمع أهل المعرفة بالشعر أنه لم تكن امرأة قط قبلها ولا بعدها أشعر منها» والحق أن رثاءها يتجاوز التفضيل على بنات جنسها فقط، وهي من مجموعة ما رثت به أشعر من جملة أصحاب المراثي وإنما يتقدم منهم عليها بالطويلة الواحدة، كقصيدة متمم في مالك وأعشى بأهله في المنتشر وكعب بن سعد في أخيه، على أن في تقديم هذه الطوال عدا عينية متمم،

ص: 400

على طويلاتها نظر. وأحسب مما رفع قدر عينية متمم جسامة الحدث الذي قيلت فيه. وشتان ما بين أمر الردة وما كان بين بيوتات العرب من تغاور.

الضرب الثاني من الرثاء فيه النفس الديني الذي مع إحساس الفجيعة يعمد إلى التفكر في الموت. منبع هذا الضرب أيضًا من أصول شعبية كما تقدم ذكره. ولكنه عندما اتلأبت به صناعة الشعراء، خالطه ضرب الأمثال وسوق الأخبار والتماس الموعظة في ذلك. وقد مر بك في أول الكتاب أبيات الهذلي:

يا مي إن ترزئي قومًا فقدتهم

أو تخلسيهم فإن الدهر خلاس

يا مي لن يعجز الأيام ذو حيدٍ

بمشمخر به الظيان والآس

من فوقه أنسرٌ بيض وأغربة

وتحته أعنزٌ كلفٌ وأتياس

يا مي لن يعجز الأيام مبترك

في حومه الموت رزام وفراس

أحمى الصريمة أحدان الرجال له

صيد ومجترئٌ بالليل هماس

فهنا يضرب الشاعر الأمثال بما يرى أنه رمز للقوة من بقاء كأوابد الوعول وشهب النسور ومعمرات الغربان ومرهوبات الأسود. ونفسٌ من ضرب الأمثال هذا تجده في عينية متمم، وأحسب أن هذا الجمع فيها بين لوعة النائح وحكمة المتفكر الواعظ مع حسرات الموتور هو مما جعلهم يقدمونها. فمن ضربه المثل قوله:

وعشنا بخير في الحياة وقبلنا

أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا

فلما تفرقنا كأني ومالكًا

لطول اجتماع لم نبت ليلةً معًا

فغن تكن الأيام فرقن بيننا

فقد بان محمودًا أخي حين ودعا

وكنا كندماني جذيمة حقبةً

من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

أقول وقد طار السنا في ربابه

وغيثٌ يسح الماء حتى تريعا

سقى الله أرضًا حلها قبر مالك

ذهاب الغوادي المدجنات فأمرعا

ص: 401

فوالله ما أسقى الديار لحبها

ولكنني أسقي الحبيب المودعا

تقول ابنة العمري مالك بعدما

أراك حديثًا ناعم البال أفرعا

فقلت لها طول الأسى إذ سألتني

ولوعة حزنٍ تترك الوجه أسفعا

وفقد بني أم تداعوا فلم أكن

خلافهم أن أستكين وأضرعا

قعيدك ألا تسمعيني ملامةً

ولا تنكئ قرح الفؤاد فييجعا

وكلمة أبي ذؤيب العينية فيها مذهب الهذليين من ضرب الأمثال. وقد مر بك تناولنا لها في معرض الحديث عن البحر الكامل وذكرنا مقال عمر رضي الله عنه لما أخذ أبو ذؤيب في أمثاله من عند قوله:

والدهر لا يبقى على حدثانه

جون السراة له جدائد أربع

«سلا أبو ذؤيب» ونرجع ههنا عن كثير مما دفع إليه تطرف الشباب من الأخذ على أبي ذؤيب في بعض ما قلناه. من ذلك مثلًا بيته:

قصر الصبوح لها فشرج لحمها

بالني فهي تثوخ فيها الإصبع

إذ عابه الأصمعي وقال «هذا من أخبث ما نعت به الخيل» والحق أنه لا ينبغي أن يؤخذ على أبي ذؤيبٍ ههنا غير المبالغة حيث قال «فهي تثوخ فيها الإصبع» وله من نعت تربية الفرس بالسمن قبل التضمير نماذج حسنة في قول زهير:

غزت سمانًا فآبت ضمرًا خدجا

من بعدما جنبوها بدنا عققا

وقال سلامة بن جندل وكان فارسًا عالمًا بالخيل:

تظاهر الني فيه فهو محتفلٌ

يعطي أساهي من جري وتقريب

والذي ذكره سيدنا عمر من نقد أبي ذؤيب باق إلا أن الذي عرفه قدامة وابن رشيق والمفضل وأشياخه من قبل من جمال ما نعته ينبغي أن يعرف ولعلنا -إن وجدنا مجال ذلك- أن نورد منه عند الحديث عن الأوصاف. وقد نبهنا بالرغم مما

ص: 402

كنا أخذناه من مآخذ على أبي ذؤيب، على جودة وصفة الفارسين المتبارزين في آخر القصيدة وهو قوله نورده ههنا وافيًّا:

والدهر لا يبقى على حدثانه

مستشعرٌ حلق الحديد مقنع

حميت عليه الدرع حتى وجهه

من حرها يوم الكريهة أسفع

تعد به خوصاء يفصم جريها

حلق الرحالة فهي رخوٌ تمزع

فهذه حالها إذ هو يقاتل بها ثم وصف حالها قبل التضمير لينبه على حسن تربيته وصنعه لها:

قصر الصبوح لها فشرج لحمها

بالني فهي تثوخ فيها الإصبع

متفلق انساؤها عن قانيءٍ

كالقرط صاوٍ غبره لا يرضع

تأبى بدرتها إذا ما استغضبت

إلا الحميم فإنه يتبضع

قلت وقد سبق أن تابعنا في عيب هذا البيت مذهب أبي سعيد حيث قال «غلط أبو ذؤيب في هذا البيت لأنه لم يكن صاحب خيل» والذي ذكره أبو عبيدة أشبه وقد ذكرناه إلا إننا عبناه بأن فيه تكلفًا، وليس فيه إلا المبالغة وهي من القول مذهب فكان بنا أولى ألا نعيبه.

بينا تعنقه الكماة وروغه

يومًا أتيح له جريءٌ سلفع

يعدو به نهش المشاش كأنه

صدعٌ سليم رجعه لا يظلع

الصدع الفحل من الوعول بفتح الصاد والدال والنهش بفتح فكسر الخفيف

فتناديا وتواقفت خيلاهما

وكلاهما بطل اللقاء مخدع

متحاميين المجد كل واثقٌ

ببلائه واليوم يوم أشنع

وعليهما مسرودتان قضاهما

داود أو صنع السوابغ تبع

وكلاهما في كفة يزنيةٌ

فيها سنانٌ كالمنارة أصلع

ص: 403

وكلاهما متوشحٌ ذا رونقٍ

عضبًا إذا مس الضريبة يقطع

فتخالسا نفسيهما بنوافذٍ

كنوافذ العبط التي لا ترقع

وكلاهما قد عاش عيشة ماجدٍ

وجنى العلاء لو أن شيئًا ينفع

والعظة والتأسي والحكمة غالبة على هذه الابيات، وراجعة بأنفاسها إلى حرارة مع التأمل المر الذي في أولها حيث قال:

سبقوا هوي وأعنقوا لهواهمو

فتخرموا ولكل جنبٍ مصرع

فغبرت بعدهم بعيش ناصب

وإخال أني لاحق مستتبع

ولقد حرصت بأن أدافع عنهم

فإذا المنية أقبلت لا تدفع

وإذا المنية أنشبت أظفارها

ألفيت كل تميمةٍ تنفع

فالعين بعدهم كأن حداقها

كحلت بشوكٍ فهي عورٌ لا تدمع

حتى كأني للحوادث مرورةٌ

بصفا المشرق كل يوم تقرع

وتجلدي للشامتين أريهم

أني لريب الدهر لا أتضعضع

والنفس راغبة إذ رغبتها

وإذا ترد إلى قليل تقنع

فأبيات الفارسين فيها أصداء ومجاوبة لما ههنا- حتى قوله «والنفس راغبة إذا رغبتها» فيه مشابهة معنى ومماثلة لقوله: «وكلاهما ق عاش عيشة ماجد» ولا أباعد أن قلت أن كثيرًا مما صور المبارزة بين بطلين أحدهما أثقل مظهرًا من صاحبه كأنه مأخوذ مما ههنا أو له أصل واحد مع ما ههنا- صورة مبارزة سهراب الفارسي مع أبيه رستم وهي من قصص شهنامة وصاغها الشاعر الإنجليزي «ماثيو أرنولد» وما كان أمر أبي ذريب على زمانه مجهولًا.

هذا ورثاء لبيد أخاه من هذا الضرب الذي يخالطه التأمل والتفكير وضرب الأمثال في أمر الموت والتماس العزاء من مظاهر الطبيعة وأحداث الدهر وهيمنة الفناء على جنس البشر وأصناف الحيوان. وقد قدم الدكتور طه حسين رحمه الله

ص: 404

لبيدًا كل التقديم في باب الرثاء حتى أحسب أنه فضله على سائر الجاهليين. ومما استشهد به قصيدته العينية:

بلينا وما تبلى النجوم الطوالع

وتبقى الديار بعدنا والمصانع

وقد كنت في أكتاف جار مضنةٍ

ففارقني جارٌ بأربد نافع

فلا جزعٌ إن فرق الدهر بيننا

وكل فتًى يومًا به الدهر فاجع

فلا أنا يأتيني طريفٌ بفرحةٍ

ولا أنا مما أحدث الدهر جازع

وما الناس إلا كالديار وأهلها

بها يوم حلوها وغدوًا بلا قع

وما للمرء إلا كالشهاب وضوئه

يحور رمادًا بعد إذ هو ساطع

وما البر إلا مضمراتٌ من التقى

وما المال إلا معمراتٌ ودائع

وما المال والأهلون إلا ودائع

ولا بدٌ يومًا أن ترد الودائع

ويمضون أرسالًا وتخلف بعدهم

كما ضم أخرى التاليات المشايع

وما الناس إلا عاملان فعامل

يتبر ما يبني وآخر رافع

فمنهم سعيدٌ آخذ بنصيبه

ومنهم شقيٌّ بالمعيشة قانع

أليس ورائي إن تراخت منيني

لزوم العصا تحنى عليها الأصابع

أخبر أخبار القرون التي مضت

أدب كأني كلما قمت راكع

فأصبحت مثل السيف غير جفنه

تقادم عهد القين والنصل قاطع

فلا تبعدن إن المنية موعدٌ عليك فدانٍ للطلوع وطالع

أعاذل ما يدريك إلا تظنيًّا

إذا ارتحل الفتيان من هو راجع

أحسبه ههنا لا ينكر البعث ولكن يشير إلى ما كان عليه مذهب حياتهم من الحل والترحال ولعمري إن نحو هذا لكثير حدوثه في زماننا الآن. وما أشبه الليلة بالبارحة.

تبكي على إثر الشباب الذي مضى

ألا إن أخدان الشباب الرعارع

ص: 405

لأنهم مقبلون عليه أما من هم فيه أو تجاوزوه فقد استمر بهم سبيل الفناء.

أتجزع مما أحدث الدهر بالفتى

وأي كريم لم تصبه القوارع

وأثر الإسلام في هذه القصيدة لا يخفى. وأحسب أن فيها أبياتًا إما أصابها اضطراب في الرواية أو هن عليها مقحمات. ومكان الإيطاء في بيتي الودائع في النفس منه شيء- أسقطت بينهما أبيات؟ وقوله:

وما المال والأهلون إلا ودائع

ولا بد يومًا أن ترد الودائع

مما اشتهر وجرى على الألسن وفي التعازي مجرى المثل.

وقد سلك الدكتور طه رحمه الله في تقديمه لبيدًا مذهبه الذي سلك من قبل إذ قدم المعري في داليته:

غير مجدٍ في ملتي واعتقادي

نوح باكٍ ولا ترنم شادي

وشبيه صوت النعي إذا قيس

بصوت البشير في كل نادي

أبكت تلكم الحمامة أم غنـ .... ـت على فرع غصنها المياد

على أبي الطيب، وخاصة في عمق تأمله الفناء حيث قال:

زحلٌ أشرف الكواكب دارًا

من لقاء الردى على ميعاد

ولنار المريخ من حدثان الدهـ

ـر مطف وإن علت في اتقان

والثريا رهينة بافتراق الشـ

مل حتى تعد في الأفراد

ولو كان هذا القول جاهليًّا لكان من قائله تأملًا عميقًا بل شاذًا إذ كانت النجوم عندهم معبودة. وقول لبيد «وما تبلى النجوم الطوالع» جار على مذهبهم وهذا قبل إسلامه. وقد نص القرآن على فناء كل شيء، السماء تتفطر، والكواكب تنتثر، والجبال تكون هباء، فالمسلم إذا ذكر فناء الكواكب ونحوها إنما يجيء بذلك على

ص: 406

سبيل العظة. وما خلا أبو العلاء من القصد إلى السخرية بما كان شائعًا على زمانه من الولع بالكواكب وإعلاء شأن التنجيم والطوالع.

والضرب الثالث من الرثاء هو ما غلب فيه عنصر الحكمة وكأن عينية لبيد أدخل فيه منها في الضرب الثاني لولا أن كل ذلك مسوق للتسلي والتعزي كما هو جلي من قوله: «ففارقني جارٌ بأربد نافع» ومن قوله «فلا تبعدن أن فرق الدهر بيننا» ومن قوله:

فأصبحت مثل السيف غير جفنه

تقادم عهد القين والنصل قاطع

فلا تبعدن أن المنية موعد

عليك فدانٍ للطلوع وطالع

والحزن الشخصي الملابس للحكمة فيها جد عميق كقوله:

وما المرء إلا كالشهاب وضوئه

يحور رمادًا بعد إذ هو ساطع

فهذا مضمن تشبيهًا لحال أخيه أربد، فقد كان من رجال الجاهلية شهابًا ثم قد أصابته الصواعق فصار رمادًا- لاشيء، وكان هو وعامر بن الطفيل هما بقتل النبي صلى الله عليه وسلم حين وفدا عليه فصرفهما المولى سبحانه وتعالى عما هما به من غدرٍ وهلكا في طريق عودتهما- عامرٌ بالغدة وأربد بالصاعقة وفي التفسير أن آية الرعد نزلت فيه وهي قوله تعالى:{وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} .

وكقوله:

أليس ورائي إن تراخت منيتي

لزوم العصا تحنى عليها الأصابع

وقوله:

أتجزع مما أحدث الدهر بالفتى

وأي كريم لم يصبه القوارع

فهذه الحكمة تتضمن الحزن وبيت الأهلين والودائع غاية في هذا المعنى.

ص: 407

والفرق بين هذا الضرب الثالث من الرثاء الذي زعمنا أن عينية لبيد قريبة من الدخول فيه وبين الضرب الثاني الذي من صميمه أشعار هذيل وما سير به على منهاجها، إن الضرب الثاني قوامة لوعة الحزن على الميث ثم يكون التأمل وضرب الأمثال من أجل التعزي، أما هذا الضرب الثالث فقوامه عنصر العظة وتأمل الفنا نفسه، ولولا أن المعري قد أطال من التأبين ومعاني الحزن الذاتي في داليته لكانت كلها أدخل في هذا الباب الثالث- وعلى ما في عينية أبي الطيب التي رثى بها أبا شجاع وجارى بحر الهذلي وقافيته:

الحزن يقلق والتجمل يردع

والدمع بينهما عصيٌّ طيع

أين الذي الهرمان من بنيانه

ما قومه ما يومه ما المصرع

تتخلف الآثار عن أصحابها

حينًا ويدركها الفناء فتتبع

من اندفاع النفس وحرارة الروح، فإنها عندي أدخل حقًّا في هذا الضرب الثالث؛ لأن عنصر محض التفكر أقوى فيها من حال الحزن الشخصي لموت أبي شجاع- فجع الدهر بأمثال أبي شجاع وإبقاؤه على كافور -حين غضب هو على كافور- ومن حوله من رخم وبوم، هذا موضع التأمل والعظة والاعتبار.

أيموت مثل أبي شجاع فاتك

ويعيش حاسده الخصي الأوكع

بأبي الوحيد وجيشه متكاثر

يبكي ومن شر السلاح الأدمع

الشعر المنبئ بسيطرة الموت وأشعار الوصايا من هذا الضرب الثالث مثل كلمة عبد قيس البرجمي:

أجبيل إن أباك كارب يومه

فإذا دعيت لا المكارم فاعجل

وكلمة ذي الأصبع:

أأسيد إن مالًا ملكت فسر به سيرًا جميلًا

ص: 408

وكلمة القرشية التي في السيرة:

أبني لا تظلم بمكة لا الصغير ولا الكبير

وكلمة قس بن ساعدة:

في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر

وكلمة عبد المطلب بن هاشم المروية منسوبة إليه في خبر أصحاب الفيل إذ قال:

لا هم إن المرء يمنع رحله فامنع حلالك

لا يغلبن محالهم وصليبهم غدوا محالك

إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدالك

كأنما هي وصية إذ هي دعاء مما ابتهل به إلى ربه والخطب المحيط جسيم وهذا الوزن. كثير في أشعار الجاهليين وقدمنا أنه مما تجيء فيه القصائد الطويلة التي تذهب مذهبًا بين الخطابة والترنم. ولا يخفى أن الوصية مما يمكن دخوله في هذا العموم. ومن وصايا الإسلاميين فيه كلمة يزيد بن الحكم:

يا بدر والأمثال يضـ

ـربها لذي اللب الحكيم

وهي من المحفوظات الطوال.

والكامل أخو الرجز ومن معدنه قريب وقد جاءت في الكامل التام من الوصايا كلمة عبد قيس وكلمة عبدة العينية التي يذكر فيها الشرجع وهي مفضلية- وقد سيق الذكر أنهما كليهما من تميم. وكان في تميم من تراث الحكمة الحنيفية شيء كثير، منهم أكثم بن صيفي، ومنهم ورثة صوفة وقد ذكرت أمرهم السيرة وما كان لهممن رابطة بموسم الحج. وزمنهم صعصعة جد الفرزدق الذي أنكر الوأد وأحيا الموءودة بفدائها على حين كانت الجاهلية ضاربة بجران.

ص: 409

ومن شيطنة جرير في هجائه الفرزدق إذ نفاه عن صعصعة وجعله نمن نسل جبير القين وهو عبد قوله يهزأ به في إحدى طواله:

وبنو قفيرة قد أجابوا نهشلا

باسم العبودة قبل أن يتصعصعوا

الشاهد قوله «قبل أن يتصعصعوا» فهو موضع شيطنته واستهزائه.

ومن الضرب الثالث في الرثاء قافية الممزق التي قدمنا ذكرها- أو ابن خذاق مع الذي نبهنا عليه من أن أصلها سنخه «شعبي» قديم من أمر الدين وعبادة الموت.

وذرءٌ مما في هذا المعنى القبري الكفني نحسه في يائية عبد يغوث الحارثي التي في المفضليات وهي الثلاثون في ترتيب شرح ابن الأنباري- تأمل قوله:

أحقًّا عباد الله أن لست سامعًا

نشيد الرعاء المعزبين المتالبا

وقد علمت عرسي مليكة إنني

أنا الليث معدوًا علي وعاديا

وكأنه بهذا البيت يلقن عرسه كيف تنوح عليه، وهذا داخل في المعنى القبري.

وقد كنت نحار الجزور ومعمل المطي

وأمضي حيث لا حي ماضيًّا

كأني لم أركب جوادًا ولم أقل

لخيلي كري نفسي عن رجاليا

ولم اسبأ الزق الروي ولم أقل

لأيسار صدقٍ أعظموا ضوء ناريا

ولا نزعم ان هذه اليائية الرائعة من الضرب الثالث هي في نفسها، ولكن صنوف الشعر مما تداخل ويأخذ بعضها من بعض، والمعنى القبري الكفني الذي بسطة الممزق وفصله هو المستمد منه ههنا.

وقد افتن شعراء الإسلام في هذا الباب. وأوشك أبو العتاهية أن يجعل شعره كله غناء بالموت والقبر والدود من أمثال «لدوا للموت وابنوا للخراب» وأمثال «لتموتن وإن عمرت ما عمر نوح» والحديث في هذا المجال مما يطول ويقتضي أن

ص: 410

يفرد له بحث خاص به فحسبنا ههنا مجرد الإشارة والإلماع. غير أنه ينبغي أن ننبه في هذا الموضع على «الأينيات» ومن أقدمها راية عدي:

أين كسر كسرى الملوك أنوشر

وإن أم أين قبله سابور

وقد كان على دين النصرانية وأوتي من البيان والحكمة حظًّا عظيمًا، وله الأبيات اللامية الحزينة:

من رآنا فليخبر نفسه

أنه موفٍ على قرن زوال

وقد مر الاستشهاد بها في باب الحديث عن بحر الرمل.

وله الصادية التي أوردها المعري في رسالة الغفران كاملة وأولها:

أبلغ خليلي عبد هندٍ فلا

زلت قريبًا من سواد الخصوص

وقد أشرنا إليها ووقفنا عندها وقفة يسيرة في معرض الحديث عن بحر السريع. وفيها صورة من صميم معاني الموت والقبر حيث يقول:

ذلك خيرٌ من فيوج على الـ

ـباب وقيدين وغلٍ قروص

أو مرتقى نيقٍ على نقنق

أدبر عودٍ ذي إكافٍ قروص

يعني خشبة الصلب التي ينصب عليها ويقتل ثم يصير جيفة.

لا يثمن البيت ولا يحمل الر

دف ولا يعطي به قلب خوص

أي سعف الدوم الذي يكون مجتمعًا معًا وهو الذي يقتطع فتصنع منه السلال والبسط ونحوها والعامة تسميه عندنا قلب السعف.

أو من نسور حول موتي معًا

يأكلن لحمًا من طري الفريص

رثاء عدي نفسه يوشك أن يكون مخالطه ظلام اليأس -غير أن الحكمة، وهي مصدر

ص: 411

العزاء، مستكنة وراء هذه الصفة التي يتحسر فيها على المصير الذي كان ينتظره مع آخرين كانوا في مثل حالة من القيد وتوقع القتل والصلب.

وازن بين هذا وبين رثاء الشنفري يده لما احتزت وألقيت بين يديه:

لا تبعدي إما هلكت شامه

فرب خرقٍ قطعت عظامه

فرب خرقٍ قطعت قتامة

وههنا لطلاب البديع مكان نظر- الخرق بكسر الخاء وصف للرجل السخي الكريم ومثل هذا يكون فارسًا بطلًا فالشنفري يفخر بأنه يقتله والخرق بفتح الخاء الصحراء والقتام الغبار.

ووازن أيضًا بين كلام عدي وقول الشنفري في الأبيات الرائية:

لا تقبروني إن قبري محرم

عليكم ولكن أبشري أم عامر

إذا احتملوا رأسي وفي الرأس أكثري

وغودر عند الملتقى ثم سائري

هنالك لا ارجو حياة تسرني

سجيس الليالي مبسلًا بالجرائر

موضع الموازنة قوله «هنالك لا أرجو حياةً تسرني» - فهذا يشبهه ويشبه قول عدي «ذلك خير من فيوج إلخ» - أي مضى زمن السرور وجاء بعده هذا الضيق والكرب العظيم. لكن عديًّا منكسر النفس فحسراته والشنفري متجلد وهو النعت الذي نعته به المعري وهو بين أيدي الزبانية في سعير جهنمه.

وعلى منهج عدي في أينيته التي يقول فيها:

أين كسرى كسرى الملوك أنوشر

وإن أم أين قبله سابور

ويقول:

وتذكر رب الخورنق إذ فكـ

ـر يومًا وللهدى تفكير

ص: 412

وعند أبي عمرو أن الراء من تذكر (وهو فعل ماضي مفتوح الراء) مدغمة في راء «رب» وهي فاعل تذكر وهذا هو الإدغام الكبير الذي يدغم فيه المتماثلان المتحركان والمتقاربان المتحركان- ذكر هذا صاحب النشر، أعني الشاهد الذي من شعر عدي ويقول في الخورنق:

شاده مرمرًا وجلله كلـ

سًا فللطير في ذراه وكور

فإلى نحو هذا النعت نظر ابن مناذر، كما قدمنا الإلماع إلى ذلك، إذ جئنا بأبياته التي اختارها المبرد في معرض الحديث عن داليات الخفيف، حيث قال:

أين رب الحصن الحصين بسورا

ء القصر المنيع المشيد

شاده أركانه وبوبه با

بي حديدٍ وحفه بجنود

ومن أعجب أبياتها إلى قوله:

ثم أمسوا كأنهم ورقٌ جف

فألوت به الصبا والدبور

الصورة مؤثرة فيها جلال معنى الفناء- وفيها نفس الحسرات الذي في: «أو من نسورٍ حول موتي معًا» والذي في أبياته اللامية «من رآنا فليحدث نفسه» . وأول الأبيات الرائية قوله:

أرواحٌ مودع أم بكور

أنت فانظر لأي حالٍ تصير

ورواية الكتاب: «أنت فانظر لأي ذاك تصير» جاء به سيبويه في باب الأمر والنهي في أول الكتاب في معرض ما ينصب على الاشتغال وما يرفع من أجل شيء يفسره ما بعده والرفع هنا على أن أنت مبتدأ خبره محذوف، أو خبر مبتدؤه محذوف أو بفعل مضى يفسره ما بعده وهذا الوجه استبعده أبو العلاء في الغفران وكأنه يرجح الوجهين الآخرين وتقدير سيبويه أنت الهالك، ومعنى الهلاك هو الذي أفاض فيه عدي، فتأمل فإن تقدير سيبويه ما قدره على منهج بناه على تذوق ونظر

ص: 413

على منهج أينية عدي هذه سار الشعراء من بعد، ومن جياد أخريات الأينيات جميعًا مرثية الرندي أبي البقاء صالح بن شريف لبلاد الأندلس، وهي مشهورة إلا أن إصابتها في غير نفح الطيب كاملة ربما تعسرت، فمن أجل ذلك نوردها ههنا كما رواها، وقد ذكر أن الناس أضافوا إليها بعد موته أسماء ما أخذ النصارى من بلاد الأندلس التي لم تكن قد سقطت في أيديهم على زمانه. والقصيدة سلسلة مطبوعة وصوت فجيعة المصيبة فيها جهير، ومع ميل أسلوبها إلى سذاجة من الخطابة، تحس تحته إحساسًا عميقًا بالهزيمة والضياع، تنبئ عنه إنباءً الأبيات التي في آخرها يستحث بها المرينيين- قال رحمه الله:

لكل شيءٍ إذا ما تم نقصان

فلا يغر بطيب العيش إنسان

هي الأمور كما شاهدتها دول

من سره زمن ساءته أزمان

وهذه الدار لا تبقى على أحدٍ

ولا يدوم على حال لها شان

يمزق الدهر حتمًا كل سابغةٍ

إذا نبت مشرفيات وخرصان

المشرفيات السيوف والخرصان الرماح.

وينتضي كل سيف للفناء ولو

كان ابن ذي يزن والغمد غمدان

ههنا لون من صناعة البديع الأندلسي- أي كل سيف حين يسل ليفني بالقتل، هو أيضًا يسل ليفني، يلحقه التفليل ويدركه ما يدرك كل شيء من عوامل الفناء، وإن يكن ماضيًّا في مضاء سيف بن ذي يزن الذي حرر بلاده من سلطان الحبشة وإن يكن محفوظًا في غمدٍ جيد حصين كقصر غمدان بضم الغين، الذي كان من حصون ملوك اليمن، ويقال إن جامع مدينة صنعاء مبني على بقاياه:

أيبن الملوك ذوو التيجان من يمنٍ

وأين منهم أكاليلٌ وتيجان

وأين ما شاده شداد في إرمٍ

وأين ما ساسه في الفرس ساسان

ص: 414

يعني شداد بن عداد وبناءه إرم ذات العماد من الدر والجوهر.

وأين ما حازه قارون من ذهب

وأين عادٌ وشداد وقطحان

أتى على الكل أمرٌ لا مرد له

حتى مضوا وكأن القوم ما كانوا

استعمال «الكل» هنا فيه كما ترى لغة المتأخرين، إذ عند من يؤثر رصانة القدماء لا توصل «كل» و «بعض» بأل هكذا. على أنها ههنا مما يحتمل، إذ «أل» ههنا كأنها للعهد ومراده أن قضاء الله قد حل بكل واحد من هؤلاء، وبعض ما ذكر أمم ينساق قوله «الكل» على جميع أفرادها.

وصار ما كان من ملكٍ ومن ملكٍ

كما حكى عن خيال الطيف وسنان

هذا أصدق الوصف على حال ما كان من ملوك الطوائف بالأندلس.

دار الزمان على دارا وقاتله

وأم كسرى فما آواه إيوان

كأنما الصعب لم يسهل له سببٌ

يومًا ولا ملك الدنيا سليمان

أجرى هذا مجرى المثل الذي تفهمه العامة- وعلى النظر الأول يريك في عجز البيت ضعفًا، ثم عند إعادته تتبين ما تحته من عمق الحسرة التي ظاهرها هذه السذاجة في التعبير.

فجائع الدهر أنواعٌ منوعة

وللزمان مسرات وأحزان

وللحوادث سلوانٌ يسهلها

وما لما حل بالإسلام سلوان

هذا البيت يصدق على كثير من أحوالنا اليوم، كما صدق على الأندلس.

دهى الجزيرة أمرٌ لا عزاء له

هوى له أحدٌ وانهد ثهلان

ولعل ثهلان تبدو مقحمة ضعيفة. ولكن مكانها صالح عند التأمل، أحد

ص: 415

جبل المدينة ورمزيته للإسلام مع ما فيه من معنى الشهادة والتمحيص كل ذلك جلي ظاهر. ثهلان رمزٌ للعربية بلا ريب، وهو الوارد في قول الفرزدق يخاطب جريرًا:

أحلامنا تزن الجبال رزانةٌ

وتخالنا جنًّا إذا ما نجهل

فادفع بكفك إن أردت بناءنا

ثهلان ذا الهضبات هل يتحلحل

وبنو تميم رهط الفرزدق وجرير كليهما كانوا من أسنمة العرب ومن حد مضر:

أصابها العين في الإسلام فارتزأت

حتى خلت منه أقطارٌ وبلدان

وهذا على سذاجة ظاهره، من عميق الأسى. وقل من يتأمل أمر إسبانيا إذ يراها اليوم فلا يعجب كيف خلا ربعها من الإسلام، سبحان الذي بيده الأمر وهو على كل شيء قدير.

فاسأل بلنسية ما شأن مرسية

وأين شاطبةٌ أم أين جيان

إلى الأول من هاتين ينسب القاسم بن فيره الشاطبي صاحب الشاطبية وعليها أكثر اعتماد قراء القرآن المجودين والثانية بلد ابن مالك صاحب الألفية:

وأين قرطبة دار العلوم فكم

من عالم قد سما فيها له شان

وأين حمصٌ وما تحويه من نزهٍ

ونهرها العذب فياض وملآن

ووصف النهر بالامتلاء مناسب لأحوال الأندلس، إذ تنقص مياه أكثر الأودية نقصًا بينًا عند الجفاف- يدلك على ذلك قول الشاعرة:

يروع حصاه حالية العذارى

فتلمس جانب العقد النظيم

ص: 416

وذلك أنه صار ضحضاحًا ماؤه يترقرق بجريته فوق الحصى.

قواعد كن أركان البلاد فما

عسى البقاء إذا لم تبق أركان

تبكي الحنيفية البيضاء من أسفٍ

كما بكى لفراق الإلف هيمان

على ديارٍ من الإسلام خاليةٍ

قد أقفرت ولها بالكفر عمران

والعمران بالكفر خراب، هذا متضمن- وفيه نظرٌ إلى قوله تعالى:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} الآية- ولذلك جاء بعد هذا قوله:

حيث المساجد قد صارت كنائس ما

فيهن إلا نواقيسٌ وصلبان

حتى المحاريب تبكي وهي جامدةٌ

حتى المنابر ترثي وهي عيدان

أخذ هذا من معنى حنين الجذع لفراقه صلى الله عليه وسلم:

يا غافلًا وله في الدهر موعظةٌ

إن كنت في سنة فالدهر يقظان

وماشيًّا مرحًا يلهيه موطنه

أبعد حمصٍ تغر المرء أوطان

يعني من كانت أوطانهم لم يستلبها الكفرة حينئذٍ مثل غرناطة:

تلك المصيبة أنست ما تقدمها

وما لها مع طول الدهر نسيان

وأصل حمص بالشام وهي المذكورة في قول امرئ القيس:

لقد أنكرتني بعلبك وأهلها

ولابن جريج في قرى حمص أنكرا

وسميت أشبيلية حمص الأندلس على التشبيه والاستئناس لأن أكثر أهل حمص الأولى حلوها أيام الإسلام كانوا يمانيه والألي حلوا الأندلس من اليمانية نزعوا إلى التذكر لوطنهم القديم بهذه التسمية التي أطلقوها على أشبيلية لمقدم أكثرهم من الشام.

ص: 417

ثم يقول الرندي، وههنا موضع استشعار الضيعة؛ لأن سائر المسلمين قد عجزوا عن نصر الأندلس وأسلموها للفكر وهي تستغيث وهم ينظرون وقد توهم الرندي فيهم قدرة، إذ ذلك أقل ما كان يقتضيه إياه أمل المؤمن:

يا راكبين عتاق الخيل ضامرةً

كأنها في مجال السبق عقبان

وحاملين سيوف الهند مرهفةً

كأنها في ظلام النقع نيران

وراتعين وراء البحر في دعةٍ

لهم بأوطانهم عزٌّ وسلطان

ههنا موضع الأمل ورتب عليه ما جاء بعد من عتاب واستجاشة، وصيحة غريق عز عليه سبيل النجاة:

أعندكم نبأ من أهل أندلسٍ

فقد سرى بحديث القوم ركبان

كم يستغيث بنا المستضعفون وهم

قتلى وأسرى فما يهتز إنسان

ماذا التقاطع في الإسلام بينكم

لا أنتم يا عباد الله إخوان

وكانوا في هول المصائب والخطر المحدق إخوانًا، وقد تخون الإفرنج أطراف المغرب، ثم ثبت الله سبحانه وتعالى أقدام المسلمين فانتصروا في وادي المخازن وأخرجوا العدو من سواحلهم التي على البحر الغربي:

ألا نفوسٌ أبياتٌ لهم همم

أما على الخير أنصارٌ وأعوان

ولو نصبت فقلت ألا نفوسًا أبياتٍ لكان وجهًا:

يا من لذلة قومٍ بعد عزهم

أحال حالهم كفرٌ وطغيان

وهذه عبارة صادقة إذ كان في ملوك الطوائف كفر بأنعم الله وطغيان. وكان في مردة الصليبيين أيضًا كفر وطغيان:

ص: 418

بالأمس كانوا ملوكًا في منازلهم

واليوم هم في بلاد الكفر عبدان

فلو تراهم حيارى لا دليل لهم

عليهم من ثياب الذل ألوان

ولو رأيت بكاهم عند بيعهم

لها لك الأمر واستهوتك أحزان

هذه العبارة في ظاهرها أيضًا بسيطة ساذجة ولكن أسلوبها فيه نظر إلى قوله تعالى: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ} [آية الأنعام] فهذه الأحزان التي تستهوي كأنها شياطين لما يخالطها من اليأس الفظيع:

يا رب أمٍّ وطفلٍ حيل بينهما

كما تفرق أرواح وأبدان

فهذا يقوي التفسير الذي قدمناه في استهواء الأحزان.

وطفلةٍ مثل حسن الشمس إذ طلعت

كأنما هي ياقوت ومرجان

للصفاء والعذرية هذا من صفة الحور العين في سورة الرحمن.

يقودها العلج للمكروه مكرهةً

والعين باكيةٌ والقلب حيران

مصدر الحيرة إن صار هذا السباء الفاجع عاقبة ما كان يحوطها من صيانة.

لكل هذا يذوب القلب من كمدٍ

إن كان في القلب إسلامٌ وإيمان

قال المقري: «يوجد بأيدي الناس زياداتٌ فيها ذكر غرناطة وبسطة وغيرهما مما أخذ من البلاد بعد موت صالح بن شريف وما اعتمدته منها نقله من خط من يوثق به» (نفح الطيب للمقري المتوفي سنة 1042 هـ تحقيق محمد محي الدين رحمه الله ج 6 من ص 232).

ومن إينيات الأندلس الطنانة رائية الوزير ابن عبدون في رثاء بني الأفطس وكانوا من ملوك الطوائف بالغرب الأندلسي وهو ما يسمى الآن بالبرتغال وزمانه قبل

ص: 419

الرندي. وما خلا الرندي من نظر إليه غير أن الموضوعين مختلفان لأن الذي أدال من بني الأفطس كان أمر المرابطين وكانوا في جهاد العدو أشد بأسًا وفي الدين أصلب. وليس انفعال الحزن الذي في هذه الرائية بالجارح البالغ البعيد الأغوار من حيث فداحة الرزء وعظم الإحساس بمكروه، لكن شاعره كان ذا ملكة قوية ومقدرة فائقة على صياغة العبارة المفعمة بمعاني الشعر وإيقاعه. وأحسب أن حازمًا في مقصورته رام أن يقتفي نهج ابن عبدون وقد تبع هذا مذهبًا من الإشارات العلمية الأدبية ممتعًا غاية الإمتاع. لا ريب أن ما وقع بالملك الأفطسي قد أنطقه واستجاش حمى بيانه. ولكن قصده إلى الإمتاع بنظم الأحداث والتسلي بذكرها وإلى نوع من المضغ الثقافي المتلذذ بذكرها. وهي طويلة بارعة أوردها صاحب المطرب كلها- ولا بد من ذكر أبيات منها؛ لوقوعها في مجال ما نحن بصدد الحديث عنه من «الأبيات» ولأنها فريدة في بابها وقع نوع من الإيماء إليها في معرض الحديث عن مراثي البسيط وما يخامرها من السخط على القدر أو مذهب التجلد أو مذهب الضعف والجزع قال:

الدهر يفجع بعد العين بالأثر

فما البكاء على الأشباح والصور

أنهاك أنهاك لا آلوك موعظة

عن نومة بين ناب الليث والظفر

وهو الدهر، أبدًا يقظان مفترس والناس نيام.

فالدهر دان وإن أبدى مسالمة

والبيض والسود مثل البيض والسمر

البيض والسود هي الأيام والليالي والبيض والسمر هي السيوف والرماح.

ولا هوادة بين الرأس تأخذه

أيدي الضراب وبين الصارم الذكر

فلا يغرنك من دنياك نومتها

فما صناعة عينيها سوى السهر

تأمل فخامة المأتى وروح الروية مع نوع من فرح الشاعر بما يترنم به- وازن بين

ص: 420

هذا وبين انكسارة النفس التي في نونية ابن شريف.

ما لليالي، أقال الله عثرتنا

من الليالي، وخانتها يد الغير

في كل حين لها في كل جارحة

منا جراح وإن زاغت عن النظر

معنًى من جهة مضمونه المعنوي قليل ملأ به الشاعر فسحة بيتين، ولكن مع هذا نوع تأمل حزين مع ما يلابسه من الصناعة في جملة المعترضة الدعائية لنا في قوله:«أقال الله عثرتنا» ، وعلى غوائل الليالي في قوله «وخانتها يد الغير» ما يد الغير إلا يدها- ثم قوله «في كل حين» لاحقٌ بقوله ما لليالي، ومكان الجناس بين جارحة وجراح لا يخفى «وإن زاغت يد النظر» فيه ما يسمى بالإيغال، وهو أن تأتي بإضافة تتوصل بها إلى القافية، والمعنى قد تم من قبل. على أن هذه الإضافة ليست بفرط إسهاب، إذ لا يخلو قوله: وإن زاغت عن النظر من الصناعة لطيفة ورواية الطبعة الباريسية (1)«عن البصر» أجود لإشارتها القرآنية ولعلها هي الصواب.

هوت بدارًا وفلت غرب قاتلة

وكان عضبًا على الأملاك ذا أثر

أخذ الرندي قوله «دار الزمان على دارًا» من ههنا، وكذلك أخذ قوله:«وينتضي كل سيف للفناء البيت» إذ فيه كالأخذ والإشارة إلى عجحز البيت. وبيت ابن عبدون أملأ بالمعنى، إذ بعد ذكره إهلاك الدهر دارًا وقاتله، نبه إلى أن قاتله كان ملكًا عظيم القدر بعيد السطوة وههنا إعجاب بالإسكندر المقدوني. إلا أن قول الرندي:«وأم كسرى فما آواه إيوان» وتبسيطه العبارة حيث قال: «دار الزمان على دارًا وقاتله» فنظمهما معًا في حقيقة دور الزمان عليهما، كل ذلك أشد إشعارًا بالدمع وفجيعة الحزن.

واسترجعت من بني ساسان ما وهبت

ولم تدع لبني يونان من أثر

(1)(*) اطلعنا على الباريسية بعد الفراغ من كتابة أكثر هذا الفصل.

ص: 421

أحسبه ههنا قد أخطأ، إلا أن يكون أراد محض حقيقة الأشخاص والمدائن اليونانية القديمة أو جعل اليونان والروم شيئًا واحدًا. إذ قد بقيت آثار يونان الفكرية بقاءً ظاهرًا حسبك منه اسما أرسطو وأفلاطن.

وانفذت في كليب حكمها ورمت

مهلهلًا بين سمع الأرض والبصر

ودوخت آل ذبيان وأخوتهم

عبسًا وعضت بني بدر على النهر

يشير إلى مقتل حذيفة وحمل ابني بدر الفزاريين عند جفر الهباءة. وفي ذكره أخبار الجاهلين وبطولاتهم قارنًا لها بما فني من آثار يونان مناسبة عظيمة، وقد كان عالمًا ببعض ما كان لليونان والروم من أخبار بطولات وأساطير فساق هذا من أخبار العرب ليضاهيه بها وكما قدمنا تجد في تعديده لهذه الأخبار نوعًا من قصد إلى المتعة والتلذذ- تأمل قوله:

ولم ترد على الضليل صحته

ولا ثنت أسدًا عن ربها حجر

يشير إلى مصرع امرئ القيس وشكواه المرض في شعره حيث قال:

فلو نها نفس تموت جميعة

ولكنها نفس تساقط أنفسًا

وإلى قول امرئ القيس:

بقتل بني أسد ربها

إلا كل شيء سواه جلل

ثم يقول ابن عبدون:

وألحقت بعدي بالعراق على

يد ابنة أحمر العينين والشعر

يشير إلى خبر انتقام زيد بن عدي بن زيد العبادي لمصرع أبيه وقوله للنعمان إذ استقدمه كسرى بمكيدته ليقتله: «انج نعيم ولا أخالك بناج» وقوله: «قد أخيت لك اخيةً لا يقطعها المهر الأرن» ، أي ربطتك بعقدة لا يقطعها المهر النشيط قالوا فأمر به كسرى فألقي تحت الفيلة.

ص: 422

وأشار بقوله أحمر العينين والشعر إلى شعر أبي قردودة الذي رثى به ابن عمار الطائي لما قتله النعمان، وقد ذكرنا الأبيات من قبل ومنها بيت الإشارة هنا:

إني نهيت ابن عمار وقلت له

لا تأمنن أحمر العينين والشعرة

ومن هذه الرائية قوله، وجرى فيه على ما تقدم من مذهب تعداد من فجعت بهم الأيام من الملوك والسادة وأهل المكارم والعظام:

ومزقت جعفرًا بالبيض واختلست

من غيله حمزة الظلام للجزر

هنا ترف من التلذذ بالإشارة مع تجويد في صياغة ذلك. وجعفر هو ابن أبي طالب واستشهد بمؤتة وعرف به وجه النبي صلى الله عليه وسلم الحزن لمصيبته. وحمزة هو سيد الشهداء رضي الله عنهما، وهو أسد الله، فلذلك جعل مجال الحرب له غيلًا. وقوله:«الظلام للجزر» يشير به إلى الحديث إذ غنت الجارية:

ألا يا حمز للشرف النواء

الشرف أي النوق جمع المشارف وهي المسنة من الإبل النواء بكسر النون مشددة أي السمان مفردها ناوية وناو، فخرج حمزة بالسيف يضرب الإبل وكانوا على شراب وذلك قبل تحريم الخمر- فهذا ظلمه للجزر وقوله اختلست جيد بالغ إذ فيه اختصار لخبر حربة وحشي.

وأشرفت بخبيبٍ فوق رابية

وألصقت طلحة الفياض بالعفر

أما خبيب فظفرت به قريش فقتلته ودعا عليهم، وكان رضي الله عنه ممن غدرت به هذيل ودفعوه إذ ظفروا به إلى قريش. وطلحة من العشرة، قتل يوم الجمل، قيل رماه مروان بسهم، وكان كريمًا جميلًا شجاعًا بطلًا من المهاجرين الأولين.

وخضبت شيب عثمان دمًا وخطت

إلى الزبير ولم تستحي من عمر

ص: 423

ومن ههنا داخل نفس القصيدة انفعال من عاطفة فكرية أثارتها نكبة بني الأفطس وكانت عبرة مما جعل الشاعر يعتبر به فيها، ولكنها أعلق بنفسه وفيها من المتعة ما يكون عادة في متعات عواطف الأدباء وأهل الفكر المتصلة بكبريات قضايا التأريخ والإسلام، متعة مخالطها الشعور بالأسى كما قدمنا تأمل قوله:

ولا رعت لأبي اليقظان صحبته

ولم تزوده غير الضيح في الغمر

أبو اليقظان هو عمار بن ياسر رضي الله عنه وعن آل ياسر والضيح اللبن الرقيق أو الممزوج بماء والغمر بضم ففتح بوزن اسم سيدنا عمر، هو القدح الصغير وكان آخر ما تزوده عمار أن سقى شربة لبن وقاتل حتى قتل بصفين. وعاطفة ابن عبدون مائلة إلى عمار وأصحاب علي كما ترى. وفي استعماله لفظ الغمر إشارة إلى كلمة أعشى بأهله:«ويكفي شربه الغمر» - ثم قال ابن عبدون يذكر عليًّا كرم الله وجهه:

وأجزرت سيف أشقاها أبا حسن

وأمكنت من حسين راحتي شمر

هو ابن أبي الجوشن وكان ممن تولى كبر الغدر بالحسين رضي الله عنه.

وليتها إذ فدت عمرًا بخارجةٍ فدت عليًّا بمن شاءت من البشر

وهذا بيت القصيدة. وكأنها كلها ما نظمت إلا من أجله- ثم استمر الشاعر في التعداد وما جاء بعد هذا جارٍ مجرى التعزي فانتقل منه إلى ذكر بني الأفطس- وقد اخترنا كما قدمنا من أبيات القصيدة إذ هي ذات طول:

وأعملت في لطيم الجن حيلتها

واستوثقت لأبي الذبان ذي البخر

لطيم الجن هو عمرو بن سعيد بن العاص من سادة بني أمية وجباريهم وخطبائهم وهو الذي فتق على الناس نبأ مقتل الحسين إذ كان واليًّا على المدينة وخرج على

ص: 424

عبد الملك ينازعه الخلافة، وبيته كان في الجاهلية أشرف من بيت آل أبي العاصي، فما كره عبد الملك حتى ظفر به وأوثقه كتافًا وذبحه بيده وهو يتمثل:

يا عمرو ألا تدع سبي ومنقصتي

أضربك حتى تقول الهامة أسقوني

قالوا وكانت أخته تحت الوليد بن عبد الملك، فخرجت لما بلغها مقتله حاسرة تبكيه وترثي مصرعه وتقول:

أيا عين جودي بالدموع على عمرو

عشية جانبنا الخلافة بالقهر

غدرتم بعمرو يا بني خيط باطل

وكلكم يبني البيوت على غدر

وما كان عمرو عاجزًا غير أنه

أتته المنايا بغتةً وهو لا يدري

كأن بني مروان إذ يقتلونه

خشاشٌ من الطير اجتمعن على صقر

لحى الله دنيا تعقب النار أهلها

وتهتك ما بين القرابة من ستر

ألا يا لقومي للوفاء وللغدر

وللمغلقين الباب قسرًا على عمرو

فرحنا وراح الشامتون عشيةً

كأن على أعناقهم فلق الصخر

ولما بلغ ابن الزبير رضي الله عنهما مقتل عمرو بن سعيد قال في خطبة له: «أن أبا ذبان قتل لطيم الشيطان، وكذلك نولي بعض الظالمين بعضًا بما كانوا يكسبون» . وكأن الراجح عندي أن هذه كانت ألقابًا لهما في الصغر، كان في عمرو عيبٌ في شدقه فسمي لطيم الشيطان، ثم قيل له الأشدق وكان مفوهًا فقالوا ذلك لخطابته، وهذا جائز وكأنه محول عما كان يسب به في الصبا. وكذلك قولهم لعبد الملك أبو ذبان، وشبه هذا بحال الصبا قوي. وما أحسبه كان يعلم هذا من لقبه لولا مقال آل الزبير وكان لهم بالنسب والمثالب علم غزيرٌ أصل ذلك من جدهم الصديق رضي الله عنه فقد كان عالم قريش بالنسب. وقوله «ذي البخر» فقد ذكروا أن عبد الملك كان أبخر وأن جارية له لما ناولها تفاحة كان هو عضها أماطت موضع عضته بالسكين لبخره، وما أشبه هذا أن يكون مصنوعًا، إذ فيه مداخلة لعبد الملك في

ص: 425

خاصة عيشه مع أهله، في داره، وكأن موضوع بخره كله مولد من النبز الذي نبزه به ابن الزبير، وإنما استحل نبزه لوصفه إياه بأنه من الظالمين، وقد كان ابن الزبير من أهل العلم والتقوى- رجع الحديث إلى رائية ابن عبدون:

وأحرقت شلو زيد بعدما احترقت

وجدًا عليه قلوب الآي والسور

وأظفرت بالوليد بن اليزيد ولم

تبق الخلافة بين الكأس والوتر

وجاء بأل مع يزيد حكاية الشاهد النحويين «رأيت الوليد بن اليزيد البيت» وهو مما مدح به وفيه تعريض بقول قائله: «شد يدًا بأعباء الخلافة كاهله» حيث بين أنه انهمك في اللذات فأبى الله أن تكون الخلافة بين الكأس والوتر.

وروعت كل مأمون ومؤتمن

وأسلمت كل منصورٍ ومنتصر

المأمون بن الرشيد والمؤتمن أخوه القاسم وقد أبعده المأمون من ولاية العهد والمنصور هو أبو جعفر بالمشرق وابن أبي عامر الحاجب بالمغرب، والمأمون والمنصوران إنما راعهم ما يروع من الموت الذي لا بد منه بعد طول الظفر والمنتصر هو ابن المتوكل غدر بأبيه ولم يتمتع بطول ملك بعده. فالمؤتمن مخلوع من ولاية العهد والمنتصر ولي عهد غادر- فههنا مقابلة تأريخية كما ترى:

وأعثرت آل عباس لعًا لهم

بذيل زباء من بيض ومن سمر

لعًا لفظة تقال للعاثر- وذلك أن بني العباس آل أمرهم إلى غلمان الأتراك يولون منهم ويعزلون ويقتلون ويسملون العين، ليبطلوا صلاحية من يسملون للخلافة وفي طبعة القاهرة، وهي التي كنت أصبتها من مطرب ابن دحية، رياء براء مهملة وياء مثناة وفسرها المحقق فيما أظن بأنها من الري وكأنها ممدود ريا بياء مشددة وألف لينة وابن عبدون أقوى فيما أرجحه من أن يشين صياغته بمد المقصور،

ص: 426

ورياء بعد فيها قبح لا يناسب حسن صياغته وجودة تناسقها وما أرى إلا ان الصواب هو:

بذيل زباء من بيضٍ ومن سمر

بالزاي المعجمة والباء الموحدة والتحتية، أي كثيرة الشعر، وخبر الزباء معروف وقد عثر جذيمة الأبرش يذيلها وتشبيه النكبة التي بلي بها بنو العباس من جندهم الأتراك، بالزباء التي شعرها سيوف ورماح، جيد دقيق. وبعد تحبير هذا وجدت أن هذا هو الصواب في طبعة القصيدة في ترجمة المتوكل عمر بن المظفر من قلائد العقيان للفتح بن خاقان طبعة باريس سنة 1277 هـ تحقيق سليمان الجزائري ص 44 ثم قال:

بني المظفر والأيام ما برحت

مراحلًا والورى منها على سفر

وصار الآن إلى رثاء بني الأفطس. وصدق حرارة عاطفة حزنه لا ينكر، إلا أن ما تقدمه من التعزي بهذا السمط من لئاليء الأخبار هو ما زعمنا أنه هو أربه الفني الإمتاعي الأغلب:

سحقًا ليومكم يومًا ولا حملت

بمثله ليلة في غابر العمر

الإشارة هنا إلى نحو قول بشار:

ترجو غدًا وغد كحاملة

في الحي لا يدرون ما تلد

وسحقًا عبارة قرآنية.

أين الجلال الذي غضت مهابته

قلوبنا وعيون الأنجم الزهر

إشارة ههنا إلى بيت المعنى الشريف:

يغضي حياءً ويغضي من مهابته

فما يكلم إلا حين يبتسم

ص: 427

لأن الإغضاء ههنا مفهوم أنه للعيون، فزعم ابن عبدون أن جلالهم تجاوز قدره أن يكون سببًا لإغضاء العيون فقط، ولكن تجاوزها فأغضت القلوب ذوات البصائر التي في الصدور. فلم تبق عين يمكن أن يقال عنها أنها تغضى من هيبتها إلا الأعين البعيدة التي بلغتها مراتب جلالهم وهي أعين النجوم، وههنا نظر إلى قول أبي الطيب:

مراتبٌ صعدت والفكر يتبعها

فجاز وهو على آثارها الشهبا

أي فتجاوز الفكر النجوم وهو يتبعها لأنها علت فوق النجوم، فمثل هذه المراتب تجعل أعين النجوم أنفسها تغضي حياء.

أين الإباء الذي أرسوا قواعده

على دعائم من عزٍّ ومن ظفر

أين الوفاء الذي أصفوا شرائعه

فلم يرد أحد منهم على كدر

كانوا رواسي أرض الله منذ نأوا

عنها استطارت بمن فيها ولم تقر

الوقف على السكون ثم صيره كسرًا وهو طريق مهيع وبراعة الروى هنا من معرفته بمذهب النحو والعرب في مثل هذا هذه المواضع وكسر القاف على قراءة أبي عمرو ونافع في «وقِرْنَ في بيوتكن» .

كانوا مصابيحها فمذ خبوا غبرت

هذي الخليقة يا الله في شرر

في هذا البيت زحاف جيد وأحسب أن رواية الطبعة الباريسية هيب الصحيحة وفي طبعة المطرب روايته:

كانوا مصابيحها فيها فمنذ خبوا

هذي الخليقة يا الله في شرر

والوجه الأول أجود، وفيه نظر إلى قول لبيد «يحور رمادَا بعد إذ هو ساطع»

ص: 428

والرماد فيه الشرر. فقد صار الناس في شرارات رمادٍ يستضيئون بها. ومعنى الشر مخالط لذلك.

من لي ومن بهم إن أظلمت نوبٌ

ولم يكن ليلها يفضي إلى سحر

من لي ومن بهم إن عطلت سنن

وأخفتت ألسن الآثار والسير

من لي ومن بهم إن أطبقت محن

ولم يكن وردها يدعو إلى صدر

هذا ترتيب رواية المطرب وفيه لهم مكان بهم ومكان بهم أصح.

ومن لي فيها معنى التوجع الذي في «أين» مع الدلالة على قرب الزمان وحداثة عهد الفاجعة.

على الفضائل إلا الصبر بعدهم

سلام مرتقبٍ للأجر منتظر

يرجو عسى وله في أختها طمع

والدهر ذو عقب شتى وذو غير

قرطت آذان من فيها بفاضحة

على الحسان حصى الياقوت والدرر

هذا البيت شاهدٌ على ما قدمناه من قصد الشاعر إلى الإمتاع مع معاني الرثاء والعظة والحكمة. والقصيدة جيدة والأخطاء التي في طبعاتها ليس استدراكها بعسير إذ أكثرها إما عن تحريف أو خفاء بعض النقط والحروف، مثل:

وأسبلت دمعة الروح الأمين على

دمٍ بفخٍّ لآل المصطفى هدر

فربما وضعت «يشج» مكان «بفخ» بالفاء الموحدة الفوقية أخت القاف المثناة والخاء المعجمة الفوقية مشددة وهي وقعة لآل البيت كان في زمان الرشيد وكان بعدها فرار إدريس الحسني إلى المغرب ويحيى إلى الديلم واستشهد أخوهما الحسين رحمهم الله جميعًا. ويشج لا معنى لها ههنا. وليقس ما لم يقل.

هذا وضروب الحكمة والعظة كالذي ذكرناه من الوصايا مما يحسن إلحاقه بهذا النوع

ص: 429

من الرثاء مثل أمثالية أبي العتاهية ونحو قول أبي الطيب:

أرق على أرق ومثلي يأرق

وجوى يزيد وعبرة تترقرق

ولقد بكيت على الشباب ولمتي

مسودة ولماء وجهي رونق

حذ 1 رًا عليه قبل يوم فراقه

حتى لكدت من المدامع أشرق

أين الأكاسرة الجبابرة الألى

كنزوا الكنوز فما بقين ولا بقوا

ونحو لامية ابن الوردي من كلمات متأخري عصر المحدثين:

وزعم أحمد أمين أن العرب سطحيون لا يتعمقون في التأمل- هذا معنى بحث بسطه في فجر الإسلام. وما اجدر هذا الذي زعمه أن يكون غير صحيح. وما عرفت اليونان التوحيد وتقواه على عمق ما تفلسفوا به. وما يتهمون بضحالة الفكر من أجل جهلهم التوحيد. ولا يصح وصف عمق التدين بالسطحية لخلوه من مذاهب فلسفة سقراط وأفلاطون وفيثاغورث وهلم جرا. وكان العرب على شركهم عارفين بالله موحدين له في أعماق معاني تدينهم يدلك على ذلك قوله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر] وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس] وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس] وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام] تفكير مفكريهم كان من معدن التدين الأصيل كآخر معلقة زهير وكأبيات سلمى بن ربيعة التي أولها «إن شواءً ونشوة» وكدالية الأسود بن يعفر والشواهد بعد كثير. مثل هذا التفكير لا يصح أن يوصف بأنه سطحي. ومما يعجب في هذا الباب كلمة لقس بن ساعدة

ص: 430

ربما تبادر إلى الذهن أنها إسلامية لورود «راوند» -اسم موضع فيها. وديار إياد لم تكن بعيدة من بلاد الروم والفرس:

خليلي هبا طالما قد رقدتما

أجدكما لا تقضيان كراكما

ألم تعلما مالي براوند كلها

ولا بخذاقٍ من صديق سواكما

أقيم على قبريكما غير منتهٍ

طوال الليالي أو يجيب صداكما

أصب على قبريكما من مدامةٍ

فإلا تنالاهما ترو جثاكما

ومن زعمك أن قسًّا لم يكن نصرانيًّا احتج بالصدى وبأنه نحر على قبري صاحبيه كالذي هم أن يفعله حسان ولم يفعل عند قبر ربيعة بن مكدم. ومن زعم أنه كان نصرانيًّا احتج باسمه وبهذا التعلق بالخمر إذ هي من طقوس النصارى في بعض ما يتعبدون به وموقفه بعكاظ يشهد بأنه كان من الخلفاء وهؤلاء لم يكونوا نصارى أو يهودًا كما خبرنا القرآن.

ومن صميم الحكمة الرثائية قول امرئ القيس:

أرانا موضعين لأمر غيب

ونسحر بالطعام وبالشراب

عصافيرٌ وذبانٌ ودودٌ

وجرأ من ملجحة الذئاب

إلى عرق الثرى وشجت عروقي

وهذا الموت يسلبني شبابي

ونفسي سوف يسلبها وجرمي

فيلحقني وشيكًا بالتراب

وما زاد أبو العتاهية في بائيته على هذا الروي على ما ههنا.

عرق الثرى هو آدم عليه السلام. ومن البيات التي تجري مجرى ما قدمنا في تصوير المآل والموت، مع أن مراد الشاعر لم يكن محض رثاء النفس إذا كان هجاء لم يخل من نقد الدولة في هذا الذي جاء به، وهو يزيد بن مفرغ الحميري، يصف غربة الغزاة وما يعروهم من الضياع في ديار جد نائيات:

كم بالجروم وأرض الهند من قدمٍ

ومن جماجم قومٍ ليتهم قبروا

ص: 431

هذا كقول علقمة يصف جيف الإبل الميتة بالصحراء:

بها جيف الحسرى فأما عظامها

فبيضٌ وأما جلدها فصليب

غير أن الحسرى هنا بشر- لا بل أبطال من أهل الفتح والجهاد:

ومن سرابيل أبطال مضرجةٍ

ساروا إلى الموت لا خاموا ولا ذعروا

بقندهار ومن تكتب منيته

بقندهار يرجم دونه الخبر

وقد كان أحمد أمين رحمه الله يتعاطى في طلب الموضوعية إذ يدرس حضارة العرب والإسلام مذهبًا كأنه على شفا جرفٍ هارٍ موقعٍ، من حيث لا يدري المرء، في حمأة الشعوبية وما يشك أنه قصد إلى بذل غاية الجهد في خدمة العلم، ورب مجتهد مخطئ فله أجر وآخر مجتهد مصيب فله أجران وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر وهو المرفق إلى الصواب.

هذا والضرب الرابع من الرثاء هو شعر الثأر تتحول فيه لوعة الحزن فتصير غضبًا، أو كما قال أبو الطيب وهو حكيم:«فحزن كل أخي حزن أخو الغضب» ومن يقوى على أن يغضب على تصرف القضاء؟ فهذا مكان الصبر والاحتساب.

والغضب -الذي مع حزن فقدان القتيل- كما هو فرديٌّ هو أيضًا جماعي فيه عنصر ديني من عبادة الهامة والصدى وهو طائر يخرج من رأس القتيل فيظل عطشان يصيح اسقوني اسقوني حتى يدرك بثأر القتيل. وزعم ابن الزبعري أن من قتلوا بأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عكفت تشرب من دمائهم هامات من أدركت قريش بثأرهم من قتلى بدر وشبه ضخامة أصدائها لضخامة أربابها كأبي جهل وأمية بن خلف وابني ربيعة. وابني حجاج بالحجل- قال:

فسل المهراس عن ساكنه

بين أصداءٍ وهام كالحجل

ص: 432

وساكن المهراس حمزة وقد جاءت أصداء من قتل وهامهم تلغ في دمه الزكى وعن الأصمعي أن العرب كانت تعتقد أن العطش يكون في الرأس. وقال الشاعر وهو جاهلي قديم:

دارت رحانا قليلًا ثم صبحهم

صرب يصيح منه جله الهام

فهذا يعني أنه ترك منهم قتلى تصيح طيرهم تطلب بالثأر ولن يقدروا هم على إدراكه، وهذا عكس مراد ابن الزبعري، يدلك قوله:

قد جزيناهم بيومٍ مثله

وأقمنا ميل بدرٍ فاعتدل

التشديد في «يصيح» للتكثير.

ابطل الإسلام عقيدة العرب في الهامة والصدى وما أشبه كالصفر:

قال أعشى باهلة «ولا يعض على شرسوفه الصفر» وهو ثعبان يعض شرسوف الجائع والشرسوف ما تسميه الدارجة عندنا الشرسوف بشينين معجمتين كغلطهم في الشمس يحيلونها بشينين وميم مكسورة، والشرسوف هوما يسميه التشريحيون بالحجاب الحاجز وفي شعر جرير الحجاب «أصاب القلب أو هتك الحجابا» في الدماغة.

على أن الإسلام أقر القصاص وفيه نوعٌ من درك الثأر إلا أن الإسلام ذكر العفو ونهى عن الشطط. قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} وقال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} وقال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَه} آية المائدة وما قبل من البقرة.

أمر العدالة في الاقتصاص من القاتل عمدًا كأنه من الأمور الفطرية

ص: 433

الطبيعية ولكنه قد جعلت تشمئز منه حضارة هذا القرن العشرين الميلادي مع الذي تجيزه من ضروب التصرفات الدموية. ويوشك هذا الاشمئزاز الحضاري أن ينشأ عنه عما قريب إحساس بالعجز يدعو إلى انفجار وحشي من استبداد الأفراد والمجموعات بطلب ثاراتهم وإدراكها فيعود الأمر جاهليًّا أو شرًّا مما كانت عليه الجاهلية في هذا المضمار.

مما جاء في أخذ الثأر كلمة قيس بن الخطيم المشهورة:

طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر

لها نفذ لولا الشعاع أضاءها

ملكت بها كفي فأنهرت فتقها

يرى قائم من دونها ما ورءاها

وخبر إدراكه الثأر وإعانة من أعانه فيه مما يشعر بجانب امتزاج العرف وعقيدة الدين عندهم في هذا الباب وذلك أن أبا قيس كانت له يدٌ عند خداش بن عمرو ابن عامر، وأن أم قيس كتمت أمر مقتل أبيه عنه إشفاقًا عليه أن يقتل وهو يطلب بثأر أبيه. ثم إنه عيره بعض الناس وذكره بضياع دم أبيه وجده. فعزم على أمه فأخبرته وأوصته بأن يسعى إلى رجل كانت لأبيه -أبي قيس- يدٌ عنده، فسار حتى أدرك ثأره وذكر ذلك في الأبيات الهمزية -وهي مما اختاره أبو تمام في الحماسة:

ملكت بها كفي فأنهرت فتقها

يرى قائمٌ من دونها ما وراءها

يهون علي أن ترد جراحها

عيون الأواسي إذ حمدت بلاءها

وساعدني فيها ابن عمرو بن عامرٍ

خداشٌ فأدى نعمةً وأفاءها

فهذا ما أشرنا إليه:

وكنت امرأً لا أسمع الدهر سبّةً

أسب بها إلا كشفت غطاءها

فإني في الحرب الضروس موكلٌ

بإقدام نفسٍ ما أريد بقاءها

إذا ما اصطبحت أربعًا خط مئزري

وأتبعت دلوي في السماح رشاءها

ص: 434

وإنما ذكر الاصطباح لإدراكه الثأر وهو نفس المعنى الذي من أجله قال عمرو بن كلثوم في المعلقة: «ألا هبي بصحنك فاصبحينا» - ثم ذكر الموت لأن الذي صنعه من إدراك الثأر كما هو مجد عرفيٌّ هو كذلك تقرب ديني:

متى يأتي هذا الموت لا تلف حاجةٌ

لنفسي إلا قد قضيت قضاءها

ثأرت عديًّا والخطيم فلم أضع

ولاية أشياخ جعلت إزاءها

وكأن الشاعر الإسلامي الذي قال: «وحاجة من عاش لا تنقضي» يرد على قيس قوله: «متى يأت هذا الموت البيت» .

وقالت كبشة أخت عمرو بن معد يكرب تطلب بثأر شقيقها عبد الله، وكان أخوها عمر وهو لأبيها- قد مال إلى الصلح فيما ذكروا:

أرسل عبد الله إذ حان يومه

إلى قومه لا تعقلوا لهمو دمي

أي لا تقبلوا الدية.

ولا تأخذوا منهم إفالًا وابكرا

وأترك في بيتٍ بصعدة مظلم

زعم أن قبره سيكون عليه ظلامًا إذ ثأره لم يدرك وصعدة في اليمن.

ودع عنك عمرًا أن عمرا مسالمٌ

وهل بطن عمرو غير شبرٍ لمطعم

هذا كقول الحطيئة من بعد: «واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي» وهي هنا تريد أن تهيجه ليأخذ بالثأر ولا يخيم عنه إلى عار من الصلح.

فإن أنتم لم تثأروا اتديتمو

فمشوا بآذان النعام المصلم

أي كونوا صمًّا لا يسمعون؛ لأن الناس سيتحدثون عن قعودكم عن الثأر ويذمونه

ولا تردوا إلا فضول نسائكم

إذا أرتملت أعقابهن من الدم

ص: 435

أي لا تردوا إلا آخر آخر. ارتملت تلطخت. وإذا وردوا عند اغتسال النساء من حيضهن فذلك كناية عن المذلة. وكانت العرب إذا أرادت الثأر لم تمس النساء ولا الخمر حتى تدركه. فقد جعلتهم بعدم إدراك الثأر من النساء وتبعًا لهن، لا حماة كماة أي لا تردوا إلا الفضول كما تفعل النساء عندما يغتسلن من الحيض وفي ترك النساء من أجل الثأر يقول الربيع بن زياد:

أفبعد مقتل مالك بن زهير

ترجو النساء عواقب الأطهار

وقصيدة عمر بن معد يكرب الحماسية التي أولها:

ليس الجمال بمئزرٍ

فاعلم وأن رديت بردا

إن الجمال معادن

ومناقبٌ أورثن مجدا

من تأملها وجدها ثأرية، ولعلها ذات صلة ما بمقتل أخيه- ويقول في آخرها:

كم من أخٍ لي صالحٍ

بوأته بيدي لحدا

ما أن جزعت ولا هلعت

ولا يرد بكاي زندا (1)

ألبسته أثوابه

عني بهذا بلا ريب التكفين

وخلقت يوم خلقت جلدا

أغني غناء الذاهبين

أعد للأعداء عدا

ذهب الذين أحبهم

وبقيت مثل السيف فردا

وشعر الثأر كثير. ويداخله الرثاء والحكمة كما يداخله الفخر ووصف الحرب وأداتها وسلاحها. وعندي أن الذي يذكره القدماء من نسبة تطويل الشعر إلى المهلهل أصله

(1)() أي لا يرد شيئًا ومن قال «زيدا» وزعم أنه زيد بن الخطاب فقد باعد جدًّا والله أعلم.

ص: 436

هذا، واختلفوا في الهلهلة فجعلها بعضهم من الاضطراب لقول النابغة:

أتاك بقول هلهل النسج كاذب

ولم يأت بالحق الذي هو ناصع

وجعلها بعضهم من الجودة وينصره قول الفرزدق «ومهلهل الشعراء ذاك الأول» ولا يصح أن يفتخر بما هو مضطرب وما أشبه أن يكون صحيحًا قول من قال إنه سمي المهلهل بقوله:

لما توقل في الكراع شريدهم

هلهلت اثار جابرًا أو صنبلًا

ذلك بأن صدر هذا البيت متعدد الروايات مضطر بها وما احتفظ به إلا القديم دلالة فيه والله أعلم.

وأن يكون أمر الثأر أول ما ارتبط به تطويل القصيد قريب من القبول عند التأمل لذلك، لما في شعر الثأر من سعة مجال القول فخر ورثاء وحماية حريم، وهذا يداخله الغزل، وحكمة وعظات. وعسى هذا من أمر شعر الثأر أن يفسر لنا بداية دريد بن الصمة رثاءه أخاه بالنسيب حيث قال:

أرث جديد الحبل من أم معبد

فقد ذكر فيها أنه فزع إلى أخيه والرماح تنوشه، ومن عادة العرب إذا تحمست للقتال أن تذكر النساء والفتوة.

وقد أشرنا إلى لامية تأبط شرا من طويلات قصائد الثأر وكلمة سعد بن مالك:

يا بؤس للحرب التي

وضعت أراهط فاستراحوا

فق التحريض على المهلهل لما بغى وحض قبائل بكر لتدرك ثأرها منه، وسعد هذا في نسب طرفة بن العبد جد أبيه فيكون طرفة على حداثة سنه المذكورة قد كان أبوه أيضًا حين أنجبه صغير السن، لمعاصرة سعد بن مالك لزمان المهلهل، على أنه يجوز

ص: 437

أن يكون قد قال هذه الكلمة وهو شاب، وهي سن الحرب والقتال. وقد لازم فيها خذلان حنيفة ويشكر لبني شيبان، أما حنيفة فقد كانت ديارهم باليمامة بعيدة عن مكان القتال، أما يشكر فقد دخلت في غمار الحرب بعد مقتل بجير وقول الحرث كلمته:

قربا مربط النعامة مني

إن قتل الرجال بالشسع غالي

وشعر الثأر كثير ومن أشهره شعر المهلهل وقد مر استشهادنا بأبيات من رثائه كليبًا في باب التكرار من الجزء الثاني من قصيدته «أليلتنا بذي حسم أنيري» وزعم الأصمعي أن لو كان له خمس مثلها لعده في الفحول ولا يضيره ذلك إذ قد عده الفرزدق أولهم.

وذكرنا من رثائه كليبًا في باب القوافي في الجزء الأول واختار له صاحب جمهرة الأشعار قافية من السريع -هذا ومن مختاراته أي شعر الرثاء والثأر كلمة عبد الشارق بن عبد العزي الجهني:

ألا حييت عنا يا ردينا

نحييها وإن كرمت علينا

أي حييت تحية الوداع، والمحبوبة أكثر ما تكون -على عادة الشعر- من نساء العدو

ردينة لو رأيت غداة جئنا

على أضماتنا وقد اختوينا

على أضماتنا أي على غضبنا جمع أضم محركة وقد أسرعنا إلى لقاء العدو. من اختوى البلاد إذا قطعها -أي وقد جاوزنا بلادًا من الأرض. وفي الكتاب الذي وسم بشرح التبريزي في عنوانه وهو شرح حديث اختوينا أي تركنا الطعام وليس من الحزم أن يقاتل المرء جائعًا ويجوز على معنى الضمور والإقلال من الزاد وفيه بعد. والذي قدمنا يناسبه السياق، أي جئنا من بلاد بعيدة فأرسلنا ربيئة ليحزر لنا العدو وليكون طليعة وعينا وهكذا كانوا يفعلون في الحروب وفي خبر بدرٍ تفصيل يوضح هذا.

فأرسلنا أبا عمرو ربيئًا

فقال ألا انعموا بالقوم عينا

ص: 438

ودسوا فارسًا منهم عشاء

فلم نغدر بفارسهم لدينا

فجاءوا عارضًا بردًا وجئنا

كمثل السيل نركب وازعينا

وصفهم بالشجاعة إذ شبههم بالمطر ذي البرد كما وصف قومه بذلك وفي الصورة بعد جمال الأخذ من الطبيعة، أن تناسيت المشبه وتوفرت على تأمل المشبه به، عارض برد، ثم تسيل السيول، وهي الصورة التي فصلها امرؤ القيس ووازعا السيل هما شاطئاه لأنهما يزعانه أي يكفانه فإذا فاض وطمى ركبهما وعم وغمر ودمر.

تنادوا يالبهثة إذ رأونا

فقلنا أحسني ضربًا جهينا

سمعنا دعوةً عن ظهر غيب

فجلنا جولةً ثم ارعوينا

أي تراجعنا، كأنا أحسسنا بصوت من ورائنا. ويجوز، وهو عندي أقوى، أنهم تراجعوا كلٌّ عن قرنه كلالًا أو تهيبًا أو رغبة في الفرار ثم ناداهم محرضوهم من ورائهم فعادوا إلى القتال. وقوله:«فجلنا جولةً» يشعر بمعنى الفرار. وفي أخبار حروب السيرة من التفصيل ما يقوي القياس عليه هذا المعنى، كخبر أحد:«إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخريكم» وكخبر حنين.

فلما أن تواقفنا قليلًا

أنخنا للكلا كل فار تمنيا

فلما لم ندع قوسًا وسهمًا

مشينا نحوهم ومشوا إلينا

تلالؤ مزنةٍ برقت لأخرى

إذا حجلوا بأسياف ردينا

إذا حجلوا أي مشوا كمشية الطير، مشية فيها خيلاء ونزوان وهي مشية الغراب وجعلها دريد مشية الطير عامة حين تلغ في الدماء وتنقر جثث القتلى وهو قوله:

وعبد يغوث تحجل الطير حوله

وعز المصاب حثو قبرٍ على قبر

ويقال ردى الغراب بمعنى حجل وهي مشيته ذات النقزان وردى الفرس أي رجم الأرض بين المشي والعدو. ومن فسر حجلوا ههنا -بمعنى مشوا مشية المقيد، أضاع

ص: 439

المعنى؛ لأن هذه القصيدة من المنصفات، ما من شيء وصف به العدو إلا وصف به قومه من الإقدام والجولة والثبات والقتل.

شددنا شدة فقتلت منهم

ثلاثة فتية وقتلت قينا

وشدوا شدة أخرى فجروا

بأرجل مثلهم ورموا جوينا

وكان أخي جوينٌ ذا حفاظٍ

وكان القتل للفتيان زينا

هنا الرثاء كما ترى

فآبوا بالرماح مكسراتٍ

وأبنا بالسيوف قد انحنينا

فباتوا بالصعيد لهم أحاحٌ

ولو خفت لنا الكلمى سرينا

والحكمة التي تستفاد من ههنا ما تصنعه الحرب من فساد، وقد أقبلوا غاضبين ثم زين لهم حب الحياة الفرار، ثم حملهم الحفاظ على الثبات، ثم ما كان بعد ذلك إلا القتلى والكلوم.

وهذا الباب مما يتسع. ومما يقوي ما نذهب إليه من ارتباط الوصايا والعظة والحكمة وأمر الموت والرثاء وأمر الثأر كل ذلك بعضه ببعض أن أبا تمام وهدك من عالم ناقد خبير قد جعل أول أبواب اختياره في ديوان الحماسة للحماسة ثم جعل بعده المراثي ثم جعل بعده الأدب وفي باب الحماسة نفسه مراثٍ مما يجري مجرى ذكر الحرب والثأر ككلمة عبد الشارق الجهني هذه، وكلمة كبشة وكلمة قيس بن زهير:

تعلم أن خير الناس ميتٌ

عليه جفر الهباءة لا يريم

ولولا ظلمه لظللت أبكي

عليه الدهر ما طلع النجوم

ولكن الفتى حمل بن بدرٍ

بغى والبغي مرتعه وخيم

وفي باب الأدب كلمة سلمي بن ربيعة «إن شواء ونشوة» وقد تقدم الحديث عنها

ص: 440

إنها من باب العظة والتأسي بالماضين وكلمة عمرو بن قميئة:

يا لهف نفسي على الشباب ولم

أفقد به إذ فقدته أمما

إذ أسحب الريط والمروط إلى

أدنى تجاري وانفض اللمما

لا تغبط المرء أن يقال له

أمسى فلان لسنه حكما

إن سره طول عمره فلقد

أضحى على الوجه طول ما سلما

والحكمة أبدًا يخالطها إمتاع مقصود إليه أو مصاحب -ومما يحسن أن نختم به هذا الفصل قول متمم بن نويره- ومن أجل تناول كلمته أشتات معاني الرثاء وجمعها ونظمها نظمًا فريدًا مع لوعة ونفس رصين قدمها من قدمها في باب المراثي- وقوله هذا الذي نختم به داخل في معنى الضرب الرابع من ضروب الرثاء وهو المتعلق بطلب الثأر وإدراكه والتحريض عليه، ولا يخفى أن متممًا لم يستطع إلى إدراك ثأره سبيلًا إذ قتل أخوه مرتدًا، وكان خالد رضي الله عنه بأمر الحرب عالمًا وفي دينه ذا بصيرة:

فقصرك إني قد شهدت فلم أجد

بكفي عنهم للمنية مدفعا

فلا فرحا إن كنت يوما بغبطةٍ

ولا جزعًا مما أصاب فأوجعا

أي إن كنت في حال نعماء يغبطني عليها الناس.

فلو أن ما ألقى يصيب متالعا

أو الركن من سلمى إذًا لتضعضعا

ألم تأت أخبار المحل سراتكم

فيغضب منكم كل من كان موجعا

بمشمته إذ صادف الحتف مالكا

ومشهده ما قد رأى ثم ضيعا

أي لم يلق على مالك ثوبا فيكفنه كما صنع الرجل المجهول الذي الهذلي في كلمته حيث قال:

حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا

خراشٌ وبعض الشر أهون من بعض

ولم أدر من ألقى عليه رداءه

ولكنه قد سل عن ماجدٍ محض

ص: 441