الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولئن صح -وهو إن شاء الله صحيح- أن موسيقا أوروبا المحكمة العالية لها أصول -من طريق أصولها في أغاني الكنيسة- في موسيقا الخلافة التي درست، فلا بد من القول أن تلك الأصول تمت إلى طبيعة تأليف القصيدة العربية القديمة بسبب عظيم.
بين امرئ القيس وابن الباقلاني:
قال أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني في كتابه إعجاز القرآن (طبعة دار المعارف بتحقيق السيد أحمد صقر- القاهرة سنة 1374 هـ- 11954 م) يذكر من فضائل القرآن وإعجازه وينبه على نقص سائر أصناف بلاغة العرب عن تلك المنزلة: (انظر ص 69): «ومعنى عاشر، وهو أنه سهل سبيله فهو خارج عن الوحشي المستكره، والغريب المستنكر وعن الصنعة المتكلفة. وجعله قريبًا إلى الأفهام، يبادر معناه لفظه إلى القلب، ويسابق المعنى عبارته إلى النفس، وهو مع ذلك ممتنع المطلب عسير المتناول، غير مطمع من قربه في نفسه، ولا موهم مع دنوه في موقعه أن يقدر عليه أو يظفر به. فأما الانحطاط عن هذه الرتبة إلى رتبة الكلام المبتذل، والقول المسفسف، فليس يصح أن تقع فيه فصاحة أو بلاغة، فيطلب فيه الممتنع، أو يوضع فيه الإعجاز ولكن لو وضع في وحشي مستكره، أو غمر بوجوه الصنعة، وأطبق بأبواب التعسف والتكلف، لكان لقائل أن يقول فيه ويعتذر أو يعيب ويقرع. ولكنه أوضح مناره وقرب منهاجه، وسهل سبيله، وجعله في ذلك متشابهًا متماثلًا، وبين مع ذلك إعجازهم فيه. وقد علمت أن كلام فصحائهم وشعر بلغائهم لا ينفك في غريب مستنكر، أو وحشي مستكره ومعان مستبعدة، ثم عدولهم إلى كلام مبتذل وضيع لا يوجد دونه في الرتبة، ثم تحولهم إلى كلام معتدل بين الأمرين،
متصرف بين المنزلتين. فمن شاء نظر في قصيدة امرئ القيس: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» ونحن نذكر بعد هذا على التفصيل ما تنصرف إليه هذه القصيدة ونظائرها ومنزلتها من البلاغة، ونذكر وجه فوت نظم القرآن محلها، على وجه يؤخذ باليد ويتناول من كثب ويتصور في النفس كتصور الأشكال، ليتبين ما ادعيناه من الفصاحة العجيبة للقرآن» أ. هـ.
والعجب كل العجب من ابن الباقلاني رحمه الله ينسب امر تفوق القرآن وإعجازه إلى دعوى وحجة من عند نفسه كما يتبادر إلى الذهن من قوله: «ليتبين ما ادعيناه» وإنما مراده -أو ما ينبغي ان يكون هو مراده- أن يقول «ليتبين صحة ما نعتقده، ونؤمن به» . ذلك بأن حجة القرآن في أنه معجز مذكورة في آياته المحكمات، كقوله تعالى:{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس] وقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود]. وقد أقر الكفرة من صناديد ملأ قريش بإعجازه، وحكى المولى سبحانه وتعالى ذلك عنهم في قوله تعالى:{إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر] وفي قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام] وكون القرآن معجزًا بنظمه متضمن في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة] وفي قوله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . النظم يدخل في مدلول التفصيل، ولفظ النظم نفسه غير وارد في القرآن. وقال تعالى:{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} [الكهف]
وقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء] وإنما يكون بعضهم ظهيرًا لبعض وإنما يعين بعضهم بعضًا في هذا المجال لو جسروا على ذلك بتأليف ونظم. وقال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل]. وقال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت] وقال تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود] وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر].
حصر معنى النظم في اللفظ ههنا غير صواب. وأصل النظم من نظم الخرز والعقود والعرب كانت مما تشتبه الكلام الحسن باللؤلؤ المتساقط من سلك النظام كقول أبي حية النميري.
إذا هن ساقطن الحديث كأنه
…
سقاط جني المرجان من كف ناظم
وقال المخبل فشبه تساقط الدمع باللؤلؤ:
وإذا ألم خيالها طرفت
…
عيني فماء شؤونها سجم
كاللؤلؤ المسجور أغفل في
…
سلك النظام فخانه النظم
حصر معنى النظم في جانب سرد الألفاظ وحدها غير صواب في ما نرى؛ لأن القرآن إنما راع العرب وأبلغهم الرسالة السماوية بنمط من أساليب بلاغتهم وبيانهم، ولسانهم ثم باين تلك الأساليب وذلك البيان شعره وترسله وسجعه بنهج قد تفرد به، لا يستطاع مثله، ولا يدرك سبره؛ لأنه معجزة ووحي من الله وتنزيل من
حكيم حميد، إعجازه يخلص إلى القلب خلوصًا. نظمه وبيانه يدخل في حيزه كله، مضمونه، رنة ألفاظه وتتابع تراكيبه ورونق أساليبه وأسرار معانيه وضروب مبانيه من محكم ومتشابه وتنزيله وتأويله وبحور علومه، قال تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} . وعلى هذا الوجه يفسد ما اتجه إليه أبو بكر بن الباقلاني من عقد الموازنة بين نظم القرآن ونظم امرئ القيس وأضرابه. قال تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} ، قال تعالى:{فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور].
وتناول ابن الباقلاني من بعد شعر امرئ القيس، فمما قاله فيه: «فنرجع الآن إلى ما ضمنا، من الكلام على الأشعار المتفق على جودتها وتقدم أصحابها في صناعتهم، ليتبين لك تفاوت أنواع الخطاب وتباعد مواقع البلاغة، وتستدل على موضع البراعة. وأنت لا تشك في جودة شعر امرئ القيس، ولا ترتاب في براعته، ولا تتوقف في فصاحته، وتعلم أنه قد أبدع في طرق الشعر أمورًا اتبع فيها، من ذكر الديار والوقوف عليها، إلى ما يتصل بذلك من البديع الذي أبدعه والتشبيه الذي أحدثه والمليح الذي تجده في شعره والتصرف الكثير الذي تصادفه في قوله، والوجوه التي ينقسم إليها كلامه من صناعة وطبع وسلاسة وعفوٍ، ومتانة ورقة، وأسباب تحمد وأمور تؤثر وتمدح. وقد ترى الأدباء أولًا يوازنون بشعره فلانًا وفلانًا ويضمون أشعارهم إلى شعره، حتى ربما وازنوا بين شعر من لقيناه وبين شعره في أشياء لطيفة، وأمور بديعة، وربما فضلوهم عليه أو سووا بينهم وبينه أو قربوا موضع تقدمه عليهم وبرزوه بين أيديهم، ولما اختاروا قصيدته في السبعيات أضافوا إليها أمثالها، وقرنوا بها نظائرها، ثم تراهم يقولون لفلان لامية مثلها ثم ترى أنفس الشعراء تتشوق إلى معارضته وتساويه في طريقته ثم وربما غبرت في وجهه في أشياء وتقدمت عليه في
أسباب عجيبة». قلت قوله وربما غبرت في وجهه بالغين المعجمة والباء الموحدة التحتية أي ربما سبقته فألقت بغبار سبقها في وجهه ومن الذي لك قول أبي الطيب في القافية:
إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق
…
أراه غبارى ثم قال له الحق
وأراه أخذ عبارته من قوله:
فذكرتهم بالماء وساعة غبرت
…
سماوة كلبٍ في وجوه الحزائق
ثم يقول ابن الباقلاني (وراجع ص 241 - 242 فما بعد وانظر الهامش 5 من ص 160)«وإذا جاءوا إلى تعداد محاسن شعره كان أمرًا محصورًا، وشيئًا معروفًا. أنت تجد من ذلك البديع أو أحسن منه في شعر غيره وتشاهد مثل ذلك البارع في كلام سواه، وتنظر إلى المحدثين كيف توغلوا إلى حيازة المحاسن، منهم من جمع رصانة الكلام إلى سلاسته، ومتانته إلى عذوبته، والإصابة في معناه إلى تحسين بهجته، حتى إن منهم من أن قصر عنه في بعض، تقدم عليه في بعض، وإن وقف دونه في حال، سبقه في أحوال، وإن تشبه به في أمر ساواه في أمور؛ لأن الجنس الذي يرمون إليه، والغرض الذي يتواردون عليه هم مما للآدمي فيه مجال، وللبشرى فيه مثال، فكل يضرب فيه بسهم، ويفوز فيه بقدح، ثم قد تتفاوت السهام تفاوتًا، وتتباين تباينًا، وقد تتقارب تقاربًا، على حسب مشاركتهم في الصنائع ومساهمتهم في الحرف، ونظم القرآن جنس متميز، وأسلوب متخصص» - قلت ليت أبا بكر رحمه الله وقف ههنا، ثم إنه يقول:«وقبيلٌ عن النظير متخلص» وهذا من قوله تعالى: {لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} وفي العبارة تقصير لإثباته النظير وإن منه تخلصنا على أن مراده النفي واضح لا يخفى، ثم قال: «فإن شئت أن تعرف عظم شأنه، فتأمل ما نقوله في هذا
الفصل لامرئ القيس في أجود أشعاره، وما نبين لك من عواره على التفصيل، وذلك قوله:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
…
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها
…
لما نسجتها من جنوب وشمال
الذين يتعصبون له ويدعون محاسن الشعر يقولون هذا من البديع لأنه وقف واستوقف وبكى واستبكى، وذكر العهد والمنزل والحبيب، وتوجع واسترجع، كله في بيت ونحو ذلك. وإنما بينا هذا لئلا يقع لك ذهابنا عن موضع المحاسن، إن كانت ولا غفلتنا عن مواضع الصناعة إن وجدت. تأمل، أرشدك الله، وانظر، هداك الله، أنت تعلم أنه ليس في البيتين شيء قد سبق في ميدانه شاعرًا، ولا تقدم به صانعًا وفي لفظه ومعناه خلل، فأول ذلك أنه استوقف من يبكي، لذكر الحبيب، وذكراه لا تقتضي بكاء الخلي، وإنما يصح طلب الإسعاد في مثل هذا على أن يبكي لبكائه ويرق لصديقه في شدة برحائه فإما أن يبكي على حبيب صديقه وعشيق رفيقه فأمرٌ محال. فإن كان المطلوب وقوفه وبكاؤه أيضًا عاشقًا صح الكلام من وجه وفسد المعنى من وجه آخر؛ لأنه من السخف أن لا يغار على حبيبه، وأن يدعو غيره إلى التغازل عليه والتواجد معه فيه ثم في البيتين ما لا يفيد من ذكر هذه المواضع وتسمية هذه الأماكن من الدخول وحومل وتوضح والمقراة وسقط اللوى وقد كان يكفيه أن يذكر في التعريف بعض هذا وهذا التطويل إذا لم يفد كان ضربًا من العي، ثم إن قوله لم يعف رسمها، ذكر الأصمعي من محاسنه أنه باق فنحن نحزن على مشاهدته فلو عفا لاسترحنا وهذا بأن يكون من مساويه أولى لأنه إذا كان صادق الود فلا يزيده عفاء الرسوم، إلا جدة عهد وشدة وجد وإنما فزع الأصمعي إلى إفادته هذه الفائدة خشية ان يعاب عليه فيقال أي فائدة لأن يعرفنا أنه لم يعف رسم منازل حبيبة وأي معنى لهذا الحشو فذكر ما يمكن أن يذكر ولكن لم يخلصه بانتصاره له من الخلل ثم في هذه
الكلمة خلل آخر لأنه عقب البيت بأن قال: «فهل عند رسم دارس من معول» ذكر أبو عبيدة أنه رجع فأكذب نفسه كما قال زهير:
قف بالديار التي لم يعفها القدم
…
بلى وغيرها الأرواح والديم
وقال غيره أراد بالبيت الأول أنه لم ينطمس أثره كله وبالثاني أنه ذهب بعضه حتى لا يتناقض الكلامان. وليس في هذا انتصار؛ لأن معنى عفا ودرس واحد فإذا قال لم يعف رسمها ثم قال قد عفا فهو تناقض لا محالة واعتذار أبي عبيدة أقرب لو صح، ولكن لم يرد هذا القول مورد الاستدراك كما قاله زهير فهو إلى خلل أقرب. وقوله لما نسجتها كان ينبغي أن يقول، لما نسجها، ولكنه تعسف فجعل ما في تأويل تأنيث لأنها في معنى الريح والأولى التذكير دون التأنيث وضرورة الشعر قد قادته إلى هذا التعسف وقوله لم يعف رسمها كان الأولى أن يقول لم يعف رسمه لأنه ذكر المنزل فإن كان رد ذلك إلى هذه البقاع والأماكن التي المنزل واقع بينها فذلك خلل لأنه إنما يريد صفة المنزل الذي نزله حبيبه بعفائه أو بأنه لم يعف دون ما جاوره. وإن أراد بالمنزل الدار حتى أنث فذلك أيضًا خلل ولو سلم من هذا كله ومما نكره ذكره كراهية التطويل لم نشك أن شعر أهل زماننا لا يقصر على البيتين بل يزيد عليهما ويفضلهما. ثم قال:
وقوفًا بها صحبي على مطيهم
…
يقولون لا تهلك أسًى وتجمل
وإن شفائي عبرة مهراقة
…
فهل عند رسم دارس من معول
وليس في البيتين أيضًا معنى بديع ولا لفظ حسن كالأولين والبيت الأول منهما متعلق بقوله قفا نبك، فكأنه قال: قفا وقوف صحبي بها على مطيهم أو قال حال وقوف صحبي وقوله بها متأخر في المعنى وإن تقدم في اللفظ ففي ذلك تكلف وخروج عن اعتدال الكلام. والبيت الثاني مختل من جهة أنه قد جعل الدمع في اعتقاده
شافيًّا كافيًّا فما حاجته بعد ذلك إلى طلب حيلة أخرى وتجمل ومعول عند الرسوم؟ ولو أراد أن يحسن الكلام لوجب أن يدل على أن الدمع لا يشفيه لشدة ما به من الحزن، ثم يسائل: هل عند الربع من حيلة أخرى؟ وقوله:
كدأبك من أمم الحويرث قبلها
…
وجارتها أم الرباب بمأسل
إذا قامتا تضوع المسيك منهما
…
نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
أنت لا تشك في البيت الأول قليل الفائدة، ليس له مع ذلك بهجة فقد يكون الكلام مصنوع اللفظ، وإن كان منزوع المعنى، وأما البيت الثاني فوجه التكلف فيه قوله:«إذا قامتا تضوع المسك منها» ولو أراد أن يجود أفاد أن بهما طيبًا على كل حال، فإما في حال القيام فقط، فذلك تقصير. ثم فيه خلل آخر؛ لأنه بعد أن شبه عرفهما بالمسك، شبه ذلك بنسيم القرنفل، وذكر ذلك بعد ذكر المسك نقص. وقوله نسيم الصبا في تقدير المنقطع عن المصراع الأول لم يصله به وصل مثله. وقوله:
ففاضت دموع العين مني صبابة
…
على النحر حتى بل دمعي محملي
ألا رب يوم لك منهن صالح
…
ولا سيما يوم بدارة جلجل
قوله: «ففاضت دموع العين» ثم استعانته بمني استعانة ضعيفة عند المتأخرين في الصنعة وهو حشو غير مليح ولا بديع. وقوله على النحر، حشو آخر لأن قوله حتى بل دمعي محملي، إعادة ذكره الدمع خشو آخر، وكان يكفيه أن يقول حتى بلت محملي، فاحتاج لإقامة الوزن إلى هذا كله. ثم تقدير أنه قد أفرط في إفاضة الدمع حتى بل محمله تفريط منه وتقصير، ولو كان أبدع لكان يقول: حتى بل دمعي مغانيهم وعراصهم ويشبه أن يكون غرضه إقامة الوزن والقافية؛ لأن الدمع يبعد أن يبل المحمل، وإنما يقطر من الواقف والقاعد على الأرض أو على الذيل وإن بله فلقلته وأنه لا يقطر. وأنت تلد في شعر الخبزرزي ما هو أحسن من هذا البيت وأمتن
وأعجب منه. والبيت الثاني خال من المحاسن والبديع خاو من المعنى وليس المعنى له لفظ يروق ولا معنى يروع من طباع السوقة فلا يرعك تهويله باسم موضع غريب. وقال:
ويوم عقرت للعذارى مطيتي
…
فيا عجبًا من رحلها المتحمل
فظل العذارى يرتمين بلحمها
…
وشحم كهداب الدمقس المفتل
تقديره أذكر يوم عقرت مطيتي أو يرده على قوله: «يوم بدارة جلجل» وليس في المصراع الأول من هذا البيت إلا سفاهته قال بعض الأدباء: قوله يا عجبًا، يعجبهم من سفهه في شبابه من نحره ناقته لهن وإنما أراد أن لا يكون الكلام من هذا المصراع منقطعًا عن الأول، وأراد أن يكون الكلام ملائمًا له، وهذا الذي ذكره بعيد وهو منقطع عن الأول، وظاهره أن يتعجب من تحمل العذارى رحله، ولا في هذا تعجب كبير، ولا في نحر الناقة لهن تعجب. وإن كان يعني بهن أنهن حملهن رحله، وأن بعضهن حملته، فعبر عن نفسه برحله، فهذا قليلًا يشبه أن يكون عجبًا، ولكن الكلام لا يدل عليه، ويتجافى عنه، ولو سلم البيت من العيب لم يكن فيه شيء غريب، ولا معنى بديع أكثر من سفاهته مع قلة معناه وتقارب أمره ومشاكلته طبع المتأخرين من أهل زماننا وإلى هذا الموضع لم يمر له بيت رائع وكلام رائق.
وأما البيت الثاني فيعدونه حسنًا ويعدون التشبيه مليحًا واقعًا وفيه شيء وذلك أنه عرف اللحم ونكر الشحم فلا يعلم أنه وصف شحمها وذكر تشبيه أحدهما بشيء واقع للعامة ويجري على ألسنتهم وعجز عن تشبيه القسمة الأولى فمرت مرسلة وهذا نقص في الصنعة وعجز عن إعطاء الكلام حقه. وفيه شيء آخر من جهة المعنى وهو أنه وصف طعامه الذي أطعم من أضاف بالجودة وهذا قد يعاب وقد يقال إن العرب تفتخر بذلك ولا يرونه عيبًا وإنما الفرس هم الذين يرون هذا عيبًا شنيعًا. وأما تشبيه الشحم بالدمقس فشيء يقع للعامة ويجري على ألسنتهم فليس
بشيء قد سبق إليه، وإنما زاد المفتل للقافية وهذا مفيد ومع ذلك فلست أعلم العامة تذكر هذه الزيادة ولم يعد أهل الصنعة ذلك من البديع ورأوه قريبًا. وفيه شيء آخر من جهة المعنى وهو أن تبجحه بما للأحباب مذموم وإن سومح التبجح بما أطعم للأضياف إلا أن يورد الكلام مورد المجون وعلى طريق أبي نواس في المزاح والمداعبة. وقوله:
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة
…
فقالت لك الويلات إنك مرجلي
تقول وقد مال الغبيط بنا معًا
…
عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
قوله: «دخلت الخدر خدر عنيزة» ذكره تكريرًا لإقامة الوزن، لا فائدة فيه غيره ولا ملاحة ولا رونق. وقوله في المصراع الأخير من هذا البيت «فقال لك الويلات إنك مرجلي» كلام مؤنث من كلام النساء مقله من جهته إلى شعره وليس فيه غير هذا. وتكريره بعد ذلك:«تقول وقد مال الغبيط» يعني قتب الهودج بعد قوله: «فقالت لك الويلات إنك مرجلي» لا فائدة فيه غير تقدير الوزن وإلا فحكاية قولها الأول كافٍ وهو في النظم قبيح لأنه ذكر مرة «فقالت» ومرة «تقول» في معنى واحد وفصل خفيف. وفي مصراع الثاني: تأنيث من كلامهن. وذكر أبو عبيدة أنه قال عقرت بعيري ولم يقل ناقتي لأنهم يحملون النساء على ذكور الإبل لأنها أقوى، وفي ذلك نظر؛ لأن الأظهر أن البعير اسم للذكر والأنثى واحتاج إلى ذكر البعير لإقامة الوزن.
ومضى ابن الباقلاني على هذا المنهج، لم يكد يسلم به بيت من المعلقة أنه جيد، ثم قال بعد أن طول وأثقل: «ولست أطول عليك فتستثقل ولا أكثر القول في ذمه فتستوحش وأكلك إلى جملة من القول فإن كانت من أهل الصنعة فطنت واكتفيت وعرفت ما رمينا إليه واستغنيت وإن كنت عن الطبقة خارجًا وعن الاتقان بهذا الشأن خاليًّا فلا يكفيك البيان وإن استقرينا جميع شعره وتتبعنا عامة ألفاظه
ودللنا على ما في كل حرف منه. اعلم أن هذه القصيدة قد ترددت بين أبيات سوقية مبتذلة وأبيات متوسطة وأبيات ضعيفة مرذولة وأبيات وحشية غامضة مستكرهة وأبيات معدودة بديعة».
ثم أخذ بعد كلمات في ذكر هذه الأبيات المعدودة البديعة فقال: (ص 274) «فأما الذي زعموا انه من بديع هذا الشعر فهو قوله:
ويضحى فتيت المسك فوق فراشها
…
نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
والمصراع الأخير عندهم بديع ومعنى ذلك أنها مترفة متنعمة لها من يكفيها ومعنى قوله لم «تنتطق عن تفضل» يقول لم تنتطق وهي فضل وعن هي بمعنى بعد قال أبو عبيدة لم تنتطق فتعمل ولكنها تتفضل. ومما يعدونه من محاسنها:
وليل كموج البحر أرخى سدوله
…
علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه
…
وأردف أعجازًا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل
…
بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثل
وكان بعضهم يعارض هذا بقول النابغة:
كليني لهم يا أميمة ناصب
…
وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب
وصدرٍ أراح الليل عازب همه
…
تضاعف فيه الهم من كل جانب
تقاعس حتى قلت ليس بمنقض
…
وليس الذي تبلو النجوم بآيب
وقد جرى ذلك بين يدي بعض الخلفاء، فقدمت أبيات امرئ القيس واستحسنت استعارتها وقد جعل لليل صدرًا يثقل تنحيه ويبطئ تقضيه وجعل له أردافًا كثيرة وجعل له صلبًا يمتد ويتطاول ورأوا هذا بخلاف ما يستعيره أبو تمام من الاستعارات الوحشية البعيدة المستنكرة ورأوا أن الألفاظ جميلة. واعلم أن هذا
صالح جميل وليس من الباب الذي يقال إنه متناه عجيب، وفيه إلمام بالتكلف ودخول في التعمل.
وقد خرجوا له في البديع من القصيدة قوله:
وقد اغتدى والطير في وكناتها
…
بمنجرد قيد الأوابد هيكل
مكرًّ مفرًّ مقبلٍ مدبرٍ معا
…
كجلمود صخرٍ حطه السيل من عل
وقوله أيضًا:
له أيطلا ظبيٍّ وساقا نعامةٍ
…
وارخاء سرحانٍ وتقريب تتفل
فأما قوله «قيد الأوابد» فهو مليح ومثله في كلام الشعراء وأهل زماننا الآن يصنفون نحو هذا تصنيفًا ويؤلفون المحاسن تأليفًا ثم يوشحون به كلامهم، والذين كانوا من قبل -لغزارتهم وتمكنهم- لم يكونوا يتصنعون لذلك، إنما كان يتفق لهم اتفاقًا ويطرد في كلامهم اطرادًا. وأما قوله في وصفه:«مكر مفر» فقد جمع فيه طباقًا وتشبيهًا- وفي سرعة جري الفرس للشعراء ما هو أحسن من هذا وألطف. وكذلك في جمعه بين أربعة وجوه من التشبيه في بيت واحد صنعة ولكن قد عورض فيه وزوحم عليه والتوصل إليه يسير وتطلبه سهل قريب. وقد بينا لك أن هذه القصيدة ونظائرها تتفاوت أبياتها تفاوتًا بينًا في الجودة والرداءة والسلاسة والانعقاد والسلامة والانحلال»
…
ثم قال آخر الأمر: «وكنا أردنا أن نتصرف في قصائد مشهورة فنتكلم عليها وندل على معانيها ومحاسنها ونذكر لك من فضائلها ونقائصها ونبسط لك القول في هذا الجنس ونفتح عليك في هذا النهج ثم رأينا هذا خارجًا عن غرض كتابنا والكلام فيه يتصل بنقد الشعر وعياره ووزنه بميزانه ومعياره ولذلك كتب وإن لم تكن مستوفاة وتصانيف وإن لم تكن مستقصاة. وهذا القدر يكفي في كتابنا ولم نحب أن ننسخ لك ما سطره الأدباء في خطأ امرئ القيس في العروض والنحو والمعاني وما عابوه عليه في أشعاره وتكلموا به على ديوانه لأن ذلك أيضًا
خارج عن غرض كتابنا ومجانب لمقصوده، وإنما أردنا أن نبين الجملة التي بيناها لتعرف أن طريقة الشعر شريعة مورودة ومنزلة مشهودة يأخذ منها أصحابها على مقادير أسبابهم ويتناول منها ذووها على حسب أحوالهم. وأنت تجد للمتقدم معنى قد طمسه المتأخر بما أبر عليه فيه وتجد للمتأخر معنى قد أغفله المتقدم وتجد معنى قد توافد عليه وتوافيا إليه فهما فيه شريكا عنان وكأنهما فيه رضيعا لبان والله يؤتي فضله من يشاء فإما نهج القرآن ونظمه وتأليفه ورصفه فإن العقول تتيه في جهته وتحار في بحره وتضل دون وصفه.
ونحن نذكر لك في تفصيل هنا ما تستدل به على الغرض إلخ. أ. هـ».
ونقول لله در أبي الطيب حيث قال:
وفي تعب من يحسد الشمس ضوءها
…
ويجهد أن يأتي لها بضريب
فزعم الباقلاني أن تشبيه الشحم بالدمقس من كلام العامة جدلٌ ومكابرة إذ كلام امرئ القيس أصل ثم شاع التشبيه ولا يعيب قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} ، أن العوام تتمثل به ولا نقول مع أبي الطيب في ابن الباقلاني:
وكم من عائب قولًا صحيحًا
…
وآفته من الفهم السقيم
فالشواهد على فهم ابن الباقلاني لا تخفى، ولذلك ما لقبه خصمه بالشيطان (راجع مقدمة الأستاذ صقر ص 74) ووصف محقق الإعجاز نقده لامرئ القيس والبحتري بالروعة والبراعة لولا ما كدره وشأنه من التحامل. لا جرم كان ابن الباقلاني من أئمة الكلام والجدل ومع ذلك فرط المراء والسفسطة، ووصفه بالتحامل والتجني فيه إغضاء عن باطله مما يقدح في حاق الأمانة الفكرية. ولقد كان الجاحظ ممن فتقوا للناس أكمام علم الكلام، ووضعوا لأهل الأدب والكتابة النموذج الذي يحتذى وتكلموا في الإعجاز بما صار هو المذهب والصراط لأهل علم
البلاغة ودراسات الإعجاز من بعدهم، وما ورد من كلامه في هذا المضمار من كتابه الحيوان وحده شاف وهو قطرة من بحر كتابه في النظم القرآني (الذي لم يصلنا حتى الآن) وإن الباقلاني قد أخذ منه الخلاصة والزبدة التي رتب عليها كتابه، ومع ذلك لم يتورع هو أن يقول في أوائل كتابه بعدما جزم بتقصير من تكلموا عن معاني القرآن من أجل إهمالهم بيان أمر معجزته، عن الجاحظ، ولم يعترف له بفضيلة في هذا المضمار «وقد صنف الجاحظ في نظم القرآن كتابًا لم يزد فيه على ما قاله المتكلمون ولم يكشف عما يلتبس في أكثر هذا المعنى» فنقض ما قدمه من أن المتكلمين لم يهتموا بهذا الباب حيث نسب إلى الجاحظ أنه لم يعد ما قالوه، ولقد نعلم، فيما نقل إلينا من الأخبار أن كتاب نظم القرآن للجاحظ قد سئلت عنه الأفواج في موسم الحج بمكة لشدة الحرص ممن سأل على اقتنائه. ثم قال عن الجاحظ وهو إمام الأدب والبليغ الذي لا يجاري (ص 247): «وكذلك قد يزعم زاعمون أن كلام الجاحظ من السمت الذي لا يؤخذ فيه والباب الذي لا يذهب عنه، وأنت تجد قومًا يرون كلامه قريبًا. ومنهاجه معيبًا ونطاق قوله ضيقًا حتى يستعين بكلام غيره ويفزع إلى ما يوشح به كلامه من بيت سائر ومثل نادر وحكمة ممهدة منقولة وقصة عجيبة مأثورة وأما كلامه في أثناء ذلك فسطور قليلة وألفاظه يسيرة، فإذا أحوج إلى تطويل الكلام خاليًّا من شيء يستعين به، فيخلط بقوله من قول غيره، كان كلامًا ككلام غيره، فإن أردت أن تحقق هذا فانظر في كتبه في نظم القرآن وفي الرد على النصارى وفي خبر الواحد وغير ذلك مما يجري هذا المجرى، هل تجد في ذلك كله ورقة واحدة تشتمل على نظم بديع أو كلام مليح. على أن متأخري الكتاب قد نازعوه في طريقته وجاذبوه على منهجه فمنهم من ساواه حين ساماه ومنهم من أبر عليه إذ باراه. هذا أبو الفضل ابن العميد قد سلك مسلكه وأخذ طريقه فلم يقصر عنه ولعله قد بان تقدمه عليه لأنه يأخذ في الرسالة الطويلة فيستوفيها على حدود مذهبه ويكملها على شروط صنعته ولا يقتصر على أن يأتي
بالأسطر من نحو كلامه كما ترى الجاحظ يفعله في كتبه، متى ذكر سطرًا، أتبعه من كلام الناس أوراقًا، وإذا ذكر منه صفحة بنى عليه من قول غيره كتابًا» أ. هـ. وقد كان ابن العميد في زمانه وزيرًا لآل بويه كملك، يمدح ويرجى ويتقى ويتملقه المعاشر ويتملقون ابنه ومن إليه، من هؤلاء المتملقين بلا ريب أبو بكر بن الباقلاني، وقد قال القائلون، أغلب الظن قبل ذلك في زمان ابن العميد نفسه:«بدئت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد» وقد بقى ذكر كلا هذين على الزمن ضامرًا ضئيلًا، على ما لا ينكر من فضيلة عبد الحميد وسبقه وتمهيده السبل لمن بعده، وذكر الجاحظ يربو ويزداد منذ أول عهده في القرن الثاني من الهجرة إلى الآن، ولم يكن ملكًا ولا وزيرًا لملك ولا وزيرًا لوزير ملك، ولو لم يبق من تصانيفه إلا صفحات من بخلائه لدل ذلك على تبريزه فكيف وما بقي من آثاره بحمد الله مقدار عظيم. ومما يدلك على أن ابن العميد قد كان في زمانه ملكًا أو كملك قول أبي الطيب:
عند من لا يقاس كسرى أنو شر
…
وإن ملكًا به ولا أولاده
عربي لسانه فلسفي
…
رأيه فارسية أعياده
وعلى ذكر أبي الطيب فإن ابن الباقلاني يعيب على الجاحظ ما زعمه من استعانته بكلام غيره، وكان الجاحظ متى صنع ذلك نص على أنه كلام غيره ولم ينتحله لنفسه كالذي صنع ابن الباقلاني حيث قال:«لتعرف أن طريقة الشعر شريعة مورودة ومنزلة مشهودة يأخذ أصحابها على مقادير أسبابهم ويتناول منها ذووها على حسب أحوالهم» فهذا هو قول أبي الطيب:
وكم من عائب قولًا صحيحًا
…
وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الألباب منه
…
على قدر القرائح والفهوم
وتأمل قوله «فهما شريكا عنان وكأنهما فيه رضيعا لبان» - فهذا من قول
الأعشى «رضيعا لبان ثدي أم البيت» فهل هذا يصح أن يجعل مطعنًا على الأعشى كما جعل هو قول العامة شحم كالدمقس مطعنًا على امرئ القيس، واحتاج ابن الباقلاني إلى الجاحظ في بعض مساق حججه فقال:«وذكر الجاحظ في البيان والتبيين أن الفارسي سئل فقيل له ما البلاغة؟ فقال معرفة الفصل من الوصل، وسئل اليوناني عنها فقال تصحيح الأقسام إلى آخر ما ساقه من كلامه» (ص 126 - 127) وكأنه احترس بجعل هذا رواية من الجاحظ لأقوال غيره عما قدمه في أول كتابه من قلة الاكتراث به وفي آخره من الإزراء بقدره ونسبة الجودة عنده إلى ما يستشهد به. فتأمل، ولعمرك إن فرط الإعجاب بالمراء لمن باب الغرور وبعض سقم الفهم الذي عابه أبو الطيب. ولقد قال ابن الباقلاني في احتجاجه لقوة ما أخذ به من أمر الدفاع عن إعجاز القرآن (ص 125):«ولكل عملٍ رجال، ولكل صنعة ناس، وفي كل فرقة الجاهل والعالم والمتوسط، ولكن قد قل من يميز هذا الفن خاصة؛ لأنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر العهد والمنزل والحبيب وتوجع واسترجع كله في بيت ونحو ذلك وإنما بينا ذلك لئلا يقع لك ذهابنا عن موقع المحاسن إلخ» فلئن كان حقًّا ذا علم بموضع المحاسن إذا لأعرض عما قاله من بعد ولو على سبيل إلا يناقض نفسه. ولم يختلف علماء الشعر أن هذا البيت من المطالع الحسنة. قال ابن رشيق ملخصًا لآراء الأوائل وكان ابن الباقلاني بذلك له علم وعنده منه نبأ -أعني كلام الأوائل لا كلام ابن رشيق فهو بعد زمانه كما لا يخفى وإنما يستشهد به لشموله ووفائه بالغرض (ص 218 من العمدة تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد رحمه الله، الطبعة الرابعة، بيروت 1977): «فقد اختار الناس كثيرًا من الابتداءات أذكر منها ههنا ما أمكن ليستدل به نحو قول امرئ القيس قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل وهو عندهم أفضل ابتداء صنعه شاعر لأنه وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب
والمنزل في مصراع واحد. أ. هـ.». والدعاوي التي ادعاها أبو بكر باطلة «فقفا» هنا يجوز أن يكون عني بها نفسه وسامع شعره المتوهم ويجوز أن يكون عني نفسه وحبيبه ليبكيا هما معًا على ذكر الهوى المتصرم والمنزل الذي بان ويجوز أن يكون عني نفسه لا سواها وإذ خاطب نفسه فقد جرد منها شخصًا آخر فصارا شخصين ويقوي هذا قوله من بعد: «وقوفًا بها صحبي» فقد جعله أبو بكر متصلًا بقفا مفعولًا مطلقًا، ليس الأمر كذلك بدليل أن ههنا خطابًا لاثنين على زعمه فكيف صاروا جماعة في قوله «صحبي» وإنما هو كلام منقطع مما قبله في سياق النحو متصل في المعنى وهو من كلامهم، قال طرفة:
وقوفًا بها صحبي على مطيهم
…
يقولون لا تهلك أسى وتجلد
أي اذكر عهد إذ صحبي بها وقوف، وليس بعيدًا ههنا أن تجعل في باب النحو وقوفًا بمعنى وقفوا وقوفًا- فتكون صحبي فاعلًا لمعنى الفعل المتضمن في «وقوفًا» وعلى قريب من هذا الوجه أعربوا بيت الفرزدق:
على حلفة لا أشتم الدهر مسلما
…
ولا خارجًا من في زور كلام
أي لا يخرج من في زور كلام. ويجوز أن يكون قوله قفا نبك أي أنا أقف من ذكرى الحبيب وأنت تقف من ذكرى الديار- اتساع معنى هذا البيت هو الذي يجعله شعرًا من النسق العالي. وقول أبي بكر «ثم في البيتين ما لا يفيد من ذكر هذه المواقع» بعد أن أثبت أن ذكر الديار من المحاسن وأن ذلك كان للعرب مذهبًا ينبغي أن يحمل على المغالطة والتناقض وإما على الشعوبية، وعسى أن يكون لهذا المطعن في أبي بكر وجه وقد قال به التوحيدي في كتاب الإعجاز ما يقويه، كأنه يطعن على العرب من طرف خفي، وقد رأيت حين استشهد بكلام من كلام الجاحظ صدره بتقديم آراء الفرس في البلاغة وذلك قوله الذي قدمنا ذكره حيث قال «وذكر الجاحظ في البيان والتبيين إن سئل فقيل له ما البلاغة فقال معرفة الفصل من
الوصل» وقد كان أبو بكر يخدم عضد الدولة الأمير البويهي ممدوح أبي الطيب وكان عضد الدولة شيعيًّا واستقدم في ما ذكروا أبي بكر لكي لا يكون مجلسه خاليًّا من أهل السنة (راجع مقدمة السيد صقر 22 - 23) فقدم عليه مخالفًا في ذلك شيخه وطاعنًا من طرف خفي على ابن حنبل ورجالات عصره الذين تحرجوا عن خدمة المأمون لاعتزاله- وهذا من مذهب الانتهاز معروف فتأمل. ولعل طعن ابن الباقلاني على الجاحظ من باب التقرب إلى الشعوبية لأن الجاحظ قد قارع الشعوبية وسخر منهم.
ومن عجيب مطعن ابن الباقلاني على امرئ القيس إنكاره تأنيث لما نسجتها وإنما تعلم أبو بكر النحو من النحاة وهؤلاء تعلموه من شعر امرئ القيس وكلام الأوائل وشواهد القرآن- وقد مر قوله «لم يعف رسمها» فقوله «لما نسجتها» به أشبه وله أوفق. ولو قال «لما نسجها» لكان في مكان يصلح له ذلك وجهه ولا معنى لتحجير الواسع مع الذي قدمنا ذكره من أن التأنيث ههنا أوجه وأصوب. وفي كتاب الله: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} والتذكير هنا أقوى من التأنيث ومن سار على ظاهر كلام أبي بكر أوجب التأنيث ههنا. والتعدي على الأصول بالفروع جهل وفساد في الرأي. وما صح أنه عربي قديم فهو أصلي وشاهد ويبنى عليه ويقاس- وقس على ذلك كل ما زعمه أبو بكر خطأ في النحو أو العروض من منهج امرئ القيس ولله در المعري حيث قال في رسالة الغفران (ص 315 - 317): «فأخبرني عن كلمتك الصادية والضادية والنونية التي أولها:
لمن طلل أبصرته فشجاني
…
كخط زبور في عسيب يمان
لقد جئت فيها بأشياء ينكرها السمع كقولك:
فإن أمس مكروبًا فيا رب غارة
…
شهدت على أقب رخو اللبان
وكذلك قولك في الكلمة الصادية:
على نقنقٍ هيقٍ له ولعرسه
…
بمنقطع الوعساء بيض رصيص
وقولك:
فأسقي به أختي ضعيفة إذ نأت
…
وإذ بع المزدار غير القريض
في أشباهٍ لذلك، هل كانت غرائزكم لا تحس بهذه الزيادة؟ أم كنتم مطبوعين على إتيان مغامض الكلام وأنتم عالمون بما يقع فيه؟ كما أنه لا ريب أن زهيرًا كان يعرف مكان الزحاف في قوله:
يطلب شأو امرأين قدما حسنا
…
نالا الملوك وبذا هذه السوقا
فإن الغرائز تحسن بهذه المواضع فتبارك الله أحسن الخالقين. فيقول امرئ القيس: أدركنا الأولين من العرب لا يحفلون بمجيئ ذلك، ولا أدري ما شجن عنه فأما أنا وطبقتي فكنا نمر في البيت حتى نأتي إلى آخره فإذا فني أو قارب تبين أمره للسامع»
…
ويسأل ابن القارح امرأ القيس قائلًا: «أخبرني عن قولك» :
ألا رب يوم لك منهن صالح
…
ولا سيما يوم بدارة جلجل
أتنشده لك منهن صالح، فتزاحف الكف أم تنشده على الرواية الأخرى
…
قلت يعني «صالح لك منهما»
…
فيجيب امرؤ القيس أو كما قال أبو العلاء (ص 318): «فيقول امرؤ القيس أما أنا فما قلت في الجاهلية إلا بزحاف: لك منهن صالح، وأما المعلمون في الإسلام فغيروه على حسب ما يريدون، ولا بأس بالوجه الذي اختاروه» . أ. هـ. مع ما قرت عليه أذواق عصره العباسي من الفور من زحافات القدماء ترى أبا العلاء ههنا قد جعل مذهبهم أصلًا. وهو كذلك، وهذا هو الصواب. وقد جعل كلا الشيخين الكسائي وسيبويه؟ امرئ القيس:
سريت بهم حتى تكل مطيهم
…
وحتى الجياد ما يقدن بأرسان
بنصب «تكل» ومجيء جملة المبتدأ بعد حتى في عجز البيت من الأصول التي تفرع عنها كلتا المدرستين البصرية والكوفية قواعد النحو التي في باب حتى (انظر معاني القرآن للفراء عند آية البقرة (وزلزلوا حتى يقول الرسول) بقراءتي نافع وسائر القراء السبعة والعشرة وقد جعل الفراء الرفع من قراءة مجاهد) وهذا الباب واضح خطأ أبي بكر وتخطيه حدوده فيه لا يخفى. وكذلك قوله في:
ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة
وقد أخذه عليه الأستاذ صقر (ص 92)«ذكره تكريرًا لإقامة الوزن» ولا دليل على هذا إذ يجوز أن يكون الذي دعا إلى التكرير التلذذ وغير ذلك من الدواعي البلاغية وأبو بكر من أهل الكلام فكان ينبغي عليه أن يحترز فلا يجزم بشيء قبل أن يستوثق من أن غيره يجوز أن يكون هو المراد. على أن إقامة الوزن ليست مما كان يعسر مثله على الشاعر لو كان ذلك هو أربه لا سواه- كأن يقول ويوم دخلت الخدر عند عنيزة أو جنب عنيزة. وكأن ابن الباقلاني لما نزه القرآن عن أن يقال موزون كالشعر أو مسجوع كالسجع خيل إليه أن الوزن موقع في التكلف لا محالة وأنه من حيث هو وزن مخرج صاحبه عن تمام البلاغة وهذا ما لم يقل به ولا يقول به أحد إلا على وجه شعوبي يراد به الطعن في مذاهب العربية وقد سخر ابن الباقلاني من تمدح العرب بالكرم وزعم أن الفرس لا يفعلون ذلك حين أنكر على امرئ القيس أنه قال:
ويوم عقرت للعذارى مطيتي
…
فيا عجبا من كورها المتحمل
وفي كتاب الله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ} الآية فههنا تكرار، وقال تعالى:{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} فعلى مذهب الباقلاني الفاسد في نقده امرأ القيس في بيت
عنيزة وفي غيره كان ينبغي أن يقال -ومعاذ الله من ذلك- نبذ كتاب الله فريقٌ من الذين أوتوه وراء ظهورهم. ولأمر ما اتهم ابن حزم ابن الباقلاني بأمر من الزندقة ونستبعد ذلك، وقد كان أبو بكر مالكيًّا وخدم أميرًا شيعيًّا وكان ابن حزم ظاهريًّا وأكثر أهل الأندلس مالكية ومنهم من كان عليه شديد النكير، فعل بغضه للمالكية هو الذي حمله على ما قال والله أعلم.
ويعجبني قول المعري في سقط الزند:
والمالكي ابن نصرٍ زارٍ في سفرٍ
…
بلادنا فحمدنا النأي والسفرا
إذا تكلم أحيا مالكًا جدلًا
…
وينشر الملك الضليل إن شعرا
والمالكي ابن نصر هو القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن نصر وتعلم الكلام والجدل من ابن الباقلاني فتجاوزه المعري إلى مالك تكريمًا له أن ينسبه إلى أبي بكر وما أحسب الذي ذكره السيد صقر في رقم (ص 28) إلا هو عينه الذي أشار إليه عياض رضي الله عنه في رقم 11 ص 41 إلا أن يكون هذا أحدث عهدًا من زمان المعري وأدنى إلى زمان صاحب الشفا ومعاصرة ابن نصر المالكي لأبي العلاء كما ترى من شعره.
وقد تقدم ذكرنا إعجاب المعري ببيت الغبيط وقوله:
استعجم العرب في الموامي
…
بعدك واستعرب النبيط
وقد كتب ابن الباقلاني إعجازه والمعري حي يرزق عظيم النشاط في ميادين الأدب. وما أرى إلا أنه قد رماه بسهم في هذا البيت، في قوله:«واستعرب النبيط» وإنكار ابن الباقلاني على أبي عبيدة قوله في البعير والناقة عجب.
قال المثقب:
تسد بدائم الخطران جثلٍ
…
خواية فرج مقلات دهين
فهذه ناقة أنثى لا ذكر. وقال طرفة:
تربعت القفين في الشول ترتعي
…
حدائق مولي الأسرة أغيد
فهذه أنثى لا ذكر. وكان الأمر كما قال أبو عبيدة، أكثر ما يصف الشعراء من رواحلهم هم الإناث وجاء ذكر البعير الذكر قليلًا. وجعلوا الذكران من الإبل مراكب النساء إذ الغالب عليها إن ظهورها اوطأ وإنها أقوى، والشاعر إذا أخذ في باب الجد لم يكن من الملائم لذلك أن يجعل مركبه وطيئًا- ولكن هذا قد صار من بعد للمولدين مذهبًا، وله من مذهب إظهار جودة الراحلة وجه وعليه من مقال القدماء قول المنخل:
وأحبها وتحبني
…
ويحب ناقتها بعيري
إلا أن يكون أراد الناقة التي أكني بها عنها، البعير الذي أكني به عن نفسي وقال ربيعة بن مقروم:
وماءٍ آجن الجمات فقرٍ
…
تعقم في جوانبه السباع
تعقم أي تذهب وتجيء في قول أبي عكرمة وتتخبث وتتشدد في قول أحمد بن عبيد بن ناصح والقولان للمتأمل واحد لأن المكان الذي تذهب السباع فيه وتجيء من أخبث مكان ما دامت هي هكذا فيه:
وردت وقد تهورت الثريا
…
وتحت وليتي وهمٌ وساع
جلالٌ مائر الضبعين يخدي
…
على يسرات ملزوزٍ سراع
بضم السين نعت للبعير الجلال أي الضخم الموار الذراعين والوهم العظيم الجرم والوساع الواسع الخطو. ومراد ربيعة في استجادة الدابة هنا واضح. وقول أبي بكر أن البعير يطلق على الأنثى والذكر، في هذا الموضع ليس بشيء وقد ذكر المفسرون
فيما ذكروه أن البعير ربما أريد به الحمار وحمل بعضهم عليه قول المولى سبحانه وتعالى في خبر يوسف عليه السلام: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} وقد مر بك خبر وصف حميد بن ثور لبعير محبوبته. وما ذكر مؤرخ أن أم قرفة لم خرجت في أهل الردة كانت على ناقة. ولا ذكروا في خبر أم المؤمنين رضي الله عنها أنها كانت يوم الجمل على ناقة، فهذا بيان واضح لما ذكره أبو عبيدة وقد كان بلغة العرب وبمذاهبهم أعرف وعنه يؤخذ، فالإنكار الذي أنكره عليه بلا دليل من رواية أو دراية مكابرة ليس غير. والنقد الذي انتقد به كلام الأصمعي في «لم يعف رسمها» لا يضير امرأ القيس بشيء إذ يجوز أن الوجه الذي أراده هو الذي قاله أبو عبيدة أو غيره كأن يكون مراده لم يعف رسمها من قلبي لعفائها بالرياح، وقد ذكر ابن الباقلاني هذا الوجه على مزعم منه أنه لم يخطر لامرئ القيس على بال، ومن كلامه أخذه فتأمل.
ومن إسفاف ابن الباقلاني قوله عن بيت خدر عنيزة إنه كلام مؤنث يعيبه بذلك. وذلك موضع حسن له إذ هو تمثيل وتصوير وقول أبي بكر: «نقله من جهته إلى شعره» يشهد بذلك. ليست حكاية كلام النساء في البلاغة بضعف وفي القرآن وهو الإعجاز وذروة بلاغات الكلم من ذلك شواهد، كقوله تعالى:{قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ} الآية. وقوله تعالى: {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} وقال تعالى في خبر نسوة المدينة مع زليخا: {وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} .
وفي النساء اللاتي ينكر ابن الباقلاني حكاية حديثهن أنفسهن بليغات، وما استنكف أبو الطيب وهو الفحل الذي يستعير ابن الباقلاني من كلامه أن يحاكي ليلى الأخيلية في قولها:
فيا توب للهيجا ويا توب للندى
…
ويا توب للمستنبح المتنور
فقال:
فيا شوق ما أبقى ويا لي من النوى
…
ويا دمع ما أجرى ويا قلب ما أصبى
وقد غلب على أبي بكر رحمه الله حب الغلبة فأماله عن منهاج النقد القويم، ولو أنه أثبت لامرئ القيس مكانته التي هي في الذروة بين شعراء الجاهلية وخصوصًا في هذه اللامية وما خلا بيت عيب عليه فيها من منتصر له بحجة قوية لعلها هي الصواب، ثم أثبت مراده الذي من أجله ألف كتابه من أن بلاغة القرآن هي فوق ذلك لكان هذا هو الوجه. وليس بانتصار للقرآن أن ينصره على شيءٍ ركيك أو سفساف مضطرب. وقد نبهنا على وهي حجة أبي بكر حيث يقول كذا وكذا لإقامة الوزن فالوزن قد كان عند امرئ القيس سليقة ينساب بلا كلفة وقد أوردنا رأي المعري في زحافه حيث قال ما قال في رسالة الغفران.
قد أشرنا في ما تقدم إلى مطاعن ابن حزم وأبي حيان في ابن الباقلاني أما ابن حزم فقد قال (راجع مقدمة الإعجاز) في كتابه عن الملل والنحل عن ابن الباقلاني «كافرٌ أصلع الكفر مشرك يقدح في النبوات ملحد خبيث المذهب ملعون، يلحد في أسماء الله، ويخالف القرآن ويكذب الله، نذل يوجب الشك في الله وفي صحة النبوة مظلم الجهالة من أهل الضلالة ممرورٌ فاسق أحمق يكيد للإسلام ويستخف به وقد صدق فيه قول القائل:
شهدت بأن ابن المعلم هازل
…
بأصحابه والباقلاني أهزل
وما الجعل الملعون في ذاك دونه
…
وكلهم في الإفك والكفر منزل
قلت وهذان البيتان على لزوم ما لا يلزم وهي طريقة المعري والبيت الأول قريب من مذهبه. وقد جار ابن حزم على أبي بكر. ولكن أبا بكر قد أهدف لأن أكثر ما أخذه على الملك الضليل من صميم بلاغة العرب التي عن إعجاز القرآن بها هو يدافع أو زعم أنه انبرى ليدافع.
وأما أبو حيان فقد قال في الامتاع والمؤانسة (انظر مقدمة الإعجاز ص 63) لما سأله الوزير أبو عبد الله العارض وقال له: «فما تقول في ابن الباقلاني» قال أبو حيان قلت:
فما شر الثلاثة أم عمرو
…
بصاحبك الذي لا تصبحينا
يزعم أنه ينصر السنة ويفحم المعتزلة وينشر الرواية وهو في إضعاف ذلك على مذهب الخرمية وطرائق الملحدة، قال:«ولله إن هذا لمن المصائب الكبار والمحن الغلاظ والأمراض التي ليس لها علاج» وأبو حيان بالرغم من مقال الأستاذ السيد صقر تعليقًا على قوله هذا في مقدمته «ولست أرتاب في أن أبا حيان قد جاء بالإفك حين رمى الباقلاني بأنه كان على مذهب الخرمية وطرائق الملحدة» لم يخل من بعض وجه الصواب في قوله غير أنه اشتط شيئًا والشطط له طريقٌ أحيانًا كثيرة إذ كان مقصده من الخرمية القول ببعض مقالات الشعوبية ومقصده من الملحدة ما زل فيه ابن الباقلاني في تحمسه لقضية الإعجاز القرآني من الجسارة على الطعن في بلاغة الحديث- كقوله (ص 207) «وإنما يقع في كلامه وكلام غيره ما يقع من التفاوت بين كلام الفصيحين وبين شعر الشاعرين وذلك أمرٌ له مقدارٌ معروفٌ وحدٌ ينتهي إليه مضبوط والضمير راجع إلى صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام، فتأمل هذه الزلة وغاب عن أبي بكر فغفل عنه أو تغافل قول الله سبحانه وتعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} والذي صح من حديثه عليه الصلاة والسلام تتقطع دون بلاغته الأعناق ولا معنى لإقحام ذلك في ميدان من الموازنة بينه وبين القرآن فذلك هو الضلال البعيد. على أنا -والله الموفق للصواب- لا نحمل هذا من ابن الباقلاني على أكثر من أنه عثرة جلبتها عجلة المكابرة وشهوة الغلبة كما قدمنا، شأنها شأن ما وقع فيه من كثير من التناقض كقوله عن امرئ القيس والنابغة وزهير (ص 54): «ولذلك ضرب المثل بالذين