المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كلمة عن الأدب والآداب: - المرشد إلى فهم أشعار العرب - جـ ٤

[عبد الله الطيب المجذوب]

الفصل: ‌كلمة عن الأدب والآداب:

‌كلمة عن الأدب والآداب:

كما يطلق لفظ الأدب على حسن الخلق، وذلك قديم في العربية، يطلق على علوم الشعر والنثر والرسائل والنقد والخطابة. وهذا الاستعمال قديم أيضًا سببه أن هذه جميعًا كانت مادة يؤخذ به الناشئة فيؤدبون به. وكان يقال للتعليم تأديب وأدب وللمعلم مؤدب وذكر صاحب الوسيلة الأدبية أن مؤدبًا لأولاد عبد الملك بن مروان كان اسمه عبد الصمد في خبر ساقه. وكان يقال دابة أديب إذا كانت ذلولًا حسنًا أدبها. وقال الحجاج لأهل العراق لما لم يردوا السلام على كتاب أمير المؤمنين:«أهذا أدب ابن نهية؟ » قالوا وابن نهية هذا كان على الشرطة قبل زمانه. وقال زياد في خطبته البتراء يتحدث عن فضيلة المراء والولاة ويحث على طاعتهم: «فإنهم ساستكم المؤدبون» وقال معاوية لابنه يزيد -أحسب هذا الخبر في عيون الأخبار لابن قتيبة أو في العقد الفريد- يعاتبه حين رآه ضرب غلامًا له: «لا تفسد أدبك بأدبه» أي تأديب نفسك بتأديبه. وقال أحد الشعراء الأقدمين، أحسبه مخضرمًا:

لا يمنع الناس مني ما أريد ولا

أعطيهم ما أرادوا حسن ذا أدبا

حسن بضم الحاء وسكون السين أو فتحها وسكون السين. الأولى اسم والثانية فعل. أي يا لحسن هذا من أدب، يتعجب ويسخر، هذا على ضم الحاء وسكون السين. وإذا فتحت الحاء فهو من باب تسكين المضموم أصله حسن فعل ماض من باب كرم وأدبا في كلتا الحالتين تمييز.

وقال الجميع بضم الجيم على صيغة المصغر، وهو جاهلي قديم، قتل يوم شعب جبلة:

يأبى الذكاء ويأبى أن شيخكم

لن يعطي الآن عن ضربٍ وتأديب

وقصيدة الجميع التي منها هذا البيت قد سبق عنها الحديث وهي الرابعة في

ص: 370

المفضليات وترجم له ابن الأنباري في أول السابعة وهي أيضًا له. وقال في شرح هذا البيت: «يقول يأبى لي سني وتجربتي أن أنقاد لأمر أو أسمع لقائل والمعنى يأبى لي سني أن أعطي شيئًا على استكراه وتغلبٍ علي بل أعطي عن إرادةٍ مني ومحبة، يأبى لي سني أن أعطي عن ضربٍ وأدبٍ» . أ. هـ.

ظلت كلمة الأدب بمعنى الخلق والسلوك دائرة في الاستعمال منذ زمان الجاهلية إلى زماننا هذا في الدارجة كما في الفصيحة. وقد تعلم، أكرمك الله، تسمية ابن المقفع رسالتين له «الدب الكبير» و «الأدب الصغير» وللبخاري رضي الله عنه مجموعة «الأدب المفرد» ولفظ الأدب فيها راجع إلى هذا المعنى. وقول طرفة:

نحن في المشتاة ندعو الجفلي

لا ترى الأدب فينا ينتقر

كأنه راجعٌ إلى هذا المعنى وهو حسن السلوك؛ لأن الدعوة إلى الطعام من المحامد والمدعوون يلتزمون حسن الأدب كما قال الشنفري في البيت الذي قاد إلى هذا الاستطراد وهو قوله:

وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن

بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل

فعلى هذا يكون الأدب بالتحريك أصلًا والأدب بسكون الدال فرعٌ. أرى أن المأدبة سميت بذلك لأن الناس داعين ومدعوين مما كانوا يتأدبون عندها. وقول ابن منظور في اللسان أنه سمي الأدب «أدبًا لأنه يدعو الناس إلى المحامد وينهاهم عن المقابح» أدخل في باب الدفاع عن الأدب والاعتذار له منه في باب تبيين أصل اشتقاقه في اول الأمر. واحسب أن الدكتور طه حسين رحمه الله قد ذكر في بعض ما كتب أن «نيليئو» جعل أصل الأدب من الدأب. وحروف دأب وأدب وبدأ متقاربة تدل على متقارب في المدلول- هذا لا يخفى. ولكن كلمة الأدب والتأديب الدالة على السلوك قديمة وحسبك شاهدًا قول الجميع. ولغة الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: «أدبني ربي

ص: 371

فأحسن تأديبي» إنما خاطب قومًا معلومًا لديهم معنى الأدب والتأديب في هذا السياق. والغالب على كثير من أهل العصر الباحثين في باب الأدب الرجوع في معرفة أصول الكلمات إلى اللسان وبعض المعاجم وهم في هذا متبعون لمنهج المستشرقين وهؤلاء لهم عذرهم في هذا المنهج، لعجمتهم عن العربية وتعلم أكثر من تعلمها منهم على كبر. وأصول الكلمات أوثق فيها الشراح والمفسرون والعلماء الأولون من المعجمات الدائرة في الاستعمال الآن وأكثرها متأخر العهد.

لفظ الأدب بمعناه المعروف الآن الدال على الشعر والنثر وما أشبه وثيق الصلة بمعناه الدال على السلوك والتأديب كما قدمنا. ولذلك فهو قديم في الاستعمال وكانوا ربما قالوا للأديب نحوي كما في قوله رؤبة:

تنح للعجوز عن طريقها

إذا أتت قادمةً من سوقها

دعها فما النحوي من صديقها

وقال أبو تمام:

أو يفترق نسب يؤلف بيننا

أدب أقمناه مقام الوالد

وقال:

كل شعب كنتم به آل وهب

فهو شعبي وشعب كل أديب

وقال:

نرمي بأشباحنا إلى ملك

نأخذ من ماله ومن أدبه

فهذا يدل على أن كلمة الأدب والأديب قد رسخت رسوخًا في زمانه.

وقال أبو الطيب:

فسرت نحوك لا ألوى على أحدٍ

أحث راحلتي الفقر والأدبا

ص: 372

ذلك بأنه قد شاع أن الفقر والأدب متلازمان. وقيل حرفة الأدب بكسر الحاء وضمها أي إفلاس أصحابه وإخفاقهم وشؤمه عليهم. وزعم الثعالبي أن ابن المعتز أصابته حرفة الأدب فلم تزد خلافته على يوم وليلة. ولو قد كان صادقًا في أبياته التي منها قوله:

ولا قائمًا كالعير في يوم لذة

يناظر في تفضيل عثمان أو علي

ما طلبها «لكل أجل ٍكتاب» . وقال المعري يشير إلى معنى دعوة الأدب إلى المكارم فزعم أنه يدعو إلى الباطل، فعكس المعنى كما ترى:

وما أدب الأقوام في كل بلدةٍ

إلى المين إلا معشرٌ أدباء

وقال يتلاعب بلفظ الأدب بمعنى الآداب وحسن السلوك والأدب بمعنى الدعوة إلى الطعام:

وكلٌّ أديبٌ أي سيدعى إلى الردى

من الأدب لا ان الفتى يتأدب

أي كل امرئ أديبٌ أي مأدوب لأنه سيحضر مأدبة الموت، سيدعى إلى الموت. ثم فسر كلامه فقال:«أديب» من «الأدب» بسكون الدال أي اسم مفعول على صيغة فعيل من الأدب بمعنى الدعوة إلى الطعام وليست مشتقة من الأدب بالتحريك. «أديب» بمعنى مثقف شاعر أو ناثر وما أشبه، فعيل بمعنى فاعل أي ذو أدب. وقال أبو الطيب فجمع بين معنى الأديب بمعنى المؤدب والحاذق والمثقف يصف ضاربًا أو ضاربة بالعود:

أديبٌ إذا ما جس أوتار مزهر

بلا كل سمعٍ عن سواها بعائق

يخبر عما بين عادٍ وبينه

وصدغاه في خدي غلام مراهق

يجوز أن يكون يكني بالغلام عن الجارية والله أعلم. في البيت الأول دليل على الحذق وفي البيت الثاني دليل على الثقافة.

ص: 373