الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا ومن الأمور التي يفترقان فيها -أي أبو تمام وكلردج- زعم كلردج أن المنظومة الحقة لا تكون كلها شعرًا ولا ينبغي لها ذلك -وهذا باب أدخل في اللاهوتيات أو في ترف القول وسرفه منه في حاق النقد الذي يراد من معرفة وجوهه أن تستفاد المقدرة على تمييز الجيد من الرديء وإدراك المعاني والأساليب. ونأمل أن نعرض له في الموضع المناسب له، وننبه على أن مصدره من كلام ابن الباقلاني في إعجاز القرآن، أو ما يكون قد أخذ منه أو حذي على مثاله أو على تأثر قوي به، سنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى وبه التوفيق.
خاتمة في الصياغة:
المطالع والمقاطع بينهما سائر النظم، وهو الرابط بين كل مطلع ومقطع، وسنتناول ذلك ببعض التفصيل عند الحديث على العنصرين الثالث والرابع من عناصر الوحدة الأربعة وهما الأغراض ونفس الشاعر، إن شاء الله. على أن بين أول القصيدة وآخرها، وكلا هذين الطرفين متضمنان فيه، أسلوبًا من الأداء نرى أن نختم به الحديث عن الصياغة، ومع العودة إلى التنبيه بين العناصر الأربعة من الوزن والصياغة والأغراض ونفس الشاعر، متداخلات متحدات إنما نفصل بينها من أجل التحليل وبيان ما نعتقده من ضرورة الدفاع عن طبيعة القصيدة والشعر العربي القديم دفاعًا لقيمة أول من كل شيء عن الاجتهاد في فهمه وتبين أسراره، إذ أكثر ما مني به في عصرنا هذا من هجوم وتحامل عليه مصدره الجهل.
تقدم منا القول في باب الإيقاع الخارجي «إن الغناء بالأصوات والألحان كان متممًا للشعر» ونريد ههنا أن نزعم أن الشاعر العربي كان يصوغ قصيدته كلها صياغة موسيقية الجوهر. أولًا الوزن وقد ذكرنا أن الأوزان ميادين لضروب من البيان. كل منها له ما يصلح له، ثم القافية قد ذكرنا أنها من معدن الوزن وبها يتم
هيكله، ثم ضروب الجرس والحركات والسكتات. ويحسن أن ننبه ههنا إلى أن مرادنا بالجرس نغم الألفاظ ورنينها، كما سبق التبيين له في الجزء الثاني من المرشد، (وعند اللغويين أن الجرس هو صوت الحرف عندما يتذوقه ناطقة بأن يجعل قبله همزة ليتمكن بذلك من المجيء به من غير أن تخالطه حركة كأن تقول في بيان جرس الباء أب والفاء أف والراجح أن تكون الهمزة التي تسبق مفتوحة). ومما مثلنا له هناك أشياء من جناس الحروف كقول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
…
بهن فلول من قراع الكتائب
ومن التكرار كقول المهلهل «على أن ليس عدلًا من كليب» ومن التقسيم وهلم جرا. ثم مع هذا كله، وينتظمه كله، أسلوب من التأليف الموسيقي قوامه التجاوب كتجاوب الأصداء والتقابل والعودة بعد العودة، وهذا المذهب من التأليف الموسيقي لا يتناول اللفظ وحده ولا تفاصيل الوزن والقوافي والجرس فحسب، ولكن المعاني والأغراض وتفاصيل الأغراض ووسائل البيان كالتشبيه والاستعارة. ولكأن كلمة الشاعر تأتلف في نفسه أولًا تأليفًا موسيقيًّا ثم تلتمس العبارات التي تلائمها فتتحد معها. وليس هذا هو عين ما قال به كلردج، لا ولا هو داخل في حيز ما ذكره قدامة من أمر المؤالفة بين الوزن والمعنى -ففي كلا هذين المذهبين تنوع تصرف إرادي واختيار. الذي نراه أن تأليفًا موسيقيًّا كاملًا ينبعث من الشاعر وهذا هو تعبيره الباطن. ويتحد معه اللفظ والمعنى والبيان وهذا تعبيره الظاهر.
وقد عيب على أبي الطيب المتنبي قوله:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
…
عدوًّا له ما من صداقته بد
يرى العائب له أن «مداراته» مثلًا أصوب في هذا الموضع. ومن انشد هذا البيت بـ «عدوًّا له ما من مداراته بد» فإنه سيجدها نابية ويهديه إلى ذلك تهافت
المعنى معها لأن «صداقته» أدق وأصح ههنا. ولعلب أبا الطيب قد نظر إلى قول بشار:
وصاحب كالدمل الممد
…
حملته في رقعة من جلد
أرقب منه مثل يوم الورد (1)
حتى مضى غير فقيد الفقد
…
وما درى ما رغبتي من زهدي
غير أنه زاد عليه. واحسبه -والشيء بالشيء يذكر- أخذ من بشار «ارقب منه مثل يوم الورد» في بيت الحمى المشهور:
أراقب وقتها من غير شوقٍ
…
مراقبة المشوق المستهام
وعاب ابن الأثير جحيشًا في البيت:
يبيت بموماة ويمسي بغيرهما
…
جحيشًا ويعروري ظهور المهالك
وهو من كلمة تأبط شرًّا التي مطلعها:
وإني لمهدٍ من ثنائي فقاصد
…
به لابن عم الصدق شمس بن مالك
وقد كان من مذهب ابن الأثيران الشعراء يجوز لهم ما لم يكن يرى أن يجوز للكتاب من استعمال الغريب، ومع هذا أنكر هذا اللفظ على تأبط شرًا وزعم أنه قبيح وأن الشاعر لو قال «فريدًا» لكان أصوب وأجود إذ هي بمعنى قوله «جحيشًا» ومن تأمل الأبيات وتذوقها لم يشك أن «فريدًا» لا تصلح ههنا، لا من حيث الرنة ولا الجرس ولا المعنى ولا التصوير. وفي لفظ الجحيش صورة فحل حمر الوحش الذي
(1)() الورد بكسر الواو هو ما نسميه الوردة بكسر الواو أي الحمى الغبية التي تغب يومًا أو يومين ثم ترد موردها من جسمك وهي التي يقال لها الملاريا الآن.
يشلها أمامه ويتقدمها ويربأ المراقب ويتلفت يمنة ويسرة ويطرد عنها كل عير سواه:
شذابةٌ عنها شذى الربع السحق
كما قال رؤبة أو كما قال لبيد:
بأحزة الثلبوت يربأ فوقها
…
قفر المراقب خوفها آرامها
وأحسب أنه قد غلب على ابن الأثير رحمه الله الله تنطس الحضارة الذي طاح ببغداد فحكم بما حكم وجودة بيت تأبط شرًّا لا تخفى.
ومما يحسن أن نمثل به على ما نزعمه من الصياغة الموسيقية ذات الأصداء المتجاوبة والمتقابلة في الألفاظ والمعاني والصور والمجاز والإيقاع والجرس نونية المثقب العبدي، وقد سبق حديث عن صورها وطبيعة أدائها في الجزء الثالث من هذا الكتاب في باب الإيحاء بالتجارب الذاتية، وقد ذكرنا هناك أمر ملاحقة ذكر المواضع في إسراع وفي هذا محاكاة لما يكون في الخروج من قصة الرحلة وتشمير السير نعني الخروج من النسيب إلى ما بعده، وقلنا بعده:«ولولا خوف الاستطراد وسبق ما سيجيئ إن شاء الله، لوقفنا عند هذا المعنى، ولكن بابه الخروج» أقول فههنا موضع بابه وموضع الاستشهاد به.
منع فاطمة مثل بينها -هكذا استهل الشاعر:
أفاطم قبل بينك متعيني
…
ومنعك ما سألت كأن تبيني
هي لم تبن ظاعنة ولكنها بانت بامتناعها ومواعدها الكواذب
فلا تعدى مواعد كاذباتٍ تمر بها رياح الصيف دوني
فإني لو تخالفني شمالي
…
خلافك ما وصلت بها يميني
إذن لقطعتها ولقلت بيني
…
كذلك اجتوى من يجتويني
لك في كاف كذلك الفتح والكسر -الكسر لخطاب المؤنث والفتح لأن كاف الخطاب ربما ألزموها حالة واحدة في الإفراد والتثنية والتذكير والتأنيث والجمع. قال تعالى (سورة مريم): {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ} -فكسرت الكاف للتأنيث وقال تعالى (سورة مريم): {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ} ففتحت الكاف للتذكير. وقال تعالى (الأعراف): {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} . فثنيت الكاف. وقال تعالى (النساء): {وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} فجمعت الكاف للمذكرين. وقال تعالى (يوسف): {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} فجمعت الكاف للمؤنثات. وقال تعالى (البقرة): {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ} فكاف الخطاب للجماعة مفردة ومجموعة، كما ترى.
المعنى الذي في هذه الأبيات الخمسة هو موضوع القصيدة وعليه بنية تأليفها الموسيقي.
حول الشاعر معنى البين المجازي -أي منعها ما سأله- إلى بين حقيقي وجعلها ظعينة في ظعائن -ثم بعد أن وصف هؤلاء الظعائن فقال:
كغزلان خذلن بذات ضالٍ
…
تنوش الدانيات من الغصون
ظهرن بكلة وسدلن أخرى
…
وثقبن الوصاوص للعيون
رجع إلى فكرته الأولى، وهي منعها ومطالبته إياها ألا تعد مواعد كاذبات ولا تمنعه وألا تقف منه موقف المخالف المعاند وذلك قوله:
وهن على الظلام مطلبات
…
طويلات الذوائب والقرون
ومن قبل قد قال بعد وصفه مراكبهن وهوادجهن:
وهن على الرجائز واكنات
…
قواتل كل أشجع مستكين
فقواتل فيها معنى القسوة والمنع وفيها معنى «وهن على الظلام» بكسر وتشديد الظاء وفيها معنى «المواعد الكاذبات والخلاف» ورنة قوله: «وهن على الظلام» مردود لها صدى في قوله «وهن على الرجائز» لمكان قوله «وهن على» في كليهما، وقوله «واكنات» يرن له صدًى في قوله «مطلبات» و «طويلات الذوائب والقرون» .
ورنة إيقاع «طويلات الذوائب والقرون» كرنة إيقاع قوله في وصف إبلهن «عراضات الأباهر والشئون» -وقوله: «وثقبن الوصاوص للعيون» يجاوب بصدى رنينه قوله من قبل: «ونكبن الذرانح باليمين» وقوله: «علون رباوة وهبطن غيبًا» يجاوب ويحكي برنته قوله «ظهرن بكلةٍ وسدلن أخرى» - والقارئ الكريم لو تتبع البيات بعد بيتًا بيتًا لوجد فيها أصنافًا من تجاوب الحروف والكلمات وجزئيات الجناس مما نكتفي بالإشارة إليه حتى لا يطول القول فتنسى أوائله عند أوساطه ويمتد سياقه.
الموضوع الذي يلي وصف الظعائن هو رحلة الشاعر نفسه، وهي رحلة رمزية كما أن رحلة الظعائن وتوديعهن رمزي، وذلك لتقرير معنى أن الصد والحرمان بينٌ وأحسب أنا أبا الطيب أخذ معنى بيته المشهور:
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
…
ألا تفارقهم فالراحلون هم
من معنى رحلة المثقب الرمزية هذه. وقد بينا من قبل دليلنا على أنها رمزية وهو قوله:
فقلت لبعضهن وشد رحلي
…
لهاجرةٍ نصبت لها جبيني
لعلك إن صرمت الحبل مني
…
كذاك أكون مصحبتي قروني
وهذ تكرار وصدًى من قوله:
فإني لو تخالفني شمالي
…
خلافك ما وصلت بها يميني
إذن لقطعتها ولقلت بيني
…
كذلك أجتوى من يجتويني
ثم اخذ في وصف الناقة أول سيرها:
فسل الهم عنك بذات لوثٍ
…
عذافرةٍ كمطرقة القيون
وهذه الصفة تقابل ركائب الظعائن:
وهن كذاك حين قطعن فلجًا
…
كأن حمولهن على سفين
يشبهن السفين وهن بخت
…
عراضات الباهر والشئون
ويرى والمئون جمع مأنه بسكون الهمزة وهي شحمة البطن التي حول السرة والبخت بضم فسكون ضرب من الإبل ضخام تكون ببلاد المشرق، وأحسب أن المثقب أراد أنهن كبخت في ضخامتهن، على أنه يجوز أن تكون بلاد عبد القيس لقربها من بلاد العجم كانت فيها بعض البخاتي. والشاهد ههنا عنصر المقابلة بين ناقته التي كمطرقة القيون تماسكًا وصلابة وفي اجتماع شخص الجسد، وهذه الإبل العراضات الأباهر الكبيرات شخوص الأجساد كأنهن سفائن بما عليهن من حدوج وظعائن.
وصفها بأنها كمطرقة القيون فيه تصوير حركة رأسها وعنقها. والإبل حين تسرع ترفع الأعناق وتهتز رؤوسهن. وفيه تمثيل لعنف قوله: «إذا لقطعتها ولقلت بيني» فهذا يشعر برفع اليد تحمل أداة قاطعة ثم أهوائها بذلك. وحركة المطرقة منها صدى في صفته الهر:
بصادقة الوجيف كأن هرًّا
…
يباريها ويأخذ بالوضين
والصورة مراد بها تقوية معنى ما نسبه إليها من الجنون في انخراطها مسرعة مصممة ماضية في سبيل تسليها من غرام فاطمة.
صورة الهر من الصور التي كان تدور في الشعر القديم. ومما يستشهد به في ذلك قول عنترة:
وكأنما تنأى بجانب دفها الـ
…
وحشي من هزج العشي مؤوم
هر جنيبٍ كلما عطفت له
…
غضبي اتقاها باليدين وبالفم
فهذه الصورة ليست فيها حركة المطرقة، ولكن فيها خنزوانة الناقة وشراسة الهر وهذا بأرب ما كان فيه عنترة أشبه. وقول المثقب:
كساها تامكًا قردًا عليها
…
سوادي الرضيخ مع اللجين
فيه رجعة إلى حالها قبل بدء السير، وفيه معنى المطرقة وصورتها لأن الرضيخ من نوى التمر إنما يرضخ بمرضاخ كالمطرقة. ومعنى النوى المتطاير وصورته تجدها في قوله:
تصك الحالبين بمشفترًّ
…
له صوت أبح من الرنين
المشفتر هنا هو الحصى والمطرقة إخفاف الناقة. والصورة كلها رمز له -لجنون المرح الذي أخذ به حين سكر بخمر الإقدام على مكافأة المنع بالانصراف واللامبالاة أو كما قال:
إذن لقطعتها ولقلت بيني
…
كذلك اجتوى من يجتويني
أيضًا صورة المطرقة والحصى المشفتر ونوى التمر المتطاير تعود مرة أخرى في قوله:
كأن نفي ما تنفي يداها
…
قذاف غريبةٍ بيدي معين
قالوا المعين الأجير هكذا فسرها الضبى والغريبة «المرضخة ترضخ بها النوى
فيقفز في ذلك من شدته» هكذا فسرها أحمد بن عبيد بن ناصح فيما ذكره ابن الأنباري:
والصورة تتكرر في صفة الذنب «تسد بدائم الخطر أن جثلٍ» ومعنى الشعور بمرح السير والتسلي تحسه في قوله:
وتسمع للذباب إذا تغنى
…
كتغريد الحمام على الوكون
وفسروا الذباب بأنه حد نابها ويجوز أن يكون المراد بالذباب زنانير الرياض وما بمجراها وكلا التفسيرين مروي ويقوي الأول رواية هذا البيت:
وتسمع للنيوب إذا تداعت
…
كتغريد الحمام على الوكون
وهي رواية أبي عبيدة. وكأن الشاعر جعل طربه لصوت صريف ناقته دليلًا على مرحه وتسليه وعدم مبالاته بأمر فاطمة. ومن جعله للذباب والرياض كما في قول عنترة:
وخلا الذباب بها فليس ببارح
…
غردًا لفعل الشارب المترنم
ففيه أيضًا دلالة على روح التسلي ومرح السير. وقوله: «كتغريد الحمام على الوكون» مردود على قوله: «وهن على الرجائز واكنات» - أي طربي لصوت ناقتي الآن قد سد مكان طربي من قبل للظعائن اللواتي كأنهن حمامات على الأغصان واكنات وصورة الظعائن مكررة أيضًا في تشبيه الناقة بالسفينة.
كأن الكور والانساع منها
…
على قرواء ماهرة دهين
يشق الماء جؤجؤها ويعلو
…
غوارب كل ذي حدبٍ بطين
ذلك أنه شبه إبل الظعائن العراضات الأباهر والشئون أو المئون، بالسفائن، وليقرب بين صورة السفائن وحركتها وما ذكره من قوله: كمطرقة القيون -جعلها
ماهرة وأنها تشقف الماء وتعلو فوقف الموج ذي الغوارب والمنحدرات، وتعلو وتنخفض- والصورة تنظر إلى عدولية طرفة ولكن المعنى مختلف. ومكان استشهادنا هو ترداد صورة حركة المطرقة:
غدت قوداء منشقًّا نساها
…
تجاسر بالنخاع وبالوتين
وهذا مردود على قوله: «كساها تامكًا قردًا» وعلى قوله: «عذافرة كمطرقة القيون» .
وقد فطنت بلا ريب أيها القارئ الكريم إلى مكان تجاوب الألفاظ والصياغات الإيقاعية مع هذا التجاوب الذي ترى في ظلال الصور وأساليب الرمز والمجاز -مثلًا «خواية فرج مقلابٍ دهين» - و- «على قرواء ماهرةٍ دهين» - و- «واكنات» - و- «على الركون» - «كأن الكور والانساع إلخ» - «قوي النسع المحرم» .
وقد مر في الموضوع الأول ترداده للفظ الحين -وقد أشرنا لذلك في حديثنا عن الظعائن- وذلك قوله: «فما خرجت من الوادي لحين» «يعز عليه لم يرجع بحين» «فلم يرجعن قائله لحين» - وقال في نعت الظعائن: «ونكبن الذرانح باليمين» - وقد مر ذكر اليمين في قوله: «ما وصلت بها يميني» . وتأمل صياغة قوله: «كأن الكور والانساع منها» مع قوله «كأن مواقع الثفنات منها» مع قوله «يجد تنفس الصعداء منها» - وليس ببعيد من ذلك من في سنخ النغمة قوله: «كأن نفي ما تنفي يداها» وقوله: «كأن مناخها ملقي لجامٍ» وكأن هذين وسيطان في النغم بين نحو قوله:
كان الكور والانساع منها
وما أشبهه في الرنة وقوله:
تسد بدائم الخطران جثلٍ
فهذا أقرب إلى رنة «ملقي لجام» وإلى: «يشق الماء جؤجؤها ويعلو» ولقوله «جؤجؤها» ههنا صدى يجاوبه وظل يلوح منه في قوله:
فأبقي باطلي والجد منها
…
كدكان الدرابنة المطين
الدرابنة البوابون ودكانهم الدكة التي يجلسون عليها عند الأبواب وتأمل بعد قوله:
يجذ تنفس الصعداء منها
…
قوى النسع المحرم ذي المتون
فهذه تنفسة ذات حرارة. وهي تنفستها عندما بركت بعد السير لترتاح ويرتاح راكبها قليلًا- قوله بعد هذا البيت تصك الحالبين إلخ. ليس بعد تنفس الصعداء هذا منها، ولكنها رجعة من الشاعر إلى صفة السير الذي كنى به عن مجازاته منعًا بمنع وهجرانًا بهجران. ثم هو قد كنى بقوله «تنفس الصعداء منها» عن تنفسه هو الصعداء- وقد كرر المعنى وهو هنا صدًى متقدم منه في قوله من بعد:
إذا ما قمت أرحلها بليلٍ
…
تأوه آهة الرجل الحزين
فهذه الآهة هي الصعداء التي تجذ قوى الحبل المحرم ذي المتون ثم قوله هذا «إذا ما قمت أرحلها» - فيه صفة حالٍ متقدمة على الذي كان فيه من نعت الرحلة والسير، وقد خلع بعض روح تساؤله هو على الراحلة حيث قالت:
أهذا دينه أبدًا وديني
وظاهر الكلام أنه سار بها وهي كمطرقة القيون ثم استراح واستراحت وذلك قوله:
كأن مواقع الثفنات منها
…
معرس باكرات الورد جون
أي بركت قبيل الفجر وتركت ثفناتها الخمس كمثل آثار القطا، ومن عادة
القطار أن ترد قبل الفجر- قال الشماخ ونظر إلى المثقب في الوزن والروى وجوانب من روح معنى كلمته:
وماءٍ قد وردت لوصل أروى
…
عليه الطير كالورق اللجين
ذعرت به القطا
…
هذا محل الشاهد وقد مر من قبل:
ونفيت عنه
…
مقام الذئب كالرجل اللعين
وأيضًا مما يؤيد هذا الظاهر وهو قوله مجاوبٌ له:
فألقيت الزمام لها فنامت
…
لعادتها من السدف المبين
أي أن تستريح عند الفجر وعني بالسدف أول ضوئه ههنا -قال ابن الأنباري والسدف النهار وهو من الأضداد وهو في هذا البيت الضوء- ثم قال:
كأن مناخها ملقى لجامٍ
…
على معزائها وعلى الوجين
وأعجب إلى الرواية التي تقول:
على تعدائها وعلى الوجين
فهي أشبه بمطرقة القيون -قال الأنباري، التعداء والعدواء من الأرض ما لم يكن مستويًّا، يكون منخفضًا ومرتفعًا، هذا تفسير الضبي وروايته والطوسي كذلك. قلت فالعجب له لم يجعله أصل الرواية مع قوله في مقدمة شرحه في أوله:«عمود الكتاب على نسق أبي عكرمة وروايته» -وهو أبو عكرمة الضبي شيخ أبي محمد الأنباري والد أبي بكر بن الأنباري. وأضف لفظ العمود ههنا إلى ما تقدم من استشهادنا بهذا الحرف وزعمنا أنه ليس باصطلاح. يجوز في التعداء مع الذي ذكره الضبي معنى العدو وهو الأظهر والوجين ما غلظ من الأرض وكان فيها ارتفاع.
وتأمل قوله: «إذا ما قمت أرحلها بليلٍ» يلائم به ما ذكر من التشبيه بالقطا البواك ونومها من السدف المبين ثم هو في نفس الوقت يجعله مقابلًا لقوله:
وشد رحلي
…
لهاجرةٍ نصبت لها جبيني
وهذا فيه ظلالٌ وأصداءٌ من:
تمر بها رياح الصيف دوني
إذ الهجائر أشد ما تكون حرًّا في الصيف.
يجوز- إن كان قوله «إذا ما قمت أرحلها بليلٍ» عني به أول ارتحاله أن يكون قصد إلى إعداده الراحلة ورحلها بهزيع من الليل، وهذا يناسب معنى الصارمة ومعنى البين والرحيل معًا- قال الحارث:
اجمعوا أمرهم عشاء (البيت)
وقال عنترة:
زمت ركابكمو بليلٍ مظلم
قال الشنفري:
بعيني ما أمسست فبانت فأصبحت فقضت أمورًا (البيت) وقال إن كان قاله:
فقد حمت الحاجات والليل مقمر
…
وشدت لطيات مطايا وارحل
ومهما يكن قائله فهو شاهدٌ في الذي قدمنا. ويكون قوله «لهاجرة نصبت لها جبيني» لأنه يرتحل فجرًا ثم يدأب فهذا نصبه وجهه للهاجرة وبين هذا المعنى زهير حيث قال:
لأرتحلن بالفجر ثم لأدأبن
…
إلى الليل إلا أن يعرجني طفل
ثم لاحظ تجاوب أصداء اللفظ: «ما وصلت بها يميني» «الذرانح باليمين»
«ونمرقةً رفدت بها يميني» - «الصيف دوني» - «دينه أبدًا» - «وديني» - «درأت لها وضيني» «أمام الزور من قلق الوضين» - «ذي حدب بطين» - الباء مفتوحة- «الدرابنة المطين» «المحرم ذي المتون» - على «صحصاحه وعلى المتون» .
ثم عمرو يقابل فاطمة وفيه أصداء وظلال منها وهو وهي رمزان كما ترى. وتأمل قوله:
أما يبقى علي أما يقيني
وقوله:
عدوًّا أتقيك وتتقيني
ألست ههنا أصداء متجاوبة في المعنى والنغم؟
وقوله:
وإلا فاطر حني واتخذني
أليست ههنا كرة أخرى إلى معنى:
إذن لقطعتها ولقلت بيني
فهذا إطراحٌ كما ترى. وقوله: كذلك: «أجتوي من يجتويني» له صدًى وظل في «أتقيك وتتقيني» .
صار الشاعر من منع فاطمة إلى توهم بينها إلى توهم مصارمتها إلى شد راحلة في الهاجرة- راحلة عذافرة كمطرقة القيون.
ثم في مرحه إذ يتسلى من فاطمة بذات اللوث العذافرة هذه هش إلى ذكر عمرو- فتوهم الآن شدها بليلة وهي تشكو بآهة، هذه الآهة تحمل معنى التخوف وتوجش الخيبة عند عمرو أخي النجدات مع مرحه إلى السير إليه- إلى توهم السير حتى صارت عذافرته كدكان الدرابنة المطين- الدرابنة ضرب من القيون إذ كل
صانع قين وكأن الدربان -أحد الدرابنة أي البوابين- لالتصاقه بدكته التي يجلس عليها، كأنه يصنعها. يشعرك بلونٍ من هذا قوله: المطين لأن التطيين تمليس وزينة.
قد رحل أو توهم الرحلة عن فاطمة لما صارمته وصارمها. فهل هو بعد خيبة الأمل في عمرو مرتحل عنه أو متوهم رحلة عنه؟ ولكن إلى أين أن يكن ليس من الرحلة والمصارمة من بد؟
هنا تجيء الحكمة. المقاربة والمباعدة، العلو والانخفاض، القلق والاهتزاز، كل ذلك بعد ما تقابل منه ما تقابل في الصور والألفاظ والمعاني والأنغام ينتهي عند ذروة من الحكمة كما قدمنا وذلك قوله:
وما أدري إذا يممت أمرًا
…
أريد الخير أيهما يلبني
أالخير الذي أنا أبتغيه
…
أم الشر الذي هو يبتغيني
هذه المقابلة في البيت الأخير تحمل كل الأصداء والظلال التي مرت من قبل في إيجازها المذهل في عبارتيها: «أنا بتغيه» «هو يبتغيني» «هو يبتغيني» وتكرار إذا والذي، الذي رأيت.
نحن نزعم أن هذا المذهب الذي ذهبه الشاعر من أول كلامه إلى ذروة الحكمة التي صار إليها، في لفظه ومعناه وإيقاعه، هو تأليف موسيقي محكم كما هو تأليف بياني ليست المسألة ههنا مسألة لفظ ومعنى أو اللفظ والمعنى فحسب. اللفظ والمعنى يحملان دلالات الأداء الظاهرة. كلا ولا هي مسألة ما يقال له موسيقا داخلية بمعنى الجناس وأنغامه، فذلك قد يبلغه بالغه من طريق تجويد صناعة زخرف البديع، فلا يعدو انه صناعة زائدة على التعبير لا أنه تعبير قائم بنفسه الأمر ههنا أمر تعبير قائم بنفسه مقصود لذاته من طريق جسم إيقاعي نوراني تنتظم فيه رنات اللفظ والمعاني والصور جميعًا في اتحاد عجيب متصل منفصل. متصل لأن دلالته واحدة وكنهه واحد. منفصل
لأن الذي يظهر لك منه جانب، هو وحده الذي يستطيع أن تناوله بالدرس الملامس والتحليل- لفظ- معنى- وزن- جرس- نغم- إلخ- أشياء معروفة محسوسة في عرف النقد، والذي لا يظهر هو الذي يلج إلى القلب- وأحسن الجاحظ رحمه الله حين تأمل التأمل الدقيق فذكر من المعنى ضربين: ضرب مطروح على قارعة الطريق تتناوله صناعة اللفظ والمعنى والبيان. وضرب هو سر في غيابات الأنفس يتناوله البيان والتبين، يخلص من القلب إلى القلب. هذا الذي هو سر طريق وصله بيننا وبين صاحبه وخلوصه منه إلينا هو جسم القصيدة الإيقاعي وتأليفها الموسيقي- لا بل جسم القصيدة الإيقاعي وتأليفها الموسيقي إطار يشع به كيانها النوراني الروحاني، والذي ذهبنا إليه من الإشارة إلى بعض جوانبه، إنما هو بمنزلة التقريب، فقد ولله در أبي الطيب إذ قال في نعت الخيل:
وما الخيل إلا كالصديق قليلةٌ
…
وإن كثرت في عين من لا يجرب
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها
…
وأعضائها فالحسن عنك مغيب
وهاك مثالًا آخر، هو ميمية علقمة بن عبدة، وهي من الروائع، وهي من ثلاثة أقسامٍ الأول نسيب وأوصاف والثاني حكم وأمثال والثالث فخر وأوصاف هن جزء منه، والقصيدة بعد كلٌ واحد، موصول أولها بآخرها، والذي ذكرنا تسميتنا له منها هو الدلالات الظاهرة- ومرادنا هنا التنبيه إلى ما ينبئ ويكشف بعض الكشف عن الدلالات الباطنة، التي هي تعبير إيقاعي موسيقي يشع به كيان روحاني مستقل منفصل متصل معًا، بالدلالات الظاهرة.
الكيان الروحي في ميمية علقمة هذه قوى الحضور جهيره كل الجهارة، ومع ذلك هو شديد خفاء العناصر المنبئة عنه، غير أنها ثم بلا ريب، أول القصيدة قوله:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم
…
أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم
أم هل كبير بكى لم يقض عبرته
…
أثر الأحبة يوم البين مشكوم
لم أدر بالبين حتى أزمعوا ظعنًا
…
كل الجمال قبيل الصبح مزموم
رد الإماء جمال الحي فاحتملوا
…
فكلها بالتزيديات معكوم
عقلًا ورقما تظل الطير تخطفه
…
كأنه من دم الأحواف مدموم
يحملن أترجة نضخ العبير بها
…
كأن تطيابها في الأنف مشموم
كأن فأرة مسك في مفارقها
…
للباسط المتعاطي وهو مزكوم
خلاصة روح القصيدة كلها في هذه الأبيات السبعة وخلاصة هذه الأبيات السبعة في البيت الأول وكأن خلاصة في صدره وكأن خلاصة صدره في قوله هل الاستفهامية، وخلاصة هل في
---صفحة 218 ممسوحة---
(حبلها) وصدى الجملتين اللتين في الصدر تجده في قوله (إذ نأتك اليوم).
في البيت الثاني خبرٌ واحدٌ عند آخره هو مشكوم من الشكم بضم الشين وهو العطية- وقد تزحزحت هل عن مبدأ البيت فجاءت قبلها (أم) وبين (هل) وبين (مشكوم) أول شيءٍ المبتدأ من كلمة واحدة وهي نكرة متبوعة بوصف من جملتين فعليتين في صدر البيت تقابلان جملتي الصدر من البيت الأول، وفعلهما ضمير الغائب ولكنه يدل على نفس الضمير الحاضر المخاطب الذي في (علمت) و (استودعت) لأن الكبير الذي بكى هو نفس المخاطب، فتأمل. وقوله (أثر الأحبة يوم البين) يقابل (إذ نأتك اليوم) وفيه معناه.
في البيت الثالث كأن الشاعر يجيب بقوله (لم أدر بالبين) عن قوله (هل؟ ) وكأنه يعتذر به عن بكاء الكبير. وبدأ الشاعر بجملة فعلية منفية، ومن قبل بدأ بهل وجمل اسمية. «لم» ومن إجابة «هل» ، وقد تعلم قول أبي الطيب:
من اقتضى بسوى الهندي حاجته
…
أجاب كل سؤالٍ عن هلٍ بلم
والبيت الرابع مبدوء بجملة فعلية إيجابية.
صدر البيت الثالث فيه الجملتان (لم أدر) و (حتى أزمعوا) - والصدر كلام تام آخره قوله (ظعنًا). والعجز جملة اسمية لا فعل فيه ومبدوء بقوله (كل الجمال) وقوله (قبيل الصبح) معمول لقوله مزموم لاحق به.
صدر البيت الرابع فيه جملتان فعليتان، والجمال التي في عجز البيت الثالث تقدمت ههنا إلى الصدر (رد الإماء جمال الحي) والصدر كلام تام آخره (فاحتملوا) لاحظ أن (أزمعوا) التي في البيت الثالث ليست عند عروض البيت ولكن (فاحتملوا) ههنا تقدمت حتى صارت عند عروضه، وعجز البيت جملة اسمية أولها (فكلها) وهي عبارة مردودة في الجرس والمعنى على قوله (كل الجمال) وقوله
(بالتزيديات) مقابلٌ لقوله (قبيل الصبح) ومثله مقرونٌ بالقافية التي هي الخبر، معمولٌ لها. وتأمل الراء والدال في (لم أدر)(رد الإماء) مع اللام والميم. وتأمل الحاءات في (جمال الحي فاحتملوا) مع الميم واللام وقد مرت بك من قبل التاءات في «علمت» «استودعت» (نأتك) والكافات في (هل كبير بكى
…
مشكوم) وقد رووا مشتوم وفيها التاء ولكن الكاف أوقع ههنا ومشكوم عمود الرواية بلا ريب.
البيت الخامس أوله (عقلًا ورقمًا) وهي بداية اسمية رنانة وفيها معنى الفعل لمكان النصب والكلمتان متوازنتان، وفيهما استمرار لقوله بالتزيديات- كما أن فيهما نوع انتباهة إلى الوصف والتسلي بعد آهة البكاء ولوعة السؤال. وفي صدر البيت جملتان فعليتان- فهذه خمسة أبيات في صدورهن جملتان فعليتان، وهما في هذا البيت في حكم جملة واحدة، وفيهما معنى المضي ومعنى الإيجاب المخالط للنفي (تكاد الطير تخطفه) - ومع هذا التأمل الوصفي المشعر بالسلوان شيئًا ما، تجد رجعة إلى معنى اللوعة في قوله (كأنه من دم الأجواف مدموم) - وعجز البيت مع كونه جملة اسمية فيه روح من الحدث لمكان كأن.
والبيت السادس فيه فعلٌ واحد هو المبدوء به (يحملن) وبعده كلمة واحدة منصوبة وهي (أترجة) وفيها من جهة اللون والمعنى والإيقاع مقابلٌة لقوله (عقلًا ورقمًا) - وفي النصف الثاني من الصدر جملة اسمية وصف بها الأترجة وهي قوله (نضخ العبير بها).
وعجز البيت السادس مبدوءً بجملة «كأن» كعجز البيت الخامس.
وبين هذين العجزين تجاوب ومقابلة ومشابهة معنوية إيقاعية استمر بها الشاعر إلى البيت السابع والأبيات التي بعده.
قوله من دم الأجواف يعني به الدم الذي يخرج من أجواف ما يذبح من
الحيوان أراد بذلك بيان لون الحمرة. هذا ظاهر المعنى. وفي قوله: (من دم الأجواف) أيضًا نوع دلالة على حزن القلوب- كأن هذه التزيديات ذوات النقوس من العقل والرقم (وهما ضربان من الزينة) مدمومات لا بلون احمر كالدم، ولكن بدم القلوب التي قطعها البين.
وتقول العرب أن الغرب إذ رأى دبرًا أو جرحًا على سنام البعير وقع عليه فنتخ من ذلك. فقوله (تكاد الطير تخطفه) فيه إشارة إلى الغربان وشؤمها.
وقالوا: «قد دمت الجارية جيبها بالزعفران أي طلته» . فالمدموم هو المطلي على هذا المعنى. وقال هدبة.
تضمخن بالجادي حتى كأنما الـ
…
أنوف إذا استقبلتهن رواعف
وذلك أنه كان من زينة النساء يضعن نقطة حمراء ذات ضرب من الطيب زينة على حرف الألف. وأشار إلى هذا المعنى حبيب حيث قال:
وأعين ربرب كحلت بسحرٍ
…
وأجسادٌ تضمخ بالجساد
فقوله:
عقلًا ورقمًا تكاد الطير تخطفه
…
كأنه من دم الأجواف مدموم
يستفاد منه أيضًا أن صواحبات الهوادج على أنوفهن نقطٌ حمر تتقطع لها الأفئدة. ويؤكد صحة ما نذهب إليه ههنا قوله في البيت السادس:
يحملن أترجةً نضخ العبير بها
هي كالأترجة حسنًا ولونًا وطيبًا عليها نقط الطيب، يدلك على ذلك قوله نضخ بالخاء المعجمة. قال ابن الأنباري العبير أخلاط من الطيب تجمع بالزعفران. قلت فهو الجادي الذي ذكره هدبة والجساد الذي ذكره أبو تمام. قال ابن الأنباري
والنضج ما كان رشًّا. وذكر ابن الأنباري أقوالًا في «كأن تطيابها في الأنف مشموم» وما قلنا به من شمول المعنى في (هل ما علمت وما استوعت مكتوب البيت) نقول بمثله ههنا لأن الأنف ههنا يحتمل معنى أنفها وأنف من يشم طيبها، وكلاهما مراد، لما قدمنا من معنى الزينة كما في كلام هدبة واستشهد به أبو عبيد البكري في سمط اللئالي.
والبيت السابع صارت فيه (كأن) التي قد كانت من قبل في إعجاز الأبيات إلى اول الصدر -وفيها نوع من المجاوبة لقوله (هل 9 في البيتين الأولين. ولاحظ جرس الفاء في (في الأنف)(فأرة مسك في مفارقها). وموقع الطاء في (الطير)(تخطفه)(تطيابها)(للباسط المتعاطي).
وقد اختفت الجملة الفعلية. وفي آخر البيت جملة اسمية بسيطة من ضمير وخبر لا يفصل فيها بين المبتدأ والخبر فاصل (وهو مزكوم) وتأمل الأصداء المعنوية المتجاوبة في قولة: (مدموم) وقد ذكرنا أن فيه إشارة إلى نقطة الطيب التي تدم أي تطلى بها الفتاة أنفها، وقوله (في الأنف مشموم) وقوله (وهو مزكوم) - هذا والقاف في قوله (مفارقها) تنظر من بعد إلى قافي (عقلًا ورقمًا). وهنا الطير تكاد تخطف العقل والرقم. وهنا تجد الباسط المتعاطي يمد يدًا إلى فأرة المسك والمفارق والأترجة ذات العبير.
واستخراج أسرار الميمية، ومنهن ما هو أخفى من أن يستطاع استخراجه، مما يطول، فنكتفي من ذلك بوحي وإشارات نأمل أن تكون كافية. ومرادنا ما أسلفنا ذكره من تبيين طريقة التأليف الموسيقي السنخ، الذي يعمد إلى موضوعات من المعاني والنغم، فيصرفها على ضروب من التوازن والتجاوب والمقابلة والانسجام، بحيث متى انصرم منها جانب، جاءت أصداء تمهد بروح مما مضى لشيء يلي، حتى إذ ظننا أننا ابتعدنا عنه، جاءت رنات تذكرنا به من جديد.
واعلم أصلحك الله أن بيان النغم والإيقاع لا يعمد إليه عند العجز عن البيان بالكلمات ذوات العبارة الواضحة، ولكنه أمرٌ من باب الإبلاغ قائم بنفسه، ويبين به الشاعر كما يبين بالكلمات. فالذين يكررون رنةً حرية أو عروضية يزخرفون بذلك من غير أن يكون هو صادرًا عن قصد إلى الإنابة، مبينًا بذلك، إنما فعلهم مكاءٌ وتصدية.
وعلى هذا كثير من البهرج والزيف الصوتي المعاصر مما يظن به أنه جناسٌ داخلي وما أشبه، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
أول موضوعات القصيدة بعد اللوعة والشوق موضوع البين وتخوفه، ويدخل فيه موضوع الحبيبة، وموضوع الظعن والرحلة. فمن المعاني المتكررة روحًا ونغمًا وصورًا ومعنى التخوف والشؤم. أوله قوله (أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم) فقد وصف علامة البين الظاهرة في قوله:
لم أدر بالبين حتى أزمعوا ظعنًا
…
كل الجمال قبيل الصبح مزموم
رد الإماء جمال الحي فاحتملوا
…
فكلها بالتزيديات معكوم
ثم أشار إلى طير البين حيث ذكر العلل والرقم. ثم صرح به في قوله إذ شحطوا في البيت:
هل تلحقني بأخرى الحي إذ شحطوا
…
حلذية كأتان الضحل علكوم
ثم قال:
بمثلها تقطع الموماة عن عرضٍ
…
إذا تبغم في ظلمائه البوم
والبوم من طير الشؤم بلا ريب. ويجيء من بعد معنى توجس الشر في تشبيه الناقة بالثور الوحشي:
تلاحظ السوط شزرًا وهي ضامرة
…
كما توجس طاوي؟ ؟
وفي صفة الظليم من بعد جاء بما هو نقيض صفة الثور من الصمم وذلك قوله:
فوه كشق العصا لأيًّا تبينه
…
اسك ما يسمع الأصوات مصلوم
ثم جعله كالثور متوجسًا خائفًا للشؤم:
يكاد منسمه يختل مقلته
…
كأنه حاذرٌ للنحس مشهوم
وقوله يختل مقلته، فيه معنى الاختطاف الذي مر في قوله:
عقلًا ورقمًا تكاد الطير تخطفه
…
كأنه من دم الأجواف مدموم
والظليم والبوم والغراب كل أولئك طير- وفراخ الظليم طير وقد جعلهن زعرًا حمرًا كالعقل والرقم الذي تكا تخطفه الطير.
ثم كرر معنى الشؤم وجاء بعجز البيت الذي مر مكررًا كأنه يترنم بما يتوجسه فيه من معاني الخوف:
فطاف طوفين بالأدحي يقفره
…
كأنه حاذر للنخس مشهوم
كل الفرق ههنا قوله النخس بالخاء المعجمة مكان النحس في بيت «يكاد منسمه يختل مقلته» وتأمل المقابلة حيث جاء بالخاء في الصدر وجاء بها ههنا في العجز. ثم يجيء التقويض وهو لاحق بالبين والفراق والأهبة للسفر، وفي معنى قوله من قبل «رد القيان جمال الحي» .
صعل كأن جناحيه وجؤجؤه
…
بيت أطافت به خرقاء مهجوم
وقد ترى ههنا إنه جعل الطائر نفسه بيتًا مهجومًا أي مهدومًا. واحتفظ بقوله «أطاف» وفيه صدى «فطاف طوفين» - والخرقاء معناها المرأة غير الصناع وذلك من صفات الحسن المنعمات، فههنا لمح خفي إلى سلمى التي هي سبب الدمع
والفراق وفراقها النحس وقربها ووصلها وما علمه وما استودعته إياه واستودعه إياها ذلك هو السعادة.
وبعد الظليم وفراخه تجيء النعامة وهي الهقلة وهي بلا ريب من رموز البين لأن الناقة بها تشبه، قال الحارث:
غير أني قد أستنعين على الهـ
…
ـم إذا خف بالثوى النحاء
بزفوف كأنها هقلة أ
…
م رئال دويةٌ سقفاء
الزفوف السريعة، والرئال أولاد النعام. دوية منسوبة إلى الدو أي الصحراء، سقفاء طويلة مع انحناء. فجعلها الحارث ذات فراخ. وكذلك فعل علقمة وزاد أنه جعلها ذات زمار وترنيم وكذلك الظليم:
يوحي إليها بإنقاض ونقنقةٍ
…
كما تراطن في أفدانها الروم
والروم شؤم لأنهم أعداء زرق العيون، وهي كما قال:
تحفه هقلة سطعاء خاضعة
…
تجيبه بمزمارٍ فيه ترنيم
وهنا صرح علقمة بذكر الشر- وهذا أول القسم الثاني من كلمته:
بل كل قوم وإن عزوا وإن كثروا
…
عريفهم بأثافي الشر مرجوم
والأثافي فيها صدى البيت المهجوم- ثم أبيات الحكمة كلها فيها توقع الشر:
ومن تعرض للغربان يزجرها
…
على سلامته لا بد مشئوم
وهذه الغربان التي صرح باسمها آخر الأمر هي الطير التي جاء ذكرها أول شيءٍ:
وكل حصن وإن طالت سلامته
…
على دعائمه لا بد مهدوم
فهذا فيه موضوع البيت المهجوم والعريف الذي بأثا في الشر مرجوم، وتأمل تكرار السلامة في طالت سلامته وعلى سلامته.
هذا ومن موضوعات الحبيبية البكاء وقد جاء في قوله: «أم هل كبير بكي» ثم في:
والعين مني كأن غربٌ تحط به
…
دهماء حاركها بالقتب محزوم
ثم في سقيا المذانب- ثم في هذا الحنين من الظليم حتى كأن حنينه أوتار مزهر:
وضاعةٌ كعصي الشرع جؤجؤه
…
كأنه بتناهي الروض علجوم
وتناهي الروض ههنا فيها مجاوبة وأصداء من قوله:
تسقي مذانب قد زالت عصيفتها
…
حدورها من أتي الماء مطموم
وأتي الماء ههنا هو الدمع كما هو الماء. وصوت النعامة الزمار والترنيم لا حق بهذا المعنى. ثم يجيء المزهر في قوله:
قد أشهد الشرب فيهم مزهرٌ رنمٌ
…
والقوم تصرعهم صهباء خرطوم
وهذا أول القسم الثالث. والمعنى الترنمي نفسه في قوله:
تتبع جونًا إذا ما هيجت زجلت
…
كأن دفًّا على العلياء مهزوم
ووازن بين قوله هيجت ههنا وقوله في الظليم:
حتى تذكر بيضاتٍ وهيجه
…
يوم رذاذ عليه الريح مغيوم
والرذاذ كالدمع وكالمذانب وما فيه معاني الماء والسقيا. ولا نباعد إن زعمنا أن الريح والغيم فيهما ظلال الطير. كما لا نباعد إن زعمنا أن قوله:
والمال صوف قرارٍ يلعبون به
…
على نفاذته وافٍ ومجلوم
فيه لون من العقل والرقم الذي تكاد الطير تخطفه. وهنا -واو الجماعة، وهي علم الناس -بمكان الطير. الطير تكاد تخطف، وهؤلاء يلعبون. وكالمقابل للعقل والرقم قوله:
يظل في الحنظل الخطبان ينقفه
…
وما استطف من التنوم مخذوم
والحنظل الخطبان فيه لونان من الخضرة. وينقفه مثل يخطفه، والظليم طائر من جنس الطير. ورمزية الحنظل، وهي المرارة والحزن، واضحة. وناقف الحنظل تسيل دموعه كما ذكر امرؤ القيس. والتنوم المخذوم كالصوف المجلوم. والقرار ضرب من المعزى. والقرار من الأرض ينمو فيه الحنظل.
والظليم فوه كشق العصا. وهو وضاعة كعصي الشرع جؤجؤه. ثم تأمل وصف سلمى بأنها أترجة ذات لون كالأترجة وطيب أريج.
كأن تطيابها في الأنف مشموم
للباسط المتعاطي وهو مزكوم
وقد ذكرنا أن الحسناء تجعل في أنفها خضاب حمرة واستشهدنا ببيت هدبة. وقال ذو الرمة:
تثني الخمار على عرنين أرنبةٍ
…
شماء مارنها بالمسك مرثوم
أي كأنه دامٍ- وقد جاء علقمة بالأريج والطيب والأنف في صفة الخمر حيث قال:
قد أشهد الشرب فيهم مزهرٌ رنمٌ
…
والقوم تصرعهم صهباء خرطوم
ورنمٌ فيها رنة الترنيم والخرطوم سميت خرطومًا لأخذها بالخرطوم وهو الأنف:
كأس عزيز من الأعناب عتقها
…
لبعض أوقاتها حانيةٌ حوم
تأمل حاءات عجز البيت وعينات صدره.
تشفي الصداع ولا يؤذيك صالبها
…
ولا يخالطها في الرأس تدويم
وهذا كقوله للباسط المتعاطي وهو مزكوم، فطيب سلمى يشفي الزكام، وطيب الخمر يشفي الصداع.
عانيةٌ قرقف لم تطلع سنةً
…
يجنها مدمجٌ بالطين مختوم
فالخمر محجوبة مصونة كسلمى التي قال فيها:
كأنها رشأٌ في البيت ملزوم
وأول البيت:
صفر الوشاحين ملء الدرع خرعبةٌ
ولعلك آنست بعض رنته في قوله «عانية قرقفٌ لم تطلع سنة» وقوله «يجنها مدمج إلخ» وهو عجز البيت فيه نظر إلى «أترجة نضخ العبير بها» كأن هذا العبير لها خاتم وهي خمر معتقة، والمسك تشبه به رائحة الخمر مبالغة في مدح طيبها، قال الأعشى:
مثل ذكي المسك ذاكٍ ريحها
…
صبها الساقي إذا قيل توح
وخمر الجنة ختامها مسك لا كخمر الدنيا التي وإن شبهت رائحتها بالمسك فإن ختامها طين. وقد يدلك على أن علقمة أراد إلى تشبيه حسنائه بالخمر ذكره المسك بعد الذي ذكره من أنها أترجة بها نضخ العبير وهو قوله «كأن فارة مسك في مفارقها» ثم أتبع ذلك ما هو من معدن صفة الخمر في قوله: «للباسط المتعاطي وهو مزكوم» وقد ذكر معنى التشبيه بالخمر ابن الأنباري في شرحه حيث استشهد بقول الآخر يذكر الخمر:
وتظل تنصفنا بها قروية
…
أبريقنا بختامه ملثوم
وإذا تعاورت الأكف زجاجها
…
نفحت فنال رياحها المزكوم
وقال علقمة في صفة أبريق الخمر:
كأن أبريقهم ظبي على شرفٍ
…
مفدم بسبا الكتان مرثوم
والمرثوم هو الدامي الأنف وإنما جعل الأبريق دامي الأنف للون الخمر والغزال هو المحبوبة لقوله: «كأنها رشأٌ في البيت ملزوم» ، وقوله (على شرف) ههنا مقابل ومناوح لقوله (في البيت) هناك. والفدام للخمر كما لا يخفى. والمرثوم من صفة الحسناء لأنها تضع نقطة العطر الحمراء على أنفها. وفي وصف الخمر لعلقمة قبل هذا البيت قوله:
ظلت ترقرق في الناجود يصفقها
…
وليد أعجم بالكتان مفدوم
فمفدوم فيها صوت مفدم وصداها، ووليد أعجم أعطاه الشاعر ههنا صفة الأبريق الذي عليه سبائب الكتان، وفي صفة الأبريق أيضًا قوله:
أبيض أبرزه للضح راقبه
…
مقلد قضب الريحان مفغوم
وهذا البيت صدًى من قوله:
يحملن أترجةً نضخ العبير بها
…
كأن تطيابها في الأنف مشموم
لمكان تفشي أريج العطر الطبيعي فيها، هناك الريحان وهناك الأترج- وقد مر التنبيه على مكان طيب الأنف وشفاء الزكان ونقطة الحسناء. وهذا وفي آخر القصيدة نعت الجمال بكسر الجيم:
تتبع جونًا إذا ما هيجت زجلت
…
كأن دفًّا على العلياء مهزوم
وهذا المعنى في تشبيه حنين الإبل بصوت الدف والناي متكرر في الشعر الجاهلي، وعليه قول عنترة:
بركت على جنب الرداع كأنما
…
بركت على قصبٍ أجش مهزم
والعجب للزوني يقول كأنما بركت هذه الناقة على قصب متكسر له صوت زعم بعضهم فيما روى أن عنترة شبه تكسر الطين اليابس الذي نضب عنه الماء بصوت تكسر القصب (راجع شرح المعلقات للزوني طبعة مصطفى البابي الحلبي 1379 هـ- الهامش 3 ص 155).
وقال جابر بن حني التغلبي صاحب امرئ القيس إن كأنه:
وصدت عن الماء الرواء لجوفها
…
دويٌ كدف القينة المتهزم
وقال علقمة وهو من موضوعات الرنة والترنيم والتهزم المتكررة في ميميته، وهو البيت التالي لما تقدم في صفة الإبل في آخر القصيدة:
إذ تزغم من حافاتها ربعٌ
…
حنت شغاميم في حافاتها كوم
والربع هو الصغير من الإبل، وبكاؤه ههنا وبكاء الشغاميم وهي الحسان الطوال من الإبل، له صدًى وصوت يجاوب قوله في أول القصيدة:
أم هل كبير بكى لم يقض عبرته
…
أثر الأحبة يوم البين مشكوم
الباكي ههنا صغير في بكائه، كبير في لوعته ونضج سنه وتجاربه، يبكي على أثر الذاهبين من الأحبة. والمتزغم صغير تجاوبه كبار. وتأمل قوله حافاتها في صدر البيت وعجزه.
وقد مرت الحافة مفردة يصف الناقة الدهماء التي يستقي عليها فتسقى مذانب قد زالت عصيفتها:
فالعين مني كأن غربٌ تحط به
…
دهماء حاركها بالقتب محزوم
قد عريت زمنًا حتى استلطف لها
…
كترٌ كحافة كير القين ملموم
وقد عادت كلمة (استطف) كما مر في قوله يصف الظليم (وما استطف من التنوم مخدوم) والكتر عني به سنامها، فهي كوماء- وقد جاء وصف الكوم في بيت (حافاتها) كما رأيت. وتأمل الكافات، في حاركها، كتر، كير. ثم لنا عودة يسيرة إلى كير القين وناره المتأججة إن شاء الله.
هذه الدهماء التي في أول القصيدة، وهي كأنها رمز للشاعر في عنائه وألمه ودمعه، يقول: فالعين مني كأن غربٌ البيت وغرب الماء كأنما هو جزء من هذه الناقة لأنه منوطٌ إليها إلى قتبها وحزامها وحاركها- هذه الدهماء يقابلها فحل الإبل الشغاميم وهو أكلف الخدين. كلفة الخدين هذه التي نعت بها الفحل، تقابل خضرة التلغيم التي على خد الناقة النشيطة التي تمناها ليلحق بها الظعائن، ولحييها- الناقة النشيطة التي يريدها للحاق رمز السعادة والجد بكسر الجيم (1) والجد بفتحها والتشمير، وشارتها الخصب والخضرة، كالمحبوبة المشبهة بالأترجة وبالروضة، وكالظليم الخاضب، الذي يظلله الغيم، وحتى الحنظل الذي ينقفه خطبان، أي ذو ألوان من الخضرة، وحتى مشقة السفر لها لونٌ من الخضرة، لحم فيه الخضرة -التنشيم- ومزادات تعلوها خضرة:
وقد أصاحب فتيانًا طعامهم
…
خضر المزاد ولحم فيه تنشيم
والفرس السهلبة أي الطويلة على ظهر الأرض شبهها الشاعر بالسلاءة بضم السين وتشديد اللام وهي شوكة النخل ولونها شديد الخضرة. والدهماء المذكورة قبل إنما كانت تسقي بستانًا من النخل والأعناب- يدلك على ذلك وصف القرآن لبساتين أهل البساتين. قال تعالى في الإسراء: {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا} . وقال تعالى في الكهف: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} .
(1)() بالكسر للعمل الذي يجد فيه صاحبه وبالفتح لحسن الحظ.
الفرس رمز للحسناء، لطولها وحسنها وتشبيهها بشوكة النخل، قال ابن الأنباري «وشبهها» يعني الفرس «بشوكة النخلة لإرهاف صدرها وتمام عجزها وكذلك خلقة الشوكة وقد يستحب في الإناث» أ. هـ. ثم الفرس قرينة الشباب والمرح كقول امرئ القيس:
وقد اعتدى والطير في وكناتها
…
لغيث من الوسمي رائده خالي
بعجلزةٍ قد أترز الجرى لحمها
…
كميتٍ كأنها هراوة منوال
وقد عاد بوصفه الفرس ههنا إلى ما تقدم من صفته الناقة التي يتمناها ليلحق بالظعينة وذلك قوله:
هل تلحقني بأخرى الحي إذ شحطوا
…
جلذيةٌ كأتان الضحل علكوم
وأتان الضحل صخرة تكون في الماء ملساء صلبة.
وفي قوله:
وقد أقوم أمام الحي سلهبةً
…
يهدي بها نسبٌ في الحي معلوم
لا في شظاها ولا أرساغها عتبٌ
…
ولا السنابك أفناهن تقليم
سلاءة كعصا النهدي غل لها
…
ذو فيئةٍ من نوى قران معجوم
ذو فيئة أي يتطاير حين يرضخ بالمرضاخ وعني بذلك العظام التي في حافر الفرس. قوله هل تلحقني يقابله قوله تتبع جونًا.
وقوله كعصا النهدي- فقد مر تكرار العصا في صفة الظليم فوه كشق العصا- وضاعة كعصى الشرع.
ونوى قران فيه معنى من أتان الضحل، كلا الأمرين حجرٌ أملس. وعصا النهدي لصلابتها مما يرضخ بمثلها النوى وقران بضم القاف قرية باليمامة كثيرة النخل.
وكير القين فيه معنى من الفيئة لأنه يتطاير منه الشرر وللقين كما لا يخفى سندانٌ (بفتح السين). وتقليم السنابك إنما يصنعه القين. والسنابك فيها من معاني الصلابة والقوة.
وقال علقمة يصف سفره أيام الفخر والقوة:
وقد علوت قتود الرحل يسفعني
…
يوم تجيء به الجوزاء مسموم
والأكلف في خديه حمرة وسواد وتلك هي السفعة، فهذا يقوي ما ذهبنا إليه من أن الأكلف كناية عنه. وقتود الرحل فيه عودة إلى قتب الدهماء وحزامها. وقد قدمنا أن في جعل الأكلف في أخريات القصيدة كالعودة إلى معنى الدهماء العاملة التي في أولها والأكلف فحل هادٍ مقرمٌ مكرم.
والسفعة والحر والسموم كل ذلك يقابل الرذاذ والغيم والبستان والعصيفة والأترجة ذات الطيب والرشأ الملزوم في الدار.
حام كأن أوار النار شاملة
…
دون الثياب ورأس المرء معموم
هذا الحامي الذي كأن أوار النار شاملة فيه عودة إلى معنى القين وكيره الملموم:
كتر كحافة كير القين ملموم
لفظ الحامي فيه عودة إلى هذا. وقوله «كأن أوار الناس شاملة» فيه عودة إلى قوله:
قد أدبر العر عنها وهي شاملها
…
من ناصع القطران الصرف تدسيم
(أدبر العر عنها) تقابلها (زالت عصيفتها) والتدسيم كالتدميم في قوله:
كأنه من دم الأجواف مدموم
إذ هو طلاء، والدسم والدم معنويًّا بينهما صلة كما في رنة اللفظ مشابه.
والقطران الذي يداوي به الجرب له حرٌّ واشتعال- قال الفرزدق:
يمشون في حلق الحديد كما مشت
…
جرب الجمال بها الكحيل المشعل
وقال تعالى في صفة أهل النار: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} .
وفي البيت بعد بعض الصدى من بيت العقل والرقم والطير التي تكاد تخطفه. وقد فسروا التدسيم بأثر الجرب.
والصرف تقوية للنصوع- أي الخالص، فخلوص نصوع اللون هو المشعر بمعنى العودة إلى معنى الرقم والعقل لخلوص لون الحمرة فيهما حتى تكاد الطير تسقط عليه لتخطفه.
وقال علقمة:
من ذكر سلمى وما ذكرى الأوان بها
…
إلا السفاه وظن الغيب ترجيم
تأمل قوله «وظن الغيب ترجيم» فهو يعود به إلى قوله:
أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم
نعم مصروم، وظن الغيب ترجيم.
وكل قوم وإن عزوا وإن كثروا
…
عريفهم بأثافي الشر مرجوم
وقد كان هو عزيزًا كثيرًا- شاهد العزة قوله:
كأس عزيز من الأعناب عتقها
…
لبعض أوقاتها حانيةٌ حوم
وشاهد الكثرة أنه يقود السلهبة أمام الحي، الذين ظعن ظاعنهم ويتمنى أن تلحقه ناقة جلذية الآن بأخراهم.
والتذكر مما يتكرر في القصيدة معنى ولفظًا- حتى الظليم يتذكر:
حتى تذكر بيضاتٍ وهيجه
…
يوم رذاذ عليه الريح مغيوم
الريح والغيم لها صدى مقابل من السموم وأوار النار من بعد
وتأمل شبه الرنين والوزن وأصداء المعاني في:
ذو فيئة من نوى قران معجوم
معقب من قداح النبع مقروم
من الجمال كثير اللحم عيثوم
ذو فيئة تقابلها معقب. ثم من نوى قران تقابلها من قداح النبع. ومعجوم تقابلها مقروم- ثم (من الجمال كثير اللحم عيثوم) فيها وقفات ثلاث مع اختلاف الصيغ إلا أن (من الجمال) فيها نفس (من قداح
…
) (من نوى قران
…
) وعيثوم موازنة عروضًا لا صيغة لمقروم ومعجوم.
وحسبنا هذا القدر من التنبيه على ما في هذه الميمية من أصداء وعودات ونعني بالعودة معنى منظورًا فيه إلى الدلالة النغمية الموسيقية لهذا اللفظ.
ولعل القارئ الكريم قد فطن إلى ترابط أقسام هذه الميمية الثلاثة وقوة اتصالهن مع ما يبدو من فواصل الأوصاف وضروب التشبيه.
هل ما علمت وما استودعت مكتوم.
يصير بنا بيان الشاعر عما فيه، وبعده، من معاني اللوعة والبكاء والحب ووصف الرحيل والهوادج والحسناء التي كالأترجة والدهماء والجداول والبستان، إلى تذكر جمال سلمى وبهجتها.
صفر الوشاحين ملء الدرع خرعبة
…
كأنها رشأٌ في البيت ملزوم
وإلى أن يتمنى اللحاق بها:
هل تلحقني بأخرى الحي
…
ووصف الناقة التي يتمنى أن يلحق أخرى الحي بها
…
التي تقطع الموماة عن عرض إذا تبغم البوم في الظلماء، التي كالظليم المظلم المسرع كأنه خائف للنحس ومعه هقلة تجيبه بترنيم وزمار
…
هل تلحقني بها ناقة هذه صفتها
…
ظن الغيب ترجيم
بل كل قوم وإن عزوا وإن كثروا
…
عريفهم بأثافي الشر مرجوم
والحمد لا يشترى إلا له ثمن
…
مما يضن به الأقوام معلوم
كالفرس التي لها نسب في الحي معلوم وقد زعم أن القوم لو يسروا بخيل ليسر بها- وكل ما يسر الأقوام مغروم.
والجود نافيةٌ للمال مهلكة
…
والبخل باقٍ لأهليه ومذموم
والمال صوف قرار يلعبون به
…
على نقادته وافٍ ومجلوم
ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه
…
أنى توجه وللمحروم محروم
وهنا لنا أن نتذكر قوله: «أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم» .
والجهل ذو عرض لا يستراد له
…
والحلم آونة في الناس معدوم
والحلم نقيضه السفاه- وقد مر بك قوله: «من ذكر سلمى وما ذكرى الأوان لها إلا السفاه، البيت) - ولا أحسب أنه غاب عنك موضع الأوان مع السفاه والآونة مع الحلم، وهذا من مجرى أساليب العودة التي قدمنا طرفًا منها.
ومن تعرض للغربان يزجرها
…
على سلامته لا بد مشئوم
وكل حصن وإن طالت سلامته
…
على دعائمه لا بد مهدوم
قد أشهد الشرب فيهم مزهر رنم
…
والقوم تصرعهم صهباء خرطوم
هنا القسم الثالث وهو تذكر- كان ذهاب السعادة عنه بفراق من فارقوه هو المستقاة منه هذه الحكم الحزينةٌ- فإن تك الحال الآن قد ساءت فقد يذكر حالًا كانت أرفه وأطيب:
هل انت كاتم ما علمت وما استودعت؟
هل من سبيل إلى اللحاق بهم؟
لا بل لا سبيل وكل حصن وإن طالت سلامته مهدوم؟
لقد كان من العيش الطيب كذا وكذا
…
هذا من بعض ما علمت
ثم البكاء
…
هذا ما استودعت
صدقت قريش أنها سمط ادهر هذه الميمية. وهي والبائية سمطا الدهر. وعل في بعض هذا الذي كنا فيه ما يوضح مقصدنا من أنه كان للشاعر العربي القديم مذهب من التأليف الموسيقي يساير ويباري تأليفه المبين بعبارات الألفاظ وأوزان العروض. هذا التأليف الذي قوامه على موضوعات ذوات أصداء وعودات تنتظم القصيدة من عند أولها إلى آخرها. وقد نظر ذو الرمة إلى الميمية علقمة هذه نظرا حديدًا كما ذكرنا في ميميته الطويلة التي مطلعها:
أأن توسمت من خرقاء منزلةً
…
ماء الصبابة من عينيك مسجوم
وهي من الكلمات الجياد. وكأنه أخذ الشغاميم من علقمة، ثم جعلها إحدى قوافيه حيث قال:
إذ قعقع القرب البصباص ألحيها
…
واسترجفت هامها الهيم الشغاميم
ولذي الرمة في الألفاظ صناعة مهد بها لأصحاب البديع كل تمهيد.
وليس وزن الأفاعيل والمفاعيل في أبيات علقمة ومن ذلك أمثلة عددٌ في طويلة
غيلان كالأناعيم والأكاميم والأصاريم والياديم والدياميم والمقاديم والبراعيم- وتأمل الضاد في قوله:
كأنما عينها منها وقد ضمرت
…
وضمها السير في بعض الأضاميم
ميم خبر كأن.
وتأمل محاكاة علقمة في قوله:
هل حبل خرقاء بعد الهجر مرموم
…
أم هل لها آخر الأيام تكليم
أم نازح الوصل مخلافٌ لشيمته
…
لونان منقطعٌ منه فمصروم
ثم لم يرد أن يكون عريفًا مرجومًا بأثافي الشر فقال:
لا غير أنا كأنا من تذكرها
…
وطول ما هجرتنا نزع هيم
تعتادني زفرات حين أذكرها
…
تكاد تنفض منهن الحيازيم
وهذا كأنما هو شرح لقول علقمة (أم هل كبير بكى) وقوله (فالعين مني كأن غرب)(من ذكر سلمى وما ذكرى الأوان لها).
وقال غيلان:
كأنني من هوى خرقاء مطرف
…
دامي الأظل بعيد الشأو مهيوم
دانى له القيد في ديمومةٍ قذفٍ
…
قينيه وانحسرت عنه الأناعيم
ومكان تكرار الدال هنا لا يخفى- وأحسب أن ذا الرمة سمى صاحبته خرقاء من قول علقمة:
بيت أطافت به خرقاء مهجوم
هذا،
ولامية امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب منزل
نمط فذ من الاسترسال والعودات وتجاوب الأصداء والإحكام الموسيقي المعدن في تعاقب المعاني والصور والمعادلات والمقابلات التي بينها، وتنتظم التأليف من عند أوله إلى آخره.
وبينها وبين ميمية علقمة هذه شبهٌ كأنه خفي في طريقة الصياغة الكلية- وذلك أن قصيدة امرئ القيس مخصرة، وميمية علقمة مخصرةٌ.
وكذلك «بانت سعاد» وبائية عبيد بن الأبرص:
أقفر من أهله ملحوب
…
فالقطبيات فالذنوب
ولنا إلى تفسير المخصرة والتخصير عودة في بابه إن شاء الله تعالى، حين نعرض لبعض عناصر الوحدة من بعد.
لقد غبرت دهرًا أعجب من شدة الشبه- أم ذلك أمر توهمته؟ بين تأليف روائع موسيقا الأوروبيين وتأليف روائع قصيد العرب. استهلال وتتابع إيحاء يثب أو ينساب على نوع من تجاوب المعاني وتداعي الخواطر وترجيع أطياف من الكلمات والصيغ والتركيب. والصور البيانية والأخيلة والأفكار. ولا تخلو قطعة موسيقا رائعة من رنة تتكرر هي بنفسها أو بنوع منها أو بألوان تحوير لأجزائها يقتربن ويبتعدن يتلاقين ويفترقن ولا سيما اللواتي فيهن أصوات الغناء بالحناجر مع الآلات.
في معلقة امرئ القيس أصداء تتجاوب من كلمات وعبارات ونغمات صيغ وصورٍ وأخيلة وأفكار على نحو هي من أجله بحق سيدة القصيد وصاحبها بيده لواء الشعراء:
مثلًا، قفا نبك في أول القصيدة، لذلك صدًى يجاوبه من قوله:
أصاح ترى برقًا أريك وميضه
…
كلمع اليدين في حبيًّ مكلل
الحبي هو السحاب المتراكم الداني من الأرض كأنه يحبو
يلفت الشاعر نظر صاحبه هنا كما استوقفه هناك. وقوله: كلمع اليدين، فيه نفس من قوله:
تصد وتبدى عن أسيلٍ وتتقي
…
بناظرة من وحش وجرة مطفل
وتعطو برخصٍ غير شثنٍ كأنه
…
أساريع ظبيٍ أو مساويك إسحل
إذ ها هنا حركة يديها، كما ها هنا مستكنٌّ وميض ثناياها، ولا يخفى ما بين حركة اليد ومساويك الإسحل ولمع الثنايا من صلة.
وقوله:
وقوفًا بها صحبي علي مطيهم
…
يقولون لا تهلك أسى وتجمل
له صدى من قوله في أواخر القصيدة:
قعدت له وصحبتي بين ضارجٍ
…
وبين العذيب بعدما متأمل
البرق مما يهيج الذكرى. ههنا هو وصحبته قعودٌ يتأملونه، وفي البداية كانوا وقوفًا والشاعر يبكي من اجل الحبيب الذي كان والمنزل الذي عفا، والعه الذي بان. ثم ذكر المواضع، العذيب، ضارج، قطن، الستار، يذبل ههنا مناسب ومجاوب لما كان ذكره من المواضع في أول القصيدة- سقط اللوى، الدخول، حومل، توضح، المقراة.
يضيء سناه أو مصابيح راهبٍ
…
أمال السليط بالذبال المفتل
سبق ذكر الضوء ومصابيح الراهب في قوله يتذكر حسناءه:
تضيء الظلام بالعشاء كأنها
…
منارة ممسى راهبٍ متبتل
ورنة قوله: «أمال السليط بالذبال المفتل» كرنة قوله «أثرن الغبار بالكديد المركل» .
وفي قوله «المفتل» ، صدى رنة من قوله في أوائل القصيدة «كهداب الدمقس المفتل» ، والذبال شبيه بالهداب. وتكرار الفاء في قوله في أول القصيدة:
بين الدخول فحومل
فتوضع فالمقراة لم يعف رسمها
…
يشبه تكرارها في قوله
…
على الستار فيذبل
فأضحى يسح الماء حول كتيفةٍ
واجعل صوب المطر من قوله:
على قطنٍ بالشيم أيمن صوبه
…
وأيسره على الستار فيذيل
مقابلًا لنسج هذه الريح من جنوب وشمال في قوله:
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها
…
لما نسجتها من جنوب وشمأل
وقوله:
فأضحى يسح الماء حول كتيفةٍ
…
يكب على الأذقان دوح الكنهبل
في قوله: «يسح الماء» صدى صفته للحصان حيث قال:
مسح إذا ما السابحات على الونى
…
أثرن الغبار بالكديد المركل
وتأمل الكاف هنا وفي يكب والكنهبل، كلمع، مكلل.
ودوح الكنهبل يقابل سمرات الحي. والسمرة شجرة من العضاه ضئيلة شيئًا
ما، والكنبهلة الطلحة الكبيرة وهي من العضاه أيضًا. العضاه هي الأشجار ذوات الشوك وأكثر ما تكون في بلاد الجفاف.
تأمل قوله:
كأني غداة البين يوم تحملوا
…
لدى سمرات الحي ناقف حنظل
ههنا صورة فيها إكباب وشبه انكباب على الأذقان من رجلٍ كبيرٍ مثله ذي لحية ومسح ويسح الماء وصوبه وعرانين وبله، كل هذا له طيوف وأصداء تناظر وتتجاوب مع بكائه حيث قال:
وإن شفائي عبرةٌ مهراقةٌ
…
فهل عند رسم دارسٍ من معول
يهمي الدمع سحا على الرسم الدارس الذي لا معول عنده، ويحدو البرق السحاب والمطر والسيل فتصير المنازل بذلك رسومًا دارسات وهو المتأمل في كلتا الحالتين، متأمل على التوهم والتذكر بدليل تعداد المواضع وبدليل قوله:«بعد ما متأمل» يا لبعد ما أتأمله وكسرة اللام إن شئت مشبعة لترنم الروى وإن شئت ففيها ياء المتكلم، والمعنى واحد أو قريب من قريب.
وقوله:
ومر على القنان من نفيانه
…
فأنزل منه العصم من كل منزل
وتيماء لم يترك بها جذع نخلةٍ
…
ولا أطمًا إلا مشيدًا بجندل
كأن ثبيرًا في عرانين وبله
…
كبير أناسٍ في بجادٍ مزمل
كأن ذرا رأس المجيمر غدوةً
…
من السيل والغثاء فلكة مغزل
قد تسمع منه وترى أصداء رناتٍ ومشابه صورٍ تقدمن، مثلًا قوله:«فأنزل منه العصم من كل منزل» - (العصم بضم العين وسكون الصاد من وحش الجبال والتلال ضربٌ
من الوعول واحدها الأعصم) - فيه مشابه صوة من قوله:
ترى بعر الآرام في عرصاتها
…
وقيعانها كأنه حب فلفل
ومكان الشبه أن الآرام والعصم كليهما من جنس الظباء، ومكان المقابلة أن الآرام من غنم الوحش والعصم من بقرها والآرام أناث والعصم فحول، قال سويد بن أبي كاهل:
ودعتني برقاها أنها
…
تنزل الأعصم من رأس اليفع
قال الشارح، الأعصم الوعل الذي في يديه بياض. والأنثى عصماء، ألا أنه أكثر ما يراد بالجمع (العصم) في الشعر الذكور لقوتها. قال المخبل السعدي:
ولئن بنيت لي المشقر في
…
هضب تقصر دونه العصم
لتنقبن عني المنية أن
…
الله ليس كحكمه حكم
فقال الشارح وهو ابن الأنباري الكبير «والعصم الوعول وأحدها أعصم» ، أ. هـ. قلت وهو يعلم أن الواحدة عصماء فدل على أن المراد الفحول كما قدمنا. ولو ذهبنا مذهب الزمخشري رحمه الله إذن لأنكرنا أن تكون للأعصم عصماء لكثرة الأعصم في الشعر لقوته وفحولته كما أنكر في الأساس وفي التفسير أن يكون للمفند، مفندة وذلك عند قوله تعالى:{إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ} - بدعوى أنه لم يكن لها عقل وهي شابة، أو كما قال.
قلنا إن مكان المقابلة هو أن الآرام من غنم الوحش والعصم من بقرها ثم الآرام إناث والعصم ذكور، والآرام مقيمات في المنازل التي خلت من الحبائب وهن مما يشبهن ببقر الوحش، والعصم أكرهها السيل على إخلاء منازل اعتصامها بالجبال.
وقوله «جذع نخلة» - من «وتيماء لم يترك بها جذع نخلةٍ» يقابله قوله «قنو
النخلة المتعثكل ومقابلة القنو المتعثكل» للجذع جلية، وصلة النخلة بالحبيبة لا تخفى، فالحبيبة مما يكنى عنها بالنخلة والظعائن تشبه النخل- قال المرقش الأكبر:
بل هل شجتك الظعن باكرةً
…
كأنهن النخل من ملهم
وقد سبق منا تفصيل في هذا المعنى. وقوله: «غدائرها مستشزرات إلى العلى» قوي الدلالة على التشبيه بالنخلة يوحي به، وكونه ممثل قوله «كقنو النخلة المتعثكل» لا يخفى. وأحسب أنه إلى هذا النعت قد نظر المرار في نعته النخل حيث قال:
كأن فروعها في كل ريحٍ
…
جوارٍ بالذوائب ينتصينا
والمحبوبة كالنخلة في قوله:
هصرت بفودى رأسها فتمايلت
…
على هضيم الكشح ريا المخلخل
وقد سبق منا التنبيه على هذا من قبل.
والشبه واضح بين معنى عفاء الديار وخلوها من أوانسها، ومعنى خلو تيماء من النخلات والآطام- الآطام رمز حراسة وحراس ومحروسات فيه رجع صدى من قوله:
تجاوزت أحراسًا إليها ومعشرا
…
علي حراصًا لو يسرون مقتلي
الأطام جمع أطم بضمتين وهي الحصون، كانت أكثر ما تبنى من اللبن. وقد تبنى من الجندل أي الحجر. ولم يصف لنا امرؤ القيس شيئًا من أطم تيماء باقيًّا من الذي بناؤه من جندل إلا ما بنته الطبيعة من جندل، كثبير وذرا رأس المجيمر وثبير قد أحاط به السيل كأنه كبير أناس مزمل في بجاد، ووهم بعضهم فظن أن امرأ القيس قد أقوى ههنا لأن حق «كبير أناس في بجادٍ مزمل» أن ترفع «مزمل» فيها صفة لكبير وكبير مرفوعة- هكذا يبدو. وما جاءت الرواية بالإقواء، هذه واحدة، فمزعم الرفع
ههنا لا أصل من رواية له، فيما نعلم، ثم مزمل مجرورة لأنها نعت للبجاد المجرورة، أي كبير أناس في بجاد مزمل فيه كبير أناس، فحذف جميع هذا لدلالة ما سبق عليه، وليس بأبعد من قوله الفرزدق:
إليك من نفن الدهنا ومعقلةٍ
…
خاضت بنا الليل أمثال القراقير
أي من وسط الدهنا وهي رمال بنجد ومعلقة بضم القاف والقراقير هي السفن شبه الإبل بها.
مستقبلين شمال الشام تضربنا
…
بحاصبٍ كنديف القطن منثور
على عمائمنا يلقي وأرحلنا
…
على زواحف تزجى مخها ريرم
أي ريرٍ مخها، وهذا محل استشهادنا وقد تعلم خبر الفرزدق أنه لما بلغه طعن ابن أبي إسحق عليه في هذا البيت قال أما أني لو أشاء لقلت «على زواحف نزجيها محاسير» ولكني والله لا أقوله. ورواية الديوان على هذا الذي زعموا أنه أقسم لا يقوله «وتزجي مخها رير» أجود من «نزجيها محاسير» لأن الفعل مبني للمجهول وكون المخ ريرًا أدل على الضعف من المحاسير.
ولا أحسبك تخطئ أن جعلت «مزمل» في بيت أمرئ القيس صفة لأناس من قوله:
«كبير أناس» لأن الأناس بمعنى الناس ويذكر فتقول هذا الناس وعليه قول لبيد: «وسؤال هذا الناس كيف لبيد» . والاتباع- أي أن تجعل (مزملي) تابعًا للبجاد في الجر، واضح وهو الوجه. وكبير الأناس المزمل في البجاد فيه طيف من قوله:
كأن دماء الهاديات بنحره
…
عصارة حناءٍ بشيبٍ مرجل
فصورة الشيخ الذي يخضب بالحناء هنا ظاهرة وهل هذا الشيخ هو امرؤ القيس نفسه؟ ولا تخفى صلة ما بين الحناء والنساء ونفور النساء من الشيب. والبجاد هو الكساء المخطط فلهذا خصه الشاعر إذ شبه ثبيرًا والسيل مكتنفه من جانبيه كأنه كساء مخطط لما فيه من طرائق الماء والصخور.
ثم لا يخفى الصدى المتجاوب الكبير بين قوله: «يسح الماء» و «مر على القنان من نفيانه» و «عرانين وبله» وسائر صفة السيل حتى صرح بلفظه في قوله: «من السيل والغثاء» وبين قوله من قبل في صفة حصانه المسح الذي يسح العدو الشديد على وجه الكديد:
مكر مفرٍّ مقبل مدبرٍ معًا
…
كجلمود صخرٍ حطه السيل من عل
هذا السيل الذي يكب على الأذقان دوح الكنهبل ولا يدع إلا ما كان مشيدًا بجندل، ولا مشيد بجندلٍ إلا الجبل والآكام التي تتدهدى وتنحدر فيه جلاميد صخراتها. ولكأن هذا البيت قد كان من الشاعر توطئة وتمهيدًا لما سيذكره من بعد من صفة السيل وما صنعه من خرابٍ وتدمير. ولا إقواء في هذا البيت إذ لا يلزم الشاعر بناء «عل» على الضم بل له أن يقول من عل من عل من علا، قال الراجز:
باتت تنوش الحوض نوشًا من علا
…
نوشًا به تقطع إجواز الفلا
قال في القاموس وأتيته من عل بكسر اللام وضمها ومن على ومن عال أي من فوق. أ. هـ. وقوله: «كأن ذرا المجيمر البيت» فيه صدى ومشابه صورة من قوله:
دريرٍ كخذروف الوليد أمره
…
تتابع كفيه بخيطٍ موصل
فلكة المغزل من قوله: «من السيل والغثاء فلكة مغزل» فيها شبه خذروف الوليد؛ لأن تحت فلكة المغزل القطعة المستديرة الفطحاء التي يكون تحتها الخيط
المغزول وفلكة المغزل رؤيسه المستدير. وتشبه الخذروف الذي إنما هو قطعة مستديرة فطحاء فيها ثقب وخيطه طرفاه بالكفين، وقد يكون الخذروف شكله مخروطي مفعم القاعدة دقيق الأعلى، يناط به الخيط ثم يقذف ويستدير وأحسب الأول هو المراد، وإن يك الثاني هو المراد فشبه طرفه الدقيق الحاد بالفلكة المغزلية واضح. وكلا الخذروف الأفطح والمخروطي يسير المنال، الأول يمكن عمله من القرع والثاني من الدوم وكلاهما من نبات العرب معروف. وهل الوليد هنا هو امرؤ القيس؟ فالذكرى من معادن شعره، وهو القائل يذكر زحلوقة الأطفال:
لمن زحلوقة زل
…
لها العينان تنهل
وهي الزحلوفة بالفاء أيضًا.
وثبير والشيخ الكبير والحناء والشيب جميع أولئك فيهن صدًى من العنيف المثقل وكذلك الوليد والغلام الخف في قوله:
يزل الغلام الخف عن صهواته
…
ويلوي بأثواب العنيف المثقل
فأثوابه بجاده كما ترى. والغلام الخف والعنيف المثقل كلاهما يجوز أن يكون المعنى بهما هو الشاعر نفسه. وصورة الغلام الخف والوليد اللاعب تستبان بلا ريب في قوله:
كميتٌ يزل اللبد عن حال متنه
…
كما زلت الصوفاء بالمتنزل
وفي زليل اللبد أنفاسٌ من ميل الغبيط إذ قال:
تقول وقد مال الغبيط بنا معًا
…
عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
ولا يخفى صدى (فانزل) في (بالمتنزل).
وقوله «وألقي بصحراء الغبيط» من البيت:
وألقي بصحراء الغبيط بعاعه نزول اليماني ذي العياب المحمل
فيه مجاوبة وتكرار للغبيط الذي مر في أوائل القصيدة، ونحن الآن، عند هذا البيت، في أواخرها كما يعلم القارئ الكريم، واليماني ذو العياب المحمل فيه رمزٌ لامرئ القيس، تأمل قوله:
ويوم عقرت للعذارى مطيتي
…
فواعجبا من كورها المتحمل
والقصة تذكر أنه فرق ما كان على مطيته بين العذارى. والتجاوب بين قوله: «عقرت للعذارى مطيتي» ، وبين قوله «عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل» لا يخفى.
وإذا صرنا إلى آخر بيتين في رواية الزوزني- وقد تعلم إنا إنما بدأنا متابعة تجاوب أصداء القصيدة وتعاقب أطياف صورها من عند قوله:
أصاح ترى برقًا أريك وميضه
…
كلمع اليدين في حبيًّ مكلل
والبيتان هما:
كأن مكاكي الجواء غديةً
…
صبحن سلافًا من رحيقٍ مفلفل
كأن السباع فيه غرقين عشيةً
…
بأرجائه القصوى أنابيش عنصل
فقوله مفلفل فيه رجع صدى قوله:
ترى بعر الآرام في عرصاتها
…
وقيعانها كأنه حب فلفل
وسلافًا من رحيق مفلفل مقابلة لقوله:
كأني غداة البين يوم تحملوا
…
لدى سمرات الحي ناقف حنظل
والحنظل حارٌّ في العينين كالفلفل. ومرٌّ شرابه، شتان ما بينه وبين الرحيق المفلفل الذي كأن هذه الطير من فرحها بالمطر قد سقيت منه فانتشت. الشاعر يحس نشوتها من الذكرى البعيدة، وهو من ألم البكاء على تحسر تلك الذكرى كناقف الحنظل. وقد تذكر حديثنا من قبل عن دموع علقمة ورمزية ظليمه الذي:
يظل في الحنظل الخطبان ينقفه
…
وما استطف من التنوم مخذوم
والتنوم لشدة خضرته يشبه به سواد شعر الشباب والخطبان فيه خطوط خضر وصفر والشيب إذا خضب بالحناء ضرب لونه إلى الصفرة، وقبل بيت علقمة قوله:
كأنها خاضبٌ زعرٌ قوادمه
…
أجنى له باللوى شريٌ وتنوم
والشرى هو الحنظل- وما في هذا البيت من دلالات الشباب والشيب غير قليل. هذا وقول امرئ القيس «عشية» يقابل «غديةً» والسباع الغرقى في مقابلة العصم التي قد أنزلت وفي مقابلة بعر الآرام ن ترود. وأنابيش العنصل في مقابلة حب الفلفل. وأنابيش النبات عروقه المنبوشة، شبه الشاعر السباع الغرقى غامرها الماء لا يبدو منها إلا الأذن مثلًا وبعض الذنب، بهذه الأنابيش من البصل البري. وجعلها هكذا إذ رآها على بعد، يدلك على ذلك قوله:«بأرجائه القصوى» وثم نوعٌ من مقابلة بين النظر البعيد ههنا والنظر القريب في قوله «ترى بعر الآرام في عرصاتها وقيعاتها البيت» وقوله:
فبات عليه سرجه ولجامه
…
وبات بعيني قائمًا غير مرسل
يذكرك بقوله «فواعجبا من كورها المتحمل» وقوله «وقوفًا بها صحبي علي مطيهم» لأن فيه مماثلة «بعيني قائمًا غير مرسل» وبات تقابل ظل في:
فظل العذارى يرتمين بلحمها
…
وشحم كهداب الدمقس المفتل
وهذا البيت له مقابل من أبيات خقه الحصان والصيد وهو قوله:
فظل طهاة اللحم ما بين منضج
…
صفيف شواءٍ أو قديرٍ معجل
الطهاة إما من صحب امرئ القيس وإما غلمانه، وقد سماهم على كلتا الحالتين أيتهما كانوا، طهاة، هذا عملهم، يعدون الصفيف والقدير له ولمن معه.
أما العذارى فهن أولًا عذارى حديثات السن كما ترى، وارتماؤهن باللحم والشحم لهوٌ، وعليهن الدمقس المفتل وهن كالدمقس المفتل. ويجوز أنه لم يرد بارتمائهن إلا ما كن فيه من حالة عمل، ولكنه عمل في أنسٍ ولهو ولعب. في بيت الطهاة توفر على الطعام نفسه وفي بيت العذارى خفة روح ومرح. وبعد هذا البيت وقبل بيت السرج واللجام:
ورحنا يكاد الطرف يقصر دونه
…
متى ما ترق العين فيه تسهل
إلا تجد هنا رنة من قوله:
إلى مثلها يرنو الحليم صبابةً
…
إذا ما اسبكرت بين درعٍ ومجول
الحصان من جماله أعاليه وأسافله، يكاد ينقلب الطرف دونه وهو حسير. والحسناء الشابة من جمالها وفتنتها تزدهي قلب الحليم حين تضطرب قناة جسمها وقوامها المسبكر في الدرع والمجول، فلا يملك نفسه إلا أن يرنو إليها ببصره الذي كان مراده أن يغضه لما يمليه عليه حزم الحليم وأناته.
وتأمل قوله:
كأن على المتنين منه إذا انتحى
…
مداك عروسٍ أو صلاية حنظل
كأن دماء الهاديات بنحره
…
عصارة جناءٍ بشيب مرجل
فعن لنا سربٌ كأن نعاجه
…
عذارى دوارٍ في ملاءٍ مذيل
قوله: «كأن على المتنين» فيه صدًى لفظي من قوله:
وفرع يزين المتن أسود فاحم
…
أثيثٍ كقنو النخلة المتعثكل
وقنو النخلة المتعثكل فيه مقابلة لقوله من بعد:
وقد اغتدى والطير في وكناتها
…
بمنجردٍ قيد الأوابد هيكل
والمقابلة في كونه منجردًا تزين متنية ملاسة انجراد كأنها مداك عروس، وقنو النخلة كما ترى غير منجرد، والنخلة هي كالفتاة ذات الفرع الذي يزين المتن وهو أسود فاحم أثيث. فالمقابلة هنا تامة كما ترى.
وتأمل قوله: «وقد اغتدى والطير في وكناتها» مع قوله: «كأن مكاكي الجواء غدية» وقد تعلم أنه كما اعتدى إلى الصيد قبيل السحر والطير واكنات، كذلك نظر إلى البرق ليعلم أين يصوب والطير واكنات، ثم بقي يتأمل فعل الغيث حتى أصبح والطير صوادح وهو بعد القائل:
نشيم بروق المزن أين مصابه
…
ولا شيء يشفي منك يابنة عفزرا
وقوله «مداك عروس» فيه ظلال وأصداء من «خدر عنيزةٍ» وإنما الخدر للعروس وبما بمجراها. وقوله:
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع
…
فألهيتها عن ذي تمائم محول
لا يدل على أن عنيزة كانت حبلى أو مرضعًا ولكنها تمنعت عليه، فقال هذا على نوعٍ من التحدي والشغب والفحولة، ثم لما لم يجده رجع إلى اللين والانكسار في قوله:
أفاطم مهلًا بعض هذا التدلل
…
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
وفي قوله «ممداك عروس» ، أيضًا ظلٌّ من قوله:
ويضحى فتات المسك فوق فراشها
…
نئوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
وقوله «نئوم الضحى» لا يخفى أنه يقابل: «وقد اغتدى إلخ
…
» والمداك هو الحجر الذي يسحق عليه الطيب، وكان من طيبهم الذريرة من الخشب الزاكي كالصندل وضروب الروائح العطرة. قالت الفتاة (ديوان الحماسة):
سبي أبي سبك لن يضيره
…
إن معي قوافيًّا كثيرة
يفوح منها المسك والذريرة
وقوله: «صلاية حنظل» مقابل لقوله «مداك عروس» والصلاية كالمداك مدق الطيب. قال ابن الأنباري: «ومداك عروس معناه صلاية عروس» وروايته: «كأن سراته لدى البيت قائمًا» والمعنى كأن على المتنين إذ أن المتنين هما السراة وسراته أعلاه. وفي صلاية الحنظل كالوحي والرمز إلى الشاعر نفسه لأن في صلاية الحنظل رجع معنًى من نقف الحنظل لدى سمرات الحي. وقوله:
فعن لنا سربٌ كأن نعاجه عذارى دوارٍ في ملاءٍ مذيل
عجز البيت يقابل في الإيقاع وظلال الصور وأصداء النغم قوله: «كبير أناسٍ في بجادٍ مزمل» والمقابلة المعنوية ظاهرة، الشيخ الكبير المزمل في عباءةٍ مخططة والعذارى المرحات يطفن حول الدوار بفتح الدال والواو هنا وهو صنم لهم في الجاهلية (وتشدد الواو وقد يضم الدال كلهن لغة). وسرب النعاج هنا مقابل لسرب عذارى دارة جلجل الذي في أوائل الأبيات. وتأمل رجع صدًى كالنغم في دوار
…
ودارة جلجل. وقوله:
فأدبرن كالجزع المفصل بينه
…
يجيد معمٍّ في العشيرة مخول
يصف السرب حين التوين مدبراتٍ وفيهن ألوان سوادٍ وبياضٍ فشبههن بقلادةٍ من جزع ظفار وهو خرز كريم صافي البياض والسواد، هذه القلادة على جيد حسناء كريمة من أصولٍ كريمة. معم مخول بفتح العين والواو وكسرهما. وزعم ابن السكيت -في رواية ابن الأنباري- أنه يصف قلادة في جيد غلام معم مخول (راجع شرح السبع طبعة تحقيق عبد السلام محمد هرون ص 94، 51، 52)، والوجه ما ذهب إليه ابن حبيب:«في يجيد كريم الأبوين، أي شخصٍ كريم الأبوين» وهذا الشخص بلا ريب هو الفتاة الموصوفة. وأغرب الزوزني فقال: «وشرط كونه في جيد معم مخول لأن جواهر قلادة مثل هذا الصبي أعظم من جواهر غيره، وشرط كونه مفصلًا لتفرقهن عند رؤيته» أ. هـ. وإنما جاءه الوهم من صفة الوشاح في قوله: «تعرض اثناء الوشاح المفصل» - قال ابن الأنباري: «المفصل الذي فصل بالزبرجد» أ. هـ. ويجوز نحو هذا عند أهل الترف وزمانه، وإنما كانت العرب تفصل بالخرز والودع. والوجه الذي قدمناه أن المراد جيد الفتاة، لا ريب فيه، شاهد ذلك سوى السياق قول جرير:
فما مغزلٌ أدماء تحنو لشادنٍ
…
كطوق الفتاة لم تشدد مفاصله
بأحسن منها يوم قالت أناظرٌ
…
إلى الليل بعض النيل أم أنت عاجله
تأمل جمال قوله (إلى الليل بعض النيل)، جرير هنا ينظر إلى معاني امرئ القيس وصوره. وامرؤ القيس يقول وهو مما يتجاوب صداه مع بيته المتقدم الذكر:
وجيد كجيد الرئم ليس بفاحش
…
إذا هي نصته ولا بمعطل
فهو جيدٌ حالٍ عليه عقد من جزع ظفار. وفي السيرة إن السيدة خديجة رضي الله عنها زفت السيدة زينب إلى زوجها أبي العاص وأهدت لها عقد ظفار، وأنه لما أسر أبو العاص ببدر (وذلك قبل إسلامه) أرسلت زينب بالعقد في فدائه فرق لها
النبي صلى الله عليه وسلم. وما زال عقد الجزع ونحوه من حلي العرس عندنا إلى عهد قريب، يتبركون فيما أحسب بخبر السيرة، أو عرفًا توارثوه إذ مادة عربنا من الحجاز أو أقدم والله أعلم.
جرير يصف جيدًا نصته صاحبته كجيد الرئم وشبه التواء الشادن وهي تحنو عليه بطوق الفتاة وهذه هي عين صورة التواء سرب الوحش مدبرات كأنهن فصوص الجزع ولكن بين ألوان خرزهن لون جيد حر كريم من حرة كريمة. وقول جرير: «كجيد الفتاة» نص واضح وشعر العرب يفسر بعضه بعضًا، وقال ذو الرمة يصف ولد الظبية ملتويًّا وأمه تحنو عليه:
كأنه دملجٌ من فضةٍ نبهٌ
…
في ملعبٍ من عذارى الحي مفصوم
الدملج السوار والنبه بالتحريك المنسي، ولا يخفى بعد أن قوله:
فادبرن كالجزع المفصل بينه
…
بجيد معمٍ في العشيرة مخول
فيه أطياف قوله:
إذا ما الثريا في السماء تعرضت
…
تعرض أثناء الوشاح المفصل
والوشاح يفصل بالخرز والودع، وعاب بعضهم قول امرئ القيس «تعرضت» فقالوا الثريا لا تتعرض ولكنه تتعرض الجوزاء. ولله در أبي العباس المبرد إذ استحسن هذا البيت في معرض حديثه عن التشبيه في الكامل. وجليٌّ أن امرؤ القيس ههنا يوحي بصورة صاحبته التي قال فيها:
خرجت بها أمشي تجر وراءنا
…
على أثرينا ذيل مرطٍ مرحل
وقوله:
فألحقنا بالهاديات ودونه
…
جواحرها في صرةٍ لم تزيل
وفي هذا البيت نباةٌ من قوله في أول القصيدة:
كدأبة من أم الحويرث قبلها
…
وجارتها أم الرياب بمأسل
إذا قامتا دموع العين مني صبابةً
…
على النحر حتى بل دمعي محملي
ألا رب يومٍ لك منهن صالح
…
ولا سيما يوم بدارة جلجل
وذلك بأن أم الحويرث وصويحباتها إلى عذارى دارة جلجل هن من نعاج الشاعر الأنسية هادياتٌ أي متقدمات لمجيء ذكرهن في أول القصيدة، والمرأة مما يقال لها النعجة، قال تعالى في خبر سيدنا داود عليه السلام:{إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} وفي قول امرئ القيس: «إذا قامتا تصوغ المسك منهما إلخ» أناة وبطء أنوثةٍ، وغزلٌ كما ترى وقوله:«جواحرها في صرة لم تزيل» فيه طيف وصدى من هذا؛ لأن الجواحر هن المتأخرات ولم يزلن في جماعتهن، تنهض النواهض منهن في أناة، وقوله «في صرة» يفيد معنى الجماعة المؤنثة، قال تعالى:{فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} (الذاريات). وقول امرئ القيس: «نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل» فيه عرفٌ زاكٍ من روح «صبحن سلافًا من رحيق مفلفل» وله صدًى أوضح في رواية الدواوين الستة:
إذا التفتت نحوي تضوع ريحها
…
نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
وهذا تكرار وهو من مذاهبهم، وقوله:
فعادى عداءً بين ثورٍ ونعجةٍ
…
دراكا ولم ينضح بماءٍ فيغسل
ولا ريب أن القارئ الكريم قد فطن إلى أنا متبعو أصداء هذه القصيدة من عند آخرها (بشيءٍ) من تفصيل وقد كنا أجملنا من ذلك في معرض الحديث عن
الخمصانة في الجزء الثالث من قبل وانظر ص 1181 من طبعة 1970 م) هذا البيت متجاوب الصدى مع قوله: «كأن دماء الهاديات بنحره البيت» أي هو لم يعرق ولكن جرى دم الهاديات من الوحش على عنقه إذ لطخوها به. وعصارة الحناء هذه (في قوله عصارة حناء بشيب مرجل) قد سالت من لحية الشيخ الباكي الخاضب بالحناء ولعلك واجدٌ في قوله: «لم ينضح بماء فيغسل» لونًا وصدى من قوله:
ففاضت دموع العين مني صبابةً
…
على النحر حتى بل دمعي محملي
وقال أبو الطيب في رثاء أبي شجاع:
بأبي الوحيد وجيشه متكاثرٌ
…
يبكي ومن شر السلاح الأدمع
فما أشك أنه نظر إلى دمع امرئ القيس الذي بل محمل سيفه.
والثور رجل والنعجة امرأة في مجاري الرمز والكناية. والنعجة المحبوبة. والثور إما الشاعر وإما عاذله الشديد العذل الناصح له مع ذلك:
ألا رب خصمٍ فيك ألوى رددته
…
نصيح على تعذاله غير مؤتلي
وههنا معنى مقابل لقوله:
تجاوزت أحراسًا إليها ومعشرًا
…
علي حراصًا لو يسرون مقتلي
إذ هؤلاء جماعة وذلك فردٌ، وهذا قد رده حجةً بحجةٍ وأولئك حذرهم وتجاوزهم وهذا الخصم واضح جهير غير مقصرٍ في النصح. وأولئك أعداء موغرو الصدور يسرون الكيد ويتربصون به الغوائل و «علي حراصًا لو يسرون مقتلي» قريب رنة النغم من «نصيح على تعذاله غير مؤتلي» وقوله:
له أيطلا ظبي وساقا نعامةٍ
…
وإرخاء سرحانٍ وتقريب تتفل
يشبه صدى صوت العجز فيه صدى إيقاع قوله: «وأردف أعجازًا وناء بكلكل» ومع هذا التجاوب والتحاذي في الإيقاع مقابلة في المعنى، بين خفة الإرخاء والتقريب وحال البطء وثقل الحركة في «أردف أعجازًا وناء بكلكل» وهنا أيضًا صدًى خفيٌ من «إذا قامتا» ومن «جواحرها في صرةٍ» البيتين. ثم بين «له أيطلا ظبيٍ وساقا نعامةٍ» مشابهة في المعنى ولحن الإيقاع لقوله:
وكشح لطيفٍ كالجديل مخصرٍ
…
وساقٍ كأنبوب السقي المذلل
ولعل القارئ الكريم قد أحس الجناس في «السقي» «وساق» . (الجديل أي الزمام) وقوله: «أيطلا ظبي» يقابل الكشح اللطيف المخصر. وقوله: «ساقا نعامةٍ» بإزاء قوله «وساق كأنبوب السقي إلخ» والأنبوب ناعم ممتلئ طويل، وساق النعامة قصير شديد متماسك وبه وصف عنترة ساق أمه زبيبة:
وأنا ابن سوداء الجبين كأنها
…
ضبعٌ ترعرع في رسوم المنزل
الساق منها مثل ساق نعامةٍ
…
والشعر منها مثل حب الفلفل
وفي قوله -أي عنترة-: «ضبع ترعرع في رسوم المنزل» كالنظر الساخر إلى قول علقمة: «كأنها رشأٌ في البيت ملزوم» .
وقوله يصف فرسه:
ضليع إذا استدبرته سد فرجه
…
بضافٍ فويق الأرض لبس بأعزل
مقابلة مع قوله: «بمنجرد قيد الأوابد هيكل» إذ الانجراد قلة الشعر، ومشابهة لقوله:
وفرع يزين المتن أسود فاحمٍ
…
أثيث كقنو النخلة المتعثكل
وكثافة أغصان النخلة تزين أعلاها وذنب الفرس يزبين عجزه وأسفله كما ترى، ولا يفوتنا هنا صدًى من قوله:
فسرت بها أمشي تجر وراءنا
…
على أثرينا ذيل مرط مرحل
وتأمل قوله:
«ذيل مرطٍ مرحل» ورنة «مرطٍ مرحل» . هذا وقوله:
على الذبل جياش كأنه اهتزامه
…
إذا جاش فيه حميه غلي مرجل
فيه صوت المرجل المذكور هنا وفي قوله:
فظل طهاة اللحم ما بين منضج
…
صفيف شواءٍ أو قدير معجل
(لأن القدير إناء طهيه المرجل) والمقدر في قوله من قبل:
فظل العذارى يرتمين بلحمها
…
وشحم كهداب الدمقس المفتل
ثم في قوله جياش واهتزامه وجاش حميه شيء من جيشان السيل وهزيم الرعد وكلا هذين مذكورٌ في آخر القصيدة حيث قال:
فأضحى يسح الماء حول كتيفةٍ
…
يكب على الأذقان دوح الكنهبل
أصاح ترى برقًا أريك وميضه
…
كلمع اليدين في حبيٍ مكلل
والحبي (مر تفسيره) مع بارقه رعدٌ وجيشان وهزيم.
ثم في ذلك استمرارٌ لصوت الحركة ومنظر الصورة في قوله:
مكرٍّ مفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معًا
…
كجلمود صخرٍ حطة السيل من عل
وقوله مكر مفر موازنة لقوله:
تصد وتبدي عن أسيلٍ وتتقي
…
بناظرةٍ وحش وجرة مطفل
إذ ههنا نتابع حركةٍ في رشاقةٍ وخفة وكذلك حال الفرس، والمرأة مما تشبه بالمهرة قال الأعشى:
عهدي بها في الحي إذ أبرزت
…
هيفاء مثل المهرة الضامر
ولذلك ما زعمنا من قبل أن علقمة إذ قال:
وقد أقود أمام الحي سلهبة
…
يهدي بها نسبٌ في الحي معلوم
كما افتخر بأنه فارس ذهب إلى معنى من الرمز بالسلهبة لسلمى.
وجلمود الصخر المحطوط من علٍ موازنٍ لذرا رأس المجيمر ولثبير وللأطم المشيد بجندل المقاوم للسيل، وقوله:
كميت يزل اللبد عن حال متنه
…
كما زلت الصفواء بالمتنزل
ظاهرة مقابلته لميل الغبيط.
ووصف الذئب والقربة وقد مر بك فغ معرض حديثنا عن الصعلكة والفروسية من الجزء الثالث إنكار صاحب الخزانة أن يكون هذا من شعر امرئ القيس وأصل إنكاره من الأصمعي وقد تعلم أن امرأ القيس مر عليه حين من الدهر وهو خليع وجاءه خبر مقتل أبيه وهو مع بعض ذؤبان العرب. فما أنكره منكر من أمر هذه الأبيات ليس بثبت، وقد كان الأصمعي نديم ملوك، فغلب جانب النديم البلاطي منه في هذا الذي عسى أن يكون قد توهمه من إنكار الصعلكة على امرئ القيس، ولأمر ما جعله المعري نديمًا بلاطيًّا في رسالة الغفران وأخر مكانه في الصفوة عن المبرد وابن دريد ويونس والأخفش الأوسط وأدرجه في أهل اللغة والنحو ممن عادوا في الجنة متآخين بعد أن كانوا في الدار الفانية أعداء، ولم يسلمه، على ذلك، من خصومه مع المازني وانتصار من هذا عليه، ثم جعله يتمثل بقول الشاعر:
أعلمه الرماية كل يوم
…
فلما اشتد ساعده رماني
وينهض كالمغضب ويفترق أهل المجلس وهم ناعمون- فجعل الأصمعي وحده غير ناعم كما ترى.
هذا ولعل ما قدمناه أن يفي ببعض ما نزعمه من تجاوب أصداء الإيقاع وأطياف الصور ومقابلاتها في معلقة امرئ القيس، مع الذي سبق من تناولنا له في باب الخمصانة. على أننا بعد أن عالجنا موضوع تجاوب الأصداء من عند وصف الفرس والبرق والسيل نبهنا إلى ما يعود من ذلك على النعوت وضروب الإيقاع المتقدمة من عند الوقوف والاستيقاف إلى موضع صفة الذئب والقربة، نريد أن نلفت النظر إلى طريقة توارد المعاني في هذه القصيدة من عند أولها، ومع علمنا بأن كثيرًا ذلك هو أدخل في باب الأغراض ونفس الشاعر، وذلك سيلي إن شاء الله، نرى أن هذا الموضع أجدر به لنستكمل بعض ما يحسن التنبيه عليه من تجاوب الرنات والمعاني والصور. أول شيء الوقوف والاستيقاف من أجل الحبيب والمنزل والبكاء، يجاوب هذا وصف السيل وبكاء الغمام وعفاء الديار في آخر القصيدة.
ثانيًّا: ذكرى تحمل الأحباب:
كأني غداة البين يوم تحملوا
…
لدى سمرات الحي ناقف حنظل
وقوفًا بها صحبي علي مطيهم
…
يقولون لا تهلك أسًى وتجمل
هذا يقابله أمر غداة الصيد ومرح الأصحاب وجمال الفرس كما يقابله غداة غلب السيل على كل شيءٍ وتغنت الطيور. وقد سبق التنبيه على المقابلة بين ناقف الحنظل والمصبوح من السلاف ومداك العروس وصلابة الحنظل.
ثالثًا: عذل الصحاب له ورده عليهم، يقولون له لا تهلك أسى وتجمل ويقول لهم:
وإن شفائي عبرةٌ مهراقةٌ
…
فهل عند رسم دارس من معول
وهذا صداه قوله: «ألا رب خصم فيك ألوى رددته» الخصم يعذله على الضلال في الحب، وهؤلاء يعذلونه على إهلاك نفسه بالأسى من أجل الذكرى والحبيب والمنزل الذي درس ولا غناء عنده.
رابعًا: شفاء الدمع له بانكشاف صور الذكرى أمامه. وقال ذو الرمة وإلى امرئ القيس نظر ومنه أخذ:
خليلي عوجا من صدور الرواحل
…
بجمهور حزوى فابكيا في المنازل
لعل انهمال الدمع يعقب راحةً
…
من الوجد أو يشفي نجي البلابل
شفاء الدمع في استعادة الذكرى وحياتها بالخيال حياةً أرفع في ذروة الفن، حياةً هي خلقٌ فنيٌّ جديد. عند كلردج أن الخيال الأول هو معدن الخلق والإبداع فإن لا يكن في قوله غموض أو غلو فعسى أن يكون مراده، وسنعرض هذا إن شاء الله لمقالته في موضع يلي. ومما يحسن ذكره ههنا على سبيل الاستطراد قول أبي الطيب:
فإن يكن المهدي من بان هديه
…
فهذا وإلا فالهدى ذا فما المهدي
وإلا فالخيال والإبداع ذا، فما الخيال؟
خامسًا: أفضت بالشاعر راحة الدمع والبكاء إلى التلذذ بذكرى الحبائب، وخاصة يوم دارة جلجل، وحدث به الأصمعي عمن لم يسمه من رواية الفرزدق، وفيه ما يدل على أن عنيزة كانت من العذارى وأن قوله:«فمثلك حبلى إلخ» فخر منه وتبجح وجدل غضبةٍ من عاشق. (راجع شرح السبع ص 14) ولا يخلو سياق الخبر من خيال الأساطير، وقصة الحسن البصري وثياب الريش في ألف ليلة وليلة تنظر إلى خبر يوم دارة جلجل، ولا يخفى أن الفرزدق ورواته كانوا يترددون على مربد البصرة- قصة ملابس الريش في حكاية الحسن البصري والحسناء بدور بنت الملك الغيور
…
سادسًا: حواره مع عنيزة وأمر الغبيط وقوله:
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع
…
فألهيتها عن ذي تمائم محول
له صدًى في قوله:
«
…
كالجيد المفصل بينه
…
بجيد معم في العشيرة مخول»
لأن التميمة مما تكون كالطوق، وأحسب أن وهم ابن السكيت رحمه الله أصله من ههنا ثم تشبيه الشادن في انحنائه وغفلته بالطوق والدملج مستكن ههنا؛ لأن المرضع كالظبية الحانية على ولدها، وذو التمائم كالصغير الساجي من ولد الظباء، وقد تعلم قول امرئ القيس:«وتتقي بناظرةٍ من وحش وجرة مطفل» فمجاوبة هذا ومناسبته لبيت المرضع كما ترى غير خافية. ومحول ومخول- (وأجود عندي صيغة اسم الفاعل) بينهما من شبه الرنة أمرٌ جلي. وقوله:
إذا ما بكى من خلفها انصرفت له
…
بشق وتحتي شقها لم يحول
له صدى في بيته:
فقلت له لما تمطى بصلبه
…
وأردف أعجازًا وناء بكلكل
وهذا فيه مجاوبة أصداء وترجيع معانٍ وإيقاع مع قوله:
فقلت لها سيري وأرخي زمامه
…
ولا تبعديني من جناك المعلل
ورأيت في 1967 م في نسخة بمكتبة السيد العباسي عبد القادر باش أعيان رحمه الله بالبصرة بعد هذا البيت:
ذرى البكر لا ترثي له من ردافنا
…
وهاتي أذيقينا جناة السفرجل
وفيه حلاوة ولعله جيء به تفسيرًا وتفريعًا عما قبله من راوٍ أو قاص قديم أو هل
قاله امرؤ القيس ثم أضرب عنه واستغنى بقوله:
فقلت لها سيري وأرخي زمامه
…
ولا تبعديني من جناك المعلل
أستبعد هذا الوجه وإن بدا في البيت شيء من روح امرئ القيس ونفسه في «ردافنا» لملاءمتها ومجاوبتها فيما يبدو لقوله: «وأردف أعجازًا» ولقوله «جناة السفرجل» لما فيها من تكرار لفظ الجني ومعناه، ولموازنة السفرجل كلمات مثلها في القصيدة كالسجنجل والعقنقل، إذ هذه للمتأمل روح محاكاة وليست أصيلة ولعلها صناعة مسجدية كقول أبي عمروٍ في:
وسنٍّ كسنيقٍ سناءً وسنما
…
ذعرت بمدلاج الهجير نهوض
ومما يدل على ما نرجحه من أنه مصنوع على ظاهر حلاوته وخفة روحه أن فيه شيئًا من تطويل زائد ليس من حاق جزالة امرئ القيس في شيء، مثلًا:«ذرى البكر لا ترثي له إلخ» فقد سبق قوله: «عقرت بعيري» وهو فوق الرثاء إذ هو زجر، وسبق قوله:«وقد مال الغبيط بنا معًا» وفيه عدم المبالاة وروح اللهو من الشاعر الذي الجهر به في «ذرى البكر إلخ» لا يزيده جودة ولا حاجة إليه. وقوله: «وهاتي أذيقينا جناة السفرجل» طويل، ولا يخلو من غلظة بعيدة كل البعد من لطف:«ولا تبعديني من جناك المعلل» وأجود ما في البيت السفرجل، ولعلها كان في بيتٍ أضاعته الرواة ولفق المسجديون هذا الحلو الظاهر الخاوي الباطن مكانه، وليس كما ترى بكبير شيء.
سابعًا: المضي في خبر عنيزة وتمنعها وذكر يوم ظهر الكثيب:
ويومًا على ظهر الكثيب تمنعت
…
علي وآلت حلفة لم تحلل
وهذا يجاء به بعد قوله بعد:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
…
بنا بطن خبتٍ ذي حقافٍ عقنقل
هصرت بفودى رأسها فتمايلت
…
علي هضيم الكشح ريا المخلخل
وهذا الوصف له رنة في قوله: «له أيطلا ظبي وساقا نعامة» ولعل الموصوف هنا بقوله: «فلما أجزنا ساحة الحي إلخ» هو بعينه يوم الكثيب الذي تمنعته لقوله:
فقالت يمين الله مالك حيلة
…
وما أن أرى عنك الغواية تنجلي
والغواية بفتح الغين ضلال العشق ولا تزال كلمات من أصلها تستعمل في دارجتنا يقال هو غاوي فلانة أي عاشقها والغي أي العشق. وزعم بعضهم أن قوله سبحانه وتعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} أي محبو الشعر وعاشقوه وهذا وجه ضعيف لا يجيزه السياق والاستثناء من بعد، والله أعلم، نعوذ به أن نقول في كتابه بما لا نعلم.
ثامنًا: وهو طرفٌ مما تقدم، مناغاته فاطمة بقوله:
أفاطم مهلًا بعض هذا التدلل
…
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
أغرك مني أن حبك قاتلي
…
وأنك مهما تأمري القلب يفعل
وإن تك قد ساءتك مني خليقة
…
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي
…
بسهميك في أعشار قلبٍ مقتل
قوله: «أفاطم مهلًا» التفات من قوله: «على ظهر الكثيب تمنعت» فكأنه قال مهلًا عن هذا التمنع، والتمتع يعود على قوله من قبل:«عقرت بعيري يا امرأ القبيس فانزل» كما فيه رنة معنًى وإيقاع تتصل بقوله: «وما إن أرى عنك الغواية تنجلي» وتأمل النون وتأمل السين في ساءتك
…
سلي
…
تنسل بضم السين وكسرها ولا أستبعد الفتح وتخفيف اللام سلي ثيابي تنسلي من ثيابك، خفف اللام ثم حركها بالكسرة وهو وجهٌ في المشدد والجزم يقويه هنا وليس بأبعد من قراءة من قرأ: {وَمِنَ
النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} في سورة فاطر، وقف عنده ابن جني في المحتسب.
وهذه الأبيات من أرق الشعر ولا أعلم ما قول أصحاب مادية غزل العرب فيها وهو قولٌ ضحل قال به العنصريون خنزوانةً وجهلًا وأخذ به بعض المعاصرين أما عن غفلة وإما عن جهل وإما عن بعض الطلب الضال للتحرر مما يظن أنه قيد من المحافظة والدين، والعجب من مذهب أحمد أمين في هذا الباب.
وفي قول امرئ القيس: «أغرك مني» انظر كيف جاء بالراء في القسيم الأول ثم في أوائل القسيم الثاني: «وأنك مهما تأمري القلب بفعل» ، وقوله:«وما ذرفت عيناك» يقابل قوله: «ففاضت دموع العين» وقد فاضت على محمل سيفه وليس له من غناء وقد فاضت عيناها وهما بذلك سهمان يخترقان القلب، وهما أيضًا قدحًا ميسرٍ يلعبان تدللًا بالعاشق- وههنا طيف وظلٌّ من المطية التي عقرها والمطية رمز للشاعر نفسه وقد ذبحت وجعلت أعشارًا وضربت عنيزة بسهميها تلعب بهذه الأعشار المقطعة.
تاسعًا: مغامرة الغرام من عند قوله:
وبيضة خدرٍ لا يرام خباؤها
…
تمتعت من لهوٍ بها غير معجل
وهذا صدًى من قوله: «ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة» ومن قوله: «فمثلك حبلى قد طرقت ومرضعٍ» وكأنه استمرار ورجعة إلى ذلك بعد الرقة التي رقها في قوله: «أفاطم مهلًا بعض هذا التدلل» . وهذه المغامرة التي ذكرها امرؤ القيس كانت أمثالٌ لها مذهبًا عند الشعراء ولعله هو حاكي مذهبًا وقد نبهنا إلى ما نرجحه من قدم قصة العاشقين من أمثال عروة والمرقش في معرض الحديث عن الحسن بن هانئ.
وفي شعر المهلهل والمرقش الذي بأيدينا لها مشابه، وقد تقدم منا بعض الحديث عن:
ألا يا اسلمي لا صرم لي اليوم فاطما
…
ولا أبدًا ما دام وصلك دائمًا
والمغامرة كما يعلم القارئ أصلحه الله في بائية سحيم: «عميرة ودع إن تجهزت غاديًّا» وشيء منها في ميمية عنترة:
يا شاة ما قنصٍ لمن حلت له
…
حرمت علي وليتها لم تحرم
فبعثت جاريتي فقلت لها اذهبي
…
فتحسسي أخبارها لي واعلمي
قالت رأيت من الأعادي غرةً
…
والشاة ممكنةٌ لمن هو مرتمي
فنسبة ابتداء هذا المذهب إلى المخزومي موضع نظر عندنا ولنا إلى هذا عودة في بابه إن شاء الله، نسأله سبحانه أن يجعلنا ممن إذا وعد وفى.
وقوله: «تمتعت من لهو بها غير معجل» له صدًى إيقاعيٌ معنويٌّ يجاوبه في قوله: «صفيف شواءٍ أو قدير معجل» ولا يخفى أن هذا يقابل شواء يوم دارة جلجل وفيه صاحبة الخدر المخاطبة بهذا الافتخار الغزلي من امرئ القيس إذا تمنعت وإذ قال لها: «فمثلك حبلى» وقوله: «وبيضة خدرٍ لا يرام خباؤها» عدلٌ وموازنٌ ومقابلٌ لقوله: «ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة» وقوله:
تجاوزت أحراسًا إليها ومعشرا
…
علي حراصًا لو يسرون مقتلي
من تتمة المغامرة وتتمة حديثه عن الخباء الذي لا يرام، وفيه رنة معنى ونغم نجد ظلالها في قوله من بعد:
وقربة أقوامٍ جعلت عصامها
…
على كاهلٍ مني ذلولٍ مرحل
وهذه صفة حال تصعلكه وهو هنا مع الأقوام لم يتجاوزهم، فهذا مكان
المقابلة. وهو هنا منحنٍ تحت عبء القربة. وقوله: «على كاهلٍ مني ذلولٍ مرحل» فيه رنة قوله:
فسرت بها أمشي تجر وراءنا
…
على أثرينا ذيل مرطٍ مرحل
وشتان ما سيره هنا وسيره هناك، ومرحل «هنا» و «مرحل» هناك، والذيل المجرور لتعفيه الأثرين، وعصام القربة الذي على الكاهل الذلول ولا يعبأ أحدٌ بالآثار وستعفو إصباح الرياح، وتأمل قوله: ذيل، ذلول.
عاشرًا: قوله:
إذا ما الثريا في السماء تعرضت
…
تعرض أثناء الوشاح المفصل
وهذا من فواصل القصيدة النغمية الإيقاعية والمعنوية الإيحائية، وفيه توقيت تجاوزه الأحراس ودخوله الخباء الممنع، فهذا يربطه بما قبله. وفيه ذكر هذا النجم وهذا يوطئ لأبيات الليل التي ستجيء
…
وصداه.
فيا لك من ليل كأن نجومه
…
بكل مغار الفتل شدت بيذبل
كأن الثريا علقت في مصامها
…
بأمراس كتانٍ إلى صم جندل
ويذبل في آخر القصيدة في قوله:
على قطن بالشيم أيمن صوبه
…
وأيسره على الستار فيذبل
وكذلك جندل في قوله: «ولا أطمًا إلا مشيدًا بجندل» فهذا ثابت كثبات الثريا في مصامها. و «أمراس كتان» فيها رنة وطيف من «الدمقس المفتل» وقد مر قوله «بكل مغار الفتل شدت بيذبل» والثريا مشبهةٌ بصاحبة الوشاح المفصل.
حادي عشر: تتمة الخبر عن المغامرة مع التوطئة للوصف:
فجئت وقد نضت لنوم ثيابها
…
لدى الستر إلا لبسة المتفضل
وهذا يقابل قوله:
وتضحي فتيت المسك فوق فراشها
…
نئوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
والمقابلة توقيت وذكر بأية حالٍ وأواخرها.
وقوله: «وقد نضت لنوم ثيابها» له جرس وإيقاعٌ ومعنًى منسجم مع قوله من قبل «فسلي ثيابي من ثيابك تنسل» و «لدى الستر» فيه معنى «ويوم دخلت الخدر» إذ الخدر ستر، وهو المتجاوز له في كلتا الحالتين، ويدلك على أن هذا تكرار وإعادة إيقاع وترجيع لقوله:«ويوم دخلت الخدر» تشابه الترتيب وسياق القصة:
فجئت وقد نضت لنوم ثيابها
…
لدى الستر إلا لبسة المتفضل
فقالت يمين الله مالك حيلةٌ
…
وما إن أرى عنك الغواية تنجلي
وهذا كقولها: «تقول لك الويلات إنك مرجلي» .
ثاني عشر: قصة اللقاء والوصال:
خرجت بها أمشي تجر وراءنا
…
على أثرينا ذيل مرطٍ مرحل
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
…
بنا بطن خبتٍ ذي حقافٍ عقنقل
هصرت بفودي رأسها فتمايلت
…
علي هضيم الكشح ريا المخلخل
وهذا البيت فاصلة معانٍ وإيقاع، وبداية نعت التمثال الذي تحدثنا عنه من قبل. وقوله:«فلما أجزنا ساحة الحي» فيه عودة رنةٍ إلى: «تجاوزت أحراسًا» وفي قوله: «بنا بطن خبتٍ ذي حقافٍ عقنقل» نوع مقابلةٍ مع قوله من قبل: «ويوم دخلت الخدر» يعني الغبيط على ظهر البعير، وقوله «هصرت» يقابل «ولا تبعدينبي
من جناك المعلل» وقوله: «تمايلت» يقابل ميل الغبيط. ويعجبني قول أبي العلاء:
أين امرؤ القيس والعذارى
…
إذ مال من تحته الغبيط
له كميتان ذات كأسٍ
…
تزبد والسابح الربيط
استنبط العرب في الموامي
…
بعدك واستعرب النبيط
ولا تفوتنا المقابلة الخفية بين نشوة امرئ القيس من كميته حيث اغتدى والطير في وكناتها ونشوة الطير إذا انتشين من كميت الحياة والحيوية:
كأن مكاكي الجواء غديةً
…
صبحن سلافًا من رحيق مفلفل
قوله هصرت بفودي رأسها بعد مما يجاوبه ويحكي صداه شيءٌ كبيرٌ، مثلًا:
كأن ذرا رأس المجيمر غدوةً
…
من السيل والغثاء فلكة مغزل
وقوله: «أثيث كقنو النخلة المتعثكل» وقوله: «وكشح لطيف كالجديل مخصر» وقوله:
غدائره مستشزراتٌ إلى العلى
…
تضل العقاص في مثنًّى ومرسل
وعاب بعضهم مستشزرات وهي من معنى المفتل ومن مجرى المتعثكل في دلالتها.
ثالث عشر: صفة المحبوبة وقد فصلنا من ذلك في حديثنا عن التمثال، وتأمل رنة الضاد في «مهفهفة بيضاء غير مفاضة» وكذلك الفاء، ورنة جيمي السجنجل مع النون والغين في «غير مفاضة غذاها نمير الماء غير المحلل». نعت التمثال قوله:
مهفهفة بيضاء غير مفاضةٍ
…
ترائبها مصقولة كالسجنجل
كبكر المقاناة البياض بصفرة
…
غذاها نمير الماء غير المحلل
تصد وتبدي عن أسيلٍ وتتقي
…
بناظرةٍ من وحش وجرة مطفل
وجيدٍ كجيد الرئم ليس بفاحشٍ
…
إذا هي نصته ولا بمعطل
وفرع يزين المتن أسود فاحم
…
أثيثٍ كقنو النخلة المتعثكل
غدائره مستشزرات إلى العلى
…
تضل العقاص في مثنى ومرسل
وكشح لطيف كالجديل مخصر
…
وساقٍ كأنبوب السقي المذلل
وتضحى فتيت المسك فوق فراشها
…
نئوم الضحى لم تنتطق عن تفضل
وتعطو برخصٍ غير شثنٍ كأنه
…
أساريع ظبي أو مساويك إسحل
كل هذا نعت التمثال:
وهو الذي يقال له نعت ماديٌ. والذين ينحتون التماثيل عاريات ويرسمون الصور كذلك مفصلات، كل ذلك لا يتهمون فيه بمادية بل يسمى ما يصنعونه فنًّا راقيًّا. والعجب كل العجب لمن يرى الشعرة في عين أخيه ولا يرى الجذع في عين نفسه، أو كما قال أبو الهندي الشاعر، ونتحرج من روايته فتكتفى بالإشارة إليه.
وقد فصلنا الحديث في هذا المعنى من قبل، ومرت بك أيها القارئ الكريم ضروبٌ من أصداءٍ وأطيافٍ تتصل بهذه الأبيات مما قبلها ومما بعدها. والشبه مثلًا بين إيقاع:«أساريع ظبي أو مساويك إسحل» - «مداك عروسٍ أو صلاية حنظل» - «وإرخاء سرحانٍ وتقريب تتفل» - «بأمراس كتانٍ إلى صم جندل» مما لا يخفى إن شاء الله.
وأمرٌ عسى أن يكون بعض تفصيله مناسبًا ههنا هو ضروب تجاوب الإيقاع منن جناس وتكرار وما أشبه مما فصلنا القول فيه في الجزء الثاني من هذا الكتاب مثل الكافين في قوله:
كبكر المقاناة البياض بصفرةٍ
…
غذاها نمير الماء غير المحلل
والشين في: «من وحش وجرة» وبعدها قوله:
وجيدٍ كجيد الرئم ليس بفاحش
…
إذا هي نصته ولا بمعطل
وتأمل جيمات وجرة وجيد كجيد الرئم والفاء والنون في: «وفرع يزين المتن أسود فاحم» والثاء والنون في: «أثيث كقنو النخلة المتعثكل» «والقنو» تجاوب المقاناة كما ترى والضاد في: «تضحى- الضحى- تفضل» - والطاء في «تنتطق- تعطو» وهلم جرا.
وتأمل صيغة الفعل: «تصد وتبدي» كلاهما مسند إلى المرأة ثم جاءت أسماء ثلاثية سواكن الوسط: «وجيدٍ- وفرعٍ- وكشحٍ- وساقٍ»
…
ثم مرة أخرى الفعل المسند إليها وتضحى وتعطو:
وتعطو برخصٍ غير شثنٍ كأنه
…
أساريع ظبيٍ أو مساوك إسحل
ورخص وشثن كلاهما ساكن الوسط وهما صفتان توازنان الأسماء التي مضت وظبي بعدهما مثلهما في الوزن، ثم أساريع ومساويك متوازنتان.
ولو تأملت القصيدة كلها ألفيت عجبًا. في روى امرئ القيس وقافيته أمثال اسم الفاعل والمفعول من الرباعي المضعف مما يتوقع تكراره وما قارب من الرباعي، أمثال مخول معلل معطل مرسل مزيل مرجل وما أشبه من الأفعال مثل فأنزل، لم تحلل، لم يحول، وقد افتن في قوافيه التي من هذا الضرب. غير المتوقع تكراره أمثال حومل ومثلها هيكل وغير بعيد منها حنظل وعنصل وجندل إذ النون من أخوات المصوتات، ذكر نحوًا، من هذا صاحب الكتاب لصيرورتها ألفًا في النون التوكيدية الخفيفة وفي التنوين المنصوب وفي أمثال أدعوا للاثنين وأدعون وأرمين. وغير بعيد منه أيضًا في الإيقاع:«لما تمول» لتكرار الواو فيها و «مجول» امكان الواو وكمثل «مجول» ، موازنة لها «مغزل» .
ومن الصيغ المتكررات تكرارًا ملحوظًا متجاوبةً أصداؤها: عقنقل، سجنجل، كنهبل، متعثكل، متنزل، متأمل، متبتل، مفلفل، مخلخل، تتفل، يذبل.
رابع عشر:
تضيء الظلام بالعشاء كأنها
…
منارة ممسى راهبٍ متبتل
هذا البيت من فواصل القصيدة المعنوية الإيحائية الكبرى- قوله:
وتعطو برخصٍ غير شثن كأنه
…
أساريع ظبيٍ أو مساويك إسحل
هو آخر الوصف ونعت التمثال وفيه تحريك له بقوله: «وتعطو» . البيت الذي قبل هذا: «وتضحى فتيت المسك البيت» رجعة إلى قوله:
فجئت وقد نضت لنومٍ ثيابها
…
لدى الستر إلا لبسة المتفضل
والحركة التي حرك بها التمثال في «وتعطو برخص» فيها عودة إلى منظر الحركة في قوله:
خرجت بها أمشي تجر وراءنا
…
على أثرينا ذيل مرطٍ مرحل
ثم في: «وتعطو برخص» توطئة لما سيجيئ، بعد من قوله:
أصاح ترى برقًا أريك وميضه
…
كلمع اليدين في حبيٍ مكلل
ووازن بين «مرحل» وهي للذيل الذي يجر على الأرض، وبين «مكلل» ومكان الإكليل الرأس، ثم قوله:«حبي» مع أنه صفة السحاب مأخوذ من حبو الطفل على الأرض، و «لمع اليدين» مما سبق التنبيه على مكانه. «والرخص» بنانها، و «الشثن» من صفته هو لفروسيته وهو شاب ومعاناته الحروب والكروب وهو كبير. وقوله:«تعطو» بعد قوله: «تضحى» مجيء قوله: «تضيء الظلام إلخ» بعده منسجم منساق انسياقًا لا تكلف فيه.
وقوله «تضيء الظلام بالعشاء» وتشبيه ذلك بالمنارة في قوله: «كأنها منارة ممسي راهب متبتل» ينم بالبعد وبأن الظلام محيط بالشاعر وهي، المحبوبة، بذكراها منارة في هذا الظلام. تبدو الصفة كأنها نعت مباشر لجسم الفتاة المهفهف ووجهها الحسن المشرق، ولكنها في نفس الوقت إشعار ببعد ذلك الوجه حتى كأنه منارة تهدي المسافر في الظلام. هذا معنى قولنا إن هذا البيت من الفواصل الكبرى.
بعده أخذ الشاعر تذوق الذكرى والتمسك بها واستعادة زمانها وهو في لجة ظلام الحاضر المحيط به.
خامس عشر: التمسك بالذكر قبيل تحسرها مع تلذذ بذلك وشعور بارتياح نفس وشفاء:
تضيء الظلام بالعشاء كأنها
…
منارة ممسى راهبٍ متبتل
إلى مثلها يرنو الحليم صبابةً
…
إذا ما أسكرت بين درعٍ ومجول
تسلت عمايات الرجال عن الصبا
…
وليس فؤادي عن هواك بمنسل
إلا رب خصمٍ فيك ألوى رددته
…
نصيح على تعذاله غير مؤتلي
تأمل قوله: «الظلام» «بالعشاء» «ممسى» وأنت تذكر قوله في صفة شيمه البرق مع صحبه:
يضيء سناه أو مصابيح راهبٍ
…
أمال السليط بالذبال المفتل
انظر كيف يتجاوب هذا مع قوله: «تضيء الظلام بالعشاء» ولا يفتك إيحاء الجرس الخفي في «أمال السليط» «مال الغبيط» «الذبال المفتل» «الدمقس المفتل» يضيء البرق كأنه المحبوبة لأنها هي منارة الراهب. والحليم هو الشاعر. والراهب لا شك حليم فاجعل الراهب نفسه رمزًا. النابغة وكثيرٌ نظرا إلى راهب
امرئ القيس وحليمه في نحو:
لو أنها عرضت لأشمط راهبٍ
…
عبد الإله صرورةٍ متعبد
لرنا لبهجتها وحسن حديثها
…
ولخاله رشدًا وإن لم يرشد
ونحو:
عشية سعدى لو تبدت لراهبٍ
…
بدومة تجرٌ دونه وحجيج
قلى دينه واهتاج للشوق إنها
…
على الشوق إخوان العزاء هيوج
وقال الشنفري:
فدقت وجلت واسبكرت وأكملت
…
فلو جن إنسانٌ من الحسن جنت
ونظر الشنفري كما لا يخفى إلى قول امرئ القيس:
إلى مثلها يرنو الحليم صبابةً
…
إذا ما اسبكرت بين درعٍ ومجول
وعجيب قوله: «تسلت عمايات الرجال» لأن فيه «عمايات» وهي ظلام يناسب الممسى والعشاء والظلام قبلها وموازنة للغواية من قولها له: «وما إن أرى عنك الغواية تنجلي» ورواه بعضهم «العماية» ووروده هنا يقويه ولعله كلتيهما قال. ثم هذه العماية التي هي ظلام هي نفسها تضيء له الظلام لأن قلبه بها مفعم. وهي تثير الدموع والشفاء بالذكرى ورؤيا المنارة التي تزيل الظلام. و «الصبا» بلا ريب ضياء لأنه يرنو إلى «مثلها» «صبابة» «إذا ما اسبكرت بين درع ومجول» هذا الذي عبر عنه الشنفري بأنه فوق حال البشر: «فلو جن إنسانٌ من الحسن جنت» .
ولا يخفى ما في «تسلت» و «منسل» من رجع أصداء: «فسلى ثيابي من ثيابك تنسل» وقد قلنا قبل أن «ألا رب خصم فيك ألوى رددته» فيها مجاوبة ومقابلة لقوله «تجاوزت أحراسًا» وكان ذلك ليلًا.
ليل العماية التي كان عليها يعذل أفضل من هذا الليل الكئيب المحيط به الآن.
سادس عشر: صفة الليل وخطابه ورمزيته وإحاؤه:
وليل كموج البحر أرخى سدوله
…
علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه
…
وأردف أعجازًا وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
…
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
فيا لك من ليلٍ كأن نجومه
…
بكل مغار الفتل شدت بيذبل
كأن الثريا علقت في مصامها
…
بأمراس كتان إلى صم جندل
وقد مهد لصفة الليل ما تقدم من قوله: «تضيء الظلام- البيت» كما قدمنا ذكره. وفي «أرخى سدوله» رجع صدى من صفة الخدر والغبيط إلا أنه ههنا غبيط من هموم وموج البحر هنا في صفة السيل من بعد مناظرةٌ له ومشابه منه في قوله:
فأضحى يسح الماء حول كتيفةٍ
…
يكب على الأذقان دوح الكنهيل
وفي قوله:
كأن ذرا رأس المجيمر غدوة
…
من السيل والغثاء فلكة مغزل
فهذا بحر طام- والبحر للماء الكثير سواءٌ أمان عذبًا أم ملحًا، قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} .
وفي قوله:
كأن السباع فيه غرقى عشيةً
…
بأرجائه القصوى أنابيش عنصل
وانظر كيف جعل أضرار السيل بالسباع عشية كإرخاء الهموم مع الليل سدولها عليه وكيف اتساع السيل فهو بحرٌ له أرجاؤه القصوى.
وفي قوله:
والقى بصحراء الغبيط بعاعه
…
نزول اليماني ذي العياب المحمل
فملأ صحراء الغبيط، وقيل سميت بالغبيط لشبهها بقتب البعير وهي في ديار بني يربوع من تميم. وفي بني تميم كان مبدأ نشأة امرئ القيس. وخبر يوم دارة جلجل من رواية الفرزدق وهو تميمي -وقد سبق قولنا إنه أسطوري ولنا رجعة إلى هذا إن شاء الله تعالى، لا نعني أن نفس اليوم أسطوري ولكن القصة التي رويت كما رويت.
وقوله «صحراء الغبيط» يدل أيضًا على موضع الذكرى حيث عقر الناقة ومال به الغبيط. وقد صار ما كان موضع أنسٍ قفارًا به بعر الآرام وطمي على ذكراه السيل. وقوله: «نزول اليماني ذي العياب» ويروي: «كصرع اليماني» أي سقوطه أو طرحه أمتعته- هذا له مشابه من شعره كقوله في البائية:
فرحنا كأنا من خؤاثي عشيةً
…
نعالي النعاج بين عدلٍ ومحقب
فعلى هذا يجوز أن يكون البحر المذكور هنا في: «وليل كموج البحر» بحرًا ملحًا إذا كانت جؤاثي من أسواق البحرين، ولا شيء يمنع أن يكون المراد موج البحرين العذب والملح معًا. واليماني المذكور هو الوافد على السوق بعيابه بين عدلٍ ومحقب والمعاني مما تتداعى في الشعر ويرد بعضها على بعض.
وقوله: «لما تمطى بصلبه» فيه من صفة البعير ما لا يخفى وقد مر الحديث عنه. وقوله: «ألا أيها الليل الطويل ألا انجل» فيه رنة «وما إن أرى عنك الغواية
تنجلي» ورواية الأصمعي: «وما إن أرى عنك العماية تنجلي» وقد مرت الإشارة إلى قرب ما بين «الغواية» و «العماية// و «عمايات الرجال» وقوله: «ألا أيها الليل الطويل» ههنا.
هذا وقوله: «وما الإصباح منك بأمثل» يمهد لقوله:
ذلك صباحٌ أمثل من ليله الآن الطويل الذي صباحه استمرار له. ونجوم الليل راكدات. وهذا يذبل راسٍ مكانه وهن فوقه لا يتحركن. أين هذا من زمان انتظاره الغيث والصيد وصوب الغيث قد غمر الآفاق ما بين الستار إلى يذبل:
على قطن بالشيم أيمن صوبه
…
وأيسره على الستار فيذبل
وهذه الثريا أيضًا راكدة. أين زمان إذ هي تتعرض تعرض أثناء الوشاح المفصل؟ لا بل أين زمان ليلٍ أفضل من هذا الليل إذ هو مغامر بين ذؤبان العرب ضليل خليع؟
وقربة أقوامٍ جعلت عصامها
…
على كاهل مني ذلولٍ مرحل
وقد حمل الزوزني هذا على المجاز إذ تمدح بحمل أثقال الحقوق. وقال ابن الأنباري يصف نفسه بأنه يخدم أصحابه. وهذا أقرب والأول ليس ببعيد. وينبغي أن يحمل البيت على الحقيقة ثم تفرع من ذلك على وجه الرمز هذه المعاني الأخرى، أي أنه شارك الصعاليك في الجهد واخشوشن بمثل خشونتهم. وإنكار الأصمعي على فضله هذا البيت وما بعده قول منه بالظن، وكما كان ذكرنا من قبل نديم ملوك بني العباس ووزرائهم من بني يرمك، فلعله أنف بخدمته الملوك لامرئ القيس الذي كان ملكًا من أن يعمل عمل ضربٍ كأنه من شرار السوقة.
وقال المعري يذكر الذئب في قصيدة يتبدى بها في ديوانه سقط الزند:
وأطلس مخلق السر بال يبغي
…
نوافلنا صلاحًا أو فسادا
كأني إذا نبذت له عصامًا
…
وهبت له المطية والمزادا
فذكر «عصامًا» وما أرى أنه ذكره إلا وهو يريد إشارة إلى عصام امرئ القيس والبيت في رواية التبريزي لشرح العشر وعن أبي العلاء أخذ التبريزي وخلاف المعري للأصمعي في أمور قد ألمعنا إليه ولا شك أنه ما خلا من غمز حيث قال: «والأصمعي ينشدهم من الشعر ما أحسن قائله كل الإحسان» والله أعلم.
سابع عشر: حديث الصعلكة:
وقربة أقوام جعلت عصامها
…
على كاهل مني ذلولٍ مرحل
ووادٍ كجوف العير قفرٍ قطعته
…
به الذئب يعوي كالخليع المعيل
فقلت له لما عوى إن شأننا
…
قليل الغنى إن كنت لما تمول
كلانا إذا ما نال شيئًا أفاته
…
ومن يحترث حرثي حرثك يهزل
وإنما جئنا ببيت القربة من قبل لنبين صلته بما قبله من حيث المعنى. وقوله:
وواد ٍ كجوف العير قفرٍ قطعته
…
به الذئب يعوي كالخليع المعيل
فيه إيقاع: «وليل كموج البحر أرخى سدوله» سواء بسواء. ولعمرك هذا مما يصححه لامرئ القيس ومع الإيقاع ظلال المعاني والإيحاء إذ بين «أرخى سدوله» و «قفر قطعته» ، نوع من طباق ومقابلة وموازنة، ثم كلمة «العير» مفردة كما كلمة «البحر» مفردة. وجوف العير مكان خالٍ مخيف والوجه في تفسيره ما ذهب إليه ابن الكلبي أنه واد سلط الله عليه نارًا فخلا، والجوف من كلمات اليمن يقولونها للواد، وأشياء البراكين مما تقع في جزيرة العرب وما بمجراها من كوارث الطبيعة. قال تعالى:{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} وقال
تعالى: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} أي احترقت واسودت كأنها الليل. وقال تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} وقال تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ} وجميع هذا ما بين سينا وسائر جزيرة العرب. و «الذئب» على إفرادها من قوله «لما عوى» وذكره السباع من بعد ما يعود عليه، ويكون مجرى «جوف العير» في الإيقاع والمعنى كمجرى ما مر وما سيجيئ من أسماء المواضع مثل كتيفة وحومل، وله ما يشابهه في التركيب في «وألقى بصحراء الغبيط بعاعه». قوله «صحراء الغبيط» فيه مشابهة لجوف العير من حيث الإضافة كما ترى ولا يخلو المعنى من شبه. وقوله:«به الذئب يعوي كالخليع المعيل» يجوز أن يكون معنى الخليع فيه القمير أي الذي غلب في الميسر أو القمار فخسر والمعيل بصيغة اسم المفعول من عاله الأمر يعيله ضعف الفعل وهو قياس متلئب أي المغلوب على أمره، وقالوا أي الكثير العيال، وما أحرى أن تكون «المعيل» على صيغة اسم الفاعل المضعف وعلى هذا تفسير الزوزني وهو الصواب إن شاء الله. وخبر لعب امرئ القيس النرد وأنه قمر أو كان مقارب أن يقمره صاحبه لما بلغه خبر مقتل أبيه مذكور كما تعلم. والخليع المخلوع من قومه وقد خلعه أبوه وأطرده كما تعلم. وما أشبه «المعيل» أن تكون بمعنى يناسب الذئب والخليع، وهو الذهاب في الأرض والتماس الفريسة من عال يعيل إذا افتقر والتضعيف في فعل المفتوح العين في الماضي قياسٌ متلئب، قال صاحب الكتاب في باب دخول فعلت (بالتضعيف) على فعلت لا يشركه في ذلك أفعلت وقالوا ظل يفرسها السبع ويؤكلها إذا أكثر ذلك فيها وقالوا موتت وقومت إذا أردت جماعة الإبل وغيرها إلى آخر ما قاله. وقول امرئ القيس:
فقلت له لما عوى إن شأننا
…
قليل الغنى إن كنت لما تمول
حكاية لحديث الصعاليك، أي أنا فقير وأنت فقير إن كنت لما تجد المال بعد، ثم فيه رقةٌ للذئب وتشبيه حال نفسه بحال الذئب، أي مثلي ومثلك لا يقتني، أما أنا فقد أصبت الغنى ولم يمكث عندي لطبيعتي المتمردة، وأما أنت فحالك كحالي فأعلم ذلك إن كنت لما تصب الغنى لأنك ستفيته ولا يمكث عندك.
كلانا إذا ما نال شيئًا أفاته
…
ومن يحترث حرثي وحرثك يهزل
يهزل بالبناء للمجهول ماضيه مثله هزل بضم الهاء وكسر الزاي، أي يكن مهزولًا أو بالبناء للمعلوم ماضيه هزل بفتح ويجوز ضم الزاي على صيغة كرم وشرف ويجوز جعله رباعيًّا بضم الياء وكسر الزاي أي يكن ما عنده من المال مهزولًا من أهزل القوم إذا هزلت أموالهم من إبل وبقر وغنم ونحو ذلك.
أما امرؤ القيس فكانت شيمته شيمة الملوك وأهل النبل، يشارك في الاخشيسان ويبذل ما يجد أو كما قال عنترة من بعد وهو كما تعلم سماه القصاص أبا الفوارس.
قال: هلا سألت الخيل يابنة مالكٍ
…
إن كنت جاهلةً بما لم تعلمي
يخبرك من شهد الوقيعة إنني
…
أغشى الوغى وأعف عند المغنم
ولعل من صحبهم من الصعاليك لم يجد عندهم من المروءة إلا كما يوجد عند سائر الناس، قال عروة بن الورد:
ألا إن أصحاب الكنيف وجدتهم
…
كما الناس لما أخصبوا وتمولوا
وقد ذكرنا خبره من قبل، هذا، والخبر الذي يذكر في لعبه النرد (أي امرئ القيس) وإعطائه ملاعبه الفرصة لينتصر يقوي ما نذهب إليه ههنا. فلم يجد امرؤ
القيس بين ذؤبان العرب من يشبهه حقًّا إلا الذئب الذي يعوي لأنه إذا وجد أفنى ما يجده ولم يدخر.
وهذا فيه تمهيد وإشارة إلى ما ضيعه الشاعر من فرص مضين
…
وقد كان له ما كان إذ هو يغتدي والطير في وكناتها إلى الصيد، وأبوه الملك المطاع، وبنو اسد رهط عبيد بن الأبرص، عبيد العصا.
ثامن عشر: وصف الصباح الذي كان أمثل، وهو صباح الاغتداء إلى الصيد، وهو إشراقٌ بعد الظلام الذي كان قبل، وعودٌ إلى التي كانت تضيء الظلام وهي نئوم الضحى، وهو كما قال:
وقد أغتدي والطير في وكناتها
…
بمنجردٍ قيد الأوابد هيكل
مكرٍّ مفرٍّ مقبل مدبر معًا
…
كجلمود صخر حطه السيل من عل
وهنا تمهيد لوصف السيل وفيه صدى «خرجت بها أمشي تجر وراءنا» البيت:
كميتٍ يزل اللبد عن حال متنه
…
كما زلت الصفواء بالمتنزل
تأمل قوله «كميت» بعد ذكره السيل، وقد تعلم حديثه عن نشوة الطير بعد مجيء الغيث والسيل كأنما صبحن سلافًا وهي الكميت.
على الذبل جياش كأن اهتزامه
…
إذا جاش فيه حميه غلي مرجل
والسيل قد مر نفيانه على القنان فأنزل العصم، اجعل حمى الجواد هنا كنفيان السبل.
مسح إذا ما السابحات على الونى
…
أثرن الغبار بالكديد المركل
تأمل الكاف ومن قبل «يزل اللبد عن حال» تأمل لامها وراء مكر مفر وهلم جرا.
يزل الغلام الخف عن صهواته
…
ويلوي بأثواب العنيف المثقل
هل -كما تسالنا من قبل- هل الغلام الخف هو امرؤ القيس والعنيف المثقل أبوه؟ لقد كان شابًا في «وقد أغتدي والطير في وكناتها» وانتقل به خياله إلى عهد كان غلامًا ثم إلى عهد أن كان أصغر من ذلك، وليدًا يلعب بالخذروف:
دريرٍ كخذروف الوليد أمره
…
تتابع كفيه بخيطٍ موصل
مما يجري مثل هذا المجرى من تذكره أيام صباه الأول قوله الذي روى أبو الفرج أنه أول غزلٍ له:
عهدتني ناشئًا ذا غرةٍ
…
رجل الجمة ذا بطنٍ أقب
أتبع الولدان أرخى مئزري
…
ابن عشر ذا قريطٍ من ذهب
وهي إذ ذاك عليها مئزرٌ
…
ولها بيت جوارٍ من لعب
هذا من جيد الشعر وعزيزه. ثم ماذا:
ضليع إذا استدبرته سد فرجه
…
بضافٍ فويق الأرض ليس بأعزل
كان على المتنين منه إذا انتحى
…
مداك عروسٍ أو صلاية حنظل
كأن دماء الهاديات بنحره
…
عصارة حناءٍ بسيبٍ مرجل
انتقل من ذكريات الغلام والوليد إلى نعت الجواد، واجعل هذا النعت من أوله في موازنة مع ما مر من نعته الحسناء، وقد سبق التنبيه منا إلى هذا المعنى. وتأمل قوله:«كأن على المتنين منه البيت» وذكره مداك العروس وصلاية الحنظل وصلاية موازنة لعماية وغواية. وقوله: «كأن دماء الهاديات» من الفواصل، إذ به مهد لنعت سرب
الوحش، وفيه ذكر الحناء والشيب وما يتصل بذلك من طيوف معانٍ وإيحاء.
تاسع عشر: وصف سرب الوحش من عند ظهوره إلى أن صيد وأكل. هذا فيه نوع رمزٍ لأم الحويرث وأم الرباب ودارة جلجل وليلة إذ نضت لنوم ثيابها والغبيط، جميع أولئك.
فعن لنا سربٌ كأن نعاجه
…
عذارى دوار في ملاءٍ مذيل
فأدبرن كالجزع المفصل بينه
…
بجيد معمٍّ في العشيرة مخول
فألحقنا بالهاديات ودونه
…
جواحرها في صرةٍ لم تزيل
فعادى عداءً بين ثور ونعجةٍ
…
دراكًا ولم ينضح بماء فيغسل
فظل طهاة اللحم ما بين منضخ
…
صفيف شواءٍ أو قديرٍ معجل
وقد سبق الحديث عن هذه الأبيات، وأن الحصان رمز للشاعر، وأن طهاة اللحم هنا بإزاء المتراميات بلحم وشحم كهداب الدمقس في ذلك اليوم الذي كان له صالحها منهن.
مكمل عشرين: وهو من الفواصل المعنوية الإيقاعية الإيحائية، البيتان اللذان أتم بهما نعت الجواد بعد أن صنع ما صنع من الصيد.
ورحنا يكاد الطرف يقصر دونه
…
متى ما ترق العين فيه تسهل
فبات عليه سرجه ولجامه
…
وبات بعيني قائمًا غير مرسل
قولنا فاصلة لأنه يشبه ما ختم به نعت الفتاة وذلك قوله:
إلى مثلها يرنو الحليم صبابة
…
إذا ما اسبكرت بين درع ومجول
فههنا نظر إعجاب ومحبة للجواد كما هناك نظر صبوة وعشق. وقبل هذا البيت «تضيء الظلام بالعشاء»
…
وهذا الجواد يرد الطرف حسيرًا بشعاع جماله،
والرواح يكون بالعشية فهذا قريب من معنى إضاءتها بالعشاء، وقوله «فبات عليه سرجه ولجامه» أي بات رفيقًا له، وهذا يقابل صاحبة «بطن خبت ذي حقافٍ عقنقل» . ههنا ضوء سببه قوة إشعاع الذكرى، ذكرى الشباب والصيد والجواد الجميل وذلك الوجه الحبيب الجميل. وذكر الجواد وإفراده بالوصف يمهد لذكر شيم الشاعر البرق ودعوته أصحابه ليشيموا ليروا أين يصوب، وثم يرودون بالجياد ويصيدون الهاديات وينعطفون إلى ود الغانيات.
الحادي والعشرين: صفة البرق وعموم ضوء البرق:
أصاح ترى برقًا أريك وميضه
…
كلمح اليدين في حبي مكلل
يضيء سناه أو مصابيح راهب
…
أمال السليط بالذبال المفتل
قعدت له وصحبتي بين ضارج
…
وبين العذيب بعدما متامل
هنا امرؤ القيس وأصحابه قعود من أجل البرق الذي هو ضوء الماضي بشبابه وأحبابه وذكرياته الحسان. وفي أول القصيدة قد وقف واستوقف وبكى واستبكى.
الثاني والعشرين: تتابع تفاصيل صور الذكريات مع وصف السيل -جذع النخل- الآطام الشيخ ذو البجاد -فلكة المغزل- اليماني ذو العياب.
الرابع والعشرين: الكير تصدح والسباع غرقى كأنها بقايا عروق من خشاش الأرض ودارت القصيدة من حيث بدأت، موقف عند مكان قفر كانت فيه ذكريات، بكاء وشفاء بالدموع والتذكر، قفر شاسع الأرجاء، وبحر سيل غمر كل شيء.
كأن السباع فيه غرقى عشيةً
…
بأرجائه القصوى أنابيش عنصل
غير أن الطير تصدح. هذا الغناء الثمل هو سر الشعر. بكى الشاعر ثم غنى.
زعم بعض أهل العصر، وشارك في شيء من ذلك الدكتور طه حسين رحمة الله عليه، أن هذه القصيدة منحولة. بل أغرب الدكتور طه فزعم في بعض ما زعم أن امرأ القيس نفسه انتحلته العصبية اليمانية وساق الخبر عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث ارتد ثم أسلم وفتح الفتوح وأبلى البلاء الحسن يوم الشريعة ثم خبره مع امير المؤمنين كرم الله وجهه معروف. والأشعث وامرؤ القيس يلتقيان في سلسلة النسب وكان الملك في آل امرئ القيس ثم بعد يوم الكلاب وزوال ملك بني آكل المرار انتقل إلى بيت قيس بن معدي كرب، ذلك ذكره الجاحظ إما في البيان وإما في الحيوان، وكان الجاحظ من أخبر الناس بالمنتحل وأوقفهم عند تزييفه، وما كان الفرزدق وهو راوي أخبار امرئ القيس وذو العصبية في مضر ولهم إلى المدى البعيد الذي عرف به حتى لقد أنشد لا يبالي أمام خالد القسري:
يختلف الناس حتى لا اجتماع لهم
…
ولا اختلاف إذا ما أجمعت مضر
ومن يمل يمل المأثور هامته
…
حيث التقى من حفافي رأسه الشعر
بالذي ينصر عصبية اليمن، وإنما ساق خبر امرئ القيس لمعرفة بني دارم به وقد نشأ أول أمره فيهم وقد تقدم خبر هجاء امرئ القيس بني دارم ومدحه عويرًا، فما كان ليعين على انتحال فضل لليمانية ليس له وجود وأصل. وقد رأى الفرزدق الحطيئة عند سعيد وأثنى هذا على شعره، وخبر الحطيئة مع الزبرقان وهو تميمي وبني قريع وهم تميميون معروف، وق رأى الحطيئة الجاهليين الذين رأوا امرأ القيس وغيره من الفحول ورووا لهم ورأى الفرزدق جماعةٌ من العلماء وأهل النحو والرواية وأخباره مع ابن ابي إسحاق معروفة وهو القائل في أبي عمرو:
ما زلت أفتح أبوابًا وأغلقها
…
حتى أتيت أبا عمرو بن عمار
وأبو عمرو أستاذ الأصمعي صحبه هذا ثماني سنين والأصمعي أستاذ الجاحظ
وقد اتخذ عنه وعن أبي عبيدة وغيرهما وذكر ذلك وقد رأى الناس لبيد بن ربيعة ورووا عنه تقديمه الملك الضليل، وقال الفرزدق:
وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا
…
وأبو يزيد وذو القروح وجرول
وجرول هو الحطيئة وذو القروح امرؤ القيس وأبو يزيد هو المخبل السعدي.
والفحل علقمة الذي كانت له
…
حلل الملك كلامه لا ينحل
وعلقمة كالمخبل كلاهما من تميم.
وأخو بني قيس وهن قتلنه
…
ومهلهل الشعراء ذاك الأول
فقول ابن سلام والنقاد إذ نسبوا إلى مهلهل أول هلهلة الشعر أصله من هنا.
والأعشيان كلاهما ومرقش
…
وأخو قضاعة قوله يتمثل
وأخو بني أسدٍ عبيد إذ مضى
…
وأبو دؤاد قوله يتنحل
وابنا أبي سلمى زهيرٌ وابنه
…
وابن الفريعة حين جد المقول
والجعفري وكان بشرٌ قبله
…
لي من قصائده الكتاب المجمل
والجعفري هو لبيد -ولا أزعم أن الفرزدق أصاب كلامه مكتوبًا وإن كان ذلك يجوز إذ عاصر لبيد دهرًا فشت فيه الكتابة وجاءته صحيفة من الوليد بن عقبة وأجاب عنها. ولكن «الكتاب» هنا قد يراد بها الضبط والحوز والرواية التامة، وقال تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي ذلك كتبه الله عليكم وأمر به:
ولقد ورثت لآل أوسٍ منطقًا
…
كالسم خالط جانبيه الحنظل
والحارثي أخو الحماس ورثته
…
صدعًا كما صدع الصفاة المعول
يصد عن ضاحية الصفا عن متنها
…
ولهن من جبلى عماية أثقل
دفعوا إلي كتابهن وصيةً
…
فورثتهن كأنهن الجندل
فيهن شاركني المساور بعدهم
…
وأخو هوازن والشآمي الأخطل
وبنو غدانة يحلبون ولم يكن
…
خيلي يقوم لها اللئيم الأعزل
ثم أخذ في الهجاء. وأخو بني قيس هو طرفة وابن الفريعة هو حسام رضي الله عنه وبشر هو ابن أبي خازم الأسدي من فحول الجاهلية وعبيد هو ابن الأبرص والحارثي هو النجاشي الذي قال:
إذا سقى الله أرضًا صوب غاديةٍ
…
فلا سقى الله أرض الكوفة المطرا
وكان مع أمير المؤمنين حتى أقام عليه حد الخمر وزاده جلدات. وأخو قضاعة هو أبو الطمحان القيني وقوله في الحارثي «أخو الحماس» فحماس بكسر الحاء ورد في الحديث وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديقًا ولا أرى إلا أنه ههنا بفتح الحاء أي الحماسة لنصره عليا وتحمسه في ذلك والعرب مما تحذف التاء وتزيدها فمن حذفها قول الآخر: «وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا» وإقام الصلاة أي إقامتها ومن زيادتها ما روى الطبري في الحديث عن لات في تفسير سورة صاد:
العاطفونة حين لا من عاطف
…
والمطعمونة حين أين المطعم
فعلى هذا فإن قول المعاصرين «حماس» بلا تاء صحيح لا غبار عليه يشهد له قول الفرزدق هذا، وقد نبه ليال المستشرق الدقيق البارع إلى غلو مرغليوث وإلى أن الشعر إنما روى عن رواة العرب وعلمائهم قبل أن يصل إلى خلف وحماد وفي مقدمته لشرح المفضليات تفصيل حسن في هذا الباب.
لم يخترع الفرزدق خبر يوم دارة جلجل ولكن رواه وروى ذلك عنه ومن شك في أصل الخبر عنده لزمه أن يشك أيضًا في الرواية عنه.
يجوز أن يكون الفرزدق اخترع أو زاد في خبر الفتيات الذي نسبه إلى نفسه حين فاجأهن يسبحن وجمع ملابسهن ليضطرهن أو يخرجن عاريات فيراهن عاريات وتمثل بيوم دارة جلجل وقص عليهن قصته في لونها الأسطوري، أنهن كلهن خرجن لما ضم امرؤ القيس ثيابهن إليه فرآهن عاريات.
خبر يوم دارة جلجل كما رواه امرؤ القيس لا كما روته الأسطورة التي سمعها الفرزدق فرواها. ولو أن امرأ القيس كان قد رأى عنيزة عارية عند الغدير لكان له في ذلك شعر ولتغنى به. نظرة إليها لدى الستر إلا لبسة المتفضل جعلته يتغنى بما هو منها مخصر كالجديل وبما هو كأنبوب السقي المذلل وقنو النخلة المتعثكل ومصقولات كالسجنجل وكذلك نظرة إليها في اسبكرارها وحواره معها إذ مال بهما الغبيط.
لم ير امرؤ القيس العذارى عاريات يوم دارة جلجل. ولكنه رأى عذارى الدوار وما ندري كيف كان كساء التي كن يطفن بها ووصفها في قوله:
وبيت عذارى يوم دجنٍ ولجته
…
يطفن بجباء المرافق مكسال
ولكن الطائفات عليهن الملاء المذيل. وقوله «بجباء المرافق» كان فيه معنى من معاني تماثيل الحسناء المقطوعة الذراع عند العضد -هكذا كانت بعض تماثيل أفروديت اليونانية- (فينوس عند الروم وهي الزهرة وأناهيد وعشتروت عند العرب وفارس وكنعان على التتالي ومثلها العزى عند قريش).
عرى العذارى في خبر دارة جلجل أسطوري لم يخترعه الفرزدق ولكن رواه وروى عنه كما قدمنا. أسطوري كقصة ملابس الريش ولا نباعد إن زعمنا أن بعض هذا المعنى الأسطوري نلمحه في خبر الرميكية والمعتمد. والطين المسكي أنه ينظر إلى الطين الذي لطخت به الفتيات الفرزدق واختراع الفرزدق -في خبر يرويه عن نفسه- لا يقدح في رواية ما يخبر به عن رواية قديمة لم يكن غيره من معاصريه أو من
هم أسن منه بها حقًّا جاهلين. كان الفرزدق فيما ذكروا معنا مفنًّا. فاجعل هذا من باب اعتنانه وافتنانه. ولو قد كان لخبره مع فتيات الطين أدنى نفسٍ من أصل لكان لجرير فيه مجال ومنطق قذع من قرى قوله:
تدليت تزني من ثمانين قامة
…
وقصرت عن باع العلى والمكارم
وكقوله:
بسيف أبي رغوان سيف مجاشع
…
ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم
وكقوله يذكر هربه من زياد:
خرجت من العراق وأنت رجس
…
تلبس في الظلام ثياب غول
وما يخفى عليك شراب حدٍّ
…
ولا ورهاء غائبة الحليل
إذا دخل المدينة فارجموه
…
ولا تدنوه من جدث الرسول
وذكر الفرزدق قصته ضلال العنبري ومصافنة الماء وقد أشرنا إلى ذلك في معرض الحديث عن البحر الطويل، فعيره جرير قائلًا:
ولو كنت ذا رأي لما لمت عاصمًا
…
وما كان كفؤًا ما لقيت من الفضل
ولما دعوت العنبري ببلدةٍ
…
إلى غير ماءٍ لا قريب ولا أهل
ضللت ضلال السامري وقومه
…
دعاهم فظلوا عاكفين على عجل
وجرير كثير الاستشهاد والإشارة إلى الآي. وكذلك يفعل الفرزدق كثيرًا إلا أنه لم يجمع القرآن كجمع جرير، بآية ما رووه أنه قيد نفسه ليحفظ القرآن، ثم نزع القيد ليفرغ إلى الهجاء، واستفزه قول جرير:
ولما اتقى القين العراقي باسته
…
فرغت إلى القين المقيد في الحجل
القين العراقي البعيث والمقيد في الحجل هو الفرزدق.
والعجب لبعض ملاحدة العصر يزعمون أن كتاب الله صنع على عهد بني أمية ليدعم مجتمعًا كان يقوم على الرق. «ويا بؤس للجهل ضرارًا لأقوام» إذ خفي عنهم للجهل أمثال هذا من خبر جرير والفرزدق.
والشيء بالشيء يذكر، فمما قاله الفرزدق من قرآنياته قوله في نوار:
وكانت جنتي فخرجت منها
…
كآدم حين لج به الضرار
وقال في الحجاج:
وكان كما قال ابن نوح سأرتقي
…
إلى جبلٍ من خشية الماء عاصم
وذكر خبر ابن نوح هذا وهو الوارد في سورة هود مع خبر ناقة ثمود في هجائه إبليس حيث قال يخاطب إبليس:
فقلت لها هلا أخيك أخرجت
…
يمينك من خضر البحور طوامي
فلما تلاقى فوقه الموج طاميًّا
…
نكصت ولم تحتل له بمرام
ألم تأت أهل الحجر والحجر أهله
…
بأنعم عيشٍ في بيوت رخام
فقلت اعقروا هذي اللقوح فإنها
…
لكم أو تنيخوها لقوح غرام
أي إلا أن تعقروها هذا معنى أو تنيخوها -أو هنا هي التي تضمر بعدها إن ناصبة وقال في الحجاج بعد البيت الذي تقدم وهو من قصيدته في مقتل قتيبة بن مسلم التي أولها «تحن بزوراء المدينة ناقتي» :
رمى الله في جثمانه مثل ما رمى
…
عن القبلة البيضاء ذات المحارم
جنودًا تسوق الفيل حتى أعادها
…
هباءً وكانوا مطرخمي الطراخم
والإشارة هنا إلى {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} سورة الفيل.
وقال جرير يمدح الحجاج:
دعا الحجاج مثل دعاء نوح
…
فاسمع ذا المعارج فاستجابا
وأشار إلى سورتين ههنا كما ترى.
وقال يهجو الفرزدق والبعيث:
إن البعيث وعبد آل مقاعس
…
لا يقرءان بسورة الأحبار
وهي المائدة، وذلك أن فيها النهي عن الخمر والميسر -ويجوز أن يكون يشير إلى خبر الفرزدق إذ طالب معاوية بميراث الحتات بلا دليل وفي المائدة آية وصية الميت {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الآية.
وقال في ابنة الحتات وهي من عمات الفرزدق، وهذا مما يقوي عندنا الوجه الذي تقدم:
قامت سكينة للفحول ولم تقم
…
بنت الحتات لسورة الأنفال
لأن فيها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} الآية.
والفرزدق وجرير قد اشتهرا بقول الشعر منذ زمان معاوية أول خلفاء بني أمية هذا، ولا يخفى ان أصحاب الغلو في قضية انتحال الشعر بلا هدًى ولا برهان، إنما أربهم أن يلقوا بظلل الريبة على نور الحضارة الإسلامية بأسره، متخذين من الشعر ذريعة وسلمًا فتأمل.
والغافلون منا هم الذين يفردون لهذا الأمر بابًا، مع العلم بأن العلماء الأقدمين قد نظروا ومحصوا ووقفوا عند كل قصيدة فشكوا في القصيدة وفي القطعة وفي البيت والبيتين وصححوا ما صح عندهم بعد التمحيص، وأدنى نظر في سيرة ابن
هشام يرينا من ذلك مثلًا صالحًا من مثل مقالته «وأكثر أهل العلم ينكرها له» وقد كانوا لقرب عهدهم بفصاحة العرب يقدرون على تمييز الجزل واللين والمصنوع وغير المصنوع وهذا باب قد قتلوه خبرة وعلمًا فمن الخير أن نقف حيث وقفوا.
وهذا الجاحظ كان من أدق أهل الفضل نظرًا وأجمعهم لخبر وقد لقي العلماء الذين أخذوا بدراية عن رواية، وقد أثبتت في حيوانه هذه الأبيات لعمرو بن أحمر الباهلي:
إن امرأ القيس على عهده
…
في إرث ما كان بناه حجر
بنت عليه الملك أطنابها
…
كأس رنوناةٌ وطرف طمر
يلهو بهندٍ فوق أنماطها
…
وفرتني تسعى عليه وهر
قال ابن الأنباري الكبير واستشهد بالبيت الثاني مما تقدم في شرحه للامية المزرد عند البيت (في صفة الحصان).
يرى طامح العينين يرنو كأنه
…
مؤانس ذعرٍ فهو بالأذن خاتل
قال «والرنو إدامة النظر» ثم قال: وكأسٌ رنوناة دائمةً مقيمة قال ابن أحمر:
بنت عليه الملك أطنابها
…
كأس رنوناةٌ وطرف طمر
قال الشيخ أبو بكر بن الجراح قال ابن العرابي أنت الملك لأنه جعلها الكأس. أ. هـ. ورنوناة وبابوس للصغير من الإبل وما نوسة للنار من الكلمات التي حفظها رواة اللغة إنها وردت في شعر ابن أحمر وكان مخضرمًا عاش إلى زمان سيدنا عثمان وأخذ عنه العلماء والشعراء، وها هو ذا كما ترى يذكر امرأ القيس كما ذكره الجاهليون من قبل مثل قول الحارث:
ثم حجرًا أعني ابن أم قطام
…
وله فارسية خضراء
أسد في اللقاء ورد هموس
…
وربيع إن شمرت غبراء
وفككنا غل امرئ القيس عنه
…
بعدما طال حبسه والعناء
وقول عبيد يذكر حجرًا أبا امرئ القيس:
هلا على حجر ابن أم قطام تبكي لا علينا
أفنجعل ابن أحمر مخترعًا لخبر امرئ القيس وحجر، كما جعل الفرزدق مخترعًا لخبر دارة جلجل؟ فهذا لعمرك الشطط والغلو.
هذا ورأى من رأى أن أبيات الفرزدق اللامية تدل على أن الشعر القديم كان مكتوبًا لا نقطع به ولا ندفعه لأن بعض الشعر كان مكتوبًا لورد الأخبار بذلك كخبر ديوان ملوك الحيرة الذي فيه ما مدحوا به من الشعر، وكخبر المعلقات، ومن سماها السموط، فقد سماها المعلقات لأن السمط هو العقد الذي يعلق على العنق. وفي السيرة أن ابن الزبعري اتهم بأنه كتب على جدار الكعبة:
إلهي قصيًّا عن المجد الأساطير
…
ورشوة مثلها ترشى السفاسير
وأكلها اللحم صرفًا لا مزاج له
…
وقولها ذهبت عير أتت عير
لما أصبحت قريش فوجدت هذين البيتين مكتوبين ثم. وابن الزبعري صاحب هذا الخبر من بني سهم من قريش وكانت سهم ومخزوم وجمح تنافس قصيًّا في السيادة وخبر ذلك معروف.
هذا وقول الفرزدق في اللامية:
أوصي عشية حين فارق رهطه
…
عند الشهادة والصحيفة دغفل
أن ابن ضبة كان خيرًا والدًا
…
وأتم في حسب الكريم وأفضل
ممن يكون بنو كليبٍ رهطه
…
أو من يكون إليهم يتخول
يقوي ما نميل إليه من عدم القطع بأن مثل هذا يدل على الكتابة، وإنما هو ضربٌ من التأكيد، وذلك أن هذا الذي زعمه الفرزدق هنا مما لا يوصي بمثله مكتوبًا وإنما قصد الفرزدق إلى الفكاهة والسخرية.
وهذه الأبيات تقوي أيضًا ما ذهبنا إليه آنفًا من الإشارة إلى سورة المائدة، وذلك قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} الآية (106) من المائدة والتي بعدها بمعرض بيت جرير:
إن البعيث وعبد آل مقاعسٍ
…
لا يقرءان بسورة الأحبار
وكأن جريرًا ههنا يرد على الفرزدق سخريته التي سخر بها حيث نسب إلى دغفل ما نسب من الوصية والشهادة- وكأن هذا الوجه أقوى، مع ما في سورة الأحبار من معاني النهي والتحريم التي تقدم ذكرها. وقال الصاوي في حاشية تحقيقه على ديوان جرير (تصوير بيروت عن طبعة مصطفى محمد 353 أ. هـ. القاهرة): سورة الأحبار هي سورة المائدة لقوله تعالى فيها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} أ. هـ. (راجع ص 319). وأحسب أنه أوقعه في هذا الوهم ظنه أن الفرزدق إنما سماه جرير عبد آل مقاعس لأن مقاعسًا تقاعسوا عن الحلف -فكأنهم، هذا استنباطه المتضمن، لم يوفوا- وإنما سماه عبد آل مقاعس لأنه عنده في النبز الذي نبزه به أن جده جبير القين.
هذا، وإنما أطلنا الوقفة، على ما اختصرناه فيها حتى لا تتجاوز القدر المعتدل لقوة دلالتها على ما زعمناه من أسلوب التأليف الموسيقي في القصيدة مع تأليفها البياني، وقد فسرنا مرادنا من قولنا الموسيقي. ومهما نزل فيه فلن يخلو هذا الذي قدمناه من عرض وتحليل من توضيح للمراد الذي فسرناه والزعم الذي زعمناه من
إن للقصيدة بنية من أصوات وأنغام ومعان كالأنغام في تجاوبها وتوارد أطيافها وأصدائها حينًا بعد حين.
وكان يصاحب جميع هذا من أمر القصيدة أنه كان يتغنى بها الركبان. فكان الراوي كما يروي الألفاظ يروي نغم التغني وذلك يعينه على تثبيت رواية الحفظ. وقد ذكر أبو الحسن سعيد بن مسعدة في تفسير القصيد إنه كان الذي يتغنى به الركبان من بحور الشعر المحكمات وقد ذكر بعض المتفق عليه والمختلف فيه من هذه البحور كالطويل التام والبسيط التام والمديد التام والوافر التام والكامل التام والرجز التام وذكر بعضهم الخفيف ولعمري إنه لأحرى أن يذكر من الرجز التام لأن أكثره المشطور وإنما رويت من التام أبيات، غير أنه يجوز أن المروي منه قد كان كثيرًا، ولم يذكروا شيئًا من المديد التام وإنما ذكروا المجزوء كقول المهلهل:
يا لبكر أنشروا لي كليبًا
…
يا لبكر أين أين الفرار
فعل هذا هو المراد.
وقال سلامة بن جندل (فيما نسب إليه):
دع ذا وقل لبني سعد لفضلهم
…
مدحًا يسير به غادي الأراكيب
وقال المسيب بن علس:
فلأبعثن مع الرياح قصيدة
…
مني مغلغلة إلى القعقاع
ترد المياه فلا تزال غريبةً
…
في القوم بين تمثلٍ وسماع
وقد كانت لقرى العرب، ولا سيما الحجازية منها ومكة والمدينة خاصة، معرفة بالغناء منذ لجاهلية، يشهد بذلك خبر النابغة في قصة الإقواء وخبر شراب عروة بن الورد وسماعه عند بني النضير وجواري المدينة حين استقبلن الرسول عليه الصلاة والسلام بغنائهن:
طلع البر علينا
…
من ثنيات الوداع
وخبر جواري الربيع بنت معوذ بن عفراء رضي الله عنهما وخبر جارية سيدنا حسان رضي الله عنه حيث تغنت:
هل علي ويحكما
…
إن لهوت من حرج
ويستشهد به العروضيون على المقتضب ويمهدون له بقرين مصنوع:
غنيا على الدرج
…
بالخفيف والهزج
هل علي ويحكما
…
إن لهوت من حرج
وربما ذكروا أنه سمعت إحدى جواري المدينة تتغنى به من بعض درج الآطام وما تقدم أثبت وقد لا يتنافيان.
وخبر جرادتي عبد الله بن جدعان وغنائهما بالأبيات الفائية:
أقفر من أهله المصيف
…
فبطن نخلة فالغريف
وقال الأعشى:
إذا ترجع فيه القينة الفضل
وقال طرقة:
نداماي بيض كالنجوم وقينة
…
تروح علينا بين برد ومجسد
وقال لبيد:
بصبوح صافية وجذب كرينةٍ
…
بموتر تأتا له إبهامها
وقال ابن أحمر يذكر وفد عاد واشتغالهم بالسماع في أبيات ذكرها المعري في رسالة الغفران ونص على استحسانه لها وذلك قوله على لسان ابن قارحة يخاطب ابن أحمر: «ولقد يعجبني قولك» :
ولقد غدون وما يفزعني
…
خوفٌ أحاذره ولا ذعر
رؤد الشباب كأنني غصن
…
بحرام مكة ناعم نضر
كشراب قيلٍ عن مطيته
…
ولكل أمرٍ واقع قدر
مد النهار له وطال عليـ
…
ـه الليل واستنعت به الخمر
استنعت به الخمر أي كأن قد أهلكته بتهالكه عليها فسكر حتى كأنه قد نعاه الناعون، وفي هامش الدكتورة ابنة الشاطئ (ص 241) استنعى به حب الخمر تمادى وهكذا في اللسان واستشرى وفي القاموس واستنعت الناقة تقدمت أو تراجعت نافرة أو عدت بصاحبها أو تفرقت وانتشرت أ. هـ. ويجوز التفسير بهذا على تشبيه الخمر بالناقة النافرة والرجوع إلى أصل الاشتقاق يفيد المعنى الذي بدأنا به استنعت به أي طلبت أن تنعي أحد الناس به أي بأن تنعاه لتهالكه عليها وشدة سكره بها حتى كأنه ميت وليست هذه المعاني كلها ببعيد بعضهن عن بعض:
ومسفة دهماء داجنة
…
ركدت وأسبل دونها الستر
عني باطية الخمر:
وجرادتان تغنيانهم
…
وتلألأ المرجان والشذر
ومجلجلٌ دان زبرجده
…
حدبٌ كما يتحدب الدبر
عني به العود وجعله مجلجلًا كالسحاب ذي الرعد ليوازن بهذه الصورة ما تقدم من وصفه الباطية بأنها مسفة وذلك من صفة الحساب، كما في قول الشاعر:
دان مسف فويق الأرض هيدبه
…
يكاد يلمسه من قام بالراح
والدبر ذو دوي وهو أكبر من النحل، دان زبرجده أي مقترب إلى الأرض بزبرجه أي بأطرافه الرقيقة وهي الهيدب كما في بيت أوس (أو عبيد فيمن رواه لعبيد) وعني هنا أطراف صوت العود وحواشيه على التشبيه وحدب أي راكب بعضه
بعضًا من تحدب الموج بعضه على بعض وقد وضح هذا المعنى الكميت في قوله:
همو رئموها غير ظأر وأشبلوا
…
عليها بأطراف القنا وتحدبوا
أي تعطفوا وحفوا بها يحمونها بأطراف القنا. وقال حبيب:
لما رأى الحرب رأي العين توفلس
…
والحرب مشتقة المعنى من الحرب
عذا يصرف بالأموال جريتها
…
فعزه البحر ذو التيار والحدب
أي ذو الموج المتراكب.
شبه ابن أحمر العود بالرعد والسحاب وإنما اختار الرعد والسحاب لأن وفد عاد جاءوا للاستسقاء فشغلوا باللهو {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة الأحقاف].
ثم للعود في صوته جلجلة وهدير ومعنى التحدب والعطف في صفة ابن الرومي للعود والقيان:
وقيان كأنها مرضعات
…
مطفلات على بنيها حوان
وقال ابن أحمر بعدما تقدم ودلالته على معنى التعطف والتحنن واضحة:
ونان حنانان بينهما
…
وترٌ أجش غناؤه زمر
جعله كالزمر تشبيها له بالناي وصوته أجش.
وقال تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُون} فسروا سامدون ههنا بالغناء.
وكان فقهاء الحجاز يجيزون الغناء. وكانت للموسيقا نهضة عظيمة على أيام بني أمية، فمن زعم أن العرب إنما تعلموا الغناء من فارس لزمه أن يتقدم بأثر مدنية
الفرس على العرب من أيام بني العباس إلى أيام بني أمية، فتضطرب النظريات الشعوبية بذلك أيما اضطراب.
وما كانت صلة العرب بمدينة الفرس ومن جاورهم من الأمم بضعيفة على أيام الجاهلية وهذا باب واسع.
والأصوات المائة المختارة التي عليها مدار كتاب أبي الفرج إنما كانت أكثرها مما تغنى به معبد والغريض وابن سريج ومشاهير العصر الأموي من أشعار الأولين وكان اختيارها أيام دولة الرشيد. وإسحق الموصلي والإبراهيمان إنما كانوا هم ونظراؤهم من معاصريهم جبلًا مقتديًّا بجبل الغناء الأموي الأول.
وذكر الأستاذ المستشرق فارمر في محاضرة له ألقاها بمعهد اللغات الشرقية من جامعة لندن في أواخر الأربعين أن إسحاق الموصلي كان يتقن ما يسمى عند الموسيقيين بالتأليف المحكم في تفاصيل له بعد عهد الذاكرة بها. وعسى أن يفسر بعض هذا من قوله شيئًا من قول أبي نصر الفارابي في الموسيقا الكبير: «وقد بينا في كتاب المدخل وصناعة الموسيقى أن الصناعة الشعرية هي رئيسة الهيئة الموسيقية، وكانت غاية هذه أن تطلب لغاية تلك، فلذلك ينبغي أن تقرن بالألحان المؤلفة فقط أقاويل، وتقرن بالأقاويل ألحان مؤلفة، حتى تصير الحروف التي ركبت منها تلك الأقاويل فصولًا لنغم الألحان. ولا فرق بين أن يتقدم فيعمل لحنٌ من نغم إنسانية ثم يقرن بها بعد ذلك حروف كتبت منها أقاويل وبين أن تعمل أقاويل ثم تجعل حروفها فصولًا في نغم» .
قال محقق كتاب الموسيقا الكبير في حواشيه الجيدة المنبئة عن علم وفضل غزير في الهامش 1 من ص 1093: «المؤلفة من النغم فقط أي التي تؤخذ من التصويتات الإنسانية دون ان تقرن بالأقاويل أو التي تؤخذ عن نغم الآلات مما يمكن أن تقرن بها أقاويل دالة على معان» . أ. هـ.
معلقة امرئ القيس مثلًا بما فيها من أصدائها المتجاوبة معنى وإيقاعًا قد تجعل كلها مادة لقطعة أو قطع موسيقية وتكون حروفها وأقاويلها فصولًا لألحان تلك الموسيقا. ثم هذه الموسيقا من شاء قرن بها بعد ذلك حروفًا ركبت منها أقاويل غير التي قالها امرؤ القيس. ظاهر قول كلام أبي نصر يدل على أن مثل هذا جائز.
هل بعيد إذن أن تكون لكثير من تأليف الموسيقا الغربية أصول من موسيقا عربية نشأت من أقاويل عربية، ثم ركبت على حذوها بعد ذلك أقاويل غير عربية؟
الذي لا ريب فيه أن من أوائل ما ترجمه الإفرنج عن العرب الموسيقا والطب في القرن الحادي عشر الميلادي ومن بعد، فبداية نهضة أوروبا من حينئذ. وربما أرخوا لها بسقوط القسطنطينية في يد محمد الفاتح رحمه الله سنة 1453 م فيقال عن علماء بيزنطة فروا بالمخطوطات اليونانية إلى الغرب فنهض نتيجة الاطلاع عليها والانتفاع بعلومها وفنونها. وههنا موضع تساؤل، وهو أن الإفرنج قد استولوا على القسطنطينية في الحملة الصليبية الرابعة ومكثوا على السيادة والسيطرة عليها من 1204 م إلى 1261 م، فلماذا لم ينتفعوا بمخطوطاتها في هذه الفترة؟
أغلب الظن أن علم يونان لم يصل إلى أوروبا إلا من طريق العرب، طبًّا وموسيقا وغير ذلك. وقد ذكر الأستاذ فؤاد سوزكين في محاضرة له سمعناها بفاس إذ قدمها أستاذًا زائرًا في خريف سنة 1980 م أنهم كانوا ربما ترجموا الكتاب وانتحلوه لأنفسهم من بعد أو نسبوه إلى عالم يوناني قديم افتراء عليه ومثل لذلك بمترجم كان يقال له قسطنطين الإفريقي.
وما استبعد أن تكون موسيقا الكنائس، وهي أصل في الذي يسمونه التأليف العالي (الكلاسيكي) من صنوف الموسيقا، قد اقتبست من موسيقا المسلمين عن طريق الترجمة والأخذ المباشر شيئًا كثيرًا وفي شعر المعري في كلمة يزري بها على
رجل من أهل المعرة يقال له طارق كان يقرأ القرآن ثم ارتد وتنصر، قوله:
مخاريق تبدو في الكنيسة منهم
…
بلحنٍ لهم يحكي غناء مخارق
ومخارق هذا من الموسيقيين على زمان المائة الأولى من خلافة بني العباس، وإياه عني دعبل في هجائه لإبراهيم المهدي إذ قال:
إن كان إبراهيم مضطلعًا بها (يعني الخلافة
…
)
…
فلتصلحن من بعده لمخارق
وقد ينسب إليه الغناء الماخوري وهو ضرب دون ما كان عليه شأن الموسيقا الأول من الاتقان. ويجوز أن يكون أبو العلاء المعري ما أراد إلا التشبيه والتمثيل فقط. غير أن الغالب على طريقته الدقة وبعد الغور. فلن نباعد أنفسنا من الصواب أن اخذنا بظاهر معنى كلامه أن لحون أناشيد الكنيسة على زمانه كانت فيها محاكاة للحون مخارق. وفي تأريخ فرنسا القديم أنه قد كان لنصارى الشام نصيب كبير في تعليم أهلها ضروبًا كثيرة من أساليب الحضارة والصناعة. وأول الأبيات القافية التي منها البيت المقدم ذكره قوله:
الأهل أتى قبر الفقيرة طارقٌ
…
يخبرها بالغيب عن فعل طارق
وهي في ديوانه لزوم ما لا يلزم.
ذهبت موسيقا العرب والمسلمين مع ذهاب الخلافة والذي أصابته دولة الأتراك من بقاياها ظل باهت قالص. والذي احتفظ به أهل الطرق والأذكار والمدائح شيء تعمدوا فيه أنه تعبديٌّ مغلب فيه جانب وضوح اللفظ والمعنى. وقد كان يصاحب التعبد قصد إلى التثقيف الديني والابتعاد عن طرب اللهو الدنيوي ونغمات أناشيد الصوفية تتشابه في بلاد الإسلام فيما بين مشارقها ومغاربها على الرغم مما قد يكون بين ضروب موسيقاها الدنيوية من اختلاف.