المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوصف المعمود إليه بدءا: - المرشد إلى فهم أشعار العرب - جـ ٤

[عبد الله الطيب المجذوب]

الفصل: ‌الوصف المعمود إليه بدءا:

أخذوا هذا من تعظيم أهل الهند للبقر فتأمل ونحو منه قول النابغة:

لكلفتني ذنب امرئ وتركته

كذي العر يكوى غيره وهو راتع

وكقوله:

فبت كأني ساورتني ضئيلةٌ

من الرقش في أنيابها السم ناقع

يسهد بالليل التمام سليمها

لحلي النساء في يديه قعاقع

السليم هو من لدغته الحية، كأنهم يتفاءلون له بالنجاة. وكانوا لا يدعونه ينام يخافون أن يسري السم فيه، فيعلقون عليه حلي النساء ويقعقعون ذلك.

ويبدو لي أن بين الحية والذهب ضربًا من علاقة سحرية. ووصف النابغة للحية الضئيلة الرقشاء السامة مبين دقيق.

وقد جعل قدامة التشبيه من أغراض الشعر. ولا ريب أن الوصف من أغراض الشعر الكبرى، وصلة التشبيه به واضحة.

‌الوصف المعمود إليه بدءًا:

ونعني بقولنا بدءًا أن الشاعر غرضه الوصف منذ بداية قوله فيه، نجعل ذلك في مقابلة ما يكون البدء فيه بغير ما أخذ الشاعر فيه من ألوان الوصف.

قول امرئ القيس:

وقد اغتدى والطير في وكناتها

بمنجردٍ قيد الأوابد هيكل

وقول طرفة:

وإني لأمضي الهم عند احتضاره

بعوجاء مرقال تروح وتغتدي

ص: 513

وقول أوس أو عبيد:

إني أرقت ولم تأرق معي صاح

لمستكف بعيد النوم لماح

قد نمت عني وبات البرق يسهرني

كما استضاء يهودي بمصباح

تهدي الجنوب بأولاه وناء به

إعجاز مزنٍ يسوق الماء دلاح

كأن ريقه لما علا شطبا

أقراب أبلق ينفي الخيل رماح

ههنا التفاتة إلى وصف هذا الحصان الأبلق الأرن.

كأن فيه عشارًا جلةً شرقًا

عوذًا مطافيل قد همت بإرشاح

وههنا نعت للإبل -جعل البرق كألوان الخيل وجعل الرعد كأصوات الإبل وإرزامها.

دانٍ مسفٌّ فويق الأرض هيدبه

يكاد يدفعه من قام بالراح

ههنا مبالغة في الأداء من غير مبالغة في نفس الوصف لأن «يكاد» ههنا تدل على بعده إذ فيها معنى النفي.

فمن بنجوته كمن بعقوته

والمستكن كمن يمشي بقرواح

وأصبح الروض والقيعان ممرعة

ما بين منفتق منه ومنصاح

وكثير من أوصاف الإبل والخيل وحيوان الدور والوحش والسباع منحو بها هذا النحو.

وقد مر حديثنا عن أوصاف الحسان بما يغني عن إعادته ههنا. وكثير من الأوصاف منحو به المنحى الآخر-وهو الاستطراد، ولعل هذا الضرب أكثر.

فمما يستطرد به الشاعر نعت النواضح والسانية والبساتين في معرض ذكر البكاء ومن أمثلة ذلك أبيات علقمة:

ص: 514

فالعين مني كأن غربٌ تحط به

دهماء حاركها بالقتب محزوم

تسقى مذانب قد زالت عصيفتها

حدورها من أتى الماء مطموم

وأبيات زهير القافية وقد وصف فيها الناقة وأداة السانية والنخل وشربات الماء والفلاح صاحب السانية الذي يحيل في الجدول وهو يتغنى والسائق الذي يحث الناقة:

وخلفها سائق يحدو إذا خشيت

منه اللحاق تمد الصلب والعنقا

وقابلٌ يتغنى كلما قدرت

على العراقي يداه قائمًا دفقا

يحيل في جدول تحبو ضفادعه

حبو الجواري ترى في مائه نطقا

يخرجن من شرباتٍ ماؤها طحل

على الجذوع يخفن الغم والغرقا

وقد أخذ بعضهم على زهير قوله «يخفن الغم والغرقا» بحجة أن الضفادع لا تغرق. وما أرى إلا أن زهيرًا قد انتقل من صفة السانية والناقة التي يستقي عليها والبستان إلى صفة بكائه هو حيث قال:

كأن عيني في غربي مقتلةٍ

من النواضح تسقي جنةً سحقا

فالغرق ما أغرق إنسان عينه من الدمع- قال ذو الرمة وهو من شراح الشعر وعلمائه ومحسنيه:

وإنسان عيني يحسر الماء تارةً

فيبدو وتارات يجم فيغرق

وقد حاكى غرق ضفادع زهير في نعته عينًا من الماء مطحلبة من بائيته وذلك حيث قال:

قغلست وعمود الفجر منصدعٌ

عنها وسائره بالليل محتجب

عينا مطحلبة الأرجاء طاميةً

فيها الضفادع الحيتان تصطخب

ص: 515

فأخذوا عليه أن الحيتان لا تصطخب. ولغيلان في هذا البيت مخارج أقواها أن العين مصطخبة بنقيق الضفادع وحركة تضارب أعالي الماء وفيها الحيتان والضفادع أو الضفادع هي المصطخبة والفعل عائد عليها لا على الحيتان أو بعض الحيتان تثب ثم تعود إلى جوف الماء فهذا اصطخابها. ومما يرجح الوجه الأول عندي سياق الكلام وطريقة غيلان في اختيار الألفاظ المتشابهة الدلالة وجرس الحروف- عينًا مطحلبة طامية تصطخب فيها الضفادع والحيتان.

ولعلك ألا تباعد إن حسبت أن ابن الرومي نظر من طرفٍ خفي إلى قول زهير «ترى في مائه نطقا» في أبياته التي باهى بها، حيث قال:«في صفحة الماء يرمي فيه الحجر» فهذا بعينه قول زهير: «ترى في مائه نطقا» بضم النون والطاء ونطق الماء طرائقه ودوائره. وقد يستطرد بوصف الروضة والحديقة في نعت الظعائن- من ذلك ابتسامة سمية التي نعتها الحادرة:

وإذا تنازعك الحديث رأيتها

حسنًا تبسمها لذيذ المكرع

بغريض سارية أدرته الصبا

من ماء أسجر طيب المستنقع

ظلم البطاح له انهلال حريصةٍ

فصفا النطاف له بعيد المقلع

فقد وصف ههنا انهمال المطر وصفاء الغدران- ثم خلص من ذلك إلى نعت المنظر الطبيعي كله.

لعب السيول به فأصبح ماؤه

غللًا تقطع في أصول الخروع

أي في أصول ما لان ونعم من جديد النبات. وليس المراد هذا الخروع الذي يستخرج منه زيت الخروع أو ضربًا معينًا من النبات اسمه الخروع.

وقال عنترة:

وكأن فارة تاجرٍ بقسيمةٍ

سبقت عوارضها إليك من الفم

ص: 516

فهذا طيب فمها ثم استطرد إلى صفة الروضة.

أو روضةً أنفًا تضمن نبتها

غيثٌ قليل الدمن ليس بمعلم

أي لا دمن في طينه بسبب تعاقب الناس وأنعامهم عليه إذ روضته أنف لم يرعها أحد.

جادت عليها كل بكرٍ حرةٍ

فتركن كل قرارةٍ كالدرهم

هذا تشبيه جيد. وإليه نظر أبو الطيب في قوله «دنانيرًا تفر من البنان» .

سحًّا وتسكابًا فكل عشيةٍ

يجري عليها الماء لم يتصرم

وخلا الذباب بها فليس ببارحٍ

غردًا كفعل الشارب المترنم

هزجًا يحك ذراعه بذراعه قدح المكب على الزناد الأجذم

وهل رأى عنترة أجذم مكبًّا على الزناد يفعل هكذا؟ أغلب الظن أن هذه صورة خيالية توهمها الشاعر توهمًا- المكب على الزناد الأجذم هو هذا الذباب المترنم نفسه. وهو أيضًا الشارب المترنم يدلك على ذلك أن الشاعر يشبه فعله كله بفعل الشارب ذو النشوة، نشوته من ن الروضة الأنف وعطرها وخصبها ودراهم غدرانها. ما أحذق عنترة حيث وصف الشراب فقال:

ولقد شربت من المدامة بعدما

ركد الهواجر بالمشوف المعلم

والمشوف المعلم هو دينار الذهب.

بزجاجة صفراء ذات أسرة

قرنت بأزهر في الشمال مفدم

فالدرهم المشبهة به قرارة الماء الصافي له صورة ومعنى مقابلان له في الدينار المنقوش المجلو. والشارب المنتشي ذو الشمائل الكريمة يقابله الذباب الهزج المنتشي القادح لزناد من السرور وهو أجذم لقصر ذراعيه كما ترى. الصورة مخترعةٌ

ص: 517

اختراعًا، ولذلك زعم الجاحظ أن هذا من التشبيهات العقم وأن الشعراء لا يستطيعون أن يسرقوه- ذكر ذلك في الحيوان.

وشعراء هذيل يذكرون العسل ويصفون اشتياره وإلى ذلك أشار المعري في الدرعيات حيث قال:

ماذيةٌ هم بها عاسلٌ

من القنا لا عاسلٌ من هذيل

وألغز ههنا بذكر الماذية يعني الدرع والعاسل أي الرمح لأنه يعسل أي يهتز والماذي هو العسل الأبيض، أجود العسل، وإياه عني ساعدة بن جؤية الهذلي في بائيته التي ذكر فيها العاسل من القنا كما ذكر العاسل من هذيل ولعل أبا العلاء لم يخل في بيته المتقدم من إشارة إلى هذا المعنى. وبيت ساعدة بن جؤية الذي يذكر فيه العاسل من القنا هو الشاهد النحوي المعروف:

لدنٌ بهز الكف يعسل متنه

فيه كما عسل الطريق الثعلب

وقد ذكر هنا عاسلًا ثالثًا كما ترى وهو الثعلب. ونعته للعسل وعاسله حيث يقول:

ومنصبٌ كالأقحوان منطقٌ

بالظلم مصلوت العوارض أشنب

يعني فمها وأسنانها:

كسلافة العنب العصير مزاجه

عودٌ وكافورٌ ومسكٌ أصهب

خصرٌ كأن رضابه إذ ذقته

بعد الهدوء وقد تعالى الكوكب

أرى الجوارس في ذؤابة مشرفٍ

فيه النسور كما تحبي الموكب

أرى الجوارس أي عسل النحل الذي جرسته، وقوله كما تحبي الموكب في صفة النسور كقول النابغة:

ص: 518

تراهن خلف القوم خزرًا عيونها

جلوس الشيوخ في ثياب المرانب

تراهن أي عصائب الطير الجوارح.

ثم أخذ ساعدة في صفة العسل الماذي الصافي الصريح:

من كل معنقٍ وكل عطافةٍ

مما يصدقها ثوابٌ يزعب

منها جوارس للسراة وتأتري

كربات أمسلةٍ إذا تتصوب

فتكشفت عن ذي متونٍ نيرٍ

كالريط لاهفٌ ولا هو مخرب

الجوارس كما مر النحل وجرسها أكلها لتعمل العسل. تأتري تعمل الأري أي العسل وذلك بقصدها الكربات وهي الأماكن الغليظة من حيث كانت مسايل الماء. المعنقة أي الصخرة المادة عنقها. العطافة، الصخرة المنعطفة. ثوابٌ، أي شيء يثوب عني الماء الذي يزعب أي يتدافع سائلًا مما يصدقها أي نصب على مصداق هيئتها من الماء. فكشفت عن مكان خلايا العسل، لا هو هفٌّ بكسر الهاء أي خالٍ مكانه ولا مخرب أي متروك خراب اسم مفعول من أخرب يخرب:

وكأن ما جرست على أعضادها

حين استقل بها الشرائع محلب

وهكذا هيئة العسل الأبيض في الخلايا والشرائع الطرائق في الجبل.

حتى أشب لها وطال إيابها

ذو رجلةٍ شثن البراثن جخنب

أي قصير قليل هذا هو العاسل من هذيل وأحسبهم كانوا يجلبون العسل إلى مكة وإلى موسم الحج فذلك كان لهم مكسبًا:

معه سقاءٌ لا يفرط حمله

صفن وأخراصٌ يلحن ومساب

الصفن بضم الصاد شيء كالسفرة لحمل الطعام والمسأب بكسر الميم السقاء

ص: 519

الضخم كمنبر وزنا. ثم وصف كيف صعد العاسل إلى حيث كانت الخلية في ذؤابة الجبل التي عليها النسور:

صب اللهيف لها السبوب بطغية

تنبي العقاب كما يلط المجنب

وكأنه حين استقل بريدها

من دوم وقبتها لقًا بتذبذب

إذ قد صعد بحبال وهي السبوب إلى حيث مكان الخلية وهو الطغية أي الشمراخ من الجبل والمجنب الدرقة:

فقضى مشارته وحط كأنه

خلق لم ينشب بها يتسبب

فأزال ناصحها بأبيض مفرطٍ

من ماء ألهابٍ عليه التألب

ألهاب جمع لهب بكسر اللام وسكون الهاء. الناصح العسل الخالص. التألب ضرب من الشجر ثم جعل مزاجًا لذلك صهباء من الخمر. يتسبب يصعد بالحبال وهي الأسباب.

ولعلك أيها القارئ الكريم فطنت إلى أن العسل ههنا هو الأصل، والخمر والماء كل ذلك مزاج، وعند الشعراء عادة أن الخمر هي الأصل والماء والعسل والثلج كل ذلك مزاج.

وأوصاف الخمر كما تذكر بمعرض صفة ثغور الحسان تذكر أيضًا في نهايات القصائد على وجه الفخر أو التأمل والاعتبار بتذكر الماضي. فعل ذلك لبيد في المعلقة حيث قال:

بادرت حاجتها الدجاج بسحرةٍ

لأعل منها حين هب نيامها

الأبيات. وفعل ذلك علقمة في أخريات الميمية عند قوله:

قد أشهد الشرب فيهم مزهر رنمٌ

والقوم تصرعهم صهباء خرطوم

ص: 520

قد يرد ذكر الخمر في مقدمات القصائد وهو ما صنعه عمرو بن مكتوم في معلقته.

وأكثر الاستطراد بالوصف أداته التشبيه الطويل- وقد يطول حتى يحتاج الشاعر إلى تكرار أداة التشبيه أو إلى ضرب من ذلك، مثلًا قول ساعدة بن جؤية بعد الذي سبق من قوله: «كأن رضابه

أرى الجوارس

البيتان».

فكأن فاها حين صفي طعمه

والله أو أشهى إلي وأطيب

وكقول لبيد:

فبتلك إذ رقص اللوامع بالضحى

واجتاب أردية السراب إكامها

أقضى اللبانة

إلخ.

ولا يخفى أن تكرار أداة التشبيه أو تكرار التشبيه بعد الوصف، إن هو إلا حيلة للإشعار بنهايته وللانصراف عن الاستطراد إلى عمود مسير القصيدة أو إلى استطراد آخر. وقد مرت بك أيها القارئ الكريم في الجزء الأول من كتابنا هذا أبيات المسيب بن علس التي وصف فيها اللؤلؤة وغواصها ثم قال:

فبتلك شبه المالكية إذ

خرجت ببهجتها من الخدر

ولا يخفى أن هذه خاتمة خطابية النغمة، لولا أن الوصف قبلها جيد متخير لكانت جوفاء.

ومن جياد التشبيهات الطويلة وصف القوس في زائية الشماخ وقد استطرد به عن استطراد، إذا كان بمعرض وصف الحمر الوحشية ثم قال:

وحلأها دون الشريعة عامرٌ

أخو الخضر يرمي حيث تكوى النواحز

قالوا ولعامر هذا صحبةٌ رضي الله عنه وكان راميًّا، ذكره السمعاني في

ص: 521

الأنساب وله خبر متصل بأخبار ردة طليحة ورووا له حديثًا. وما أشبه أن يكون الشماخ عني بإيراد اسم عامر مجرد الدلالة على رامٍ من حذاق الرماة- كما قال امرؤ القيس:

تصد وتبدي عن أسيل وتتقي

بناظرةٍ من وحش وجرة مطفل

فذكر وجرة هنا يدل على مكن الظبية في أنها ظبية وفي أنها وحشية لا على استبعاد سوى ظباء وجرة من الظباء.

ثم أخذ يصف القوس من حين نمت:

تخيرها القواس من فرع ضالةٍ

لها شذبٌ من دونه وحزائز

نمت في مكان كنها فاستوت به

وما دونها من غيلها متلاحز

فأنحى عليها ذات حد غرابها

عدو لأطراف العضاه معارز

يعني الفأس وغراب الفأس حدها.

فما زال ينجو كل رطبٍ ويابس

وينغل حتى نالها وهو بارز

ثم بعد انغلاله وقطعه الغصن وصف تعتيقه للقوس:

فمظعها عامين ماء لحائها

وينظر فيها أيها هو غامز

أي ترك عليها لحاءها لتشرب ماءها ولم يفتأ ينظر إليها من حين إلى حين ويتعهدها بالإصلاح والعناية، حتى إذا صارت قوسًا ورمى بها ورضي عنها وافى الموسم ليتكسب ببيعها وعزيز عليه لما كان من عنايته بها أن يفارقها:

فلما شراها فاضت العين عبرةً

وفي الصدر حزاز من الوجد حامز

هذا، على أنه ليس بتشبيه مشعرٌ بالنهاية وفيه النفس الخطابي.

ص: 522

وقد تناول الأستاذ العلامة محمود محمد شاكر هذه الزائية بالتعليق والتحليل في سفره الفذ النفيس «القوس العذراء» - جمع في طريقة نظمه بين عناصر الحوار الحي والقصص والتأمل والتحليل، كل ذلك في سلاسة رائعة ورنة. إيقاع متدفق فنحيل القارئ الكريم إليه إن شاء الله.

هذا وإنما يستطرد الشعراء إلى الوصف بالتشبيه الطويل لأن الوصف من أغراض الشعر أمر مقصود لذاته. يراد به الإمتاع ويراد به إظهار القوة على سحر البيان، وذلك مما تسمو به منزلة صاحبه؛ لأن القوة على سحر البيان تنبئ عن سر من أسرار الروح كمينٍ في صاحبها يرتفع به فوق المألوف من سائر ما عليه منازل الناس.

وقال أبو الطيب المتنبي:

أمط عنك تشبيهي بما وكأنه

فما أحدٌ فوقي وما أحدٌ مثلي

وكأن الكاف وما أشبهها من أدوات التشبيه معروفة. وقل ما تذكر «ما» في أدوات التشبيه. وهي بلا ريب من أدوات التشبيه الطويل نحو قول الأعشى:

وما مزبدٌ من خليج الفرا

ت جونٌ غواربه تلتطم

الأبيات إلى قوله:

بأجود منه بما عنده

إذا ما سماؤهم لم تغم

وقول النابغة:

وما الفرات إذا جاشت غواربه

ترمي أواذيه العبرين بالزبد

إلى قوله:

يومًا بأجود منه سيب نافلة

ولا يحول عطاء اليوم دون غد

ص: 523

وقول الخنساء:

وما عجولٌ على بوٍ تطيف به

لها حنينان إعلان وإسرار

ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت

فإنما هي إقبالٌ وإدبار

يومًا بأوجع مني يوم فارقني

صخر وللدهر إحلاء وإمرار

وقد كان أبو الطيب رحمه الله بأسرار الشعر عليمًا.

وقل شيء مما عرفته العرب أو توهمته لم تصفه. يدلك على ذلك ما استشهد به أبو عثمان في كتاب الحيوان، هذا على سبيل التمثيل، وصف حيوانهم كباره وصغاره أنعامه ودوابه وسباعه. ويوشك أبو زبيد الطائي أن يكون قد نظم ديوانًا في نعت الأسد كقوله:

فباتوا يدلجون وبات يسري

بصير بالدجى هادٍ هموس (1)

على أن العتاق من المطايا

أحسن به فهن إليهن شوس

فلما أن رآهم قد تدانوا

أتاهم وسط رحلهم يميس

فثار الزاجرون فزاد منهم

تقرابا وصادفه جبيس

فخر السيف واختلجت يداه

وكان بنفسه فديت نفوس

ومن التشبيه الطويل في هذا الباب قول كعب بن زهير:

فلهو أخوف عندي إذ أكلمه

وقيل إنك منسوب ومسئول

من ضيغمٍ بضراء الأرض مسكنه

ببطن عثر غيلٌ دونه غيل

يغدو فيلحم ضرغامين عيشهما

لحمٌ من القوم معقورٌ خراديل

منه تظل سباع الجو خائفةً

ولا تمشي بواديه الأراجيل

ولا يزال بواديه أخو ثقة

مضرج البز والدرسان مأكول

(1)() معجم الأدباء ج 10 ص 198 - 200. رواية «تقرابًا» في رسالة الغفران.

ص: 524

واستيعاب أمثلة من جميع أصناف الوصف المستطرد إليه بالتشبيه الطويل ونحوه أو المعمود إليه بذاته لا يستطاع في هذا الموضع من كتابنا غير أننا سنورد إن شاء الله أمثلة مما نأمل أن تتم به الفائدة.

هذا وصفات الخيل والإبل أبواب قائمات بذاتها. وما شيء من أطوار نماء هذين الصنفين الكريمين إلا قد ذكرته العرب ولهن أنساب معروفات وللعلماء فيهن كتب، فأغنى ذلك عن أن يطول منا حديث فيهما ههنا. وكما كان العرب يحسنون تربية الإبل كذلك كانوا يحسنون تربية الخيل. وجياد خيل العالم الآن أصولهن عربية. وبعض جياد خيل العرب أصولهن من خيل الجن فيما زعموا. وقال سلامة بن جندل من شعراء المفضليات.

والعاديات أسابي الدماء بها

كأن أعناقها أنصاب ترحيب

احتج ليال فرد بهذا البيت على زعم من زعم أن سلامة كان نصرانيًّا. وأحسبه أصاب إذ يستبعد أن يظهر نصراني روح إعجاب بعمل مشركي العرب، إذ في أصل النصرانية كثير من معادن كبرياء الروم. وما ذكر الأخطل الحج في شعره إلا نفاقًا أو عزم عليه عبد الملك أن ذكر ذلك.

من كل حتٍ إذا ما ابتل ملبده

صافي الأديم أسيل الخد يعبوب

حت: سريع، يعبوب أي طويل حسن.

ليس بأسفى ولا أقنى ولا سغلٍ

يعطى دواء قفي السكن مربوب

أسفى قليل شعر الناصية وهو عيب في الخيل ممدوح في البغال لحمارية أصلها، أقنى أي في أنفه أحديداب وهو عيب في الخيل. سغل بفتح فكسر أي مضطرب الأعضاء هكذا ذكر ابن الأنباري ولعله للكلمة معنى محدد معين نسيه الناس أو جهلوه

ص: 525

فجاء هذا التعميم الغامض من الشراح. الدواء الذي يطعمه الفرس على وجه التربية كأنه دواء له في أحوال إعداده وتضميره. السكن بسكون الكاف الحي من الناس والقفى بوزن فعيل هو الذي يؤثر أي هذا الفرس هو محبوب الحي المقدم على كل أحد سواه فيعطي أجود طعام الحي من محض اللبن ورائبه قال عنترة:

كذب العتيق وماء شنٍ باردٍ

إن كنت سائلتي غبوقًا فاذهبي

أي أنت أطعمك التمر العتيق والماء أما الغبوق فللفرس. تقول كذب كذا أي عليك بكذا في هذا الموضع.

في كل قائمة منه إذا اندفعت منه أساوٍ كفرغ الدلو أثعوب

أساوٍ وأسابٍ وأساهٍ كلها بمعنى الدفعات جمع دفعة بضم الدال. أثعوب أي سائل والمعنى كفرغ أثعوب والفرغ ما بين عراقي الدلو لأن الدلو وهو من الجلد فيه خشبتان معترضتان هما العرقوتان. والوجه الظاهر أن يقال «الأثعوب» أو ترفع «أثعوب» فيكون إقواء. هذا هو الظاهر ولكن الرواية بالخفض وعليها المعول وتأويل ذلك أي كفرع الدلو فرغ -بالخفض- أثوب أو دلو أثعوب إذ المراد التنكير لا التعريف.

كأنه يرفئيٌّ نام عن غنمٍ

مستنفرٍ في سواد الليل مذؤوب

وهذا تشبيه منتزع من ظروف الحياة فيه تسجيل انطباعه من تجارب ومستنفر لك فيه الرفع وترفع المذؤوب فيقع الإقواء وجاءت به الرواية والإقواء كان عندهم في الزمن الأول غير جد معيب على أن هذا البيت يروى على خفض المستنفر والمذوب وعليه فلا إقواء.

يرقى الدسيع إلى هادٍ له بتعٍ

في جؤجؤٍ كمداك الطيب مخضوب

وهذا كقول امرئ القيس: «مداك عروس أو صلابة حنظل» .

ص: 526

الدسيع مغرز العنق في الكاهل والهادي هو العنق وبتع بفتح الكسر أي طويل وهو ممدوح في الخيل والعراب الجياد إذا وردت الماء لم تثن حوافرها لطول أعناقها.

تظاهر الني فيه فهو محتفلٌ

يعطى أساهي من جري وتقريب

الني بفتح النون الشحم وتظاهره فيه قبل أن يراض للجري والضمر فإذا تم له ذلك:

يحاضر الجون مخضرًا جحافلها

ويسبق الألف عفوًّا غير مضروب

أي يحاضر حمر الوحش التي قد رتعت واخضرت جحافلها أي أفواهها وهن من أقوى الحيوان على السير وقوله غير مضروب معنى أفاده من قصة أم جندب إذ فضلت علقمة على امرئ القيس حيث قال في فرسه: «فأدركهن ثانيًّا من عنانه» ولم يضربه وضرب امرؤ القيس فرسه. وبائية امرئ القيس من جيد الشعر إلا أن حكم أم جندب صدقت فيه إذ كانت المباراة في نعت الفرس (1). وقد ذكر الرواة أنها قالت له إنك سريع الإراقة بطيء الإفاقة وزعموا أن امرأ القيس كان مفركًا من النساء وكأنهم بذلك يجنحون إلى قبول اتهامه لها أنها صبت إلى علقمة. ومن شاء اعتذر لها، إن صحت الرواية بقولها ما قالته، بأنها أجابته لما اتهمها. وكان من عادة العرب إذا سب أحدهم بشيء لم ينفه ولكن تجاوزه إلى مهاجمة من سبه بحجة قوية يقيمها على تظاهره بقبول ما لم ينفه. وكانوا أكثر ما يصنعون هذا في باب الأنساب. إذا سب امرؤ فنسب إلى قوم، أثبت النسب الذي ادعى له وافتخر به على وجه لا يخلو من سخرية. وسنذكر أمثلة من ذلك إن شاء الله في موضعه.

ووصف الإبل كثير وقل باب أو غرض من أغراض الشعر لا يجيء فيه على

(1)() احتج من انتصر لصفة امرئ القيس فرسه إنه التزم مذهب الصدق إذ الخيل تحرك لها السياط فتشتد عدوًا، وصاحب هذه المقالة كأنه يزعم أن أم جندب جارت في حكمها.

ص: 527

أنه مما يكون وسيلة إلى الأوصاف- إذ يشبهون المطية بالنعامة وبالبقرة الوحشية والثور الوحشية والحمار الوحشي. ووصف مظاهر البيئة والطبيعة قوي الصلة بذلك. على أن أكثر ما يصاحب صفة سير الإبل نعت الصحراء ليلها ونهارها. ويقع نعت الرياض والخضرة مع ذكر الأطلال والظعائن والدموع.

ووصف الإبل في غير السير أكثر ما يقصد به إلى معنى المال والمرعى والخصب كالذي في آخر ميمية علقمة. وكقول عنترة:

ما راعني إلا حمولة أهلها

وسط الديار تسف حب الخمخم

فيها اثنتان وأربعون حلوبة

سودًا كخافية الغراب الأسحم

فهذه إبل كانت في المرعى، راع عنترة أنه احتمل بها، فدله ذلك على ما صار حتمًا من فراق الأحباب.

وكوصف زهير الإبل الحمالة والديات حيث قال:

فكلا أراهم أصبحوا يعقلونه

صحيحات مالٍ طالعات بمخرم

وكوصف حميد بن ثور وكان وصافًا للجلبانة بضم الجيم واللام وتشديد الباء المفتوحة أي المرأة الكثيرة الصخب، حيث قال يذكر الإبل:

إذا ما دعا أجياد جاءت خناجرٌ

لها ميم لا يمشي إليهن قائد

ولنا إلى هذه الكلمة رجعة إن شاء الله تعالى.

وإنما سمي عبيد بن حصين راعي الإبل، لوصفه إياها. وبه فيما ذكروا اقتدى ذو الرمة.

وقد كان ذو الرمة وصافًا للطبيعة في نوع من روح اتحادٍ وجداني مع مختلف مظاهرها. وصف لبيد للطبيعة حيث قال:

فعلًا فروع الأيهقان وأطفلت

بالجلهتين ظباؤها ونعامها

ص: 528

ووصف عبيد للمطر وأوصاف امرئ القيس- كل أولئك مع ما يحملنه من معاني الجمال وقوة البيان ودقة الملاحظة ورقة الإحساس ونبالته (مثلًا أبيات امرئ القيس في المطر والسيل) كل هؤلاء ملابسهن مع صدق النعت انفصام ملاحظة الشاعر عنه انفصامًا يجعله كالمشرف على ما يصفه من عل. أما ذو الرمة فكأنه يروم تفسير الطبيعة بنوعٍ من الإخبات لها واتصال الروحي مع أصنافها والذوبان فيها- ذوبانًا شبيهًا بمعاني التصوف ووحدة الوجود و «الوجدانية الرومنسية» (1).

عنترة في نعت روضته:

أو روضة أنفًا تضمن نبتها

غيث قليل الدمن ليس بمعلم

يقارب هذا الاتحاد جدًّا ولا سيما عند قوله: «وخلا الذباب بها فليس ببارح» البيتين اللذين قدمهما الجاحظ كل التقديم. على أن عنترة مع هذا الذي قاربه من الاتحاد، ما زال مشرفًا إشرافًا على ما يصنعه- وهو مذهب القدماء الواضح الصريح.

تأمل مثلًا قول ذي الرمة يذكر خرقاءه:

تثني الخمار على عرنين أرنبةٍ

شماء مارنها بالمسك مرثوم

ظاهر النعت ههنا أنه في حسناء من البدويات لها خمار وعلى أنفها نقطة طيب حمراء وباطنه متضمن لقول علقمة «كأن إبريقهم ظبي على شرف البيت» ونعته للأترجة التي بها نصخ العبير.

كأنها خالطت فاها إذا وسنت

بعد الرقاد فما ضم الخياشيم

مهطولة من خزامى الخرج هيجها

من صوب غادية لوثاء تهميم

الوصف ههنا كقول عنترة «وكأن فأرة تاجر بقسيمة» البيت وكقوله: «أو

(1)() ويكون ذو الرمة بهذا قد اطلع على ما كتبه جان جاك روسو من طريق الكشف

ص: 529

روضة أنفًا تضمن نبتها» البيت. ولكن ههنا توفرًا وتأملًا وانصرافًا إلى خزامى الخرج وهطول المطر عليها. وما ذكر الخرج -وهو من أخصب بلاد نجد- لمجرد التزكية، كظباء وجرة ونعاج توضح- ولكن للتحديد الذي يمهد للشاعر أن ينصرف إلى ما حدد موضعه ويتحد معه. ثم قد تأمل هذه الغادية ولو كان قد قال «هيجها من صوب غادية تهميم» لأفاد معنى جيدًا؛ لأن التهميم هو الرذاذ المتصل وذلك يكون أفوح لطيب أريح الخزامى. وما جاء باللوثاء لإكمال الوزن فغير اللوثاء يمكن أن يكمل به الوزن ويستقيم عليه المعنى كأن يقول بالخرج أو تسقيه أو ترويه أو يا صاح أو ما هو أفصح من هذا وأجزل. ولكنه جاء باللوثاء لتقريب صفة المزنة الغادية وإعطائنا حيوية مغداها الذي هو قد أحسه وانصرف إليه وأوشك بل قد اتحد معه. وجعلها لوثاء لمصاحبة الريح إياها. وجعل صوبها تهميمًا لأن المزن كذلك أكثر ما يكون مع الريح الشديدة.

أو نفحة من أعالي حنوةٍ معجت

فيها الصبا موهنًا والروض مرهوم

حواء قرحاء أشراطيةٍ وكفت

فيها الذهاب وحفتها البراعيم

ههنا كما ترى وقفة تأملية للحنوة - أي الريحان- مع ما سبق ذكره من الخزامى وتكرار الصفات في نعت الروضة- حواء- قرحاء- أشراطية- ثم تكرار نعت همول المطر عليها- غادية لوثاء- تهميم- ذهاب واكفة بكسر الذال أي دفعات من المطر- ثم هذه الألوان. الخزامى كأنها بلونها البنفسجي ثم الريحان وهو الحنوة ونص الشاعر على أنها حواء أي شديدة الخضرة- وقرحاء أي بعضها طال وأزهر فخالف بذلك استمرار لون الخضرة- ثم هذه البراعيم التي حفت الحنوة والروضة. ههنا، في هذه الوقفة المتأملة شعور حب يروم الشاعر أن ينقله إليك بقوة البيان لتشاركه فيه ويؤكده بإشعارك أنه فيه ذائب ومعه مندمج.

ص: 530

ثم يجيء بيت نهاية الوصف:

تلك التي تيمت قلبي فصار لها

من وده ظاهر بادٍ مكتوم

وكما الود ظاهره ومكتومه لخرقاء، هو كذلك أيضًا ظاهره ومكتومه لهذه الطبيعة الكاملة الحسن والتأنيث مثلها.

ومع الإشعار بالنهاية تكرار التشبيه. وتلك ونحوها من الإشارة ينبغي أن تعد من أدزات التشبيه الطويل وألا يقحم هذا على ما يسمى التشبيه البليغ- أي المحذوفة منه الأداة ووجه الشبه، وذلك لما سبق من ذكر أداة التشبيه.

وتأمل قوله في صفة خرقاء قبل هذا:

كأنها أم ساجي الطرف أخدرها

مستودعٌ خمر الوعساء مرخوم

أم ساجي الطرف الظبية، أخدرها الخدر فخذلت قطيع الظباء لتعكف على ولدها.

تنفي الطوارف عنه دعصتا بقرٍ

ويافعٌ من فراندادين ملموم

دعصتا بقر أي كثيبًا ذي بقر وهو موضع والدعص كثيب من الرمل صغير وفرندادين عني به موضعًا هو الفرنداد وما حوله بكسر الفاء والراء المهملة وسكون النون وهو وزن نادر وراجع شرح البيت في كتابنا عن قصائد ذي الرمة الأربع ص 149 من طبع الخرطوم سنة 1377 هـ- (1958 م).

كأنه بالضحى ترمي الصعيد به

دبابةٌ في عظام الرأس خرطوم

ولم يكن لذي الرمة علم بصفة الخمر إلا من روايته الشعر وتذوقه معانيه وما يخلو أن يكون رأى امرأ سكران فأسبغ من صفته على تناوم ولد الظبية.

لا ينعش الطرف إلا ما تخونه

داعٍٍ يناديه باسم الماء مبغوم

ص: 531

باسم الماء أي بالصوت ماء ماء وهو صوت الظبية. واستعمال ذي الرمة لاسم في هذا الموضع نحو من استعمال لبيد حيث قال:

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

ومن يبك حولًا كاملًا فقد اعتذر

أي بالذي اسمه ماء وهو داء الظبية ولدها رحمة وشفقة أو ما يدل عليه هذا الاسم عند الظباء. والذي اسمه السلام عليكما وهو معنى الوداع في بيت لبيد. وقوله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم أي بما يدل عليه اسم الله في هذا الموضع فليس الاسم بزائد وهذا ما ذهب إليه جرير في تفسيره خلافًا لي عبيدة غير أنه زعم في بيت لبيد أن السلام اسم الله سبحانه وتعالى وهذا يجوز من حيث معاصرة لبيد لأوائل الإسلام وتأثره بذلك، غير أنه ليس يخلو من بعد، والله أعلم.

كأنه دملجٌ من قضةٍ نبهٌ

في ملعبٍ من عذارى الحي مفصوم

نبه بالتحريك أي منسي. وقد أخذ ذو الرمة في مذهب من التشبيه الطويل في داخل التشبيه الطويل الأول- وهو تشبيه الحسناء بالظبية ثم انصرف عن الظبية إلى ولدها كما ترى- ثم عاد إليها مرة أخرى ليجعلها كمزنة أي سحابة بيضاء بعد أن كانت ظبية. ولا يخفى ان هذا كله تأمل للطبيعة واعتبار للجمال والوجدان به كلا واحدًا سواءٌ تمثله في المحبوبة وفي الظبية وفي المزنة، وهلم جرا:

أو مزنةٌ فارقٌ يجلو غواربها

تبوج البرق والظلماء علجوم

هنا صورة المزنة بها البرق يجلو بياضها ومواضع الدكنة منها ظاهرةً بتألقه فيها وافترار إشراقه عليها. وفي الصورة بعد نوعٌ من اتحاد بين الموصوفة المشبهة والمزنة المشبه بها وبين هذا الشاعر المرهف الوجدان المتأمل.

ويجيء بيت النهاية من بعد ما فيه من تكرار التشبيه باسم الإشارة:

تلك التي أشبهت خرقاء جلوتها

يوم النقا بهجة منها وتطهيم

ص: 532

والبهجة صفة البرق والتطهيم صفة هذا الجسم الجميل. فهذا زعمنا أن ذا الرمة يجمع بين حسن جمال النساء وجمال الطبيعة وحرارة شوق المحب ودقة ذوق الفنان ذي الإحساس المرهف.

هل ظلم أبو عمرو والنقاد القدماء ذا الرمة حيث أخروه عن الفحول وقالوا إن شعره كبعر الظباء له طيب رائحة أولًا ثم يعود إلى رائحة البعر وكنقط العروس بهيجة المنظر أول الأمر ثم تضمحل؟

أم ليت شعري هل أزري بذي الرمة شبابه وفرط تأمله وتلمظه لما يتذوقه من المعاني والألفاظ؟

على أن أبا عمرو بن العلاء قد أنصفه إذ جعله خاتم الشعراء على منهج الأوائل، أحسب هذا ذكره الجاحظ، وقد لقي تلاميذه.

ومما جاء به ذو الرمة في الميمية التي منها ما قدمناه من الأبيات، على مذهب عنترة قوله في الجنوب وذلك بمعرض ذكره السير والصحراء حيث قال:

والركب تعلو بهم صهب يمانيةٌ

فيفًا عليه لذيل الريح نمنيم

فالتفت كما ترى من نعت الركب والصهب وهي مطاياهم إلى نعت الصحراء ورملها الذي عليه نسج الريح.

كأن أدمانها والشمس جانحةٌ

ودعٌ بأرجائه فضٌّ ومنظوم

وهذا كقوله من قبل في ولد الظبية «كأنه دملج نبهٌ البيت» والتشبيه جميل على أن فيه نعت الودع نفسه الفض منه والمنظوم. وأصل هذا التشبيه قول امرئ القيس:

كأن عيون الوحش حول خبائنا

وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب

ص: 533

غير أن معنى التشبيهع ههنا أظهر وأقوى ومعنى الالتفاتة إلى الودع نفسه أقوى في كلام غيلان.

يضحى بها الأرقش الجون القرا غردًا

كأنه زجل الأوتار مخطوم

الأرقش الجون القرا هو الجندب والقرا أي الظهر وجعله كالعود ذي الأوتار الزجل ثم جعل العود الزجل بيدي ضاري ثمل.

من الطنابير يزها صوته ثملٌ

في لحنه عن لغات العرب تعجيم

معروريًّا رمض الرضراض يركضه

والشمس حيرى لها بالجو تدويم

كأن رجليه رجلا مقطفٍ عجل

إذا تجاوب من برديه ترنيم

ذو الرمة ههنا ينظر نظرًا شديدًا إلى ذباب عنترة والقادح المكب على الزناد الأجذم والغرد الذي يحك ذراعه بذراعه وبلغ من تأثر ذي الرمة بتشبيه عنترة انه جاء بصفات على وزن فعل بفتح وكسر مثل غرد وهزج اللذين جاء بهما عنترة -فههنا عند ذي الرمة غردًا- زجل- ثمل- عجل. وقوله «يضحى بها» صدر البيت هو قول عنترة «وغدا الذباب بها البيت» بعينه إذ الإضحاء غدو ولم يجد ذو الرمة مهربًا من «غرد» - وقد جمع ذو الرمة في عجز البيت «كأنه زجل الأوتار» وصدر الذي يليه «من الطنابير» معنى عنترة حيث قال «كفعل الشارب المترنم» فههنا فعل شارب مترنم، وقول ذي الرمة مخطوم يعني به «مشدود» من شد الطنبور بالعصب كما يخطم البعير أي يشد فمه. وقوله «عن لغات العرب إلخ» جرى فيه على مذهب حميد حيث قال في الحمامة:

فلم أر مثلي شاقه صوت مثلها

ولا عربيًّا شاقه صوت أعجما

وقد قال المثقب العبدي:

وتسمع للذباب إذ تغنى

كتغريد الحمام على الوكون

ص: 534

فانظر إلى جانب تداعي المعاني- ذباب عنترة- ذباب المثقب وحمامه- حمام حميد ولحنه الأعجمي ثم تناول الشعراء لهذا المعنى من بعد. فمع أنه لم يجيء به عنترة، مرده إلى قوله وهو الذي حذا عليه غيلان. وقوله «معروريًا رمض الرضراض إلخ» من أبيات طرب الجرس اللفظي الذي لا يخفى. وقد نظر في قوله «والشمس حيرى إلخ» إلى قول علقمة.

وقد علوت قتود الرحل يسعفني

يومٌ تجيء به الجوزاء مسموم

حامٍ كأن أوار النار شامله

دون الثياب ورأس المرء معموم

وقد انصرف ذو الرمة من صفة صوت الجندب إلى تصوير الشعراء له وهو يركض الحصى. ثم عاد إلى التشبيه العنتري في قوله:

كأن رجليه رجلا مقطفٍ عجلٍ

إذا تجارب من برديه ترنيم

فصورة الرلجلين ههنا صورة الذراعين في قول عنترة «يحك ذراعه بذراعه» والمقطف بضم الميم على صيغة اسم الفاعل من الرباعي هو صاحب الدابة البطيئة فهو يغمزها معملًا رجليه. وههنا أخذ ومحاكاة للمكب الأجذم الذي في أبيات عنترة. وقوله «إذا تجاوب من برديه» فيه محاكاة لقول عنترة «يحك ذراعه بذراعه» - عنترة ذكر ترنمه وحال حركة ذراعيه يحك ذراعًا بذراع وليس الصوت صادرًا عن هذا الحك. وغيلان نسب الصوت إلى الجناحين في حال حركة الرجلين كرجل صاحب الدابة القطوف وليس الصوت صادرًا منهما ولكن من الجناحين أو من الجوف الذي هما عليه يكسوانه.

وأحسب أن نحو هذا الأخذ مما نقص بقدر ذي الرمة عند النقاد. على أنه كان من مذهبًا أشبه بالإشارة والتمتع بتذوق شعر القدماء مع ما هو فيه من التأمل

ص: 535

والوصف. وإلى هذا الجانب من عمل غيلان فطن أبو تمام وأبو العلاء وكأن إشارتهما إليه نوع من الاتباع لمذهبه، وذلك كما ذكرنا من قبل حيث قال الأول:

ما ربع مية معمورًا يطيف به

غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب

وحيث قال ثانيهما:

وإني تيممت العراق لغير ما

تيممه غيلان عند بلال

ومما يعجبني من شعر ذي الرمة وشعره كله معجب، قوله:

وتيهاء تودي بين أسقاطها الصبا

عليها من الظلماء جل وخندق

أي صحراء تهلك ربح الصبا بين أطرافها عليها كساء من الظلماء ضاف. وقد جسد ذو الرمة التيهاء فجعل عليها كساء ككساء الفرس وهو الجل بضم الجيم وفتحها، لغتان، ثم جعلها كالحصن دونها من الظلماء خندق- وهي مكسوة كساء الفرس من أداة الحرب ومخندق عليها والخندق من أداة الحرب. ولا أشك أن استعارته الجل ليكسو به الصحراء من قول امرئ القيس «فقلت له لما تمطى بصلبه» حيث جعل الليل كالبعير ومن قوله «وليل كموج البحر أرخى سدوله البيت» حيث جعل لليل سدولًا وهي من نوع الثياب وجعله بحرًا. والأخذ الذي أخذه ذو الرمة خفي جدًّا. والصورة التي انتزعها من الفروسية والحرب بارعة.

غللت المهارى بينها كل ليلةٍ

وبين الدجى حتى أراها تمزق

وهذه متابعة منه لصورة الكساء. فجعل سيره وسراه ليلًا في الصحراء التي عليها جلٌّ من الظلام وخندق كالانغلال بين سطح الصحراء وبين هذا الكساء الذي يكسوها حتى يتمزق الكساء بهذا الانغلال. وتمزق الكساء -وهو الدجى- معناه طلوع الفجر بعمود ضوئه وخطوط شفقه وحمرته التي كالدم.

ص: 536

ولا شك أن أبا تمام نظر نظرًا شديدًا إلى هذا التجسيد المفتن في هذين البيتين حيث قال هو في مدح أبي دلف:

وقد علم الأفشين وهو الذي به

يصان رداء الملك عن كل جاذب

بأنك لما اسحنكك الأمر واكتسى

أهابي تسفي وجوه التجارب

لاحظ طريقه تتابع جناس السينات هنا كما يتابع الجناس عند ذي الرمة ثم جعل أهابي الأمر حين أظلم واسحنكك تسفي، أي ترمي بالتراب في وجوه التجارب، يكنى بهذا عن تفاقم الأمر واشتداده حتى إن الرأي فيه ليضل عن أهل الرأي والتجربة.

تجللته بالرأي حتى أريته

به ملء عينيه مكان العواقب

كما انغل ذو الرمة بين الصحراء وأكسية الدجى، ارتفع ممدوح حبيب فوق غبار ظلمات الأمر ليكشف برأيه للأفشين وجه العمل الذي يتوصل به إلى عواقب النصر المبين.

ومما يدلك على أخذ حبيب من غيلان واتباعه له، خلوص صدى لفظ غيلان في أسلوب نظمه- الجناس المتتابع في الحروف- الكاف والسين- والجل الغيلاني الذي قد بقيت روح معناه ورنة لفظه في قول حبيب:«تجللته» وحبيب لمتأمل شعره كثير الأخذ من غيلان.

ومن تشبيهات الوصف في هذه القافية قوله:

نظرت كما جلي على رأس رهوةٍ

من الطير أقنى ينفض الطل أزرق

قولنا من تشبيهات الوصف، نعني أن المشبه به فيه أقرب إلى أن يكون المعمود إليه بالنعت أكثر من المشبه- يعني نظرت كما جلي الصقر أي نظر من بعيد ومن مكان عال.

طراق الخوافي. واقعٌ فوق ريعةٍ

ندى ليله في ريشه يترقرق

ص: 537

هذه صورة واضحة للصقر. ولا ريب أن ذا الرمة رأى الصقر ونعته هنا عن رؤية واعية، على أنه لم يخل من أخذ من زهير حيث قال:

فزل عنها وأوفى رأس مرقبةٍ

كمنصب العتر دمي رأسه النسك

وهذا من أبيات رائعة شبه فيها زهير نجاء فرسه بنجاء الحمامة من الصقر- وهي في الكافية:

بان الخليط ولم يأووا لمن تركوا

وزودوك اشتياقًا آيةً سلكوا

وقال غيلان:

وماء قديم العهد بالإنس آجنٍ

كأن الدبا ماء الغضى فيه تبصق

وهذه صورة منتزعة من الملاحظة وصغار الجراد من أقتل شيء للنبات

وردت اعتسافًا والثريا كأنها

على قمة الرأس ابن ماءٍ محلق

وابن ماء أي طائر مائي وأحسب هذا البيت من شواهد أهل اللغة والنحويين ويذكرون معه قول الآخر.

ولا الحجاج عيني بنت ماءٍ

تقلب طرفها حذر الصقور

وهذا عجب إذ كان الحجاج صقرًا على حين سائر الناس بنات ماء.

يرف على آثارها دبرانها

فلا هي مسبوق ولا هو يلحق

والعرب تزعم أن الدبران هوى الثريا وساق لها مهرًا من نجوم.

بعشرين من صغرى النجوم كأنها

وإياه في الخضراء لو كان ينطق

قلاصٌ حداها راكبٌ متعممٌ

هجائن قد كادت عليه تفرق

هذا من قول ذي الرمة تثبيت للزعم الذي كانت تزعمه العرب من هوى

ص: 538

الدبران الثريا وطلبه نكاحها. إن كان ينطق أي لو كان إنسانًا لكانت هذه النجوم بمنزلة القلاص التي تساق مهرًا للكريمة من النساء، ولكان هو الراكب المتعمم المنخرط بها في وسط النهار. يدل على النهار اعتمامه. وعندي أن أبا العلاء قد تبع ذا الرمة في الافتنان الذي افتتنه في نونينه:

عللاني فإن بيض الأماني

فنيت والظلام ليس بفاني

حيث زعم أن الهلال يهوي الثريا وساق خبر سهيل وأختيه الشعريين العبور والغميصاء.

قرانًا وأشتاتًا أخب يسوقها

إلى الماء من جوز التنوفة مطلق

أي سائر إلى الماء سائقٌ إبله إليه.

وقد هتك الصبح الجلي كفاءه

ولكنه جون السراة مروق

ههنا عود إلى صورة الفرس التي مرت من قبل في قوله «جل وخندق» - والكفاء بكسر الكاف ستر عند مؤخر البيت. وهنا أيضًا عودة إلى قوله «بينها كل ليلة وبين الدجى حتى أراها تمزق» فجعل الكفاء الذي في المؤخر مشقوقًا وجعل الرواق وهو الستر الذي في مقدم البيت سالمًا- فهذا كما ترى تصوير للفجر الكاذب الذي يقال له ذنب السرحان.

فأدلى غلامي دلوه يبتغي بها

سقاط الصدى والليل أدهم أبلق

فجاءت بنسج العنكبوت كأنه

على عصويها سابريٌّ مشبرق

وهذه الخاتمة من قافية غيلان شديدة الشبه بما ختم به ابن أبي ربيعة رائيته ونعود إلى ما كنا وعدناك أيها القارئ الكريم من إيراد أمثلة من الوصف وتشبيهاته مما عسى ان تتم به الفائدة في هذا الباب.

ص: 539

من ذلك قول ساعدة بن جؤية الهذلي في العسل:

وما ضربٌ بيضاء يسقي دبوبها

دفاق وعروان الكراث فضيمها

الضرب العسل الصلب الشديد الأبيض. الكراث نبت. دفاق وعرزان وضيم أودية.

أتيج لها شثن البنان مكزم

أخو حزن قد وقرته كلومها

أي هذا العاسل متعود على السير في الحزن بضم ففتح أي الأماكن الغليظة من الأرض جمع حزنة بضم فسكون.

قليل تلاد المال إلا مسائبا

وأخراصه يعدو بها ويقيمها

أي هذا ماله، المسائب جمع مسأب بكسر الميم وهو السقاء والأخراص عني بها القصب الذي يتناول به من بعيد.

رأى عارضًا يهوي إلى مشمخرة

قد أحجم عنها كل شيءٍ يرومها

العارض ههنا جماعة النحل، جعلها عارضًا لشبهها بالعارض من السحاب والريح وقد أحجم فيه نقل حركة الهمزة إلى دال قد.

فما برح الأسباب حتى وضعنه

لدى الثول ينفي جثها ويؤومها

أي ما زالت حباله يصعد بها حتى وضعته لدى الثول أي جماعة النحل.

ينفي جثها أي الرديء مما حوله ويؤومها يدخن عليها ليطردها والإيام بكسرة الهمزة الدخان هكذا في شرح السكري.

ثم بعد أن علمنا أن العاسل قد أصاب منيته بذكر الشاعر على سبيل التتمة والحيلة الفنية أنه مزج ذلك العسل بنطفة ماءٍ صاف مما نشأ من صوب السحاب ثم

ص: 540

جمت به الرمال فذلك المزاج الحلو هو فم المحبوبة وسماها أم معمر.

فلما دنا الإبراد حط بشوره

إلى فضلاتٍ مستحيرٍ جمومها

فل فضلاتٍ من حبي مجلجل

أضرت به أضواجها وهضومها

أضرت به أي دنت وكانت له سترًا. هضومها، ما انخفض منها.

فشرجها حتى استمر بنطفه

وكان شفاءً شوبها وصميمها

فشرجها قال الشارح فعتقها وما أدري ما تعتيق العسل- ولعل المراد الخمر أنه عتقها ثم مزجها بالعسل وأستبعد هذا الوجه. وما أشبه أن يكون معنى شرجها مزجها، وذلك أنهم يقولون الشريج يعنون به المزيج.

فذلك ما شبهت فا أم معمرٍ

إذا ما توالى الليل غارت نجومها

وقال طفيل الغنوي- قال أبو عبيدة في كتاب الخيل، كان يقال له طفيل الخيل وكان يقال له المحبر لحسن شعره:

رأيت رباط الخيل كل مطهم

رجيلٍ كسرحان الغضى المتأوب

أي مثل هذا من الخيل هو الذي ينبغي أن يرتبط ومثل هذه من الأفراس:

وجرداء ممراحٍ نبيلٍ حزامها

طموحٍ كعود الغيضة المتنخب

تنيف إذا اقورت من الغزو وانطوت

بهادٍ رفيع يقهر الخيل سلهب

إذا اقورت من الغزو يعني ضمورها والهادي العنق والسلهب الطويل.

إذا قيل نهنها وقد جد جدها

تبارى كخذروف الوليد المثقب

هذا كتشبيه امرئ القيس حيث قال «درير كخذروف الوليد» غير أن امرأ القيس أعمد إلى خذروف الوليد وذكرى ملاعب الصغار وبعض ذلك ذكرى لماضي

ص: 541

طفولته هو. وطفيل ههنا أعمد إلى تشبيه حركة الحصان أنه درير كخذروف الوليد صورة حركة الخذروف ههنا أظهر. وأحسب أن بعض مرد ذلك إلى أن طفيلًا رجع إلى صورة الخذروف حيث وصفه بالمثقب ولكن امرأ القيس رجع إلى صورة الوليد حيث قال: «أمرة تتابع كفيه بخيط موصل» حتى موصل هذه فيها حركة الوليد.

قبائل من حيي غني تواهقت

بها الخيل لا عزلٍ ولا متأشب

جلبنا من الأعراف أعراف غمرةٍ

وأعراف لبنى الخيل يا بعد مجلب

ورادًا وحوًّا مشرفًا حجباتها

بنات حصانٍ قد تعولم منجب

هذه ألوان الخيل.

وكتًا مدماةً كأن متونها

جرى فوقها واستشعرت لون مذهب

لك في «لون مذهب» رفع النون ونصبها والبيت من شواهد النحاة في باب التنازع ومن جيد الوصف.

نزائع مقذوفًا على سرواتها

بما لم تخالسها الغزاة وتسهب

نزائع أي غرائب. مقذوفًا إلخ أي وضعت على سرواتها أي ظهورها السروج- أي ولدت من الفحول الغرائب وعودت على الغزو لم تخالسها الغزاة به ولم تسهب أي لم تترك وتهمل.

تباري مراخيها الرياح كأنها

ضراءٌ أحسن نبأةً من مكلب

الضراء بكسر الضاد هي كلاب الصيد واحدها ضر وبكسر الضاد وسكون الراء.

إذا هبطت سهلًا كأن غبارها

بجانبه الأقصى دواخن تنضب

التنضب من نبت البلاد الصحراوية دائم خضرة العيدان له شوك ولا ورق

ص: 542

له وثمره أحمر أرجواني له لذعٌ وفيه حبه وله لزاجة منظره إذا نور وأثمر باهر وهو من العضاه ودخانه كثير كثيف إذا استوقد به وربما أمكن الاستيقاد به وهو أخضر.

وهصن الحصى حتى كأن رضاضه

ذرى بردٍ من وابلٍ متحلب

ههنا تسجيل انطباعه هطول شؤبوب من وابل ذي برد- والألفاظ متخيرات أيما تخير.

يبادرن بالركبان كل ثنيةٍ

جنوحًا كفراط القطا المتسرب

أعارضها رهوًا على متتابع

شديد القصيرى خارجيٍّ محنب

التحنيب اعوجاج في قوائم الخيل محمود يدل على عتقها.

كأن على أعطافه ثوب ماتحٍ

وإن يلق كلبٌ بين لحييه يذهب

يدل على عظم لحييه. وعلى ضمور الكلب. والتشبيه بدوي موغل في ذلك.

كأن بكتفيه إذا اشتد ملهبًا

سنا ضرمٍ من عرفجٍ متلهب

هنا تأكد لصفته التي تقدمت حيث قال «جرى فوقها واستشعرت لون مذهب» فهذا لون أعرافها فإذا جرت مسرعة بدا ذلك كاللهب.

أزوم على فأس اللجام كأنما

يرادى به مرقاة نحل مشذب

يصف ارتفاعه وأنه أجرد. أزوم أي عضوض وإذا عض اللجام رفع بذلك رأسه وعنقه الطويل وبدا بذلك وبأعرافه كأنه نخلة سحوق.

وقيل اقدمي واقدم وأخر وأخري

وها وهلا واصرخ وقادعها هبي

أي تقدع بهبي

وللخيل أيامٌ فمن يصطبر لها

ويعرف لها أيامها الخير يعقب

طوامح بالطرف الظراب إذا بدت

محجلة الأيدي دمًا كالمخضب

ص: 543

قوله وللخيل أيام أحسب أن أبا الطيب المتنبي قد نظر إليه في أبياته المشهورة.

وما الخيل إلا كالصديق قليلة

وإن كثرت في عين من لا يجرب

إذا لم تشاهد غير حسن شياتها

وأعضائها فالحسن عنك مغيب

أما قوله الظراب بكسر الظاء المعجمة فيعني الصخور الناتئات المرتفعات وأحسب أن الزمخشري سجع في أساسه فقال: نحن طراب وأنتم ظراب وأخذه والله أعلم- من قول أبي الطيب:

أصخرة أنا مالي لا تحركني

هذي المدام ولا هذي الأغاريد

طراب الأولى بالمهملة والثانية بالمعجمة أختها.

وقال آخر وأحسبه ساعدة بن جؤية يصف الضبع وبعض ما ذكره فيه وصف الإبل وفيه وصف حال الموت ومخالط ذلك ما كنا قدمناه من معاني الحكمة:

وما يغني امرأً ولد أجمت

منيته ولا مالٌ أثيل

أجمت منيته أي دنا موته ويجوز أن تمون الجملة وصفًا «امرأ» وهو الوجه الواضح المعنى غير أن فيه التقديم والتأخير حيث فصل بالولد بين الصفة والموصوف ويجوز أن تكون الجملة وصفًا للولد، أي الولد فانٍ والمال متروك وإن كثر كما سيأتي؛ لأن صاحب المال يموت:

ولو أمست له أدمٌ صفايا

تقرقر في طوائفها الفحول

وههنا أوصاف جيدة لهجمات الإبل.

مصعدة حواركها تراها

إذا تمشي يضيق بها المسيل

الحارك موضع منحدر ما بين السنام إلى العنق.

ص: 544

إذا ما زار مجنأةً عليها

ثقال الصخر والخشب القطيل

يعني حفرة القبر.

وغودر ثاويًّا وتأوبته

مذرعة أميم لها فليل

أميم نداء وترخيم والمذرعة الضبع وفليلها عرفها.

لها خفان قد ثلما ورأس

كرأس العود شهيرةٌ دؤؤل

أي لها رأس كرأس البعير ولها دألان في مشيها وذلك أنها تمشي كأنها مائلة. ثلبا أي ثلما بالبناء للمجهول أي كأنه كسر جانب منهما.

تبيت الليل لا يخفى عليها

حمارٌ حيث جر ولا قتيل

أي تأكل الميتات وتعرف مكانها ثم وصف دألانها ومشيها.

كمشي الأقبل الساري عليها

عفاءٌ كالعباءة عفشليل

الأقبل كالأحول والعفاء بكسر العين الشعر الذي عليها وعفشليل صفة تدل على التهويل كقوله شهبرة من قبل.

فذاحت بالوتائر ثم بدت

يديها عند جانبه تهيل

الوتائر الطرائق بين القبور سارت هذه الطبع عليها متتبعة القبور حتى جاءت عند القبر الجديد فجعلت تنبشه لتستخرج ميتة فتأكل منها.

ومن نادر ما جاء في الوصف وجيده أبيات لامية أوردها المبرد في كامله وذكر أنها لأحد لصوص بني سعد وربما نسبها غيره إلى عبيد بن أيوب العنبري صاحب السعلاة. وقد ذكر فيها أمر الصقر حين يعزم على فراق سيده، والصقر مما يفعل

ص: 545

ذلك، ومما يرجح نسبة الأبيات إلى عبيد بن أيوب أنه يروى في خبره أنه فارق الناس وتوحش، قال:

فإني وتركي الإنس من بعد حبهم

وصبري عمن كنت ما إن أزايله

لكا لصقر جلي بعد ما صاد فتية

قديرًا ومشويًّا عبيطًا خرادله

أهابوا به فازداد بعدًا وصده

عن القرب منهم ضوء برقٍ ووابله

أي حالي كحال هذا الصقر الذي كان محبًّا لصاحبه ثم فارقه فراق نفور لا رجعة معه. جلي أي رأى واجتلى قديرًا أي لحمًا مطبوخًا وآخر مشويًّا عبيطًا خرادله أي قطعة أخذت من ذبيحةٍ ذبحت على فتاء سن ونت غير علةٍ. صاد فتيةً أي صاد لفتيةٍ. ويذكر أهل الصقور أن الصقر ربما فعل ذلك جنوحًا منه إلى الحرية. أهابوا به أي دعوه يتألفونه باللحم القدير والمشوي ولج نافرًا يدعوه البرق والوابل والحرية.

وبعد هذه الأبيات، ذكر حال توحشه وزعم أنه صحب الجن في الفلوات ولا صديق له إلا القوس الصفراء والسيف:

ألم ترني صاحبت صفراء نبعةً

لها زبديٌّ لم تفلل معابله

وطال احتضاني السيف حتى كأنما

يلاط بكشحي جفنه وحمائله

أخو فلوات صاحب الجن وانتفى

عن الإنس حتى قد تقضت وسائله

له نسب الإنسي يعرف نجره

وللجن منه شكله وشمائله

الصراء النبعة هي القوس الصفرة لونها والنبع خشبها. لها زبدي أي وتر رنان، سهامه غبر مفللات المعابل أي النصول. يلاط أي يلصق بالبناء للمفعول أخو فلوات يصف بذلك نفسه وعندي أن أبا الطيب نظر إلى هذا المعنى حيث قال:

صحبت في الفلوات الوحش مغتربًا

حتى تعجب مني القور والأكم

ص: 546

وقال أبو ذؤيب الهذلي يصف الخمر والثغر والعسل:

فأقسم ما إن بالة لطميةٌ

يفوح بباب الفارسيين بابها

البالة الوعاء وتستعمل الآن استعمالًا عامًّا فنقول بالة القطن مثلًا ولطمية منسوبة إلى اللطيمة وهي قافلة الطب تجارتها والفارسيون تجار المشرق من العراق وما إليه هكذا ذكر الشراح ويكون هذا بعكاظ أو مكة لأن الشاعر من هذيل وهم بدو مكة، وبابها قالوا فم وعائها أو باب حانوتها. وهذا تشبيه طويل مصدر بما كما ترى وقد سبق التنبيه على أن أبا الطيب عدها من أدوات التشبيه.

ولا الراح راح الشام جاءت سبيئة

لها غاية تهدى الكرام عقابها

عقابها أي رأيتها التي يرفعها التجار وذلك قول لبيد «وراية تاجر وافيت إذ رفعت وعز مدامها» البيت.

عقارٌ كماء النيء ليست بخطمةٍ

ولا خلة يكوي الشروب شهابها

شهابها أي لذعها، وجعلها كماء النيء وهو اللحم الطازج لصفائها. وقوله شهابها من جيد الوصف إذ جعل لذع الخمر كضوء الشهاب في البريق والسرعة. النيء بكسر النون اللحم وبفتح النون وياء مشددة الشحم.

توصل بالركبان حينًا وتؤلف الـ

جوار ويغشيها الأمان ربابها

أي تجارها يصحبون الركبان ركبًا بعد ركب يتوصلون بهم ليأمنوا بصحبتهم حتى يصلوا وتؤلف الجوار أي يجمع لها تجارها جوارًا إلى جوار ليضمنوا سلامة وصولها فكانت المجاورة كالتأمين عندنا الآن وفسر تؤلف الجوار بأن الجوار يصلح عليها لما تحدثه من المودة والأنس بين شاربيها وهو وجه وليس بقوي حقًّا وربابها بكسر

ص: 547

الراء فسرت على وجوه أجودها المواثيق أي العهود وضروب الجواز المأخوذة عليها تغشيها الأمان والسلامة حتى تصل. وقيل ربابها بكسر الراء أي أربابها وقيل ربابها أي قداحها التي يضرب بها على سبيل الفأل فتخرج بأن يسيروا بها نهارًا إذا كانت بيضًا أو ليلًا إذ خرجت سودًا وهذان الوجهان دون الأول الذي ذكرناه.

فما برحت في الناس حتى تبينت

ثقيفًا بزيزاء الأشاء قبابها

أي حتى تبينت عكاظ وهي في حيز ثقيف فهذا يدل على أن قول الشاعر «بباب الفارسيين بابها» أراد به سوق عكاظ. والزيراء الأرض الغليظة والأشاء النخيل.

فطاف بها أبناء آل متعب

وعز عليهم ببيعها واغتصابها

أبناء آل متعب سادة ثقيف- وقوله اغتصابها فيه كالمعنى الجنسي وذلك من دأبهم في نعت الخمر يجعلونها كالجارية المشتهاة منالتها فقالوا في شرائها إنه سباء وهو قريب من سبي النساء في اللفظ والمراد. وعز عليهم اغتصابها أي شراؤها وفض ختامها لغلاء ثمنها. وقيل عز عليهم غصبها لأن الشهر الحرام، فمن قال بهذا القول جعل سباء الخمر ضربًا من السبي والسبي لا يكون إلا في الحرب ولا تجوز في الشهر الحرام.

فلما رأوا أن أحكمتهم ولم يكن

يحل لهم إكراهها وغلابها

أحكمتهم أي غلبتهم في الحكومة والمعنى مأخوذ من القرآن إذ فيه ذكر التحكيم {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} وكان التحكيم بين الأزواج قديمًا من عرف العرب فأتم الإسلام جانب العدالة منه وقال تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} وكان الإكراه من عادة الجاهلية- وهذه المعاني الجاعلة الخمر كالمرأة على سبيل المثال كثر ورود أمثالها عند أبي نواس، وما سار أبو نواس في هذا إلا على

ص: 548

طريقة الأوائل. فمن زعم أن ذلك كان منه عن عقدة انحراف جنسي فقد تفرأد من غير وجه فرأدةٍ.

أتوها بربحٍ حاولته فأصبحت

تكفت قد حلت وساغ شرابها

تكفت أي تحول من إناء إلى إناء وهو التصفيق وفي العامية يقال كفته أي «ضربه كفتةً على وجهه أي لطمة على وجهه» وصفقه فتأمل. وقيل في تكفت غير هذا من التفسير والذي أوردناه قول أبي عمرو (1) - أي لما وجب على هؤلاء السادة حكمها ودفعوا مهرها الغالي، حينئذ يصفقوها في الآنية لإبرادها ومزاجها ثم شربها ثم أتوها بعسل فمزجوها به والأري بفتح الهمزة وسكون الراء هو العسل.

بأري التي تأري إلى كل مغربٍ

إذا اصفر قرن الشمس حان انقلابها

بأري التي تأري اليعاسيب أصبحت

إلى شاهقٍ دون السماء ذؤابها

جوارسها تأري الشعوف دوائبًا

وتنصب ألهابًا مصيفًا كرابها

إذا نهضت فيه تصعد نفرها

كقتر الغلاء مستدرًّا صيابها

يظل على الثمراء منها جوارسٌ

مواضيع صهب الريش زغبٌ رقابها

فلما رآها الخالدي كأنها

حصى الخذف تهوى مستقلًا إيابها

أجد بها أمرًا وأيقن أنه

لها أو لأخرى كالطحين ترابها

فقيل تجنبها حرام وراقه

ذراها مبينًا عرضها وانتصابها

فأعلق أسباب المنية وارتضى

ثقوفته إن لم يخنه انقضابها

تدلى عليها بين سبٍ وخيطةٍ

بجرداء مثل الوكف بكبو غرابها

فلما اجتلاها بالأيام تحيرت

ثباتٍ عليها ذلها واكتئابها

فأطيب براح الشام صرفًا وهذه

معتقة صهباء وهي شيابها

(1)() هو الشيباني.

ص: 549

فما إن هما في صفحة بارقية

جديد حديثٍ نحتها واقتضابها

بأطيب من فيها إذا جئت طارقًا

من الليل والتفت عليها ثيابها

في شعر هذيل عسر ولكنه بدوي جيد. أما بداوته فأنه فيه طعم بلاغة البليغ المتحدث وهو يمثل لسامعين أمامه ما يصف تمثيلًا. والوصف مما يعمد فيه إلى الإمتاع بجودة التصوير وتخير الألفاظ والمعاني. فلا تضيقن أيها القارئ الكريم ذرعًا بظاهر عسر الكلمات وتتبع أصلحك الله دقة تتبع الشاعر لما يصنعه، فإنك إن شاء الله مصيب من ذلك لذة بيان عظيمة، قال الشاعر، لما أحكمت هذه الراح حكمها وجاء أبناء معتب بثمنها الذي فيه ربح تجارها وأخذوها وصفقوها، أتوها من بعد بأري النحل التي تأرى أي تصنع وتجمع العسل وتعمل عملها له وتنصرف إلى مساكنها عند اصفرار الشمس فهي تعمل نهارها إلى وقت اقتراب المغيب وتعمل يعاسيبها في أماكن شاهقات ذؤاباتها دوين السماء وأصل الذؤابة للشعر ثم أطلقت على قمم الجبال وأعاليها ويقال أيضًا شعاف الجبال بكسر الشين وشعفة الجبل ذؤابته وشعفة الصبي ذؤابته وكلمة الشعفة بمعنى الشعر الكثير على رأس الصبي مستعملة في العامية عندنا. جوارس النخل أي عوامله التي تجني العسل تصعد به إلى الشعوف أي رؤوس الجبل دائبة في العمل وتنصب في ألهاب أي في شقوق من الجبال -جمع لهب بكسر فسكون- هذه الألهاب ممطورة جوانب الأودية التي تفصل بينها في زمان الصيف فيكون ذلك أبرد لها والعسيل يصلح في الأماكن المعتدلة الهواء. مصيفًا أي هاطلًا عليه المطر صيفًا. كرابها جمع كربة وهي صدر الوادي وفي النيل بإقليمنا الشمالي موضع ضيق يقال له الكربة بالتحريك. وإذا نهضت النحل رأيتها في نفرها إلى أعالي الجبل تتصعد جماعات كأنها سهام الأهداف الدقيقات. قالوا القتر بكسر القاف سهام كمسامير الدرع صغار ترمى بها الأهداف. قلت: إذا نظرت إلى سواد النحل مع ريشها الذي يكاد يشف وهي صاعدة جماعات فإن

ص: 550

التشبيه الذي ذكره أبو ذؤيب دقيق. وما خلافيه من نظر خفي إلى تشبيه عنترة. والغلام السهام يتغالون بها أي يرمون بها غلوة غلوة. قال السكري في شرحه القتر نصال سهام الأهداف مؤخوذ من قتير الدرع لدقتها وصغرها شبهها بها في ذهابها وسرعتها والواحدة قترة. صيابها قواصدها. أ. هـ. قلت هي جمع صائب. الجوارس من هذه النحل تظل في الموضع الذي يقال له الثمراء. مراضيع أي صغار فيما أرى وزعم السكري أن المراد: مراضيع أي معها أولادها يروى هذا القول عن أبي حبيب قال وليس ترضع ولكن سماها لأن الأمهات من غير الطير تسمى مراضيع إذا أرضعن. وعن الأخفش في شرح السكري أن المراضيع نحل أي معها نحل صغار. قلت وهذا أشبه لأن النساء يسمين مراضيع إذا كن مهزولات نواحل. وهل سمي النحل إلا لدقته ونحوله بهذا الاسم أو سمي الناحل ناحلًا على التشبيه لما في النحل من دقة ومظهر كأنه شفاف -قال الهذلي- وهو أمية بن عائذ يصف الصائد:

له نسوةٌ عاطلات الصدو

ر عوج مراضيع مثل السعالي

قال في الشرح: عوج مهازيل، فجعل المراضيع بمعنى المهازيل كما ترى وهذا أقرب إلى ما ذهبنا إليه وإلى ما ذكر عن الأخفش من معنى النحل الصغار.

ويقول أمية بن عائذ بعد البيت الذي تقدم:

تراح يداه لمحشورةٍ

خواظي القداح عجاف النصال

أي ترتاح يداه إلى مس سهام محشورة أي ذوات ريش ملصق بها أعوادها خاظيات أي متينة ونصالها دقيقات ثم شبهها في ابنعاثها بالخشرم بفتح الخاء والسين الساكنة والراء المفتوحة ثم الميم والخشرم جماعة النحل أو الدبر وهنا نص على أنه الدبر.

كخشرم دبرٍ له أزمل

أو الجمر حش بصلبٍ جزال

ص: 551

بضم الجيم وكسرها وهو الخشب الغليظ شبه السهام في انبعاثها بجماعة الدبر وفي أزملها أي صوتها بالجمر أوقد بالخشب الجزل. وإنما ذكرنا هذين البيتين لأنهما يوضحان معنى ما كنا فيه من نعت أبي ذؤيب النحل بأنهن مراضيع وإنما أخذ أمية منه على الأرجح. وأدق أبو ذؤيب وصفه فذكر أنهن صهب الريش وكذلك النحل ياد ريشها يشف أو هو يشف فتكون الصهبة من مخالطة لون أجسادها لنقاء لونه الشفاف. زغب رقابها أي لا ريش عليها.

بعد هذا الوصف الحي البارع لجماعة النحل وأفرادها أقبل الشاعر على نعت مشتار النحل، الذي قدمنا نعت المعري له وإشارته إليه حيث قال:

ماذيةٌ هم بها عاسلٌ

من القتا لا عاسلٌ من هذيل

فقال:

فلما رآها الخالدي كأنها

حصى الخذف تهوي مستقلًا إيابها

أجد بها أمرًا وأيقن أنه

لها أو لأخرى كالطحين ترابها

الخالدي هو العاسل. رأى هذه النحل كأنها الحصى الصغار الذي يرمي بسبابة اليد وهو صغار. فدبر لها أمرًا يكيدها به وهو أن يرتفع إلى حيث العسل بالحبال. والمكان بعيد مرهوب الجانب. وقد أيقن أنه أمام إحدى خطتين، إما أن ينال العسل وذلك نجاحه ومكسبه وإما أن ينقضب الحبل ويهوي على أرض رملها كالطحين وهو معه طحين مرضوض هالك.

والذروة التي فيها العسل عالية ولها جانب صخرة جرداء. قال الشاعر فقال له أصحابه تجنبها يا حرام، هذا اسمه، ينهونه عنها ويخوفونه الهلاك ولكنه أعجبته القمة ذات الجانب الواضح والارتفاع الرهيب. هذا المعنى عندي بليغ بالغ. وذلك أن الذي دعا الخالدي إلى الصعود وارتكاب الهول الذي يخاف منه الهلاك ليس فقط

ص: 552

طلب العسل والاكتساب به، ولكنه أيضًا حب المغامرة إذ قد راقه منظر هذه الصخرة فرام صعودها. ويدلك على صواب هذا الذي نذهب إليه قوله:

فأعلق أسباب المنية وارتضى .... ثقوفته لو لم يخنه انقضابها

فقوله: «وارتضى ثقوفته» ينبئ عن ثقة الخالدي بمهارة نفسه. وقوله لو لم يخنه يعني إن لم واستعمل الشاعر لو للتهويل لأن لو لما كان سيقع لوقوع غيره، وقد جعل الشاعر الحبال التي توصل بها الشاعر حبال المنية وذلك قوله «فأعلق أسباب المنية» وإنما هي حبال النجاة، وإنما جعلها حبال المنية لأنها الخطة الأخرى المخشية، فناسب قوله أسباب المنية قوله لو لم يخنه انقضابها- كأنه حقق أنه قد وقع في المنية لأنها بحكم أنها أسباب المنية، قد انقضبت، ولو لم تنقضب لكان قد نجا، ونحن كما يدل السياق نعلم أنها لم تنقضب وأنه نجا، فهذا مكان صحة ارتضائه لثقوفته، فتأمل هذا البيان.

ثم تدلى هذا العاسل بالحبال بين سب بكسر السين وهو الحبل كأن أصله السبب وخيطة والخيطة هو الوتد الذي يناط به الحبل في لغة هذيل وكأن إعلاق أسباب الحبال بالأوتاد ضرب من الخياطة والجرداء الصخرة الملساء والوكف النطع وهو بساط من الجلد. هذا العاسل تدلى بحباله على صخرة ملساء كأن سطحها جلد لو وقع الغراب عليها لكبا ولانزلق. ثم إن الصائد اجتلاها من حيث اجتمعت أي كشفها وأجلاها وطردها بالإيام وهو الدخان. قال الشارح وهو السكري:

«والذي يأخذ العسل لا يصعد إلا ومعه شيء يدخن به عليهن لا يلسعنه يقال منه آمها يؤومها أوما وإياما إذا دخن عليها» أ. هـ. قلت فالإيام هو تدخينه عليها ثم أطلق على الدخان كما ترى. فلما دخن عليها تحيرت وتفرقت جماعات أو فرقًا فرقًا مسكينات مهزومات.

ص: 553

يقول فالراح الشامية طيبة وهي معتقة صرف صهباء. ثم أطيب بها حين يكون هذا العسل الذي وصفته شيابُا أي مزاجًا لها. ثم الراح والعسل ممزوجان معًا في قدح بارقي جديد زاكي الرائحة بجدته وأريج خشبه الذي لم يذهب به طول الاستعمال -هما معًا ليسا بأطيب من فم المحبوبة- وهذه خاتمة التشبيه وإشعار بالخروج من الوصف. وإنما ذلك حيلة من حيل البيان لا ينبغي أن يطال الوقوف عنده على أنه داخل في حاق التشبيه.

على أن أبا ذؤيب ههنا كأن يرض أن يكون غرامه مجرد حيلة يحتال بها إلى الوصف، فقال بعد أن أتم نعت الخمر والعسل:

رأتني صريع الخمر يومًا فسؤتها

بقران إن الخمر شعثٌ صحابها

هذا البيت جيد. وفيه كما ترى صدق بلوم الشاعر لنفسه وأسفه على ما فرط منه إذ رأته الفتاة سكران فلم ترض حاله وحز ذلك في إحساسه. ويعجبني قوله: «إن الخمر شعث صحابها» ومجيثه في هذه الأبيات يصحح شرح من شرح قوله قبل: «وتؤلف الجوار» أنها يجمع لها جوار إلى جوارٍ حرصًا على تأمين سبيلها ويكون به ضعيفًا تفسير من فسره بأنها تؤلف بين الجيران فيحب بعضهم بعضًا إذ كأن قوله «شعث صحابها» ينقضه.

ثم يقول:

لو عثرت عندي إذن مالحيتها

بعثرتها ولا أسيء جوابها

وههنا رقة وأدب نفس عميق.

وقد كان أبو ذؤيب من العشاق كما كان من مجيدي وصف الخمر والعسل والإبل ومن أصحاب الرثاء والحكمة مقتنًا صاحب حكمة وقواف متغلغلات في معدن

ص: 554

الفصاحة. وفي شعره عند النحويين شواهد مشهورات مثل قوله:

وتبلى الألى يستلئمون على الألى

تراهن يوم الروع كالحدق القبل

وقوله:

شربن بماء البحر ثم ترفعت

متى لجج خضر لهن نئيج

وقوله:

جمالك أيها القلب القريح

ستلقى من تحب فنستريح

نهيتك عن طلابك أم عمرو

بعاقبة وأنت إذٍ صحيح

أي إذ نهيتك- ثم شبه ريق أم عمرو بالخمر فقال:

وما إن فضلةٌ من أذرعاتٍ

كعين الديك أحصنها الصروح

جمع صرح وهو القصر.

مصفقه مصفاة عقارٌ

شأميه إذا جليت مروح

إذا فضت خواتمها وفكت

يقال لها دم الودج الذبيح

بأطيب من مقبلها إذا ما

دنا العيوق واكتتم النبوح

وإنما أودنا هذه الابيات الحائية معًا لننبه على مكان تشبيه أبي ذؤيب للخمر بعين الديك وبالدم المتفجر من الودج الذبيح وقد مر بك وصفه لها بأنها كماء النيء أي اللحم فوصفها صهباء وحمراء وأدق الوصف كما ترى.

ومن جيد غزل أبي ذؤيب كلمته التي أولها.

هل الدهر إلا ليلة ونهارها

وإلا طلوع الشمس ثم غيارها

أبي القلب إلا أم عمرو وأصبحت

تحرق ناري بالشكاة ونارها

ص: 555

فدل أنها تحبه كما أحبها.

وغيرها الواشون أني أحبها

وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

أي ليس حبي لها بعار عليها ثم شبهها بعد بالغزالة فقال:

فما أم خشف بالعلاية فاردٍ

تنوش البرير حيث نالٍ اهتصارها

بأحسن منها حين قامت فأعرضت

تواري الدموع حين جد انحدارها

وهذا في معاني الغرام والحب النفيس ثم إنه شبه فمها بالمدامة.

كأن على فيها عقارًا مدامة

سلافة راح عتقتها تجارها

وافتن في وصف المدامة.

وفي اللامية التي أولها:

أساءلت رسم الدار أم لم تسائل

عن السكن أو عند عهده بالأوائل

وصف الحديث في البيتين المشهورين.

وإن حديثًا منك لو تبذلينه

جنى النحل في ألبان عوذٍ مطافل

مطافيل أبكارٍ حديث نتاجها

تشاب بماء مثل ماء المفاصل

وقد فسرت المفاصل بأنها مسايل الأودية وفسرت بأنها مفاصل العظام وهذا أشبه بمذهب أبي ذؤيب التشريحي- فقد رأيت ذكره ماء النيء وعين الديك.

ومن أجود ما في هذه القصيدة غزلًا قوله:

رآها الفؤاد فاستضل ضلاله

نيافًا من البيض الحسان العطابل

فإن وصلت حبل الصفاء فدم لها

وإن صرمته فانصرف عن تجامل

ص: 556

تجامل بالجيم المعجمة وههنا رقة وأدب نفس من معدن قوله من قبل:

ولو عثرت عندي إذن مالحيتها

بعثرتها ولا أسيء جوابها

وجميع هذا منبئٌ بصدق الصبابة والحس المرهف. وكأنه قد دب بينه وبين محبوبته هذه ما يدب من فتور الوصل وما يعقب ذلك من هجران- آية ذلك قوله:

فلا يهنأ الوشين أن قد هجرتها

وأظلم دوني ليلها ونهارها

فإن اعتذر منها فإني مكذب

وإن تعتذر يردد عليها اعتذارها

فقد تهاجرا كما ترى وفي القلوب الصبابات.

وقد وصف أبو ذؤيب العسل في اللامية التي ذكر فيها الحديث.

وأتقن نعت العاسل في أنصع لفظ وأوضحه حيث قال:

وما ضربٌ بيضاء يأوي مليكها

إلى طنفٍ أعيا براقٍ ونازل

مليكها أي يعسوبها والطنف بضمتين الصخرة الناتئة والحيد والرأس من رؤوس الجبل.

تهال العقاب أن تمر بريده

وترمي دورءٌ دونه بالأجادل

الريد ما نتأ من الجبل والريود جمع والأجادل الصقور أي دروء الجبل أي جوانبه المعوجة عالية رهيبة تسقط الصقور دون بلوغها.

تنمى بها اليعسوب حتى أقرها

إلى مألفٍ رحب المباءة عاسل

أي ارتفع اليعسوب حتى أقر العسل في مكان متسع صالح للعسل كثيره- وقد عزم الذي يريد أن يشتار هذا العسل عزمًا قويًّا على أن يصل إليه:

فلو كان حبلٌ من ثماني قامةً

وتسعين باعًا نالها بالأنامل

ص: 557

أي لصعد إلى هذه المباءة حتى ينال ما فيها من عسل يأنامله.

تدلى عليها بالحبال موثقًا

شديد الوصاة نابل وابن نابل

أي أوصاه أبوه بذلك أو هو أوصى أصحابه بالحبل أن يشدوه ويمسكوا به والوجه الأول أقوى.

إذا لسعته النحل لم يرج لسعها

وخالفها في بيت نوبٍ عواسل

قالوا لم يرج لسعها أي لم يخفه وبه فسر قوله تعالى {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} ، على أن ظاهر المعنى أنه قد خالفها وهي غائبة فأخذ العسل من بيتها وهو الذي نعته بأنه «بيت نوب عواسل» أي بيت منتابات للزهر يجنين منه العسل. وهل المعنى أنه إذا لسعته النحل كره أن ينتظر لسعها وترقب غيابها فخالفها في بيت نوب عواسل؟ وقد يقال في العامية رجا بمعنى انتظر وهو من أصل فصيح

بدليل قوله تعالى {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} وقرئ أرجئه وأخاه فلهذا الرباعي أصل ثلاثي بلا ريب وما أشك أنه الذي في العامية إذ يقولون أرجاه أي انتظره ولا ترجاه أي لا تنتظره وتفسير بيت أبي ذؤيب بهذا أوضح والله تعالى أعلم.

ثم بعد إصابة العسل يمضي أبو ذؤيب ليصف مزجه بالراح فما ذلك:

بأطيب من فيها إذا جئت طارقًا

وأشهى إذا نامت كلاب الأسافل

إلى آخر ما قاله:

ولأبي ذؤيب خبر من أخبار الغراميات القديمة سبقت منا الإشارة إليه وذلك أنه فيما روى عن أبي عمرو أحسبه الشيباني كان «يبعث ابن عم له يقال له خالد ابن زهير إلى امرأه كان يختلف إليها يقال لها أم عمرو وهي التي كان يشبب بها فأرادت الغلام على نفسه فأبى ذلك حينًا وقال أكره أن يبلغ أبا ذؤيب ثم طاوعها فقالت ما يراك إلا الكواكب. فلما رجع إلى أبي ذؤيب قال والله إني لأجد ريح أم عمرو منك، ثم جعل لا يأتيه إلا استراب به» . إلى آخر الخبر. أ. هـ.

ص: 558

وقد فسد ما بين خالد وأبي ذؤيب وحفظ لنا ذلك الشعر الذي روي عنهما كقول أبي ذؤيب:

خليلي الذي دلى لغيًّ خليلتي

جهازًا فكلًّا قد أصاب غرورها

أي شرها وعارها.

فشأنكها إني أمين وإنني

إذا ما تحالى مثلها لا أطورها

أي لا أدنو منها.

أحاذر يومًا أن تبين قرينتي

ويسلمها إخوانها ونصيرها

قرينتي أي نفسي يريد الموت.

وما أنفس الفتيان إلا قرائن

تبين ويبقى هامها وقبورها

فنفسك فاحفظها ولا تفش للعدى

من السر ما يطوى عليه ضميرها

فقد جعل خالدًا ههنا من العدى وأسر الندامة على أنه أطلعه على سره فخانه فيه.

رعى خالدٌ سري ليالي نفسه

توالى على صد السبيل أمورها

أي تتوالى.

فلما تراءاه الشباب وغيه

وفي النفس منه فتنةٌ وفجورها

لوى رأسه عني ومال بوده

أغانج خودٍ كان فينا يزورها

تعلقه منها دلالٌ ومقلةٌ

تظل لأصحاب الشقاء تديرها

فقد انصرف غيظ أبي ذؤيب وندامته ههنا من خالد إلى المحبوبة التي بانت وخانت.

فإن حرامًا أن أخون أمانةً

وآمن نفسًا ليس عندي ضميرها

ص: 559

أي وآمن نفسًا غير نفسي- وإنما جره إلى ذلك ضلال الشباب وغيه كما فعل غلامه خالد. وقد زعم خالد أن أبا ذؤيب قد لقي جزءًا من جنس عمله إذ كان من قبل هو رسولًا إلى عمرو فخان مرسله إليها ويقوي هذا المزعم قول أبي ذؤيب:

«ومقلة تظل لأرباب الشقاء تديرها» - وقال خالد بن زهير:

لا يبعدن الله لبك إذ غزا

وسافر والأحلام جمٌّ عثورها

وكنت إمامًا للعشيرة تنتهي

إليك إذا ضاقت بأمر صدورها

لعلك إما أم عمرو تبدلت

سواك خليلًا شاتمي تستخيرها

أي تستعطفها وأصله من أن يأتي الصائد لولد الظبية في كناسة فيعرك أذنه فيخور أي يصيح، فيكون ذلك سببًا لصيدها إذ من طبعها تفقد ولدها والعطف عليه إذا سمعت الخوار:

ثم اتهم خالد أبا ذؤيب بأن خطة الخيانة التي شتمه بها هي أيضًا فيه هو لأنه كان رسولًا لابن عويمر إلى أم عمرو فخانه فيها وقال لها أنت ألذ من العسل وقد مر هذا من قوله في اللامية وغيرها مما استشهدنا به:

فإن التي فينا زعمت ومثلها

لفيك ولكني أراك تجورها

أي تجور في القضية وتنسى ما صنعته بصاحبك.

ألم تنتقدها من ابن عويمر

وأنت صفي نفسه وسجيرها

أي حبيبها وخليلها وقد استعمل توفيق البكري رحمه الله هذه الكلمة في إحدى متنوقاته في صهاريج اللؤلؤ أولها «أما الأخلاء والصحب والسجراء» ،

فلا تحزعًا من سنةٍ أنت سرتها

فأول راضي سنة من يسيرها

ص: 560

وفيها يذكر إفساد أبي ذؤيب لأم عمرو ومحاولة ابن عويمر استعطافها واستخارتها واستعصاءها عليه لما مال بها هوى الهوى إلى أبي ذؤيب ويضرب ذلك مثلًا للحال التي صار إليها أمر أم عمرو ومع أبي ذؤيب لما أمالها الهوى إلى من هو أشب منه:

يطيل ثواءً عندها ليردها

وهيهات منه دورها وقصورها

وقاسمها بالله جهدًا لأنتمو

ألذ من السلوى إذا ما نشورها

السلوى العسل.

فلم يغن عنه خدعه حين أزمعت

صريمتها والنفس مر ضميرها

فلم يلف جلدًا حازمًا ذا عزيمةٍ

ولا قوةٍ ينفي بها من يزورها

وهذا منه نهاية التنكر وشديد الإغاظة لأبي ذؤيب إذ فيه ما ترى من التحدي، أي لا أنت أقدر على استمالة قلبها ولا لك مخلب أسد ونابه فأخافك- وعلى هذا المعنى قوله من قبل:

فإن كنت تشكو من خليلٍ مخانة

فتلك الجوازي عقبها ونصورها

قالوا نصور جمع نصر وجمع المصدر قليل وهذا من قول الأصمعي وما أشبه أن يكون النصور نفسه مصدر كالقعود والجلوس.

وإن كنت تبغي للظلامة مركبا

ذلولًا فإني ليس عندي بعيرها

وهذا مثل -أي لا أقبل الظلم. فهذا من حديث أبي ذؤيب سقناه لمناسبة ما أوردنا له من الوصف.

وقد طال هذا الفصل وباب الأوصاف واسع وإنما ذكرنا الوصف في معرض

ص: 561

الأغراض وما ذكرنا الأغراض إلا أنها من أركان وحدة القصيدة ونظامها، وقد حرصنا على أن نذكر من الأوصاف نماذج تشهد بافتنان الشعراء الأوائل في هذا الباب، وإن ند شيء مما يحسن ذكره أو ينبغي فإنا إن شاء الله سنستدرك ما يحضرنا منه في موضع يكون ذا مناسبة له، وإن كان هذا الموضع به أحق. ولنا فيما صنعه ابن رشيق في مواضع من كتابه العمدة قدوة صالحة إن شاء الله. وسنذكر أشياء نجعلها كالخاتمة لهذا الفصل ونذكر ذرءًا يسيرًا عن أوصاف المحدثين نكتفي من الغرفة بالوشل. هذا وقد سبق أن لفتنا نظر القارئ الكريم إلى أن قصة خالد بن زهير وأبي ذؤيب وابن عويمر كأنها قد أخذ منها أبو الطيب قوله:

كلما عاد من بعثت إليها

غار مني وخان في ما يقول

أفسدت بيننا المودات عينا

ها وخانت قلوبهن العقول

وصدق الله جل من قائل: {قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} .

قال يزيد بن معاوية يذكر الخمر والخيل وكان شاعرًا وصاحب خمر وصيد فيما ذكروا ومع ذلك أمرأً شديد المراس ما هم بأمر إلا ركبه وقد صنع ما صنع بأهل الحرة من استباحة المدينة ومقتل الحسين السبط الشهيد ورمي الحرم بالمنجنيق:

وداع دعاني والنجوم كأنها

قلائص قد أعنقن خلف فنيق

وناولني كأسًا كأن بنانه

مخضبة من لونها بخلوق

إذا ما طفا فيها المزاج حسبتها

كواكب در في سماء عقيق

وإني من لذات دهري لقانع

بحلو حديثٍ أو بمر عتيق

أي جرى فرس عتيق ففرن بين أنس النديم ولذة الخيل كما ترى.

هما ما هما لم يبق شيءٌ سواهما

حديث صديق أو عتيق رحيق

ص: 562

فعاد بالعتيق على معنى الخمر وضمن حديث الصديق معنى المصاحبة في حالي الصيد والشراب وما أشبه. وبقي شيء سواهما وهو الموت وقد تردى ساقطًا من فرس. إن ربك لبالمرصاد.

وسقنا هذه الأبيات لمناسبتها بعض ما كنا فيه وبعض معاني ما يلي. فقوله: «قلائص» في تشبيه النجوم نظر إليه ذو الرمة في قوله «قلاص حداها راكب متعمم» البيت. وصفته الساقي كصفات الجاهلين من نحو قول الأسود بن يعفر:

يسعى بها ذو تومتين منطقٌ

قنأت أنامله من الفرصاد

وتشبيهه لفقاقيع الخمر بكواكب در في سماء عقيق من نوع التشبيهات الحضارية المتصنع لها نحو «زورق من فضة» و «حمولة من عنبر» إلا أنه أقرب مثالًا وأكثر حيوية روح وأوغل في حاق عنصر التأمل الجمالي وإليه بلا ريب نظر أبو نواس في كلمته المشهورة.

كأن كبرى وصغرى من فواقعها

حصباء در على أرض من الذهب

وبيت يزيد أجود لأن الكواكب الدرية والسماء العقيقية أشبه بأثيرية نشوة الخمر من الحصباء وأرض الذهب وفي هذين كلفة تصنيع وقد تعلم ما أخذه عليه النحويون من قوله كبرى وصغرى وقد دوفع عنه في ذلك- هذا ومن جيد ما جاء في الخمر ومن نادره في بابه قول الأقيشر وقد ترجم له صاحب الأغاني وأحسب أن هذه الأبيات في الحماسة البصرية:

ومقعد قوم قد سعى في شرابنا

وأعمى سقيناه ثلاثًا فأبصرا

شرابًا كريح العنبر الورد نشره

ومسحوق هنديٍّ من المسك أذفرا

إذا ما رآها بعد إنقاء غسلها

تدور علينا صائم القوم أفطرا

من القهوات الغر من أرض بابل

إذا صبها الحاني في الكأس كبرا

ص: 563

في هذا الوصف نوع من الغرام والشهوة ومع ذلك شيء كالروحانية والتصوف ألا ترى أنه نسب إلى الكأس المعجزة بسعي المقعد وإبصار الأعمى لما ذاقها ثم زعم أن الصائم يفطر بها وجعل إفطاره بها نوعًا كالرفث لقوله بها إنقاء غسلها فكأنها امرأة تغتسل وتتزين وتتعطر ويفوح نشرها فيترك صائم القوم لفتنتها له صومه. وقوله «إذا صبها الحاني في الكأس كبرا» فيه شريجان من عبادة ومجون وكالنظر إلى قول الأخطل:

تمر بها الأيدي نسيحا وبارحًا

وتوضع باللهم حي وتحمل

وكان الأخطل نصرانيًّا فجعلها الأقيشر من مجونه كأسًا إسلامية يكبر عليها ساقيها فتأمل:

وقال أبو محجن الثقفي:

إذا مت فادفني إلى أصل كرمةٍ

يروي عظامي في التراب عروقها

ولا تدفنني في العراء فإنني

أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

هذا يقوله أبو محجن قبل إسلامه على مذهب إنكار البعث وكان لصناديد المشركين وزنادقة قريش مذهبًا وكان طريق ثقيف في الشرك كطريق قريش.

ويروى بخمر الحص لحدي فإنني

أسيرٌ لها من بعد ما قد أسوقها

أباكرها عند الشروق وتارة

يعاجلني بعد العشي غبوقها

وللكأس والصهباء حظ منعمٌ

فمن حظها ألا تضاع حقوقها

أقومها زقا بحقٍ بذلكم

يساق إلينا تجرها ونسوقها

وهذا من تباهي الجاهلية وكانت الخمر عزيزة.

وعندي على شرب العقار حفيظة

إذا ما نساء الحي ضاقت حلوقها

ص: 564

وذلك يكون من الخوف والهلع وقد وضحه في قوله من بعد:

وأعجلن عن شد المآزر ولها

مفجعة الأصوات قد جف ريقها

وأمنع جار البيت مما ينوبه

وأكرم أضيافًا قراها طروقها

أي يكفي أن يطرفوا بليل فأنا أقربهم ولا أسأل وراء ذلك من سؤال:

وإذ الشيء بالشيء يذكر فإن من جيد شعر أبي محجن، وليس من هذا الباب، قوله نورده لما فيه الحكمة وهي مع حرارة الصدق من انفعال القلب، هما جوهر الشعر:

لا تسألي الناس عن مالي وكثرته

وسائلي القوم عن بذلي وعن خلقي

قد يعلم القوم أني عن سراتهم

إذا سما بصر الرعديدة الفرق

أعطي السنان غداة الروع نحلته

وعامل الرمح أرويه من العلق

وأطعن الطعنة النجلاء عن عرض

تنفي المسامير بالإزباد والفهق

أي بفوران الدم منها واتساع خرقها.

عف الإياسة عما لست نائله

وإن ظلمت شديد الحقد والحنق

وأكشف المأزق المكروب غمته

وأكتم السر فيه ضربه العنق

أي أكشف الغماء عن المكان الضيق الذي فيه الكرب.

قد يقتر المرء يومًا وهو ذو حسبٍ

وقد يثوب سوام العاجز الحمق

ويكثر المال يومًا بعد قلته

ويكتسي العود بعد الجدب بالورق

ويعجبني مما يجري نحوًا من هذا المجرى من قديم مقالات الحكمة قول عمرو بن قميئة صاحب امرئ القيس:

كبرت وفارقني الأقربون

وأيقنت النفس أن لا خلودا

ص: 565

وبان الأحبة حتى فنوا

ولم يترك الدهر منهم عميدا

فيا دهر قدك فأسمح بنا

فلسنا بصخر ولسنا حديدا

ولا يبقى الصخر ولا الحديد.

هذا والقصص في باب الوصف متمكن، وحسبك شاهدًا قافية رؤية:

وقاتم الأعماق خاوي المخترق

مشتبه الأعلام لماع الخفق

تبدو لنا أعلامه بعد الغرق

في قطع الآل وهبوات الدقق

خارجة أعناقها من معتنق

وقد ذكرنا في الجزء الأول أنه جاء بها على مذهب الحداء وآية ذلك أن هذا سير وانخراط وهو الذي بدأ به من دون توطئة من نسيب- أخذ في الخروج رأسًا واكتفى به، وذلك أنه إنما كان يفد حين يفد بفصاحة البداوة ومعرض ذلك الخروج ووصف السير وطبيعة الصحراء وحيوانها.

هذا المعتنق، أي المكان الذي تعتنق فيه أعلام الصحراء خارجة من قطع السراب وتكسو البعد دونها هبوات الدق من الغبار.

تنشطته كل مغلاة الوهق

مضبورة قرواء هرجاب فنق

هذه ناقة كما ترى ثم شبهها لتأنيثها -هكذا يقتضي السياق- بأتان وحشية.

كأنها حقباء بلقاء الزلق

الحقباء الأتان الوحشية لها خط صوف كالحزام في بطنها وفي وركيها الأملسين لون أبلق أي ذو سواد وبياض. ثم أضرب عن الأتان وشبه الناقة بالحمار إذ ذلك أدل على القوة ثم هو مدخل إلى الوصف الذي هو حقًّا غرض الشاعر:

أو جادر الليتين مطوي الحنق

ص: 566

جعله جادر الليتين لأنه معضض يكدم الحمير يطردها عن آتنه وتكدمه والليت جانب العنق ومطوي الحنق أي ضامر مطوي الضمور:

محملجٌ أدرج إدراج الطلق

أي مكروب مدرج الجسم كالحبل. وقد كان ذا بدن لما رعي الربيع فضمره تعداؤه وعضاضة الحمر الأخرى ونزوانه على حلائله الثمان حتى حملت منه ولما حملت امتنعت عليه فأمسك عنها ولكنه يكون معها يحرسها ويسير بها بعد جفاف المرعى والغدران يلتمس بها، له ولها، أماكن الورد، أو يتأخر عنها، وهو في كل ذلك يتلفت ويشرف من فوق الربوات، خشية الصيادين وما عسى أن يكون مختبئًا أو متربصًا من أصناف الغوائل:

لوح منه بعد بدنٍ وسنق

تلويحك الضامر يطوي للسبق

أي ضمره كتضمير حصان السبق.

قود ثمانٍ مثل أمراس الأبق

قودٌ جمع قوداء وهي الطويلة هذا ظهر الأرض، عني أتنه وجعلها مدرجة مكروبة الأجسام مثل حبال القنب وهي أمراس الأبق:

قد أحصنت مثل دعاميص الرنق

أجنةً في مستكنات الحلق

فعف عن أسرارها بعد العسق

ولم يضعها بين فرك وعشق.

(بالكسر وبالتحريك).

ص: 567

مستكنات الحلق عنى بها أرحامها وهو من صفة القرآن لأرحام النساء {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المرسلات]{خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} [الزمر] أي هذه الأتن الثمان قد حملت وأحصنت في أرحامها أجنة مثل الدعاميص التي ترى في بقايا الغدران وماؤها كما وصفه رنق أي ذو كدرة. وصفة الأجنة بالدعاميص من دقيق الملاحظة. والعلماء الطبيعيون يرون في باب التطور أن الجنين في الرحم يحكي الضروب التي كان قد مر بها نوعه قبل أن يصير إلى تقويمه النهائي فالبشر مثلًا كانوا كالأحياء المائية قبل ان يصيروا برمائيين وأصنافًا من الزواحف فالثدييات فالقردة فالنسانيس. وفي أمثال الميداني أن النسناس خلق كالناس، غلبه الناس وأكلوه، وكان ضعيف الكيد مهذارًا فذلك كان يدل الناس على مكانه فيأخذونه ويأكلونه. فزعموا أن آخرهم هلاكًا خاف فلزم الصمت وقال لما رأى صاحبيه المهذارين يقتلان:«أما أنا فصميميتٌ» فأرسلها مثلًا فسمعه الناس فصعدوا إليه فقتلوه وأكلوه. ويزعم بعض الباحثين أن أصنافًا من النسناس لا تزال باقية في بعض الأصقاع النائية من منغوليا وجبال القوقاز. فالله أعلم ما صحة ذلك.

ثم أخذ رؤبة في صفة الصيف وأعاصيره وسفاه -والسفا شوك ذو أسنة لذاع وجفافه وعطشه وما تدعو إليه الحاجة عند ذلك من التماس الورد، وأن الحمار يكون في هذه الحال لآتنه بمنزلة السيد والدليل والقائد والحارس كما قدمنا من ذكر أمره:

ألف شتى ليس بالراعي الحمق

شذابة عنها شذى الريع السحق

الربع جمع الرباعي من الفحول والسحق جمع سحوق أي طويل.

قباضة بين العنيف واللبق

ص: 568

وهذا كأنه نعت قائد سياسي محنك من البشر.

إذ تتلاهن صلصال الصعق

معتزم التجليح ملاخ الملق

أي سريع انطلاقات الجري.

يرمي الجلاميد بجلمود مدق

وقد ذكرنا قبل خبر أبي مسلم إذ سمع هذا البيت فقال أنا ذلك الجلمود المدق.

حشرج في الجوف سحيلًا وشهق

حتى يقال ناهق وما نهق

ثم بعد افتنان رؤية في وصف الأتن وفحلها وطريقها الوعر وحراسته لها- صار إلى وصف العين وقصبائها والصائد المختبئ فيها:

فجئن والليل خفيٌّ المنسرق

أي خفي الانسراق وذلك أوائل الفجر الأول في الثلث الأخير- فجئن أي الحمر.

في الماء والساحل خضخاض البثق

وهن حرار الأجواف.

يمصعن بالأذناب من لوح وبق

هن يمصعن بالأذناب يطردن بذلك الحشرات من بعوض ونحوه وهو الذي سماه بالبق ههنا- وهن لا يمصعن بسبب العطش، ولكن هذا البق البغيض أقلقهن إذ أقبل ليشرب من دمائهن وهن إلى الشراب أحوج، فلذلك جعل رؤية ضربهن بأذنابهن بسبب العطش مع البق أيضًا- ثم ذكر الصائد المختبئ في الزرب وأنه

ص: 569

قد احتفره بمقدار ما يتمكن فيه من الرؤية والقعود والارتفاق متهيئًا للرمي. وقد سكن وتجنب كل حركة حتى لا يشعرن به، حتى إنه من التزامه عدم الحركة، لو يمضغ «شريا» أي حنظلًا ما بصق:

فبات والنفس من الخوف الفشق

في الزرب لو يمضغ شريا ما بصق

وافتن في صفة الصائد من قبل- صبره ومهارته ومثابرته وجودة بصره، إذ لم يشك من داء بصدغيه.

وما بعينيه عواوير البخق

كسر من عينيه تقويم الفوق

أي تعوده أن يقوم أفواق السهام على ذلك جعله ينظر بطرف منكسر النظر إلى تحت. فوق السهم بضم الفاء حيث يوضع من الوتر. وجعل من آية صبره صفة امرأته وهي كما قال:

يأوي إلى سفعاء كالثوب الخلق

أي هي مسودة البشر من الشقاء والشمس شاحبة رثة كالثوب القديم البالي.

مسموعة كأنها إحدى السلق

أي لها عواء كالسلقة أي الذئبة وكأنها ذئبة من الذئاب وإنما يكون عواء الذئاب مع جوعها. فكنى بهذا الوصف أنها تعوي عليه بملامتها وصخبها إذا لم يجيء بصيد يطعم به أطفالها. سلقه بكسر السين وسكون اللام والجمع بكسر السين وفتح اللام.

لو صخبت حولًا وحولًا لم تفق

تشتط في الباطل منها الممتذق

أما هو فمع صبره جواد.

ص: 570

ولا يحميه من صخب المرأة إلا أن يعمل ويختبئ للصيد ويصيب وأن يسأل الله أن يوفقه -وجاءت الحمر خائفة تترقب، ثم خاضت الماء، ثم غلبها عطشها فشربن وأون (بفتح الهمزة وتشديد الواو مفتوحة ونون مشددة إحداهما أصلية والثانية ضمير عائد على الحمر) أي امتلأن. هناك أرتاز الصائد وسط نصل سهمه- والخط الذي في نصف النصل يقال له العير بفتح العين المهملة وسكون الياء وأرتاز أي اختبر بمس إصبعه ثم سمى الله ورمى.

فارتاز عير سندريٌ مختلقٌ

السندري السهم. مختلق أي مقدر تقدير صناعة حسنة.

لو صف أدراقًا مضى من الدرق

فلما رضى مس سهمه هذا الماضي الفتول وسوس في ساعة انهاكها تمتلئ شربًا حتى كأنهن غفق (بالضم جمع عقوق بوزن فعول المفتوح الأول وهي الحبلى من الخيل والحمر المثقلة بالحبل):

وسوس يدعو مخلصًا رب الفلق

سرًّا وقد أون تأوين العقق

أي شربن وامتلأن كالحوامل شربهن وامتلاؤهن. وقد نعلم أنهن حوامل ولكن ذلك كان في أول حملهن وقد أحصنت أرحامهن أجنةً خلقتهن في الطور الدعموصي. والعقوق كما قدمنا مثقلة.

وإذا بالأسهم، والحمار شديد التنبه، اشتلاهن أي ناداهن ودفعهن بقوة لينقذهن ولكن الأسهم كن أسرع من انتباهته واشتلائه لهن بأسرع ما يقدر عليه:

فما اشتلاها صفقه للمنصفق

ص: 571

حتى تردت أربعٌ في المنعفق

بأربعٍ ينزعن أنفاس الرمق

وتساقط الدم قطعًا:

ونجا الحمار بالأربع الباقيات وقد انخرطن في عدو له غبار مستنات هربًا- حتى إذا ابتعدن جعل الحمار كلما تذكر ما كان:

كاذب لوم النفس أو عنها صدق

هل قصر في حراستهن فأضاع ذلك ما ضاع منهن؟ أهل حقًّا بذل أقصى جهده، وليس من القدر فرار؟

لقد عطف رؤبة على الصائد فلم يرده خائبًا. وعلى الفحل فلم يكن هو المصاب ولا ماتت كل حلائله. وكأن رؤبة قد انتقم من امرأة الصائد إذ كان الأربع المترديات بعض صورة منها. ثم الصائد لجوده لم يفحش

كما وصفه من قبل

لم يفحش عند صيدٍ مختزق

نيء ولا يذخر مطبوخ المرق

ونهيب بالقارئ الكريم أن يرجع إلى نص هذه الأرجوزة الجيدة كاملًا في ديوان رؤية وفي شرح البكري المختصر لها في كتابه أراجيز العرب وفي شرحها الذي بهامش الخزانة وغيرها. وحسبك ما قدمنا ذكره من قبل من إجماع النقاد على تزكيتها. وقال المعري في اللزوميات يشير إليها:

مالي غدوت كقاف رؤية قيدت

في الدهر لم يقدر لها أجراؤها

ص: 572

مل المقام فكم أعاشر أمة

أمرت بغير صلاحها أمراؤها

ظلموا الرعية واستجازوا كيدها

وعدوا مصالحها وهم أجراؤها

ولولا خشية أن نفرط في الإطالة لأوردناها كاملة.

هذا ومن قصص الوصف الجيد في باب الخروج من قديمات القصيد قطاة زهير بن أبي سلمى وقد شبه بها فرسه ثم خلص إلى صفة نجائها من الصقر:

كأنها من قطا الأجباب حلأها

وردٌ وأفرد عنها أختها الشرك

أي كأن فرسي قطاة من القطا التي ترد الأجباب أي البئار، حلأها أي منعها من الورود أن رأت وردًا أي جماعة من الناس واردة فأخافها ذلك. وكانت لها رفيقة أصابها شرك فزادها ذلك ذعرًا. ثم أهوى لها صقر أسفع الخدين ليصطادها:

جونية كحصاة القسم مرتعها

بالسي ما تنبت القفعاء والحسك

أهوى لها أسفع الخدين مطرق

ريش القوادم لم ينصب له الشبك

أي صقر. وقول ذي الرمة «طراق الخوافي» الذي مر مأخوذ من ههنا.

لا شيء أسرع منها وهي طيبة

نفسًا بما سوف ينجيها وتترك

تأمل صناعة زهير كيف جعل آخر البيت السابق صفة منونة بعدها تمييز وكذلك فعل في هذا البيت إلا أن التمييز هنا منون وفي البيت السابق مضاف إلى ما فيه الألف واللام- وتترك أي تدخر بعض سرعتها إلى حين تحزبها مضايقة الصقر لها.

دون السماء وفوق الأرض قدرهما

عند الذنابي فلا فوتٌ ولا درك

عند الذنابي له صوتٌ وأزملةٌ

يكاد يخطفها طورًا وتهتلك

ص: 573

الآن وقت جدها وطيبها نفسًا بكل ما عندها من سرعة الطيران. وتأمل دقة الصورة وحيويتها حتى لتكاد تسمع حفيف أجنحة الصقر المطرق ريش القوادم الشرس المخيف.

حتى إذا ما هوت كف الوليد لها

طارت وفي كفه من ريشها بتك

كأن الصقر أهوى هنا ليخطفها. وهو الإهواء الذي بدأ به الشاعر وهو وقت أشد خوفها فلما أهوى إليها هوت منه في أشد إسراع. ودانت الأرض، فمد غلام إليها يده، فكأنما نجت من مصيبة لتقع في أشد منها. فطارت صاعدة وقد انتزع بتكا من ريشها بكسر الباء وفتح التاء جمع بتكة يكسر فسكون. واستمرت ببقية قوة طيرانها إلى الوادي. ودل على قرب الوادي منها هذا الغلام. وحاد عنها الصقر لخوفه حيث كثرة الناس.

ثم استمرت إلى الوادي فألجأها

منه وقد طمع الأظفار والحنك

وكيف لا تطمع أظفاره وحنكه وقد كان عند ذناباها يكاد يخطفها.

حتى استغاثت بماء لا رشاء له

من الأباطح في حافاته البرك

والبرك من الطير بضم وفتح فيئس الصقر وزل عنها وارتفع إلى صخرة يراقب منها.

فزل عنها وأوفى رأس مرقبة

كمنصب العتر دمى رأسه النسك

ومن هنا أخذ ذو الرمة طريقة سائر وصفه الصقر حيث قال:

طراق الخوافي واقع فوق ربعةٍ

ندى ليله في ريشه يترقرق

فجعل الندى مكان السفعة التي بدأ بها الصقر فوق صخرته كأنه نصب قد اسودت

ص: 574

عليه حمرة دماء العتائر وهي من ذبائح المشركين لأصنامهم، وقد سبق ذكرنا مطلع قصيدة هذه الأبيات الكافية.

بان الخليط ولم يأووا لمن تركوا

وزودوك اشتياقًا أيةً سلكوا

وغنها سيدة الكافيات عند الأوائل من النقاد.

ومن أمثلة القصص الوصفي الجياد حمار لبيد وأتانه ولا سيما حيث يقول:

فتوسطا عرض السرى وصدعا

مسجورة متجاور أقلامها

محفوفة وسط اليراع يظلها

منه مصرع غابة وقيامها

وحيث وصف البقرة المسبوعة وقد أوردنا ذلك مع أبيات الحمر وأبياتًا أخر من المعلقة في الجزء الأول ومن بعد فأغنى ذلك عن إعادته ههنا.

وثور النابغة وكلا به في «يا دارمية» .

وثور عبدة بن الطبيب في اللامية:

هل حبل خولة بعد الهجر موصول

وهي السادسة والعشرون من المفضليات. وقد أحسن في صفة قتال الثور الكلاب ونصره عليهن.

حتى إذا مض طعنًا في جواشنها

وروقه من دم الأجواف معلول

ولى وصرعن في حيث النيسن به

مضرجات بأجراح ومقتول

كأنه بعد ما جد النجاء به

سيف جلا متنه الأصناع مصقول

مستقبل الريح يهفو وهو مبتكر

لسانه عن شمال الشدق معدول

وذلك لاشتداده في الجري وهو يلهث مما نهكه القتال. فكأن قد خلع عليه

ص: 575

شيئًا من صفة الكلاب التي قتلها. وقد جعله عمود وصفه. ولم يخل من نظر إلى النابغة إذ وصف طعن الثور فرائص الكلب وأحشاءه.

شك الفريصة بالمدري فأنفذها

شك المبيطر إذ يشفى من العضد

فظل يعجم أعلى الروق منقبضا

في حالك اللون صدقٍ غير ذي أود

عمود الوصف هنا صورة الكلب المتضور وقد أحاط به الموت ونزعه.

كأنه خارجًا من جنب صفحته

سفود شربٍ نسوه عند مفتأد

الكلب لا يزال بعد هو عمود الصورة؛ لأن فرث أحشائه هو الذي صار به قرن الثور كالسفود المنسي. وصفحة الكلب ههنا شيء ظاهر الصورة غير منسي. تصوير النابغة لوحة تامة ناطقة. وتصوير عبدة يلائم ما كان هو آخذًا فيه من معاني الحركة والبسالة والقتال.

ولكأن الكلب المتضور في دالية النابغة هو أحد هؤلاء الوشاة.

ومن الأمثلة ما مر من صفة العاسل. ومن ذلك ما افتن فيه الأعشى من صفة سباء الخمر.

وهلم جرا.

هذا وربما جاء وصف الطبيعة في أثناء القصص أو كالالتفات منه، فكان في الغاية من الحسن مثل قول قيس بن العيزارة:

سقى الله ذات الغمر وبلًا وديمة

وجادت عليه البارقات اللوامع

ذكر الضمير من عليه لأن المعنى واد. والبيت من العينية التي أوردنا منها طرفًا في معرض من حديثنا عن طبيعة البحر الطويل وصلاح القصص عليه.

بما هي مقناة أنيقٌ نباتها

مربٌّ فتهواها المخاض النوازع

مقناة أي موافقة لكل من نزلها، أو لا تطلع عليها الشمس، وهو قريب من

ص: 576

المعنى الأول لما ينبئ عنه من ظلها البارد بالضحى. مرب أي مألف تألفه المخاض أي الإبل الحوامل وتنزع إليه وتشتهيه.

إذا سأل ذو الماوين أمست قلاته

لها حبب تستن فيه الضفادع

قلات بكسر القاف جمع قلت بفتح القاف وسكون اللام والقلت النقرة فيها الماء بالجبل والكلمة معروفة في دارجتنا تستن فيه أي في ذي الماوين.

إذ حضرت عنه تمشت مخاضها

إلى السر يدعوها إليه الشفائع

أي إذا صدرت عن الماء مضت إلى سر الوادي (أي وسطه وأجود مكان فيه) الممرع ذي النبت المتراكم الألوان. قالوا الشفائع تؤام النبت اثنين اثنين وألوان المرعى ما نبت منه اثنين اثنين.

لها هجلات سهلةٌ ونجادة

دكادك لايوبي بهن المراضع

ويروى المراتع وهو حسن والمراضع السحاب والهجلات ما لأن من بطون الأرض.

كأن يلنجوجًا ومسكًا وعنبرا

بإشرافه طلت عليه المرابع

هذه الأبيات في صفة الطبيعة آخر القصيدة العينية التي يذكر فيها أسره. وفيها من معنى الكناية عن التماس الحرية من الأسر والشوق إلى ديار قومه ما لا يخفى. وحين أوردنا من هذه العينية أبياتًا في الجزء الأول لم يكن بأيدينا ديوان هذيل وندعن الذاكرة آنئذ أولها وهو قوله:

لعمرك انسى روعتي يوم أقتدٍ

وهل تتركن نفس الأسير الروائع

غداة تنادوا ثم قاموا وأجمعوا

بقتلى سلكي ليس فيها تنازع

وقالوا عدوٌ ليس فيه هوادةٌ

وهاجٍ لأرحام العشيرة قاطع

ص: 577

وهي في الجزء الثاني من طبعة القاهرة. ومن شعر هذيل الجيد الوصف للطبيعة قول أبي ذؤيب:

سقى أم عمرو كل آخر ليلة

حنا تم سودٌ ماؤهن ثجيج

إذا هم بالإقلاع هبت له الصبا

فأعقب نشء بعدها وخروج

تروت بماء البحر ثم ترفعت

متى حبشيات لهن نئيج

أي هذه السحائب أصل مائها من البحر، شربن من مائه ثم ترفعن من لحجه ولا يخفى ما هننا من معاني علم الجغرافيا كقول أبي الطيب من بعد:

كالبحر يقذف للقريب جواهرا

كرمًا ويبعث للبعيد سحائبا

وهذيل كانوا قريبًا من البحر ولهم بوصفه علم.

يضيء سناه راتقٌ متكشف

أغر كمصباح اليهود دلوج

كما نور المصباح للعجم أمرهم

بعيد رقاد النائمين عريج

أي نوره عريج أي شخص يعرج على الكنيسة يوقد سراجها.

أرقت له ذات العشاء كأنه

مخاريق يدعى تحتهن خريح

خريج لعبة للصبيان يصيحون بها كما يصيح (أو قل كما كان يصيح) صبياننا:

شليل وينو (أي وأين هو).

أكله الدودو.

شليل وين راح.

أكله التمساح.

ص: 578

البرق الذي كالمخاريق هو الشديد اللمع ذو التعاريج والهول الهائل.

تكركره نجدية وتمده

مسفسفة فوق التراب معوج

أي تجره ريح نجدية وتردده- معوج سريعة المر.

له هيدبٌ يعلو الشراج وهيدبٌ

مسفٌّ بأذناب التلاع خلوج

أي له أطراف فوق طرائق الحجارة السود وأطراف فوق مسايل الماء والأماكن المنخفضة.

ضفادعه غرقى رواءٌ كأنها

قيان شروب رجعهن نشيج

ثم سالت السيول.

لكل مسيل من تهامة بعدما

تقطع أقران السحاب عجيج

كأن ثقال المزن بين تضارعٍ

وشابة بركٌ من جذام لبيج

أي إبل ضاربات الأرض بأجرنتهن.

فذلك سقيا أم عمرو وإنني

بما بذلت من سيبها لبهيج

وقد كنا وعدنا أن نذكر باب الخروج منفردًا وما يفتن فيه الشعراء من أساليب الوصف عنده. وفي الذي تقدم، وفي الذي يلي إن شاء الله عندما نذكر طرق الربط والتخلص وما هو من هذا المجرى من مذاهب الشعراء ما عسى أن يغني عن الإفاضة فيه، إذ نخشى ما يكون مع ذلك من الإطالة اللازمة؛ لأن استطراد الشعراء بضروب الأوصاف في باب الخروج كثير- بل هو طريقهم الذي يندر أن يسلكوا غيره. وذلك لأن الوصف من مقاصد الشعر كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارًا.

ص: 579

وقال كعب بن زهير في خروجه من النسيب عندما صار إلى صفة ناقته فنعتها نعتًا محضًا في أربعة عشر بيتًا من نحو قوله:

غلباء وجناء عكلوم مذكرة

في دفها سعةٌ قدامها ميل

حرف أخوها أبوها من مهجنة

وعمها خالها قوداء شمليل

ثم عمد إلى التشبيه المخالط للقصص في البيت الخامس عشر فما بعده:

كأن أوب ذراعيها إذا عرقت

وقد تلفع بالقور العساقيل

القور الجبال الصغار واحدها قار والعساقيل السراب- أي وقد لبست التلال وصغار الجبال أكسية السراب.

يومًا يظل به الحرباء مصطخدا

كأن ضاحية بالشمس مملول

مصطخدًا أي مصطليًّا بحر الشمس.

وقال للقوم حاديهم وقد جعلت

ورق الجنادب يركضن الحصى قيلوا

أي قال لهم قيلوا في ساعة اشتداد الحر. ورق الجنادب أي الجنادب الورق أي الرماديات الألوان.

شد النهار ذراع عيطلٍ نصفٍ

قامت فجاوبها نكدٌ مثاكيل

أي كأن أوب ذراعي هذه الناقة أي رجع ذراعيها، كأنه رجع ذراعي امرأة عيطل أي طويل عنقها وهي طويلة حسنة الجسم. وجعلها نصفًا لأنه ههنا يعنيه أمر نضجها ونشاطها في النوح لشدة مصابها -هي ثكلى ومعها نكد مثاكيل- لم يعطهن من وصف غير أنهن مشؤمات منكودات، وهي أصبحهن وجهًا وأرفعهن قامة وأحدثهن فجعًا.

نواحة رخوة الضبعين ليس لها

لما نعى بكرها الناعون معقول

ص: 580

أي جنت لهزل المصيبة أو كأم جنت. معقول أي عقل.

تفري اللبان بكفيها ومدرعها

مشقق عن

تراقيها رعابيل

وازن بين هذه الصورة وصور ضروب الحسان اللاتي مرت أوصافهن من قبل- ثم رجع كعب إلى وصف الناقة وكنى بها عن نفسه إذ قال:

تسعى الوشاة جنابيها وقولهم

إنك يابن أبي سلمى لمقتول

وأم البكر الثكلى النائحة كثيرة في شعر هذيل- مثلًا قول عبد مناف بن ربع يذكر نائحتين يخصهما ويذكر النائحات عامة:

ماذا يغير ابنتي ربع عويلها

لا ترقدان ولا بؤسي لمن رقدا

كلتاهما أبطنت أحشاؤها قصبا

من بطن حلية لا رطبًا ولا نقدا

إذا تجرد نوحٌ قامتا معه

ضربًا أليمًا بسبب يعلج الجسدا

قوله كلتاهما إلخ هذا كقول عنترة في ناقته:

بركت على جنب الرداع كأنما

بركت على قصب أجش مهضم

أي لصدرها صوت كصوت القصب الذي يزمر به وهاتان النائحتان كأن في أحشائها قصب زامر. وقوله إذا تجرد نوح بفتح النون وسكون الواو أي إذ كشفن صدورهن للنوح والنوح مصدر والنوح هنا جماعة النائحات كقولهم السفر بفتح فسكون لجماعة المسافرين والتجر بفتح فسكون الجماعة التجار. والسبت بكسر السين هو الجلد وعني به النعال يضربن بها صدورهن مبالغة في إظهار الحزن.

وغلا حميد بن ثور الهلالي في تشبيه ساقه كالقصة فزعم أن الابن البكر قاد

ص: 581

جمعًا. وكان فارسًا يلقي إليه القوم مقاليد أمرهم فما هو إلا أن كان القتال.

فلم يستطع من نفسه غير طعنة

سوًى في ضلوع الجوف نافذة الوغل

فخر وكرت خيله يندبونه

ويثنون خيرًا في الأباعد والأهل

فلما دنوا للحي أسمع هاتفٌ

على غفلة النسوان وهي على رحل

فقامت إلى موسى لتذبح نفسها

واعجلها وشك الرزية والثكل

ثم زعم حميد أن ذلك النعي كان خبرًا غير صحيح وإذا بابنها يئوب سالمًا فزعم أن وجده بصاحبته جمل كوجد تلك المرأة إذ جاءها النعي فهمت بقتل نفسها وفرحته كفرحتها إذ نجا.

فوجدي بجملٍ وجدتيك وفرحتي

بجملٍ كما قد بابنها فرحت قبلي

وهذا الشعر وسط. ولحميد نفس أعلى منه في ميمية الحمامة وفي سرحة مالك التي يقول فيها:

أبى الله إلا ان سرحة مالك

على كل أصناف العضاة تفوق

والدالية التي وصف فيها ماخضة اللبن فقال:

جلبانة ورهاء تخصي حمارها

بفي من بغي خيرا لديها الجلامد

وزعم المعري أن القطامي نظر إليها في بائيته:

تلفعت في طل وريح تلفني

وفي طرمساء غير ذات كواكب

إلى حيزبونٍ توقد النار بعدما

تلفعت الظلماء في كل جانب

وقد أحسن حميد نعت المرأة إذ هي نصف جلدة لها بقية من جمال غير ن العمل وشدة العيش أحدث في ملاسة بشرتها التي كانت أخاديد:

عريبية لا ناحضٌ من قدامة

ولا معصرٌ تجري عليها القلائد

ص: 582

أي ليست كبيرة مترهلة ولا هي من الصغيرات الدقيقات الرقبات حتى أن القلائد حول أعناقهن تجول.

إزاء معاش لا يزال نطاقها

شديدًا وفيها سورة وهي قاعد

كني بشدة النطاق عن نشاطها وبقية قوة شبابها وفسر محقق طبعة الديوان (دار الكتب) وهو العلامة الميمني رحمه الله القاعد بأنها التي غادرت زمن الولادة وهو وجه قوي إذ من عادة الشعراء في الوصف أن تجعل عدم الولادة من شواهد القوة يذكرون ذلك في نعت النوق وقل شيء ينعتون به إناث الإبل لا ينعتون به إناث البشر.

على أني أرجح أن المراد بالقاعد في هذا البيت هو معنى القعود الذي هو ضد القيام. ذلك بأن قوله: «لا يزال نطاقها شديدا» يستفاد منه أنها قائمة نشيطة عاملة متحركة وعقد نطاقها محكم الربط لا يتهافت إلى سقوط، فقوله:«وهي قائد» جعله في مقابلة هذه الصفة. ويقويه أن المرأة تمخض وهي قاعدة وهذا يدرك بالمشاهدة.

وأحسب أن دعا الميمني إلى الأخذ بمعنى القاعد إحدى القواعد كما في قوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} [سورة النور] أن اللفظ بوزن فاعل بدون التاء المفيدة للتأنيث وهذا مما يجاء به لتخصيص المعنى كما في قولهم حائض وطامث. والمعنى عندي في قاعد: «ذات قعود» فمن أجل ذلك جاء الشاعر بالوصف على صيغة فاعل. والسياق يدل على أن ضد القيام هو المراد:

مداخلة الأرساغ في كل إصبع

من الرجل منها واليدين زوائد

والزوائد من أثر العمل.

كان مكان العقد منها إذا بدا

صفا من حزيز سهلته الموارد

ص: 583

يصف جيدها. وقوله «إذا بدا» دقيق جيد. وحميد بن ثور شاعر إسلامي معاصر للقطامي كما يستفاد من كلام المعري في رسالة الغفران. فهذه المرأة إسلامية تضرب بخمارها على جيوبها فيغطي ذلك منها اللبة والعنق فلا يبدو إلا عند شدة حركة عملها إذا تمخض اللبن الرائب لتستخرج منه الزبد. وقد طالما لبست زينة العقود وهي شابة أو معصر تجري عليها القلائد. ولكنها منذ حين تجردت للعمل والكسب تركت العقد فبدا أثره حين كانت تلبس منه كأنه أثر حبال الواردين على صفا الأبار أي على الحجر الذي حول البئر وفي التفات الشاعر إلى نعت مكان العقد كالتنبيه على بقية من جمال. وإنما ترك العقد أثرًا لأنها مرت عليها سنوات من الجدب هزلنها وقد جاء الآن عام خصب.

تتابع أعوام عليها هزلنها

وأقبل عامٌ ينعش الناس واحد

هذا أخذه من خبر يوسف في القرآن- وإلا لم تكن به حاجة إلى أن يذكر الواحد في قوله:

وأقبل عام ينعش الناس واحد

ولكنه قصد فيما نرجح إلى التشبيه بعام قصة نبي الله يوسف عليه السلام الذي {فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} .

عضمرة فيها بقاءٌ وشدةٌ

ووال لها باديس النصيحة جاهد

عضمرة أي شديدة الأسر فيها ضمور وقوة. وزوجها جاهد في صدق النصح لها، فجعلها هي صاحبة الأمر وهو مستشار ناصح.

إذا ما دعا أجياد جاءت خناجر

لها ميم لا يمشي إليهن قائد

أي هو صاحب إبل وشاء والموصوفات ظاهر الأمر أنها إبل لقوله خناجر والخنجرة والخنجورة الناقة العظيمة ولكن صاحب الإبل مما يكون صاحب شاء يدل

ص: 584

على ذلك أن الشاء مفروضة في زكاة الإبل حتى يبلغن خمسة وعشرين بين بعير وناقة. ومما ينبئ بإرادة الشاء ههنا ذكر الزبد ولا يكون من لبن الإبل.

فجاءت بمعيوف الشريعة مكلع

أرشت عليه بالأكف السواعد

الشرح الذي ذهب إليه محقق الديوان بعيد وليس المراد عندنا معارضته ولكن توضيح المعنى. زعم هذا الشاعر أنه قد جاء عام خصيب بعد أن توالت أعوام مجدبات فأقبلت هذه المرأة على مخض اللبن. فجاءت بسقاء كان قد أهمل وتلبد عليه الوسخ فجعلت ترشه بالماء لأنه قد أصابه اليبس من طول الجدب والإهمال. وجعل الرش بأكف وسواعد ليدل على حركة ساعديها وساعدي زوجها الناصع المطيع لها ورشه بأصابعه ورشها أصابعها. المكلع بصيغة اسم الفاعل بكسر اللام أو اسم المفعول بفتحها تقول سقاء كلع كفرح أي متسخ تلبد عليه الوسخ وأكلعه. والعجب للمحقق يذكر أن الأصل الذي يحققه «أرشت» بالشين أخت السين، ومع ذلك الأخذ بالسين ولا يستقيم بها المعنى ولا يتضح وقد شاهدنا المخض ورش الأسقية وهذا أمر حال العمل في بواديه تتشابه.

فما زال يسقى المحض حتى كأنه

أجير أناس اغضبوه ممباعد

أي بعد أن رشته الأكف بالماء رشته باللبن وجعلت تسقيه اللبن ليلين الجلد ويزول كل الوسخ الذي بظاهره وفي فمه وتجاعيده. وهو موضوع على بعد إذ تعني به هذه العناية فشبه بأجير غضب فانتبذ مكانًا بعيدًا فجعل أهل الدار يسترضونه يبعثون إليه باللبن غدوًّا وعشيًّا. مباعد أحب إلى فيها صيغة اسم الفاعل وصيغة اسم المفعول لا بأس بها أي هذه حاله إنه صار منهم غير قريب.

فجاءت بذي لونين أعبر شاته

وعمر حتى قيل هل هو خالد

فدل على أنه جلد كبش كبير. وجعله ذا لونين لمكان ما تلبد عليه من الوسخ

ص: 585

فأزاله الرش والسقي. ثم أشار من طرف خفي وفي براعة مع ذلك، إل أن كبشه كان ذا لونين وأنه كان مكرمًا متروكُا لا يروع ليذبح أو يجز وترك الشاة والبعير لا يجز على وجه من وجوه النذر عند البداة هو الإعبار يصنعون ذلك بالشاء وبالإبل أيضًا. ومن أبيات كتاب سيبويه:

أو معبر الظهر ينبي عن وليته

ما حج ربه في الدنيا ولا اعتمرا

فقوله ينبي عن وليته يدل على كثرة شعر سنامه.

وفي الديوان وفي رسالة الغفران: «فجاءت بذي أونين» أي خاصرتين يدل على انتفاخ جانبيه وفي الشرح إنها جاءت بذلك لحميد وأضيافه وهو عندي لا يستقيم. إنما جاءت بسقاء قديم بعد أن عالجته بالرش والسقي وهذه صفته فأخذه زوجها وملأه لبنًا خالصًا حتى استدار وذلك ينبئ بأن الرش والسقي قد ألاناه وشبهه في استدارته برجل علفوف أي غليظ من الترك راقد. الذي يدلك أنه يصف ملء السقاء قوله على القرو وهو الحوض الذي يلقي فيه الروب بعد استخراج الزبد وأخذ الناس كفايتهم فيجعل للبقية حوض تشرب منه الدواب. والقرو قريب من الماخضة وقرو الخمر قريب من عاصرها وهو الذي أشار إليه الأعشى حيث قال:

شتان ما يومي على كورها

ويوم حيان أخي حابر

أظل في تيهاء مسجورة

وأنت بين القرو والعاصر

وأحسب أن العلفوف التركي هو عين الأجير الذي أغضبوه فانتبذ بعيدًا.

فلما أدى واستربعته ترنمت

«ألا كل شيء ما خلا الله بائد»

هذا يوضح ما قدمناه ويدل عليه دلالة لا ريب فيها. تصف السقاء أنه أدى أي تم تمامه للمخض وقعدت إزاءه واستربعته لتمخض وشرعت تعمل وتترنم وقد

ص: 586

جعلها تترنم بشعر لبيد وغير القافية لتناسب حرف الروى الذي التزمه. وبيت لبيد.

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وكل نعيم لا محالة زائل

فأخذ الزائل من عجز البيت واستبدلها بالبائد في مكان «باطل» التي عليها تصريح لبيد. وصورة المرأة النصف الجادة في العمل والكسب ذات حيوية لا تخفى كما صورها حميد هنا.

فذاقته من تحت اللفاف فسرها

جراجر منه وهو ملآن ساند

أي ذاقت لتتأكد من جودة الرائب واستوائه للمخض فتجشأت فهذه جراجره وسرها ذلك فأخذت تعمل، وذلك بإبعادها السقاء بدفعه من يديها ثم جذبه، فإذا مال جهة اليمين على جانبه الوحشي ردته الدفعة منها مستقيمًا على جانبه الأيسر وظلت هكذا تدفعه وتجذبه ويميل فيعد له عراكها له حتى جاءت خلاصة ذلك زبدة صفراء جعدة، عن استخراج مثلها من مثله كانت مصاداتها للسقاء وذلك، بالذي صنعته من تليينه وسقيه ثم مخضها الرائب باتقان.

إذا مال من نحو العراقي أمره إلى

نحرها منه عنان معاند

وذلك أن الجذبة تميل برقبة السقاء إلى جانب عنقها هي.

يميل على وحشيه فيميله

لأنسيه منها عراك مناجد

فعضت تراقيه بصفراء جعدة

فعنها تصاديه وعنها تراود

التراقي معروفة وتعني هنا ما يلي رقبة السقاء ودلت على أن الزبد كثير ملأ من عند فم السقاء إلى حيث أعلى صدر الجلد من السقاء. والعراقي هي الخشبات التي يناط بها السقاء وهو في الدلو خشباته التي ينفرج عنها فمه.

ص: 587

وأحسب أن أبا تمام ما أراد إلا الإشارة إلى عوان حميد هذه حيث قال في بائيته:

حتى إذا مخض الله السنين

مخض البخيلة كانت زبدة الحقب

إذ البخيلة التي يذكرها أبو تمام ههنا أمر معهود- فقصده الإشارة إلى بخيلة حميد لا يخفى كما ترى. وقد ذكر بخلها حيث قال:

تأوبها في ليل نحس وقرة

خليلي أبو الخشخاش والليل بارد

فقام يصاديها فقالت تريدني

على الزاد- شكل بيننا متباعد

إذا قال مهلًا أسجحي حملقت له

بزرقاء لم تدخل عليها المراود

يعني صحة نظر عينيها وجعلها زرقاء كناية عن نظرة الزجر والغضب والعداوة ثم كأنه أشار إلى زرقاء اليمامة وقد مر عليك خبرها، إلا أنها لا تكحل بالأثمد، لما تقدم من تجردها لكسب وأنها إزاء معاش.

إذا الحمل الربعي عارض أمه

عدت وكرى حتى تحن الفراقد

أي صغارها وأصل الفرقد ولد البقرة فأطلقه على ولد الضأن.

فقامت بأثناء من الليل ساعة

سراها الدواهي واستنام الخرائد

الدواهي كاللصوص والمغامرين من أمثال الشنفري والعشاق كسحيم وابن أبي ربيعة.

وإلى هجاء حميد بخيلته نظر القطامي إن كان نظر وقد سبق أن أشرنا إلى مقال أبي العلاء في هذا الصدد. وأحسب أن ابن خفاجة الأندلسي في بائيته التي يصف بها الجبل لم يخل من تأثر لمنهج القطامي في كلمته التي أولها:

ناتك بليلي نية لم تقارب

وما حب ليلى من فؤادي بذاهب

ص: 588

وقد ذكر فيها حيزبونًا من بني محارب نزل بها فلم تقرع فبات بشر ليلة- وقال فيها:

ولا بد أن الضيف مخبر ما رأى

مخبر أهل أو مخبر صاحب

سأخبرك الأنباء عن أم منزل

تضيفتها بين العذيب فراسب

تلفعت في طل وريح تلفني

وفي طرمساء غير ذات كواكب

إلى حيزبون توقد النار بعدما

تلفعت الظلماء في كل جانب

تصلى بها برد الشتاء ولم تكن

تخال وميض النار يبدو لراكب

فما راعها إلا بغام مطية

ترجع بمحسور من الصوت لاغب

تقول وقد قربت كورى وناقتي

إليك فلا تذعر على ركائبي

غلما تنازعنا الحديث سألتها

من الحي قالت معشر من محارب

من المشتوين القد منا تراهم

جياعًا وزين الناس ليس بعازب

فلما بدا حرمانها الضيف لم يكن

على مناخ السوء ضربة لازب

وما أستبعد أن يكون القطامي قال هذه الأبيات على خبثٍ من مذاهب الهجاء، يريد الطعن على قيس، وكانت ربيعة واليمن معًا على قيس في تلك الحروب وإلى ذلك أشار القطامي في الكلمة الدالية التي مدح بها زفر بن الحرث لما من عليه ذلك قوله:

إني وإن كان قومي ليس بينهمو

وبين قومك إلا ضربة الهادي

مثن عليك بما استبقيت معرفتي

وقد تعرض مني مقتل بادي

غير بعيد أيضًا أن يكون حميد بن ثور وهو قيسي جاء بداليته على هذا المذهب يريد الطعن على اليمن، إذ قال:

عريبية لا ناحض من قدامة

ولا معصر تجري عليها القلائد

فدل على نسبها في اليمن.

ص: 589

وكلمة ابن خفاجة الأندلسي مختلفة في جملة المعاني وتفصيلها عن بائية القطامي إذ هذا يصف الجبل على نحو من أسلوب العظة والعبرة، وذلك قوله:

بعيشك هل تدري أهوج الجنائب

تخب برحلي أم ظهور النجائب

وحيدًا تهاداني الفيافي فأجتلي

وجوه المنايا في قناع الغياهب

ولا جار إلا من حسام مصمم

ولا دار إلا في قتود الركائب

بليل إذا ما قلت قد باد فانقضى

تكشف عن وعد من الظن كاذب

هنا نظر إلى النابغة وامرئ القيس معًا وليلهما للشعراء طريق مطروق.

صحبت الدياجي فيه سود ذوائب

لأعتنق الآمال بيض ترائب

هنا سير على طريقة أبي تمام وقد مر من ذلك أمثلة وقد حذفنا بعض ما سار فيه على المنهج الحبيبي اختصارًا لتشابهه.

فمزقت جيب الليل عن شخص أطلس

تطلع وضاح المضاحك قاطب

رأيت به قطعًا من الفجر أغبشا

تأمل عن نجم توقد ثاقب

أحسب أنه في البيت «فمزقت» يصف لقاءه الذنب الذي قل شاعر لم يلقه، وهو الأطلس الذي تطلع، يلتمس القوت، وجعله وضاح بياض الأنياب كالضاحك ولكنه قاطب عابس، وهذا من صفة الفرزدق:

فقلت له لما تكشر ضاحكًا

وقائم سيفي من يدي بمكان

والضمير في به من أول البيت الثاني يعود على الليل. «وتأمل» التي في الشطر الثاني لا يستقيم بها المعنى إلا على تكلف، أي نظر بنجم متوقد ثاقب في أواخره، ولعلها خطأ.

وأرعن طماح الذؤابة باذخٍ

يطاول أعنان السماء بغارب

ص: 590

من ههنا وصف الجبل.

يسد مهب الريح من كل وجهة

ويزحم ليلًا شهبه بالمناكب

عني بالشهب في هذا الموضع القنن الشهب بالثلج ولم يعن نجوم السماء- أي قممه تزاحم الليل فتصير فيه ببياضها نجومًا مع نجومه.

وقور على ظهر الغلاة كأنه

طوال الليالي مفكر في العواقب

وهي الرواية التي عهدتها في المنتخب ورواية الديوان «مطرق في العواقب» وذكر الأخرى في الهامش والمعنى متقارب.

يلوث عليه الغيم سود عمائم

لها من وميض البرق حمر ذوائب

وما أحسبه ذكر الذوائب الحمر إلا لأن أمثالها كان يرى في الأندلس من شعور النساء الشماليات الموطن.

أصخت إليه وهو أخرس صامت

فحدثني ليل السرى بالعجائب

وقال ألا كم كنت ملجأ فاتك

وموطن أواه تبتل تائب

وكم مربي من مدلجٍ ومؤوب

وقال بظلي من مطي وراكب

ولاطم من نكب الرياح معاطفي

وزاحم من خضر البحار جوانبي

فما كان إلا أن طوتهم يد الردى

وطارت بهم ريح النوى والنوائب

فما خفق أيكى غير رجفة أضلع

وما نوح ورقي غير صرخة نادب

وما غيض السلوان دمعي وإنما

نزفت دموعي في فراق الأصاحب

فحتى متى أرعى الكواكب ساهرا

فمن طالع أخرى الليالي وغارب

فرحماك يا مولاي دعوة ضارع

يمد إلى نعماك راحة راغب

فأسمعني من وعظه كل عبرة

يترجمها عنه لسان التجارب

فسلي بما أبكي وسري لما شجا

وكان على ليل السرى خير صاحب

وقلت وقد نكبت عنه لطية

سلام فأنا من مقيم وذاهب

ص: 591

ظاهر الكلام أن القطامي وابن خفاجة بين مذاهب قصيدتيهما بون بعيد، ولا تشتبهان إلا في الوزن والقافية ومجرى حرف الروى. غير أن التأمل يشهد مع ذلك بأن قرى الكلام (وقد مر بك حديث البحتري عن أخذ أبي نواس حيث أخذ عن أبي خراش) واحد أو متقارب. وذلك أن القطامي وحميدًا كليهما يذكران السرى في ليلة باردة مطبقة الظلام، فلاحت لهما نار، وإذا النار عندها سعلاة من السعالي الآدمية -سعلاة حميد منهمكة على المخض فلما طرقها أبو الخشخاش- وما هو إلا حميد نفسه، وهذا رمز كنى به عن نفسه- زجرته بكلمة حامدة وبنظرة زرقاء لها حماليق حمر:

فقام يصاديها فقالت تريدني

على الزاد شكل بيننا متباعد

إذا قال مهلًا أسجحي حملقت له

بزرقاء لم تدخل عليها المراود

وسعلاة القطامي:

تقول وقد قربت كورى وناقنى

إليك فلا تذعر على ركائبي

إليك أي تنح يا هذا وكانت توقد النار «تصلى بها برد الشتاء» وقد تلفعت الظلماء من كل جانب.

وقد جعل ابن خفاجة مكان السعلاتين غولًا أرعن.

يسد مهب الريح من كل وجهة

وتزحم ليلًا شهبه بالمناكب

فتى على طول الزمان وربما

جلا لك عن فرعٍ من الثلج شائب

هذا البيت مذكور في هوامش الديوان.

يلوث عليه الغيم سود عمائم

لها من وميض البرق حمر ذوائب

فجعله كما ترى مكان السعلاتين ونارهما، وأعطاه سناهما بما جعل على رأسه من بياض الثلج. نقل ابن خفاجة صفة الصلابة وشدة المراس من حيزبون

ص: 592

القطامي وحيزبون حميد، إلى الجبل الذي استضافه في ليل السرى. وعكس القضية التي جاء بها ذانك الشاعران فجبل هذا الأندلسي غول وديع والمناخ عنده ليس بمناخ سوء. وقد خلع الشاعر سرًّا على نفسه بعض صفات الجبل من ثبات وصلابة وصبر. وبلسان الجبل وهو لسانه لقوله:

فأسمعني من وعظه كل عبرةٍ

يترجمها عنه لسان التجارب

بهذا اللسان بكى أصحابه:

فحتى متى أبقى ويظعن صاحب

أودع منه راحلًا غير آيب

وحتى متى أرعى الكواكب ساهرا

فمن طالع أخرى الليالي وغارب

إذ هذه الصفة أشبه به هو منها بالجبل. ولعله -إن صح ما رواه صاحب القلائد- أن يكون رثى هنا صاحبه عبد الجليل بن وهبون -أحسبه ابن وهبون قال صاحب القلائد (طبعة مصر سنة 1320 هـ ص 242): «وأخبرني (يعني ابن خفاجة رواية عنه) أنه لقي عبد الجليل الشاعر بين لورقه والمرية والعدو يليط، لا يريم، يقرع تلك الربا، ولا يزال يروع حتى مهب الصبا، فباتا ليلتهما بلورقة يتعاطيان أحاديث حلوة المساق، ويواليان أناشيد بديعة الاتساق، إلى أن طلع لهم الصباح أو كاد، وخوفهم تلك الأنكاد، فقام الناس إلى رحالهم فشدوها، وافتقدوا أسلحتهم فأعدوها، وساروا يطيرون وجلًا، وإن رأوا غير شيء ظنوه رجلًا، فمال إليه عبد الجليل وفؤاده يطير، وهو كالطائر في اليوم العاصف المطير، فجعل يؤمنه فلا يسكن فرقه، ويؤنسه فيتنفس الصعداء تثيرها حرقه، فأخذ في أساليب من القريض يسليه بإشغاله بها وإيغاله في شعبها، فأحيل على تذييل وإجازة، واختبل حتى لم يدر حقيقة النظم ولا مجازه، إلى أن مرا بمشهدين عليهما رأسان باديان وكأنهما بالتحذير مناديان، فقال أبو إسحق مرتجلًا:

ص: 593

أيارب رأس لا تزاور بينه

وبين أخيه والمزار قريب

أناف به صلد الصفا فهو منبر

وقام على أعلاه وهو خطيب

فقال عبد الجليل:

يقول حذار الاغترار فطالما

أناخ قتيلٌ بي ومر سليب

وينشد كلانا غريبان ههنا

وكل غريب للغريب نسيب

(قلت هكذا في الأصل وعلق عليه في الهامش قوله وينشد كلانا لا يخفى أن هذا الشطر غير متزن فليحرر. أ. هـ. قلت، ليس هذا من قول الشاعر بلا ريب ولكنه من عمل النساخ وبيت امرئ القيس:«أيا جارتا إنا غريبان ههنا» وقد قصد عبد الجليل إلى تضمينه وليس فيه كلانا ولكن «إنا» فما أشبه أن يكون قد قال:

وينشده إنا غريبان ههنا

وكل غريب للغريب نسيب).

فإن لم يزره صاحب أو خليله

فقد زاره نسر هناك وذيب

فما تم قوله حتى لاح لهما قتام كأنه أغيام، فانقشع عن سربة خيل، كقطع الليل، فما انجلت إلا وعبد الجليل قتيل، وابن خفاجة سليب، وهذا من أغرب تقولٍ، وأصدق تفولٍ» أ. هـ. قوله يسليه بإشغاله أي بشغله يقولون شغله وأشغله ثلاثي ورباعي والإجازة أن يقول أحدهما مصراعًا وإلا خر يتمه بيتا وينبغي أن يكون التذييل إكمال البيت بقافية وهو مذكور في أعاريض البسيط والكامل فمثاله في البسيط «وأي حال من الدهر تدوم» ومثاله في الكامل «ما خير ود لا يدوم» ولا أحسب أن هذا المعنى العروضي يصلح ههنا، ولكن المراد بعض الإجازة وإكمال الأشطار، هذا ما وضح من قوله والله أعلم.

حديث عبد الجليل على لسان الصخرة أن حجرها حذرهما وحذر من يراه

ص: 594

الاغتراب هو من نفس معدن حديث ابن خفاجة على لسان جبله. والصفة التي خلعها ابن خفاجة على الجبل نهارية، ولكن تقليده مذهب القطامي جعله يزعم أنه سرى.

فكأنه فطن إلى أن التفصيل في النعت كما فصله نهاري (إذ ذكر خفق الايك وهذا يبديه وضح النهار ونوج الورق ولا ينحن ليلًا، كما ذكر لون خضرة البحار، وسواد عمائم السحاب فيهن ذوائب البرق الحمر، ثم صفة الجبل كله بأنه وقور على ظهر الفلاة، ولا يمكن أن براه كله هكذا جاثمًا على الفلاة وقورًا والليل ضارب بجران) - فأراد أن يتلافى ذلك بزعمه أنه رآه والفجر أغيش. ولا يكون نجم ثاقبًا مع غبش الفجر، اللهم إلا أن يكون قصد بقوله «قطعًا من الفجر أغبشا» إلى معنى الفجر الكاذب الذي هو ذنب السرحان، وليس بأغبش حين يستطير مستطيلًا بل يضرب إلى الحمرة، وجعله قطعًا تشبيهًا له في الاستطالة بالسهم واحد الأقطع بسكون القاف وضم الطاء التي ذكرها الشنفري حيث قال:

وليلة نحس يصطلي القوس ربها

وأقطعه اللاتي بها يتنبل

وقول ابن خفاجة:

وما غيض السلوان دمعي وإنما

ذرفت دموعي في فراق الأصاحب

أصدق على الشاعر نفسه منه على جبله من أجل الخبر الذي ذكرنا. وإذا جعلت الدموع للجبل، فكأنه وجده جافًا لا ماء عنده.

وقول ابن خفاجة في آخر كلمته:

وقلت وقد نكبت عنه لطية

سلام فأنا من مقيم وذاهب

خاتمة قريبة في مذهب القول من مقطع القطامي حيث فال:

فلما يدا حرمانها الضيف لم يكن

على مناخ السوء ضربة لازب

ص: 595

فقد نكب عنها لطية وودعها إذ لم تضيفه وزجرته ألا يذعر ركائبها- وكمثل صنيعه صنع ابن خفاجة إذ أبكاه، وفقد عنده أو عند مثله خليله عبد الجليل، فودعه ليقيم الجبل مكانه ويذهب هو لطيته.

والراجح عندي أن ابن خفاجة قال هذا على التذكر. وذكر صاحب القلائد أنه كان صاحب فتك ثم نسك بعد الستين وسماه في ترجمته له الفقيه أبا إسحق بن خفاجة- فهل عني شيئًا من نفسه أو حال نفسه إذ قال:

وقال الأكم كنت ملجأ فانك

وموطن أواه تبتل تائب

أو يكون الفاتك هو الفارس الذي سلبه وقتل صاحبه ويكون هو المتبتل التائب:

هذا وإذ مقال حميد القطامي كليهما أداراه على صفة شمطاء النساء وهجائها -وإن كانا كما رجحنا إنما أرادا هجاء القبائل من يمن قيس- فمما يحسن أن يشار إليه ههنا حائية جران العود التي ذكر فيها صاحبتيه فقال:

هما الغول والسعلاة حلقي منهما

مخدش ما بين التراقي مجرح

وأولها:

ألا لا يغرن امرأ نوفلية

على الرأس تبدو والترائب وضح

والنوفلية فيما ذكره صاحب التهذيب (طبع القاهرة- ج 15 ص 357) شيء تتخذه نساء الأعراب من صوف يكون في غلظ الساعد ثم يحشي ويعطف فتضعه المرأة على رأسها ثم تختمر عليه ومنه قول جران العود:

ألا لا تغرن امرأ نوفلية

على الرأس بعدي والترائب وضح

ولا فاحم يسقى الدهان كأنه

أساود يزهاها مع الليل أبطح

ص: 596

وعن ابن جني أن النوفلية ضرب من الامتشاط والتفسيران متقاربان، ويجوز أن يصفف شعر الرأس وترفع عقائصة كأنهن الشيء المحشو المعطوف ثم يوضع على ذلك الخمار. وقد شاهد الأزهري الأعراب فتفسيره عن مشاهدة ويقويه قول جران في الفائية:«وطاح النوفلي المزخرف» يعني الخمار وقد مر الاستشهاد ببعض هذه الفائية وأولها:

ذكرت الصبا فانهلت العين تذرف

وراجعك الشوق الذي كنت تعرف

وكان فؤادي قد صحا ثم هاجني

حمائم ورق بالمدينة هتف

ويقول في إحداهن وهي التي سبته:

وفي الحي ميلاء الخمار كأنها

مهاة بهجل من أديم تقطف

وأديم موضع وقوله ميلاء الخمار كقوله (في معناه) ألا تغرن امرأ نوفلية البيتين، إذ صاحبة هذه النوفلية ميلاء الخمار باد منها صفحتا عنقها وترائبها الوضح. فهي التي غره هذا منها وحديثها وهي مع صواحبها إذ يقول فيها وفيهن:

ينازعننا لذا رخيمًا كأنه

عوائر من قطر حداهن صيف

رقيق الحواشي لو تسمع راهب

ببطنان قولا مثله ظل يرجف

حديث لو أن البقل يولى بنفضه

نما البقل واخضر العضاه المصنف

هو الخلد في الدنيا لمن يستطيعه

وقتل لأصحاب الصبابة مذعف

فطلب جران أن يستطيعه فأوقعه ذلك في الضرر البليغ -وإذا بما تحت النوفلية حصاء رسحاء شرسة أو كما قال:

فتلك التي حكمت في المال أهلها

وما كل مبتاع من الناس يربح

فنأمل أن نعرض لهذه القصيدة إن شاء الله عندما نصير إلى باب الهجاء.

ص: 597

هذا ومن جيد أوصاف المحدثين قول أبي عبادة البحتري يصف قتال البحر في قصيدته التي أولها:

ألم تر تغليس الربيع المبكر

وما حاك من وشي الرياض المنشر

وسرعان ما ولى الشتاء ولم يقف

تسلل شخص الخائف المتنكر

ويعجبني وصفه الربيع ونسيبه هذا الذي في بداية النسيب:

كأن سقوط القطر فيها إذا انثنى

إليها سقوط اللؤلؤ المتحدر

لا يخفى أن البحتري شبه باللؤلؤ ههنا لما يخالط هذا التشبيه المألوف من معنى الدمع ومعنى سقاط الحديث:

وفي أرجواني من النور أحمر

يشاب بإفرند من الروض أخضر

إذا ما الندى وافاه صبحًا تمايلت

أعاليه من در نثير وجوهر

إذا قابلته الشمس رد ضياءها

عليها صقال الأقحوان المنور

والأقحوان رمز للثغور الحسان -وقد صرح أبو عبادة بالغزل من بعد حيث قال:

إذا عطفته الريح قلت التفاتة

لعلوة في جاديها المتعصفر

بنفسي ما أبدت لنا حين ودعت

وما كتمت في الأتحمي المسير

أتى دونها نأى البلاد ونصنا

سواهم خيل كالأسنة ضمر

وهنا نبأة عن موضوع الحرب الذي سيأتي من بعد:

ولما خطونا دجلة انصرم الهوى

فلم يبق إلا لفتة المتذكر

وذكر دجلة فيه ذرء من نفس سير الماء وقتاله الذي سيجئ من بعد -مجرد

ص: 598

إيماء كما ترى. والبحتري كثير الالتفات -لفتة المتذكر- التفاتة لعلوة. وله من القافية:

تلفت من عليا دمشق ودوننا

للبنان هضب كالغمام المعلق

وقد نجده إن لم يصرح بلفظ الالتفات أو مرادفه يضمن ما يقوله معناه، نحو:

حنت قلوصي بالعراق وشاقها

في ناجر برد الشآم وريفه

على أن الالتفات عند الشعراء كثير، فعسى هذا أن يكون مما أغرى أبا عبادة به.

وخاطر شوق ما يزال يهيجنا

لبادين من أهل الشآم وحضر

ثم أضرب عن على الحنين وأخذ في المديح

بأحمد أحمدنا الزمان وأسهلت

لنا هضبات المطلب المتوعر

وهذا التخلص أو الخلوص إلى الممدوح على منهج أبي تمام حتى لتحس فيه بعض روح الإيقاع الذي عند أبي تمام.

ثم لما أخذ في صفة ولاية الممدوح البحر وغزوته وبلائه الحسن فيه قال:

هو الغيث يجري من عطاء ونائل

عليك فخذ من صيب الغيث أو ذر

ولما تولى البحر، والجود صنوه

غدا البحر من أخلاقه بين أبحر

وهذا من قول ابن محلم صاحب «إن الثمانين وبلغتها» التي استشهدنا بأبياتها في الجزء الأول من هذا الكتاب:

عجبت لحراقة ابن الحسين

كيف تعوم ولا تغرق

وبحران من فوقها زاخرٌ

وآخر من تحتها مطبق

ص: 599

والحراقة ضرب من السفن فيها مرامي نيران يرمي بها العدو- ثم يقول أبو عبادة:

أضاف إلى التدبير فضل شجاعة

ولا عزم إلا للشجاع المدبر

هذا أخذه أبو الطيب في بيته المشهور «الرأي قبل شجاعة الشجعان إلخ» .

إذا شجروه بالرماح تكسرت

عواملها في صدر ليث غضنفر

غدوت على الميمون صبحًا وإنما

غدا المركب الميمون تحت المظفر

أطل بعطفيه ومر كأنما

تشوف من هادى حصان مشهر

أي الأمير كفارس ومقدم هذا المركب الميمون كإقبال الجواد الكريم على صهوته فارسه المظفر.

إذا زمجر النوتي فوق علاته

رأيت خطيبًا في ذؤابة منبر

من هنا يبدأ نعت السفينة وهي مما تشبه بالناقة فلذلك زعم البحتري أن نوتيها الذي يصيح من أعلاها هو فوق علاة- والعلاة الناقة المشرفة وأراد البحتري المحلة العالية التي يكون فوقها النوتي وهو يزمجر آمرًا ناهيًّا.

يغضون دون الإشتيام عيونهم

وفوق السماط للعظيم المؤمر

الإشتيام رئيس المركب والهمزة همزة قطع إذ الكلمة غير عربية كثر استعمالها في ذلك الزمان وقطع همزة الوصل في مثل هذا الموضع مما يستبعد (1) مع جوازه في العربية- على أبي عبادة لشدة حرصه على تجويد نغم الكلم.

إذا عصفت فيه الجنوب اعتلى لها

جناحًا عقاب في السماء مهجر

(1)() على أنه يجوز أن يكون الإشتيام هو النظر أي يغضون أبصارهم دون إنعام الإشتيام وقطع همزة الوصل والذي أثبتنا في المتن أجود.

ص: 600

فيه أي في المركب اعتلى لها أي للجنوب. مهجر أي في وقت الهاجر وذلك ارتفاع النهار. والمراد صفة العقاب هنا بالتهجير لا المركب بذلك، ولكن بأن شراعيه كجناحي عقاب مرتفع في أنصاف الهاجرة.

إذا ما انكفا في هبوة الماء خلته

تلفع في أثناء برد محبر

أخذ هذا من نعت امرئ القيس ثبيراً حيث شبهة بكبير أناس مزمل في بجاد.

وحولك ركابون للهول عاقروا

كئوس الردى من دارعين وحسر

تميل المنايا حيث مالت أكفهم

إذا أصلتوا حد الحديد المذكر

إذا رشقوا بالنار لم يك رشقهم

ليقلع إلا عن شواءٍ مقتر

أي له قتار بضم القاف والقتار رائحة الشواء وهنا نظرة خاطفة من البحتري إلى رائيه أبي تمام في الأفشين.

صدمت بهم صهب العثانين دونهم

ضراب كإيقاد اللظى المتسعر

يسوقون اسطولا كأن سفينة

سحائب صيف من جهام وممطر

وذلك أن سحائب الصيف قطع بيض وألوان بين ذلك والسواد، وهكذا قطع الأسطول بقلوعهن البيض وأخشابهن مقيرات.

كأن ضجيج البحر بين رماحهم

إذا اشتجرت ترجيع عود مجرجر

هذا البيت جيد في مذاهب النعت، وذلك أن من عادة الشعراء أن يجعلوا زمجرة الحرب وضجيجها أعلى من كل صوت وضجيج. والبحتري ههنا يجعل زمجرة البحر هي أعلى، وهو الفحل القطم المجرجر، والسفائن كنوق. عود بفتح فسكون.

ص: 601

تقارب من زحفيهم فكأنما

تؤلف من أعناق وحش منفر

فما رمت حتى أجلت الحرب عن طلى

مقطعة فيهم وهام مطير

رمت من رام يريم أي لم تغادر ساحة القتال حتى كان النصر

على حين لا نقع يطوحه الصبا

ولا أرض تلفي للصريع المقطر

إذ هذا يصير قبره البحر وبطون السمك. وجعل الريح صبا، ومن قبل ذكر الجنوب، للدلالة على اليمن والنصر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نصر بالصبا وأهلكت عاد بالدبور، والصبا شرقية المهب، وكما هي هبت بنصر المسلمين فهي أيضاً أسرع لمن يبحر شمالاً أو جنوباً وقد ذكر من بعد أنها تفتحت في قلوع زعيم الروم فنجا من القتل.

وكنت ابن كسرى قبل ذاك وبعده

مليا بأن توهي صفاة ابن قيصر

وقد كانت للفرس بالحرب دربة، ولم يستطع الروم أيام أوج قوتهم أن يقهروهم وهزموا جند الجمهورية الرومية العاتية هزيمة منكرة على أيام قيصر الكبير ورفاقه الثلاثة فلم تستطع دولة الروم من بعد ذلك أن تتخطى الفرات - كان ذلك سنة بضع وخمسين قبل الميلاد في تاريخهم.

جدحت له الموت الذعاف فعافه

وطار على ألواح شطب مسمر

الذعاف بضم الذال. وتأمل الجناس في الذعاف فعافه «والذعاف» أي السريع القتل وأصل استعماله في السم. وخلع البحتري على السفينة هنا صفة الحصان كما فعل في أول كلامه اذ قال «تشوف من هادي حصان مشهر» . غير أن حصانه هذا الأول مقدم مقبل بانتصار. وحصان الرومي هذا الشطب ولكن من الواح ومسامير، مدبر مول بهزيمة وهرب. وما خلا البحتري من بعض النظر والتأثر

ص: 602

بمذهب العرب والأولين كقول حسان:

ترك الأحبة أن يقاتل دونهم

ونجا برأس طمرة ولجام

وكقول النجاشي الحارثي:

ونجي أبن حرب سابح ذو علالة

أجش هزيم والرماح دواني

والبيت الذي يدلنا على أن الريح نفخت في قلوع الرومي فأسرع هربا قوله:

مضى وهو مولى الريح يشكر فضلها

عليه ومن يول الصنيعة يشكر

إذا الموج لم يبلغه إدراك عينه

ثني في انحدار الموج لحظة أخزر

وهذا ينبئ عن تجربة من البحتري بسفر البحر، أي البحر هائج الأمواج والسفينة مندفعة فإذا لم يبلغ نظره نهاية ارتفاع الموج في تصعيده إليه نظر بطرف عينه إلى انحداره حين ينحدر- وضبط الديوان بضم ياء يبلغه ونصب كاف إدراك والمعنى لا يستقيم عليه والوجه جعل الفعل ثلاثياً مفتوح ياء المضارعة والكاف مرفوعة لأن "إدراك عينه" هي فاعل البلوغ ولك أن تجعل «يبلغه» رباعياً بضم الياء على أن تجعل الإدراك فاعلاً أي لم يبلغه إياه - وإياه تعود على الموج.

تعلق بالأرض الكبيرة بعدما

تقنصه جرى الردى المتمطر.

وكنا متى نصعد بجدك ندرك الـ

معالي ونستنصر بسيفك ننصر

ولم يخل البحتري في نعت الأسطول، على جودته ودقة فيه، من بعض المحاكاة لجرير والاقتداء به حيث وصف هذا أسطول الحجاج بن يوسف، في لا ميته التي أولها: ?

شعفت بعهد ذكرته المنازل

وكدت تناسى الحلم والشيب شامل

لعمرك لا أنسى ليالي منعج

ولا عاقلاً إذ منزل الحي عاقل

ص: 603

وما في مباحات الحديث لنا هوى

ولكن هوانا المنفسات العقائل

ألا حبذا أيام يحتل أهلنا

بذات الغضى والحي في الدار آهل

وما أشبه أن يكون أبو تمام اعتمد رنة هذا الايقاع وجاراه في كلمته التي مدح بها ابن الزيات ونعت القلم وهي التي أولها:

متى أنت عن ذهلية الحي ذاهل

وقلبك منها مدة الدهر أهل

ومن جيد مدحه الحجاج فيها قوله، وكان موضع ذكره حين نصير إلى بعض الحديث عن المدح ولكن مناسبته هنا أقوى:

ولولا أمير المؤمنين وأنه

إمام وعدل للبرية فاصل

وبسط يد الحجاج بالسيف لم يكن

سبيل جهاد واستبيح الحلائل

دعوا الجبن يأهل العراق فإنه

يباع ويشري سبي من لا يقاتل

لقد جرد الحجاج بالحق سيفه

لكم فاستقيموا لا يميلن مائل

فما يستوي داعي الضلالة والهدى

ولا حجة الخصمين حق وباطل

وأصبح كالبازي يقلب طرفه

على مربأ والطير منه دواخل

ما أخبر الشعراء بوجوه القول، فقد جعل جرير تقليب الحجاج عينيه كتقليب الصقر عينيه اذ أشرف من فوق مرقبة له عالية يترقب أن ينقض على فريسة، وهجا شاعر آخر الحجاج فجعل تقليبه عينيه كفعل الطائر المائي الخائف المترقب أن ينقض صقر كأسر- وهو قوله وقد مر قبل:

طليق الله لم يمنن عليه

أبو داود وابن أبي كثير

أو الحجاج عيني بنت ماء

تقلب عينها حذر الصقور

فتأمل .. ثم يقول جرير:

ص: 604

وخافوك حتى القوم تنزو قلوبهم

نزاء القطا التفت عليه الحبائل

وثنتان في الحجاج لا ترك ظالم

سوياً ولا عند المراشاة نائل

في الديوان بالتاء مفتوحة ولا يظهر معناه وبالمربوطة من راشي يراشي من الرشوة وسياق الكلام ينبئ عن هذا المعنى وهو المراد الواضح.

ومن غل مال الله غلت يمينه

إذا قيل أدوا لا يغلن عامل

أي الحجاج لا يقبل الرشوة فيراشى بها ولا يقبل من عماله الغلول والرشوة والغلول أخوان، وذو الغلول يستعين بالرشوة ليغضي عن غلوله أي خيانته في المال

وما نفع المستعملين غلوهم

وما نفعت أهل العصاة الجعائل

أي الرشوات يصانعون بها الأمراء ليغضوا عن جرائم قراباتهم العصاة

قدمت على أهل العراق ومنهم

مخالف دين المسلمين وخاذل

فكنت لمن لا يبرئ الدين قلبه

شفاء وخف المدهن المتثاقل

أي خف ليلحق بالمهلب خوف وعيد الحجاج بعد الذي صنع بعمير بن ضابئ

وأصبحت ترضى كل حكم حكمته

نزار وتعطي ما سألت المقاول

أي اليمن والمقاول وهم الأقيال سادة اليمن

صبحت عمان الخيل رهوا كأنما

قطا هاج من فوق السماوة ناهل

ولعله خطأ من الطابع أو الناسخ على استقامة المعنى ولعل الصواب «رهوا كأنها»

سلكت لأهل البر براً فنلتهم

وفي اليم يأتم السفين الجوافل

ص: 605

ترى كل مرزاب يضمن بهوها

ثمانين ألفًا زايلتها المنازل

جفول ترى المسمار فيها كأنه

إذا اهتز جذع من سميحة ذابل

تأمل يسر الجناس في قوله «وفي اليم يأتم» وكان جرير قرآني الأسلوب وهذا الضرب من التجنيس قرآني المعدن، كقوله تعالى:{وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} وقوله تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} وقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} . وعندي أن البحتري اتبع «يم يأتم» جرير في قوله «الذعاف فعافه» والأصل قرآني كما لا يخفى. وهذا من أحذق مسالك المحاكاة. وكان البحتري بذلك خبيرًا ذا دربة.

المرزاب السفينة الضخمة أو الطويلة، وذلك متقارب «وثمانين الفازايلتها المنازل» - هذه عدة المقاتلين في الأسطول كله ولعله أن يكون زاد فيها شيئًا على مذهب التهويل. والمسمار عني بها العمود القائم في السفينة يناط به الشراع وخشيته وأراد بتشبيهه بجذع النخلة الذابل طوله إذ لا يكون الجذع ذابلًا إلا ونخلته سحوق. وسميحة من آبار أهل المدينة وهي التي حكم عندها ثابت أبو سيدنا حسان أو جده عندما حكم في خصومات سميحة التي كانت بين الأوس والخزرج وقال حسان رضي الله عنه في ذلك:

إن جدي خطيب جابية الجو

لأن عند النعمان حين يقوم

وأبي في سميحة القائل الفا

صل حين التقت عليه الخصوم

ثم يقول جرير ولا يخفى أن نعته للسفن الذي مر إذ هي راسية يتأمل الناظر مسمارها القائم وهو يهتز، وعدد الأجناد البحريين وهم يجوزون إليها.

إذا اعترك الكلاء والماء لم تقد

بأمراسها حتى تثوب القنابل

من ههنا جعل يصف حركة الأسطول. الكلاء بفتح الكاف وتشديد اللام

ص: 606

هو المرفأ لأنه يكلؤها، ولابد من إخراجها من عنده إلى عمق الماء حتى تستطيع الإبحار. واعتراك الكلاء والماء يكون عند حل الأنجر وقود السفينة بالأمراس إلى حيث مكان العمق، الكلاء ممسك بها، إزالتها عنه تحتاج إلى علاج. والماء تراد إليه وذلك لا بد فيه من علاج وقوله حتى «تثوب القنابل» أي حتى ترجع الجماعات من الناس إليها لتلزها فتنقاد- فإذا صارت إلى عمق من الماء رفعت أجلتها أي قلوعها والمفرد جل بفتح الجيم أو ضمها وهو أيضًا كساء الدابة وكأن أجلة جمع الجمع وهو جلال بكسر الجيم وجلول وجعل صاحب القاموس الأول للأكسية والثاني للشراع وأحسب أنه سوغ جمع الجمع هنا أن لكل سفينة جلولًا أو جلالًا فللأسطول كله أجلة وقصد جرير إلى هذا المعنى بين جلي كما ترى.

تخال جبال الثلج لما ترفعت

أجلتها والكبد فيهن كامل

تشق حباب الماء عن واسقاته

وتغرس حوت البحر منها الكلاكل

ولجبال الثلج انطباعة في قلب جرير من شاهد ذلك قوله في السينية التي عرض فيها بكعب بن جعيل:

هل دعوة من جبال الثلج مسمعة

أهل الإياد وحيًّا بالنباريس

وإنما كانت منازله في الإياد والدام والأدمى وقلب جزيرة العرب حيث لا توجد جبال الثلج ولكن الآكام والحرار والفلوات الأماريت. وقوله «تشق حباب الماء عن واسقاته» أخذه من قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} أي وما جمع وحوى. وقوله عن واسقاته أي حاملات الماء منه- شبه كل موجة بامرأةٍ حبلى أو ناقة حبلى ويقال للناقة إذا حملت وأغلقت على الماء رحمها: (هذه عبارة القاموس) واسق فكأن السفينة تشق بطن كل موجة حبلى بالماء من مائها هذا الذي تحمله وعما فيه

ص: 607

من خلق الله. وكلكل السفينة هو منها ككلكل البعير يكون مغروسًا في الماء حتى يحفظ توازنها فلا تنقلب بفعل الريح والشراع والأمواج.

وقد ختم جرير صورة الأسطول الذي رآه كأن مسامير قلوعه نخل طوال وتحريك كل سفينة منه عن مرفأها يحتاج إلى الجماعات، به، وقد ترفعت أجلته وسمت وقد ملأتها الريح وأسرعت بها فبدا الأسطول كأنه جبال لبنان على أعاليهن الثلوج، والماء منشق عن جوانبهن أبيض ذا زبد، وكأن حيتانه قد غرستهن كلا كل السفن في القاع.

هذه الصورة التي ختم بها جرير نعته نظر إليها البحتري في فاتحة كلامه حيث قال:

إذا عصفت فيه الجنوب اعتلى لها

جناحًا عقاب في السماء مهجر

وجعله مهجرًا لأن ذلك أشد لبياض الجناحين ثم لم يكتف لهذا حتى استبدل بأجلة جرير برد امرئ القيس وبجاد كبير أناسه حيث قال:

إذا ما أنكفأ في هبوة الماء خلته

تلفع في أثناء برد محبر

وهبوة الماء هذه فيها من قول جرير «تشق حباب الماء» ثم أكد هذا المعنى من بعد بما هو كالتفسير له حيث قال:

على حين لانقع يطوحه الصبا

ولا أرض تلفى للصريع المقطر

وقد ختم البحتري بمثل خاتمة جرير من تأمل للريح والشراع من بعد في قوله:

مضى وهو مولى الريح يشكر فضلها

عليه ومن يول الصنيعة يشكر

إذا الموج لم يبلغه إدراك عينه

ثنى في انحدار الموج لحظة أخزر

ص: 608

كما هذا وصف للرومي الهارب، هو أيضًا حكاية لحال الناظر إلى هربه من بعد، بعين الواقع أو عين الخيال، وهو الشاعر نفسه.

ومن جيد نعت جرير للسفن في معرض التشبيه قوله يصف الإبل:

تخالهن نعامًا هاجه فزع

أو زنبري زهته الريح مشحونا

يلقى صراريه والموج ذو حدبٍ

يلقون بزتهم إلا التبابينا

جمع تبان بضم التاء وتشديد الباء وهو شيء من خرقة قصير يستتر به أهل البحر. وأصل جميع هذه الأوصاف من نعوت الجاهليين القدماء كقول طرفة:

عدولية أو من سفين ابن يامن

يجور بها الملاح طورًا ويهتدى

يشق حباب الماء حيزومها به

كما قسم الترب المفايل باليد

وقول المثقب:

يشق الماء جؤجؤها ويعلو

غوارب كل ذي حدبٍ بطين

وأوصاف المحدثين للسفن كثيرة.

والغالب على طريقة المحدثين في الوصف زخرفة الألفاظ والمعاني وقد عرضنا لهذا المعنى كثيرًا من قبل. وقد رام قدامة أن يجمع بين صفة طريقتي القدماء والمحدثين في الفصل القصير الذي عقده للوصف فقال في أوائل تصديره له: «ولما كان أكثر وصف الشعراء إنما يقع على الأشياء المركبة من ضروب المعاني، كان أحسنهم من أتى في شعره بأكثر المعاني التي الموصوف مركب منها ثم بأظهرها فيه وأولاها حتى يحكيه بشعره ويمثله للحس بنعته» ثم استشهد بأبيات مقاربة لهذا الذي ذكره وكأنها تمهد من بعيد لمذاهب المحدثين أولها بيت الشماخ في صفة أرض تسير فيها النبالة:

تقعقع في الآباط منها وفاضها

خلت غير آثار الأراجيل ترتمي

ص: 609

فزعم أنه حكى حال النبالة حاملي وفاضهم في آباطهم «حتى كأن سامع قوله يراها» ثم جاء ببيت لأبي ذؤيب من الجيمية التي مرت أبياتها منها ذكرناها.

لكل مسيل من تهامة بعدما

تقطع أقران السحاب عجيج

وبيت آخر في صفة الحرب للهذليين:

كغماغم الثيران بينهم

ضربٌ تغمض دونه الحدق

ثم ببيتين في الفخر ضمنا وصف النجوم من قول معاوية بن خليل النصري:

فنحن الثريا وعيوقها

ونحن السما كان والمرزم

وأنتم كواكب مجهولة

ترى في السماء ولا تعلم

وليس أمر الوصف في هذين البيتين بينًا وإنما ذكر أسماء نجوم مشهورة ونعت غيرها الكثيرات بأنها لا تعلم كأنه يتنقص بذلك خصمه، وما أحسبه أصاب حقيقة التنقص إذ جعل هؤلاء الخصم نجومًا عالية المكان في السماء.

وختم قدامة فصله بعد ثمانية أبيات استشهد بها بعد ما قدمنا ذكره من شواهده ما أرى أنه يستحق أن يستجاد منها غير قول عبد الرحمن القس في غناء سلامة:

إذا ما عج مزهرها إليها

وعاجت نحوه أذن كرام

فأصغوا نحوها الأسماع حتى

كأنهم وما ناموا نيام

ببيتين لذي الرمة في مية:

ترى الخود يكرهن الرياح إذا جرت

ومي بها لولا التحرج تفرح

إذا ضربتها الريح في المرط أشرفت

روادفها وانضم منها الموشح

ص: 610

وفطن قدامة إلى أن هذا غزل فأتبعه قوله وهو آخر الفصل، ولنتبع القول في الوصف بالقول في النسيب. وبيتا سلامة هما أيضًا غزل. وكأن ابن الرومي قد أخذ منها قوله في وحيد:

تتغنى كأنها لا تغنى

من هدو الأوصال وهي تجيد

وموضع الأخذ قوله «تتغنى كأنها لا تغنى» لأنه محذو على إصغاء أصحاب سلامة وكأنهم غير مصغين وكأنهم نيام وهم غير نيام.

ومذهب الصناعة والزخرف متبين في البيتين اللذين ذكرهما من شعر عدي ابن الرقاع يصف حمارين.

يتعاوران من الغبار ملاءة

غبراء محكمة هما نسجاها

تطوى إذا علوا مكانًا ناشزًا

وإذا السنابك أسهلت نشراها

والبيتان مردهما -مع كثرة نحو هذا في الكلام القديم- إلى قول لبيد في المعلقة.

ولعله أن يعتذر لقدامة في الذي صنع من فرط الاختصار الموفي على حافة الإخلال بأن أمثلة الوصف كثيرة وقد جاء منها بأشياء حسنة في غير هذا، كنعت أبي كبير لتأبط شرا وكأبيات الحادرة العينية التي استشهد بها على حسن اللفظ وفصاحته.

ومن أدل الشعر على مذاهب الولدين في الوصف، وإيثارهم ما ذكرنا من زخرفة المعاني والألفاظ، معًا أو أحدهما، قول ابن الرومي، وهو مما اختير له، في تفضيل النرجس على الورد:

خجلت خدود الورد من تفضيله

خجلًا توردها عليه شاهد

لم يخجل الورد المورد لونه

إلا وناحله الفضيلة عاند

ص: 611

فهذا كما ترى جدل ومنطق-

فصل القضية أن هذا قائد

زهر الرياض وإن هذا طارد

لأن النرجس يظهر أول الربيع والورد في أواخره مع أوائل المصيف:

شتان بين اثنين هذا موعدٌ

بتسلب الدنيا وهذا واعد

والوعد والوعيد من عبارات المتكلمين.

وإذا احتفظت به فأمتع صاحب

بحياته لو أن حيًّا خالد

وقوله: «لو أن حيًّا خالد» مع وروده كالحشو شديد المناسبة لقوله من قبل «موعد بتسلب الدنيا» - واقتنص عبارته من قول الجارية لسليمان بن عبد الملك:

أنت نعم المتاع لو كنت تبقى

غير أن لا بقاء للإنسان

ثم زعم ابن الرومي أن النرجس أفضل من الورد لأنه زهر ونور والمشهور أن الزهر والنور واحد، إلا أنه كأنه ذهب إلى قول من يفرق بينها فيجعل الزهر ما كان أصفر اللون -فما أدري ما توجيه كلامه هنا، إلا أن يكون مراده أن النرجس أصفر وأبيض فاجتماع اللونين له وهو نفس النبات يجعله زهرًا ونورًا.

للنرجس الفضل المبين بأنه

زهر ونور وهو نبت واحد

يحكي مصابيح السماء وتارة

يحكي مصابيح الوجوه تراصد

عني بمصابيح الوجوه العيون. وتراصد أي تتراقب وفي القافية نوع من عمل- اللهم إلا أن يكون عني أن مصابيح السماء ومصابيح الوجوه تتراصد فالقافية على هذا مستقيمة، وفيها حذقٌ، لقوله تعالى:{فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} فكأنه أراد الإشارة إليه والله أعلم.

يقوي هذا الوجه قوله:

ص: 612

ينهي النديم عن القبيح بلحظه

وعلى المدامة والسماع مساعد

فكأن لحظه شهاب راصد.

اطلب بعفوك في الملاح سميه

أبدا فإنك لا محالة واجد

قوله «أبدا» فيه نظر؛ لأن الأسماء مع أذواق أهل عصرها، وأهل عصره كما يبدو لم يكونوا يسمون الفتاة «وردًا» ولكن يسمون «نرجس» . ولعله لو بلغه أن بعض الناس يسمي كلبته «وردة» لاعتد هذا من ذنوب الورد ومن فضل النرجس جريًّا على طريقة الجدل التي سلكها. قوله «بعفوك» أي عفوًا وبلا تكلف.

والورد لو فتشت فرد في اسمه

ما في الملاح له سميٌّ واجد

ثم نظر إلى مذهب العرب في نسبة الأمطار إلى الأنواء، وقد نهى عنه الشرع، فادعاه على وجه الترف، وسوغ ذلك ما كان عليه أهل عصره من الولع بالطوالع والتنجيم:

هذي النجوم هي التي ربتهما

بحيا السحاب كما يربي الوالد

فتأمل الاثنين من أدناهما

شبها بوالده فذاك الماجد

ولقد اشتط بابن الرومي طلب المنطق وحججه. وما للورد والنرجس والمجد- لولا حماقة ابن الرومي وفرط انسياقه مع الجدل.

وهذا الضرب عند ابن الرومي كثير وإلى محاكاته قصد الحريري في الدينارية حيث قال في مدح الدينار على لسان سروجيه:

أكرم به أصفر راقت صفرته

جواب آفاق ترامت سقرته

مأثورة سمعته وشهرته

قد أودعت سر الغنى أسرته

وقارنت نجح المساعي خطرته

وحببت إلى الأنام غرته

كأنما من القلوب نقرته

به يصول من حوته صرته

ص: 613

وإن تفانت أو توانت عترته

يا حبذا نضاره ونضرته

وحبذا مغناته ونصرته

كم آمر به استتبت إمرته

ومترف لولاه دامت حسرته

وجيش هم هزمته كرته

وبدر تم أنزلته بدرته

ومستشيط تتلظى جمرته

أسر نجواه فلانت شرته

وكم أسير أسلمته أسرته

أنقذه حتى صفت مسرته

وحق مولى أبدعته فطرته

لولا التقى لقلت جلت قدرته

ولا يخفى أن الوصف في هذه الأرجوزة معه الخطابة ذات اللون المسرحي الذي هو من طبيعة فن المقامة. ثم يقول الحريري في ذم الدينار على لسان سروجيه أيضًا:

تبًّا له من خادع مماذق

أصفر ذي وجهين كالمنافق

يبدو بوصفين لعين الرامق

زينة معشوق ولون عاشق

وحبه عند ذوي الحقائق

يدعو إلى ارتكاب سخط الخالق

لولاه لم تقطع يمين سارق

ولا بدت مظلمةٌ من فاسق

ولا اشمأز باخل من طارق

ولا شكا الممطول مطل العائق

ولا استعيذ من حسود راشق

وشر ما فيه من الخلائق

أن ليس يغنى عنك في المضايق

إلا إذا فر فرار الآبق

واهًا لمن يقذفه من حالق

ومن إذا ناجاه نجوى الوامق

قال له قول المحب الصادق

لا رأى في وصلك لي ففارق

ومن الوصف المولد المعتمد على زخرفة اللفظ دون المعنى قول ابن الرومي في النرجس (من الكامل الأحذ المضمر):

يا نرجس الدنيا ترى أبدًا

للافتراح ودائم النحب

ذهب العيون إذا مثلن لنا

در الجفون زبرجد القضب

ص: 614

ومن تتمة صناعة الزخرف البياني تحويل الزهر والنواوير والخضرة إلى ضروب من الوشي والأحجار والمعادن الكريمة.

وقال الشريشي في شرح المقامة الحلوانية «والنرجس الذي يشبه به أهل المشرق العيون هو نباتٌ له قضبان خضر في رؤوسها أقماع يخرج منها نور ينبسط منها على الأقماع ورق أبيضن في وسط البياض دائرة قائمة من ورق صغير، هذه الصفة التي تقع في أشعارهم إذا ذكروا النرجس، وبذلك وصفه كسرى أنو شروان فقال النرجس ياقوت أصفر بين در أبيض على زمرد أخضر، أخذه بعضهم فقال:

وياقوتة صفراء في رأس درة

مركبة في قائم من زبرجد

كان بهي الدر عقد نظامها

فريد أنيق قد أطاف بعسجد

وأنشد أبو عون الكاتب في كتاب التشبيه فقال: من جيد ما قيل في النرجس ما أنشد المبرد رحمه الله تعالى:

نرجسةٌ لاحظني طرفها

تشبه دينارًا على درهم

وقال عبيد الله بن عبد الله فيه:

ترنو بأبصارها إليك كما

ترنو إذا خافت العصافير

مثل اليواقيت قد نظمن على

زمرد فوقهن كافور

كأنها والعيون ترمقها

دراهم وسطها دنانير

وقال أبو نواس:

لدى نرجس غض القطاف كأنه

إذا ما منحناه العيون عيون

مخالفة في شكلهن وصفرةٌ

مكان سواد والبياض جفون

أجاد التشبيه وكشف بذكر المخالفة قناع الشبهة وبين مواقع التشبيه غاية

ص: 615

البيان. وقال أبو عبد الملك بن فرج في كتاب الحاس والمحسوس له: وأحسن بيت أنشدنيه أبو جعفر البغدادي رحمه الله:

مداهن در بن أوراد فضة

على قيس شبرٍ أخضر كالزبرجد

وقال أبو الفرج الببغاء:

ونرجس لم يعد مبيضه الـ

كأس ولا أصفره الراحا

تخال احقاق لجين حوت

من أصفر العسجد أقداحا

كأنما يعدى المحيي به

لطفًا إلى الأرواح أرواحا

يغني عن النرجس إذ مارنا

ويخلف الورد إذا فاحا

وقال ابن المعتز:

كأن عيون النرجس الفض بيننا

مداهن در بينهن عقيق

إذا بلهن القطر خلت دموعه

بكاء عيون كحلهن خلوق (1)

وقال الشاشي:

خص (2) الصفات التي

تناولها من كتب

عيون بلا أوجه

لها حدقٌ من ذهب

وقال ابن الرومي:

يا نرجس الدنيا ترى أبدًا

للافتراج (3) ودائم النحب

ذهب العيون إذا مثلن لنا

در الجفون زبرجد القضب

وهذه الصنعة التي أثبتها أهل المشرق للنرجس هي التي يصف بها أهل المغرب البهار. قال ابن أبي عامر في جارية اسمها بهار .... إلخ» ما قاله الشريشي

(1)() الخلوق ضرب من الطيب أصفر.

(2)

() لعلها خذ بخاء معجمة فوقية بعدها ذالٌ معجمةٌ فعل الأمر من أخذ فذلك أقوم للوزن.

(3)

() هكذا بالجيم المعجمة أحسبها للافتراح بالحاء المهملة من الفرح.

ص: 616

مما يجري مجرى ما سبق، مما استشهدنا به للدلالة على اعتماد المحدثين في الوصف على زخرفة المعاني والألفاظ. ومما يجري مجرى الزخرفة اللفظية والمعنوية نحو قول المعري:

وكأن الهلال يهوى الثريا

فهما للوداع معتنقان

وسهيل كوجنة الحب في اللو

ن وقلب المحب في الخفقان

يسرع اللمح في احمرار كما تسـ

ـرع في اللمح مقلة الغضبان

ولحذق المعري يحلي نحو هذا بالأخبار والأساطير ليكون أقوى في الإمتاع وأدعى إلى الطرب، نحو قوله:

ضرجته دما سيوف الأعادي

فبكت رحمةً له الشعريان

وقد سلك ابن الرومي مذهبًا من زخرفة اللفظ والمعنى بناه على التشبيه والاستعارة المأخوذ أصلهما من صفات بشرية (ومعدن هذا الأسلوب من أبي تمام وقد سبق إلماعنا إلى أخذ أبي تمام وأبي نواس ومن كان على مذهبهما أو تأثرا به من ذي الرمة) في الأبيات العينية التي لعله أراد أن يباري بها ميمية أبي عبادة في وصف الروضة والربيع- قال:

إذا رنقت شمس الأصيل ونفضت

على الأفق الغربي ورسا مزعزعا

وودعت الدنيا لتقضي نحبها

وشول باقي عمرها فتسعسعا

ولاحظت النوار وهي مريضة

وقد وضعت خدًا إلى الأرض أضرعا

كما لاحظت عوادها عين مدنفٍ

توجع من أوصابه ما توجعا

وهذا كما ترى إيغال صرفنا الشاعر به عن منظر الشمس الغاربة إلى منظر المريض المتوجع. والعنصر العقلي المزخرف الحريص على البراعة في ذلك قد غلب الشاعر، فغفل معه عن أن موصوفه هو جمال شفق الغروب وأنه أولى به أن يتوفر

على نقل إحساس خفقة القلب به، بدلًا من أن يتابع فكرة الصفرة وشبهها

ص: 617

بالمرض والمريض فليس في ذلك ما يوحي بحقيقة انفعال الشاعر لمشاهدة جمال شفق الغروب. ولكأني -والله أعلم- بابن الرومي قد غره قول النابغة:

نظرت إليك بحاحة لم تقضها

نظر السقيم إلى وجوه العود

وتشبيه النابغة ووصفه صحيح؛ لأن في الحالتين سقما هو أصل التشابه، سقم الحاجة الغرامية الجنسية (مثلًا) وسقم الضعف التواق إلى العطف والرحمة شتان ما بين مذهب النابغة حيث ذهب، ومذهب علي بن العباس.

وبين أغضاء الفراق عليهما

كأنهما خلا صفاء تودعا

وقد ضربت في خضرة الأفق صفرة

من الشمس فاخضر اخضرارًا مشعشعا

وظلت عيون الروض تخضل بالندى

كما اغرورقت عين الشجي لتدمعا

وميمية الروض التي أحسب هذه الأبيات العينية قد قيلت في مجاراتها هي:

أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكًا

من البشر حتى كاد أن يتكلما

وقد نبه النيروز في غلس الدجى أوائل ورد ن بالأمس نوما

يفتقها برد الندى فكأنه

يبث حديثًا كان قبل مكتما

ومن شجر رد الربيع لباسه

عليه كما نشرت وشيًّا منمنما

أحل فأبدى للعيون جماله

وكان قذى للعين إذ كان محرما

ورق نسيم الجو حتى كأنه

يجيء بأنفاس الأحبة نعما

والأبيات مشهورة. ومزية البحتري على ابن الرومي أن الذي يصفه في شعره هذا هو الربيع، تعويل الشاعر على ذكر ورده ونداه ولباس خضرته الجديد ونسيمه أكبر من تعويله على ما يشبهه به من صفات البشر وصفات الوشي، إحساس البحتري بجماله وبهجته يصلنا من خلاله بيانه- ألا تراه حتى حين يزخرف بذكر الوشى المنمنم يدخل في ذلك الحركة، يقول كأنك أنت حين تنظر إلى

ص: 618

الخضرة الجديدة وألوان النوار كأنما تنشر وشيًّا منمنمًا -هذا نعت الانطباعة في مدى نظرك، فالزخرفة هنا ليست أمرًا لفظيًّا معنويًّا ذهنيًّا ولكنها ذات بيان بانفعال وإحساس وشعور- وقوله:

أحل فأبدى للعيون جماله

وكان قذًى للعين إذ كان محرما

غالبٌ عليه قصد الزخرفة وكأنما صاغه حبيب، وخاصة قوله «وكان قذى للعين إذ كان محرمًا» فهذا فيه نفس حبيب، على أن حبيبًا لو قد رام هذا المعنى لجعل من إحرام شجر الشتاء جانبًا من حسن، ولكونه قذى للعين بإحرامه، أيضًا أن يكون لها بذلك إثمدًا وذرورًا.

أليس هو القائل في نعت خراب عمورية:

سماحة غنيت منا العيون بها

عن كل حسن بدا أو منظر عجب

هذا وأحسب القارئ الكريم مما يكون قد تنبه لأخذ ابن الرومي من حبيب حيث يقول:

وقد ضربت في خضرة الأفق صفرة

من الشمس فاخضر اخضرارًا مشعشعا

ولعمري إنه على كثرة عمله ودقة غوصه في هذا البيت قد قصر عن قول حبيب:

تريا نهارًا مشمسًا قد شابه

زهر الربا فكأنما هو مقمر

وأحسب أن البحتري قد أخذ وشيه المنشر- أو قل أخذ «فكرة» وشيه المنشر، من قول حبيب يصف مطرة من مطر الشتاء المؤذن بالربيع أو شيئًا قريبًا من ذلك:

فكأنني بالروض قد أجلى لها

عن حلة من وشيه أفواف

وهذا البيت من كلمة فائية حسنة- لأبي تمام، موغلة في الروح الحضري من غير ما مفارقةٍ لقصد الإصابة وصدق البيان الذي هو مذهب الأوائل- قال يعتذر

ص: 619

لأحد أصدقائه بأن المطر منعه من زيارته- والغالب على مطر العراق أن يكون في الخريف ولاشتا كما ذكر البحتري حيث قال:

لاحت تباشير الخريف وأعرضت

قطع الغمام وشارفت أن تهطلا

ونعود إلى ما كنا فيه من حديث أبيات أبي تمام، قالك:

منع الزيارة والوصال سحائب

شم الغوارب جأبة الأكتاف

هذا الوصف الغليظ يناسب هيئة السحابات الغليظات اللاتي منعنه الزيارة:

ظلمت بني الحاج الملح وأنصفت

عرض البسيطة أيما إنصاف

والحاج الملح في المدن والمطر فيهن عناء أما أهل البادية فيه فرحون.

وأتت بمنفعة البلاد وضرها

أهل المنازل ألسن الوصاف

وعلمت ما يلقى المزور إذا همت

من ممطر ذفرٍ وطين خفاف

وعني بالممطر ما نسميه الآن معطف المطر وكان من الصوف فكان ابتلاله يجعله ذفر الرائحة، وكانوا يلبسون الأخفاف فيلصق بها الطين من المطر، وكل ذلك مما يتأذى به المزور، فجعل أبو تمام هذا مما يصح الاعتذار به في ترك الزيارة بل قد أوجب تركها في مثل تلك الحال:

فجفوتكم وعلمت في أمثالها

أن الوصول هو القطوع الحافي

للذي يسببه من الأذى لرب الدار ثم أخذ أبو تمام بسبيل استرسال خيالي يذكرنا فيه بما كان من مذهب أهل البداوة من الفرح بالمطر وانتهاز فرصة مقدمه للنجعة والظعن وما ينشأ عن ذلك من لقاءات الغرام وضروب نواه- قال:

فكأنني بالروض قد أجلى لها

عن حلةٍ من وشيه أفواف

وكأنني بالظاعنين وطية

يبكي لها الآلاف للآلاف

وكأنني بالشدقمية وسطه

خضر اللهى والوظف والأخفاف

ص: 620

الطية بكسر الطاء النية، عني نية السفر والآلاف جمع ألف كفاعل والجمع فعال بضم فتشديد وإن قلت الآلاف بوزن الأفعال فهي جمع ألف بكسر فسكون تقول إلف وإلفة وآلف وآلفة- وقد أعطانا أبو تمام صورة منظر من البادية والإبل ترتع خضرًا لهواتها وسوقها_ الوظف بضم الواو وسكون الظاء هنا ولك ضمها في غير هذا الموضع لئلا يختل الوزن جمع الوظيف وهو موضع القيد من الساق- وجانب الوصف الدقيق الصائب من هذه الأبيات لا يخفى.

والبيت الرائي الذي زعمنا أن ابن الرومي أخذ منه شعشعة اخضراره بصفرة الشمس يرجو أن يربي على إبداعه بما يصاحب الشعشعة من تداعي المعاني المؤنس بنشوة الخمر، من قصيدة فذة في بابها، جمعت إلى زخرفة ضروب المجاز والطباق والجناس واللعب اللفظي والمعنوي جودة تصوير الإحساس، ونقل الشعور بالجمال الذي انفعل به قلب الشاعر وفنه لنشاركه فيه ونستمتع بحسن بيانه عنه، قال رحمه الله:

رقت حواشي الدهر فهي تمرمر

وغدا الثرى في حليه يتكسر

نزلت مقدمة المصيف حميدةً

ويد الشتاء جديدة لا تنكر

لولا الذي غرس الشتاء بكفه

قاسي المصيف هشائما لا تثمر

كم ليله: آسى البلاد بنفسه

فيها ويومٍ وبله مثعنجر

هذه الموازنة الجدلية بين الشتاء والمصيف أيهما أفضل لم تصرف انهماكة أبي تمام في جانبها المنطقي الذهني عن لزوم جادة الوصف والإبانة عن الإحساس بالطبيعة وأثرها المباشر على النفس. ولا ريب أن ابن الرومي رام أسلوب هذه الطريقة ولكنه كما ذكرنا انصرف مع الجدل عن الوصف ونقل إحساس القلوب.

مطرٌ يذوب الصحو منه وبعده

صحوٌ يكاد من الغضارة يقطر

غيثان فالأنواء غيث ظاهرٌ

لك وجهه والصحو غيث مضمر

ص: 621

تأمل الزخرفة واللعب المعنوي ههنا، وقد استعار الظاهر والمضمر من ألفاظ النحو كما لا يخفى.

وندًى إذا ادهنت به لم الثرى

خلت السحاب أتاه وهو معذر

معذر أي جاعل له عذارًا. وكانت القيان الحسان مما يعقربن خصلات الصدغ وكانوا يسمون ذلك عقارب الأصداغ. وقد افتن أبو تمام، فجعل الربوات عليهن الخضرة بمنزلة لمم الشعور التي على الرؤوس، والندى عليهن لامع كالدهن. وهيدب السحاب الداني إلى الأرض من جوانب الربوات كأنه خصلات الأصداغ. كل هذا زخرفة استعارات ومجاز قوامه التجسيد وهو لأبي تمام طريقة (اتبع فيها غيلان كما ذكرنا من قبل). هذا و «معذر» أيضًا بضم الميم وتشديد الذال المعجمة مكسورة يحتمل معنى معتذر من قول العرب عذر بتشديد الذال وفتح العين قبلها أو كسرها بمعنى اعتذر وقد قرئ بهذه الصيغة (فعل بفتح الفاء وتشديد العين أو كسر الفاء وتشديد العين في الماضي وبفتح حرف المضارعة وكسر فاء الكلمة وعينها بمعنى (افتعل يفتعل) في سورتي يس ويونس في الحرفين -يخصمون- يهدى. وعليه يكون مراد الشاعر أن السحاب يعتذر من أنه لم يمطر وإنما أمد النبات بالندى وحده. ومثل هذا الاستعمال «أي معذر» بمعنى العذار وبمعنى الاعتذار مما يسميه البلاغيون بالاستخدام.

أربيعنا في تسع عشرة حجة

حقًّل لهنك للربيع الأزهر

هنا يؤرخ أبو تمام هذا الربيع الذي أعجبه ولا يعيبه التوكيد في عجز البيت إذ هو لا يتهيب استعمال العويص من مذاهب العربية إذا دعا إليه أرب البيان. وأرب البيان هنا يدعو إلى تأكيد مقال الشاعر أن هذا الربيع الأزهر. فأكد مقاله بمجيء اللام قبل جملة مبدوءة بإن المؤكدة وإنما تقبل اللام إذ جيء بها على لغة من يجعل همزتها هاء خالصة، ففعل ذلك، ثم أكد الربيع بلام إن التي تسمى في النحو

ص: 622

باللام المزلحفة. وهي هنا ليست مزلحفة بل مؤكدة؛ لأن لام الابتداء المؤكدة في الموضع الأول من الكلام لم تزلحف عنه، فتأمل.

وجزى الله أستاذنا الشيخ عبد الله محمد عمر البناء خيرًا فقد كان أول سماعنا هذه القصيدة الرائعة منه إذ اختارها لنا في درسه وشرح هذا الحرف الذي قدمنا ذكره أنه لغة في إن- وكأنما افتتن أبو الطيب بهذا الافتتان من أبي تمام وكان كثير النظر فيه والأخذ منه فجاء به في قوله:

لهنك أولى لائمٍ بملامة

وأحوج ممن تعذلين إلى العذل

وكان يحسن الأخذ ويبعده حين يفعل- وقال حبيب:

أربيعنا في تسع عشرة حجةً

حقًّا لهنك للربيع الأزهر

ما كانت الأيام تسلب بهجةً

لو أن حسن الروض كان يعمر

أو لا ترى الأشياء إن هي غيرت

سمجت وحسن الأرض حين تغير

هذا البيت جيد، إذ الأرض تراب وأحجار ونحو ذلك. ومهما يكن منظر ذلك في نفسه حسنًا أو مقبولًا فإن اكتساءه روضًا ونواوير وشجرًا وضروب نبات وخضرة يجعله أجمل ويكسوه الحسن الذي لا ريب فيه.

وهذا المعنى الذي جاء به أبو تمام أكمل من قول أبي عبادة:

أحل فأبدى للعيون جماله

وكان قذى للعين إذ كان محرما

فجعل أبو عبادة كسوة الخضرة حاله الطبيعية قد أحرم بسلبها، والذي جاء به أبو تمام أدق وأصوب.

يا صاحبي تقصيا نظريكما

تريا وجوه الأرض كيف تصور

تريا نهارا مشمسًا قد شابه

زهر الربا فكأنما هو مقمر

ص: 623

هذا من الأبيات العقم. والذي صنع ابن الرومي من محاولة أخذه عناء. وتقربه من إثارة القارئ أو السامع بذكره الشعشعة وما يلابسها من معنى نشوة الخمر يشبهه شيئًا ما سبق أن وقفنا عنده من قول شوقي:

قف بتلك القصور في اليم غرقى

ممسكًا بعضها من الذعر بعضا

كعذارى أخفين في الماء بضا

سابحات به وأبدين بضا

فقلنا إن فيه تزلفًا إلى القارئ بالبضاضة وما يصاحبها من إثارة. ولعمري إن العذارى إذا سبحن قل أن يتبين الناظر ما يبدو وما يختفي من بضهن، وإنما يكون تبين ذلك عند رمل الساحل وما بمجراه إذ هن غير مغمورات سابحات. ويحتمل كلام شوقي أنهن أخفين البض بسبحهن وأبدينه حين صرن إلى الساحل وشمسه أو ما بمجرى ذلك.

دنيا معاش للورى حتى إذا

حل الربيع فإنما هي منظر

معاش بالرفع أو بالجر أحب إلي والرفع جيد- أي الدنيا معترك وعمل، ثم فجأة يغلب المرء هذا الجمال، فيقف وقفة ينظر إليه. وليس المنظر بانتهاء للمعاش أو انصراف عنه، ولكنه درجة فوقه. لا يخفى أن ههنا انطباعة حسن وانفعالة قلب سجلها الشاعر أبلغ تسجيل وأوجزه.

ثم فصل بعض هذا الإيجاز من بعد:

أضحت تصوغ بطونها لظهورها

نورًا تكاد له القلوب تنور

من كل زاهرة ترقرق بالندى

فكأنها عين إليك تحدر

تبدو ويحجبها الجميم كأنها

عذراء تبدو تارة وتخفر

ص: 624

ولعل الشاعر رأى عذراء أو عذارى في ذلك المنظر فجعلهن مع نواره نوارًا.

حتى غدت وهداتها ونجادها

فئتين في حلل الربيع تبختر

مصفرة محمرة فكأنها

عصب تيمن في الوغي وتمضر

ههنا صناعة وزخرف وتمهيد للخروج من الوصف إلى مدح المعتصم وكان صاحب حرب وجند وزينة الجند وألوان عصبهم مما يقع التشبيه به الموقع الحسن في مثل مقام مدحه- ومع هذا فأبو تمام ممسك بملازمة وصفه ومتابعة البيان عن إحساسه بهذا المنظر الفذ الرائع.

من فاقع غض النبات كأنه

درر تشقق قبل ثم تزعفر

وهذه درر خيالية ليست من جواهر واقع الحياة الجوامد ذوات الأثمان.

أو ساطع في حمرة فكأنما

يدنو إليه من الهواء معصفر

فهذا يؤكد ما تقدم من جنوح حبيب إلى سبحات الخيال، وبعده عن الفتنة بزخرفة جمود الجواهر.

صبغ الذي لولا بدائع لطفه

ما عاد أصفر بعد إذ هو أخضر

وهذا مقطع الوصف. وبه رفع أبو تمام وشى الربيع عن كل ضروب الوشى التي يفتن في صنعها البشر. ومن مأثور كلام نبي الله عيسى عليه السلام أن نتأمل أزهار الرياض فإنها لا تسعى ولا تغزل ولم يكن سليمان في أبهى حلل مجده بأزهى وشيًّا منها. وما استبعد أن يكون أبو تمام قد أخذ منه إذا كان واسع التحصيل. وقد حسد على تحصيله وتبريزه وإبداعه فزعم بعضهم أنه نبطي الأصل يطعنون في نسبه وأن أباه نصراني يدعى تدوس فغيره إلى أوس، وهذا باطل قطع صاحب الأغاني ببطلانه، وما كان بمن يتهيب المطاعن. وقد كان في طيء قوم نصارى، فلو لم يكن من نسب أبا تمام إلى أصول نصرانية قاصدًا إلى الكيد والطعن، ما كان محتاجًا إلى

ص: 625

أن يضيف إلى ذلك أصولًا نبطية ولاكتفى بطائيته فلم ينزعه منها، ولا يخفى قصده إلى أن يخرجه من نسب العرب ومن أصالة الإسلام معًا. فتأمل ولله در أبي الطيب إذ يقول:

سوى وجع الحساد داو فإنه

إذا حل في قلب فليس يحول

وأبو الطيب من أوصف الشعراء للطبيعة وقد أفردنا لذلك رسالة بعنوان «الطبيعة عند المتنبي» بمناسبة مهرجانه الذي أقيم ببغداد سنة 1977 م (نوفمبر- تشرين الثاني)(1) فأغنى ذلك عن إعادة أكثره ههنا. ونونيته التي أولها:

مغاني الشعب طيبًا في المغاني

بمنزلة الربيع من الزمان

من الفرائد. وفيها يقول:

ملاعب جنة لو سار فيها

سليمان لسار بترجمان

ولكن الفتى العربي فيها

غريب الوجه واليد واللسان

طبت فرساننا والخيل حتى

خشيت وإن كرمن من الحران

غدونا تنفض الأغصان فيها

على أعرافها مثل الجمان

فقمن بما يرد الشمس عني

وجئن من الضياء بما كفاني

وألقى الشرق منها في ثيابي

دنانيرا تفر من البنان

لها ثمر تشير إليك منها

بأشربة وقفن بلا أواني

وأموله يصل بها حصاها

صليل الحلي في أيدي الغواني

إذا غني الحمام الورق فيها

أجابته أغاني القيان

ومن بالشعب أحوج من حمام

إذا غنى وناح إلى البيان

وقد يتشابه الوصفان جدًّا

وموصوفاهما متباعدان

ولو كانت دمشق ثنى عناني

لبيق الثرد صيني الجفان

(1)() رقم الإيداع بالمكتبة الوطنية ببغداد هو 939.

ص: 626