المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

Poem (وأجود أن يقال المنظومة) والشعر Poetry وأنا المتناهية وأنا - المرشد إلى فهم أشعار العرب - جـ ٤

[عبد الله الطيب المجذوب]

الفصل: Poem (وأجود أن يقال المنظومة) والشعر Poetry وأنا المتناهية وأنا

Poem (وأجود أن يقال المنظومة) والشعر Poetry وأنا المتناهية وأنا اللامتناهية وما أشبه مما ينبغي أن يرد إلى أصوله. وعندنا أن قول المسيح عليه السلام في الرواية التي رواها إنجيل يوحنا ينبغي أن نؤوله نحن على معنى قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [سورة الأعراف] وهذا باب أخر ولكل مقام مقال وقبل أن ننهي حديثنا في مجال هذا الفصل ننبه في الاحتجاج لما قدمناه من أن أصول كلام كلردج يمكن ردها إلى مقالات المسلمين من أجل سعة اطلاعه وإلى إشارته إلى ابن رشد في السطر الخامس من ص 35 من الجزء الأول من ترجمته الأدبية وجاء في الهامش في تعليق له هو على هذه الإشارة «وإذا أردنا أن نجعل المعنى الذي أراده العلامة المسلم Sacren عبارةً عصريةً» أو كما قال:

So to modernize the learned sacaren's meaning واصل كلمة Saracen كانت تطلق على المسلمين أيام القرون الوسطى الأوروبية وزعم قاموس أكسفورد أن أصل استعمالها روماني ويوناني. والله تعالى أعلم.

‌الأغراض:

اعلم أصلحنا الله وإياك أن أغراض الشعر أكثر من أن تحذ وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز يذكر الشعراء {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} فهذا مداه أكثر من أن يحد كما ترى.

وفي الشعر الكاذب والصادق وفي الشعراء الكاذب والصادق. وقد نعلم خبر لبيد قبل إسلامه إذ كان ينشد قوله:

ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل

وكل نعيمٍ لا محالة زائل

ص: 355

وكان ذلك أيام أوائل دعوة الإسلام بمكة فذكروا ان عثمان بن مظعون رضي الله عنه قال له: صدقت عند صدر البيت. وقال له كذبت عند عجز البيت، وذلك أن نعيم الجنة لا يزول. وقد يجيء الشاعر بالعبارة الصادقة، أو الكاذبة ولا يكون هو بالضرورة من حيث جانبه الخلقي صادقًا أو كاذبًا. فلبيد جاء بعبارة كذب من حيث تعميمه الزوال على كل نعيم، واعتقاده صحة ما قاله يدل على أنه لم يكن في نفسه كاذبًا ولذلك عظم إنكاره ما جبهه به الصحابي الجليل. ويجوز أن تجيء العبارة الصادقة من غير صادق بها. وقد أدخل المعري الحطيئة في جنة غفرانه بقوله:

أبت شفتاي اليوم ألا تكلما

بهجرٍ فما أدري لمن أنا قائله

أرى لي وجهًا شوه الله خلقه

فقبح من وجه وقبح حامله

ولم يدخله بقوله:

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه

لا يذهب العرف بين الله والناس

لأنه، كما زعم، سبقه إلى معناه الصالحون ونظمه هو ولم يعمل به. تفصح به تفصحًا من غير إخلاص.

قال تعالى جل من قائل [البقرة]: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} .

وزعم ابن رشيق في أوائل العمدة أن من فضائل الشعر أن الكذب الذي اجتمع الناس على قبحه حسن فيه واحتج بقول كعب للنبي صلى الله عليه وسلم:

مهلًا هداك الذي أعطاك نافلة الـ

ـقرآن فيها مواعيظ وتفصيل

لا تأخذني بأقوال الوشاة فلم

أذنب وقد كثرت في الأقاويل

ص: 356

قال (ص 24 ح 1 من العمدة)«فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم قوله، وما كان ليوعده على باطل» أ. هـ.

ويروى كما تعلم- مقالهم: «وأعذب الشعر أكذبه» ويقابله بيت زهير أو حسان:

وإن أحسن بيتٍ أنت قائله

بيتٌ يقال إذا أنشدته صدقًا

واضطرب النقاد في أمر الصدق والكذب.

ومن الفلاسفة، قد تعلم أن أفلاطن تنقص الشعر والشعراء لبعده وبعدهم عن الحقيقة، وانتصر أرسطو طاليس للشعراء أصحاب الملاحم وقصص المأساة المسرحية وزعم أن ما يصنعه خيالهم فزعم أنه وقع ربما يكون أدنى إلى الحقيقة المحضة مما يكون قد وقع فعلًا من أحداث التاريخ من حيث مجرد احتمال وقوعه. (راجع كتاب دافيد ديتشز في حديثه عن أفلاطن وأرسطو من ص 6 إلى ص 31 النص الإنجليزي طبع لنغمان وكتاب فن الشعر ترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي، الفصل 9 ص 26). وتناول عدد من نقادنا المحدثين أطرافًا من هذه القضية وننبه ههنا على الفصل الذي جعله الدكتور محمد غنيمي هلال، رحمه الله، عن التجربة الشعرية في ص 38 من كتابه «النقد الأدبي الحديث» (دار النهضة، مصر، الطبعة الرابعة 1969 م). ولا سيما حيث يقول (ص 386 في السطر 9): «ويجب التفريق بين شطري شخصية الشاعر، الشعري والعملي، فالشطر الأول مثالي، يحكي فيه ذات نفسه كما هي، ويصف مثله وأهدافه وآماله وآلامه، والثاني عملي يتقيد فيه بقيود الحياة كما هي من حوله، وليس معنى مثالية الجانب الأول أنه بعيد من الصدق بل هو أصدق وأسمى وأقرب إلى الدلالة على روح الشاعر من الجانب العملي» أ. هـ.

قلت وكأن هذا الجزء الأخير من كلمته ينظر فيه إلى نظرية الاحتمال

ص: 357

الأرسطية ويذكر عن الناقد المجهول لنغينس Longinus أنه قال إنه لا شيء يرتفع بقدر الكلام إلى منازل الشرف كالعاطفة الصادقة حين توضع في موضعها، فإنها عندئذ تلهم الكلمات وتقذف فيها عاصفة من شدة الحماسة وتفعمها بسورة من الهياج المقدس.

فقد احترس بعدة أمور كما ترى، بالعاطفة وصدق العاطفة وبوضعها موضعًا صحيحًا. وما يكاد ناقد يجد مدخلًا إلى تبيين ما يستطيع به الشعر أن يكون صادرًا من القلب حتى يدخل إلى القلب، إلا كان مدخله نفسه كالمخرج له مما دخل فيه كهذا الذي تقدم من احتراس لنغينس لصدق العاطفة، وكالثنائية التي ذكرها الدكتور غنيمي هلال وكالحقيقة الاحتمالية التي زعمها أرسطو طاليس.

وقد فطن قدامة إلى أمر الصدق ولكنه آثر أن يتنكب جعله من الأسس التي يبنى عليها مقاله في الجودة. من ذلك دفعه أن يكون التناقض في كلام الشاعر -بأن يقول شيئًا في كلمة وينقضه في كلمة أخرى- عيبًا وضرب لهذا مثلًا قول امرئ القيس:

ولو إنما أسعى لأدنى معيشةٍ

كفاني ولم أطلب قليل من المال

ولكنما أسعى لمجد مؤثل

وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي

فزعم ههنا أنه لا يسعى لأدنى معيشة ولكن سعيه إلى المجد. ثم قال في كلمة أخرى:

إذا ما لم تكن إبل فمعزى

كأن قرون جلتها العصي

فتملأ بيتنا أقطًا وسمنا

وحسبك من غنًى شبعٌ وري

فزعم ههنا أن المعزى والأقط والسمن والشبع والري، ذلك حسبه، وهو أدنى معيشة- فقد ناقض نفسه كما ترى.

ص: 358

وانتصر قدامه لامرئ القيس من جهتين، أولهما إنه لم يناقض نفسه حقًّا وثانيهما أنه لو فعل فإن ذلك ليس بعيب؛ لأنه جاء بالقولين في كلمتين له، لا في كلمة واحدة. فكأن قدامة ينكر التناقض في الكلمة الواحدة، لفساده في المنطق ولاشتماله على عنصر من الكذب. ثم مع هذا يشتم تجويزه الكذب لتجويزه التناقض في كلمتين فأكثر.

وقد نسب ابن رشيف كعبًا إلى الكذب في قوله «ولم أذنب» أو «فلم أذنب وقد كثرت في الأقاويل» بحجة أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ليوعده على باطل. وما أخاله قد خفي على ابن رشيق أن كعبًا في لاميته هذه ينطق عن لسان التوبة. وإن هذا الإنكار تبرؤ، ومذهبٌ من طريقة الشعراء صار لهم في إعلان التبرؤ عرفًا- وعليه قول النابغة:

ما قلت من سيءٍ مما أتيت به

إذن فلا رفعت سوطي إلي يدي

والدليل على أن قول كعب ما كان إلا إعلانًا للتبرؤ قوله من بعد:

وقد أقوم مقامًا لو يقوم به

أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل

لظل يرعد إلا أن يكون له

من الرسول بإذن الله تنويل

فهذا هو مقام التوبة والبراءة الذي أقدم عليه وهو يعلم أنه القتل إن لم تقبل توبته.

ومن الدليل أيضًا قوله:

وقد أتيت رسول الله معتذرًا

والعذر عند رسول الله مقبول

وصدق الإخلاص هو الذي ضمن له النجاة وأن يقبل عذره.

وبين الإخلاص والصدق تلاق، وهو أن الإخلاص منبعث من أعماق النفس ومن أغوار القلب، وبينهما بع افتراق، وهو أن الصدق مطابق للحقيقة المجردة،

ص: 359

والإخلاص إنما يروم ذلك، الإخلاص انبعاث عن اعتقاد، والصدق حكم على الأمر أهو كذا أم ليس كذا. واستعمال اللغة قد يضع الصدق موضع الإخلاص أو معه، وقد يشرب هذا من معنى هذا.

هذا ومن المعاني الملابسة لأغراض الشعر حتى لقد توشك أن تكون جزءًا منها ما يصاحبه من قصد الترنم والغناء. وقد مر الحديث عن أمر الوزن والإيقاع والجرس والموسيقا. ونخص في هذا الموضع أن يكون الترنم والإيقاع الشعري مرادًا به الإمتاع واللذة.

عند الفلاسفة، على رأسهم أرسطو، إن الشعر يراد به اللذة؛ لأنه محاكاة ولأنه وسيلة للتعلم. والراجح أن مراد أرسطو بالمحاكاة طريقة شعراء اليونان في القصص والمسرح فأمر المحاكاة في هذين البابين واضح.

وليس كذلك الأمر في أشعار العربية وراجع التمهيد الذي مهدنا به في أول هذا الجزء. على أن الشاعر العربي ربما عمد إلى أن يفرح سامعه إفراحًا، كقول تأبط شرا:

وإني لمهدٍ من ثنائي فقاصدٌ

به لابن عم الصدق شمس بن مالك

اهز به في ندوة الحي عطفه

كما هز عطفي بالهجان الأوارك

وكقول ربيعة بن مقروم في داليته «بانت سعاد فأمسى القلب معمودًا» من المفضليات:

هذا ثنائي بما أوليت من حسن

لا زلت عوض قرير العين محسودًا

فالقصد إلى المسرة هنا متضمن. وكقول المسيب بن علس:

فلأهدين مع الرياح قصيدةً

مني مغلغلةٍ إلى القعقاع

ترد المياه فلا تزال غريبةً

في القوم بين تمثل وسماع

ص: 360

وليس الإفراح ضربة لازمٍ بالثناء. فالفخر قد يقع به الإفراح، وذلك بأن ينقل المفتخر فرح نفسه إليك، فتفرح لترنمه.

ومن أمثلة الشعر الصادر عن نشوة وفرح من نفس الشاعر والسامع معنيٌّ بالمشاركة فيه، ميمية لبيد:

عفت الديار محلها فمقامها

بمنى تأيد غولها فرجامها

وقد تحدثنا عنها في باب الكامل من البحور. ولا تحتاج إلى كبير تأمل لتحس ما يغمرها من نشوة فرح بالإيقاع وبالتعبير منبعثة من الشاعر إلى نفسه ومنه إليك أيها السامع وأحسب أنه من أجل هذا ما سجد الفرزدق عند قوله:

وجلا السيول عن الطلوع كأنها

زبر تجد متونها أقلامها

وزعم أنه يعرف سجدة الشعر

وعينية الحادرة:

رحلت سمية بكرةً فتمتع

وغدت غدو مفارق لم يربع

وعينية سويد:

بسطت رابعة الحبل لنا

فوصلنا الحبل منها ما اتسع

مع ما فيها من روح أسى بحر الرمل فيها تلذذ من الشاعر بينه وبين نفسه وبينه وبينك أيضًا. وكأن نغمة الأسى الملابس لرثاء النفس فيها يسخر سخرية ما من فخرها، وقد نبهنا من قبل على نوع من هذا المعنى عند حديثنا عن هذه العينية في الجزء الثالث واستشهادنا بقوله في خاتمة أبياتها:

هل سويدٌ غير ليث خادرٍ

ثئدت أرضٌ عليه فانتجع

وقافية تأبط شرا، مع ما خالطها من بعض الحكمة والتأمل، منزعها الأول

ص: 361

إلى الإمتاع بالترنم ومع إمتاع الترنم أيضًا إمتاعٌ بشيء من باب خطابة تكاذيب الأعراب كقوله يصف سرعة جريه:

كأنما حثحثوا حصًّا قوادمه

أو أم خشفٍ بذي شث وطباق

لا شيء أسرع مني ليس ذا عذرٍ

وذا جناح يجنب الريد خفاقٍ

وقد زعم تأبط شرا لنفسه قتل السعلاة ونكاح الغيلان وله في الحماسة أبيات رائية يروي فيها أنه قد أحاط به عصبة من اعدائه الهذليين وكان جنى عسلًا في وعاءٍ له فخادعهم بأنه سيسلم نفسه إليهم ولكن يضن عليهم بعسله، فلن يمكنهم من عسله ونفسه معًا وبينما يجاذبهن هذا الأخذ والرد أراق العسل وإنما فعل ذلك ليسهل له الانزلاق على الصخرة الملساء الرهيبة الانحدار فينجو بذلك ولن يجسر أحد من أعدائه على أن يتبع سبيله في مثل هذه المجازفة:

أقول للحيان وقد صفرت لهم

وطابي ويومي ضيق الجحر معور

هما خطتا إما أسارٍ ومنةٍ

وإما دمٍ والقتل بالحر أجدر

وأخرى أصادي النفس عنها وإنها

لمورد حزم إن فعلت ومصدر

فرشت لها صدري فزل عن الحصي

به جؤجؤ عبلٌ ومتن مخصر

فخالط سهل الأرض لم يكدح الصفا

به كدحةً والموت خزيان ينظر

فأبت إلى فهمٍ وما كدت آئبا

وكم مثلها فارقتها وهي تصفر

والحكمة مذهبها أغلب على الشنفري، إلا أن له في لامية العرب المنسوبة إليه أشياء تجري مجرى تكاذيب الأعراب، كصفته الغارة التي أغارها حيث قال:

وليلة نحس يصطلي القوس ربها

وأقطعه اللاتي بها يتنبل

دعست على غطشٍ وبغشٍ وصحبتي

سعارٌ وارزيزٌ ووجر وأفكل

فأيمت نسوانًا ويتمت إلدةً

وعدت كما بدأت والليل اليل

ص: 362

وأصبح عني بالغميصاء جالسًا

فريقان مسئول وآخر يسأل

فقالوا لقد هرت بليلٍ كلابنا

فقلنا أذئبٌ عس أم عس فرعل

فلم تك إلا نبأةٌ ثم هومت

فقلنا قطاةٌ ريع أم ريع أجدل

فإن يك من جنٍّ لأبرح طارقًا

وإن يك إنسًا ماكها الأنس تفعل

وكصفته مبادرته ومسابقته القطا حيث قال:

وتشرب آساري القطا الكدر بعدما

سرت قربًا احشاؤها تتصلصل

هممت وهمت وابتدرنا وأسدلت

وشمر مني فارطٌ متمهل

فوليت عنها وهي تكبو لعقره

يباشره منها ذقون وحوصل

كأن وغاها حجرتيه وحوله

أضاميم من سفر القبائل نزل

وكصفته صحبته الذئاب ومنها:

فضج وضجت بالبراح كأنها

وإياه نوح فوق علياء ثكل

وأغضى وأغضت واتسى واتست به

مراميل عزاها وعزته مرمل

شكا وشكت ثم ارعوى بعد وارعوت

وللصبر إن لم ينفع الشكو أجمل

وكأن المعري في رسالة الغفران يصحح رواية هذا البيت للشنفري (1) وقد شك الأولون في هذه اللامية. وأبيات الفريقين المسئول والسائل كأنها مصنوعة لأن روعة القطاة والأجدل لا يناسب ما تقدم وذكر الذئب والفرعل أيضًا وكأن فيه صناعة من أهل اللغة، ومن أجل ذلك ما نسب الانتحال في هذه اللامية إلى خلف ولعل جملة الأبيات صحيحة وفي النفس شيء من بيت الجن، وربما كان سببًا ليصنع البيتان قبله، والكذب في أبيات القطاة صراح ولعل هذا مما يدنو بها إلى الصحة لما فيها من الفكاهة، ولكنها لا تشبه مذهب الشنفري الذي في التائية ولا في أبيات

(1)() رسالة الغفران، 358 - عوى وغوت أو عوى وعوت هكذا روايته هناك وكأن شكا أصوب.

ص: 363

اللامية التي ربما كانت هي الأصل الخالص لها ونسج على منوالها سائر الأبيات بعد، وذلك ما جاء في أولها:

أقيموا بني أمي صور مطيكم

فإني إلى قوم سواكم لأميل

فقد حمت الحاجات والليل مقمر

وشدت لطياتٍ مطايا وأرحل

وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى

وفيها لمن خاف القلى متعزل

ولي دونكم أهلون سيدٌ عملس

وأرقط زهلول وعرفاء جيأل

هم الأهل لا مستودع السر ذائع

لديهم ولا الجاني بما جر يخذل

وكل أبيٌّ باسلٌ غير أنني

إذا عرضت أولى الطرائد أبسل

وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن

بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل

فالروح التي في التائية أنفاسها ههنا وكذلك البيت الذي أجازه المعري. وعجب ليال من شك القدماء في هذه اللامية وعنده إنها تضمنت أجود الوصف للغازي المنفرد كما التائية تضمنت أجود الوصف للفتاة العربية. وعندنا أن شك القدماء في أيما بيت أو قصيدة ينبغي أن يحمل محمل الجد لقرب العهد منهم بأساليب الجوالة وفراستهم في المصنوع والمطبوع بأكثر مما نقوى نحن عليه الآن.

تأمل قول المعري في رسالة الغفران في حديثه مع تأبط شرا: «فيقول أسنى الله حظه من المغفرة تأبط شرا، أحق ما روي عنك من نكاح الغيلان فيقول لقد كنا في الجاهلية نتقول ونتخرص، فما جاءك عنا مما ينكره المعقول، فإنه من الأكاذيب، والزمن كله على سجية واحدة، فالذي شاهده معد بن عدنان كالذي شاهد نضاضة ولد آدم- والنضاضة آخر ولد الرجل. فيقول أجزل الله عطاءه من الغفران نقلت إلينا أبيات تنسب إليك:

أنا الذي نكح الغيلان في بلد

ما طل فيه سماكي ولا جادا

في حيث لا يعمت الغادي عمايته

ولا الظليم به يبغي تهبادا

ص: 364

وقد لهوت بمصقولٍ عوارضها

بكرٍ تنازعني كأسًا وعنقادا

ثم انقضى عصرها عني وأعقبه

عصر المشيب فقل في صالح بادا

فاستدللت على أنها لك لما قلت تهبادا مصدر تهبد الظليم إذا أكل الهبيد فقلت هذا مثل قوله في القافية:

طيف ابنة الحر إذ كنا نواصلها

ثم اجتننت بها بعد التفراق

مصدر تفرقوا تفراقًا وهذا مطرد في تفعل وإن كان قليلًا كما في قول أبي زبيد:

فثار الثائرون فزاد منهم

تقرابًا وصادفه ضبيس

فلا يجيبه تأبط شرا بطائل» أ. هـ.

قلت وقد أجاب تأبط شرا بطائل من أمر الجن وتكاذيب الأعراب، فسكوته ههنا منبئٌ عن توقف المعري وشكه وفي نفسه شيء من مصدر التفعال بكسر التاء والفاء وتشديد العين أن يكون على اطراده في اللغة مما يحسن في الشعر مجيئه، والمعري من المائة الرابعة، ويعد بالنسبة إلى جيل العلماء الذين لقوا أهل الفصاحة متأخرًا الزمان جدًّا، فكيف بنا في هذا الزمان؟

وزعم الدكتور محمد بديع شريف في طبعته للامية العرب (بيروت- 1964 م) في مقدمته إننا لا نعرف خبرًا عن انتحال هذه اللامية إلا ما رواه أبو علي القالي في الأمالي عن أبي بكر بن دريد وفرع من ذلك أن الرواية ضعيفة بقول يسنده إلى بروكلمان، والذي لا ريب فيه أن القالي أخذ عن ابن دريد وعليه تتلمذ ومنه أخذ أهل الأندلس ما أخذوا فلم ينسبوه إلى كذب عن شيخه أو في تلمذته، وأبو بكر محمد بن الحسن بن دريد، أخو دوس كما كناه أبو العلاء في الغفران، كان تلميذ أخي ثمالة محمد بن يزيد المبرد، وهذا خاتمة مدرسة البصرة، وللمستشرقين أحيانًا كثيرة فرط ثقة بأنفسهم وإقدام ليس من حقيقة العلم على شيء، كالترتيب

ص: 365

الذي جسر عليه ريدهوس J.W.Redhouce وهو ملحق بطبعة بيروت المشار إليها، وآخر القصيدة بلا شك هو الذي عليه رواية الأشياخ، حيث شبه الشاعر نفسه بفحل الوعال الأعصم:

ترود الأراوي الصحم حولي كأنها

عذارى عليهن الملاء المذيل

هذا كلام امرئ القيس:

ويركدن بالآصال حولي كأنني

من العصم أدفى ينتحى الكيح أعقل

ومما ينبه عليه مما يكثر وقوعه مضبوطًا ضبطًا ليس بصواب في طبعات لامية العرب المختلفة كلمة أفكل بمعنى الرعدة فوزنها وضبطها «كأحمد» العلم سكون الفاء وفتح الكاف والجمع أفأكل وليست الكاف مضمومة.

هذا ومما يلفت النظر إليه، إذ قد جرى ذكر تأبط شرا وقرينه الشنفري أن عند بعض النقاد المعاصرين وطلاب الأدب والمشتغلين به، بعض الميل إلى تقديم تأبط شرا والشنفري ومن عسى أن يكون من صعاليك العرب بحجة لا تخلو من اشتمال على لونٍ سياسي معاصرٍ هما ومن أشبههما منه براء، إذ تقديمهما صادر عن توهمٍ لأن أكثر ما جاءنا من شعر القدماء قالته طبقةٌ أرستقراطيةٌ ظالمة، ومن عجب الأمر أن أكثر من يميل نحو هذا الميل عنده أن أكثر الشعر الجاهلي أو هو كله منتحل إلا شعر الصعاليك، مع أن الذي لا ريب فيه أن كلتا اللاميتين، لامية الثأر «إن بالشعب الذي دون سلع» وقد سبق الحديث عنها في الجزء الأول ولامية العرب، قد تكلم في صحة نسبتهما العلماء.

الطبقية امرٌ لا ينفك عن البشر بحال، أكثر المجتمعات حرصًا على المساواة فيها العلية من الرؤساء كما فيها من هو دونهم. وقديمًا قال الأفوه الأودي:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم

ولا سراة إذا جهالهم سادوا

ص: 366

ثم لا تكون الطبقية في المجتمعات البشرية على حالٍ واحدة، ولكن تختلف مع اختلاف أنواع العرف والتقاليد الموزونة والعادات. الهنود مثلًا لهم نظام من الطبقات كأنه ثابت أعلاه البراهمة وأسفلها المنبوذون. ونسأل بعد لماذا يرى القائلون بوجود «الطبقية» في المجتمع الجاهلي أنها كانت على ضرب مشابه لما كانت عليه الطبقات في أوروبا؟ لماذا لا يقولون بأنها كانت كطبقات الهنود؟ وقد نجد للهنود ذكرًا في شعر العرب الأقدمين- قال التغلبي:

لكيز لها البحران والسيف كله

وإن يأتها بأسٌ من الهند كارب

تطاير عن إعجاز حوشٍ كأنها

جهامٌ أراق ماءه فهو آئب

لكن عصرنا هذا عصر الدولة الأوروبية والغلبة الفرنجية الصقلية. لذلك النظر إلى أوروبا يمتد والتشبيه بأحوالها يحب لأن المغلوب كلف بمحاكاة الغالب. عندي إذ لا يستقيم حمل نظام الطبقات الهندوسية حملًا على المجتمع العربي الجاهلي حتى نحلله على طريقة نظامها وتكوينها، كذلك لا يستقيم حمل نظام طبقات المجتمع الأوروبي على المجتمع العربي الجاهلي فنحلل هذا على طريقة تكوين ذلك ونظامه، فكلاهما مجتمع مختلف. علينا أن نتقبل أوضاع المجتمع الجاهلي كما وصفها الجاهليون أنفسهم. لقد كان سادتهم وصعاليكهم لا يتمايزون في كثير من مادة العيش. الصعلوك قد يعنى به الفقير، أو الذي يضرب في الأرض يلتمس الرزق بالغارة والبسالة. قال أبو النشناش من شعراء الحماسة:

ومن يسأل الصعلوك أين مذاهبه

وكان عروة بن الورد من سادة عبس وكان يصحب الصعاليك ويغير بهم وقد ذكرنا من خبره في هذا الباب. وكان فيما وصف به الصعاليك قوله:

لحي الله صعلوكًا إذا جن ليله

مصافي المشاش آلفًا كل مجزر

يعين نساء الحي ما يستعنه

ويمسي طليحًا كالبعير المحسر

ص: 367

فهذا ضرب ممن عده عروة من شرار أمثلة الصعلكة والضرب الآخر في قوله:

ولكن صعلوكًا صفيحة وجهه

كضوء شهاب القابس المتنور

مطلًّا على أعدائه يزجرونه

بساحتهم زجر المنيح المشهر

فذلك أن يلق المنية يلقها

حميدًا وأن يستغن يومًا فأجدر

وكان امرؤ القيس صعلوكًا أيام أطرده أبوه وأتاه نعيه وهو يلعب النرد بدمون وقال طرفة:

وما زال تشرابي الخمور ولذتي

وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي

إلى أن تحامتني العشيرة كلها

وأفردت إفراد البعير المعبد

رأيت بني غبراء لا ينكرونني

ولا أهل هذاك الطراف الممدد

فسروا بني غبراء بأنهم الصعاليك. وطرفة ههنا من الخلعاء كما ترى. وهو من أبناء القبائل مع ذلك ومن شعراء المعلقات ولم يكن من طبقة حقيرة مع هذا الذي ذكره من صعلكته، واعتزاه بنفسه وأصله جسره على هجاء ملوك الحيرة فقتلوه وإلى هذا أشار الفرزدق بقوله:

وأخو بني قيسٍ وهن قتلنه

ومهلهل الشعراء ذاك الأول

هن يعني القوافي. وقال الأخنس بن شهاب:

وقد عشت دهرًا والغواة صحابتي

أولئك خلصاني الذين أصاحب

رفيقًا لمن اعيا وقلد حبله

وحاذر جراء الصديق الأقارب

فأديت عني ما استعرت من الصبا

وللمال عندي الآن راعٍ وكاسب

فالصعلكة التي يصف بها الأخنس نفسه ههنا فيها مشابه من صعلكة الشنفري في قوله:

ص: 368

طريد جنايات تياسرن لحمه

عقيرته لأيها حم أول

وهي عند الأخنس حالٌ، كانت من أحوال طيش الصبا، لا طبقة من طبقيات المجتمع. ومن المستشرقين من خيل إليه أن لونًا عنصريًّا كان وراء الصعلكة. فجعل سليك من الصعاليك وهو يذكر في العدائين وكان له مع ذلك فرسٌ اسمه النحام وحفظ لنا الشعر رثاءه له وموضع موته بقرماء. وخيل إلى بعضهم أن الشنفري كانت أمه زنجية لما جاء في شرح لفظ الشنفري أنه العظيم الشفتين (انظر أعجب العجب للزمخشري) ورب غير زنجي تعظم شفته فلا يجعله ذلك زنجيًّا والذي في شرح المفضليات وفي أعجب العجب أنه من الأزد أمًا وأبًا وجاورت به أمه في فهم، وحسب الغرناطي صاحب المقصورة أنها فهمية من أجل ذلك فجعل تأبط شرا له بمنزلة الخال. وتأبط شرا وهو عند المعاصرين مثل في طبقة الصعلكة كان من قبيله فهم وبينها وبين هذيل عداوة ومر بك خبره مع قيس بن العيزارة. هذا ومما يقوى ما ذكرناه من أن سادة العرب وصعاليكهم كانوا لا يتمايزون في مادة العيش قول الشنفري:

ولولا اجتناب الذام لم يلف مشرب

يعاش به إلا لدي ومأكل

وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن

بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل

وقوله:

وما ذاك إلا بسطة عن تفضل

عليهم وكان الأفضل المتفضل

فهذا من أدب النفس عند العرب، مطلوبًا أن يتحلى به الفرد، يزينه بفضيلته وليس من أدب طبقة عالية بعينها ولعله عند غير العرب ألا يكون إلا من باب أدب العلية من القوم فتامل.

ص: 369