الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلمة موجزة في تاريخ علوم البلاغة:
لم يصنف العلماء في هذه الفنون الثلاثة -المعاني، والبيان، والبديع- إلا بعد الفراغ من تدوين علوم اللسان: النحو، والصرف، واللغة.
ويمكن القول بأن أول كتاب دون في هذه العلوم كان في علم البيان، وهو كتاب "مجاز القرآن" لأبي عبيدة المتوفى سنة 206هـ وضعه على إثر سؤال وجه إليه في مجلس الفضل بن الربيع1 عن معنى قوله تعالى في شجرة الزقوم:{طَلْعُهَا 2 كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ} وكيف شبه الطلع برءوس الشياطين وهي لم تعرف بعد؟ أي: وينبغي التشبيه بشيء معروف حتى يتبين المشبه ويتضح، فأجاب أبو عبيدة بأنه على حد قول الشاعر:
أيقتلني والمشرفي3 مضاجعي
…
ومسنونة زرق4 كأنياب أغوال؟
يريد: أن المشبه به هنا غير معروف كذلك، وأن الغرض من التشبيه عرض المشبه في صورة مستفظعة مخوفة، والعرب تشبه قبيح الصورة بالشيطان أو الغول، فيقولون: كأنه وجه الشيطان، أو كأنه رأس الغول، وإن لم يروهما لاعتقادهم أنهما شر محض، لا يخالطهما خير، فيرتسم في خيالهم بأقبح صورة.
ثم قام أبو عبيدة من فوره، وتقصى ما ورد في القرآن من الألفاظ التي أريد بها غير معناها الأول في اللغة، وجمعها في هذا الكتاب، وسماه "مجاز القرآن".
وأبو عبيدة هذا هو معمر بن المثنى اللغوي البصري، تلميذ يونس بن حبيب
1 أحد وزراء المأمون.
2 الطلع هنا يراد به الحمل، وأصله: طلع النخل، سمي به حمل هذه الشجرة.
3 وصف للسيف منسوب إلى مشارف الشام، وهي قرى كانت تجيد صناعة السيوف.
4 المراد بها أسنة الرماح.
شيخ سيبويه، إمام النحاة، وأستاذ أمير المؤمنين هارون الرشيد. ثم تبعه العلماء من بعده، فوضعوا رسائل في الاستعارة والكناية لم تميز علم البيان تميزًا خاصًّا، وبقيت الحال كذلك مدة العصر العباسي الأول.
أما علم المعاني: فلم يعلم بالضبط أول من تكلم فيه، وإنما أثر عن بعض فحول الكتاب والخطباء كجعفر بن يحيى1 وسهل بن هارون2 وغيرهما كلام في هذا النوع من البلاغة، ولكنه لم يطبع هذا العلم بطابع خاص يتميز به عن سواه.
وأول من أسهم لهذا العلم من عنايته، وخصَّه بمستفيض بحثه، ودوّن فيه ونظم عمرو بن بحر الجاحظ3 في كتابيه: البيان والتبيين، وإعجاز القرآن، وغيرهما، وتقفاه العلماء من بعده كأبي عباس المبرد4 صاحب الكامل وقدامة بن جعفر الكاتب5، ووقف الأمر عند هذا الحد مدة هذا العصر.
أما علم البديع: فإن أول من كتب فيه كتابًا خاصًّا -على ما قيل- عبد الله بن المعتز الخليفة العباسي المتوفى سنة 296هـ. وكان الشعراء من قبله يأتون في أشعارهم بضروب من البديع؛ كبشار بن برد6 ومسلم بن الوليد7 وأبي تمام8 وغيرهم، فجاء ابن المعتز وجمع من أنواعه سبعة عشر نوعًا، وكان ممن يعاصره
1 أحد وزراء هارون الرشيد.
2 فارسي الأصل اتصل بالمأمون فولاه خزانة الحكمة، وكان أديبًا شاعرًا حكيمًا، يتعصب للعجم على العرب.
3 هو إمام الأدب أبو عثمان عمرو بن بحر البصري، صاحب التصانيف الممتعة والرسائل المبدعة.
4 هو أبو العباس محمد بن يزيد النحوي.
5 كان نصرانيًّا، أسلم واشتهر في زمانه بالبلاغة ونقد الشعر، ألف في ذلك كتبًا.
6 هو أبو معاذ أشعر مخضرمي الدولتين: الأموية والعباسية، كان مع هذا كفيفًا.
7 هو صريع الغواني أبو الوليد، أحد الشعراء المسلمين في الدولة العباسية.
8 هو حبيب بن أوس الطائي، عربي الأصل، أحد الشعراء الأعلام.
قدامة بن جعفر سالف الذكر، فجمع منه عشرين نوعًا اتفق مع ابن المعتز على سبعة منها، وسلم له ثلاثة عشر تضاف إلى السبعة عشر التي جمعها ابن المعتز، فيكون جملة ما جمعاه ثلاثين نوعًا، هي أقصى ما جمع في ذلك العصر.
وجاء العصر التالي، فزاد كل من أبي هلال العسكري1 صاحب الصناعتين وابن رشيق2 صاحب العمدة أنواعًا كثيرة، لم تخرج في جملتها عما جمعه ابن المعتز وقدامة.
ولم تميز هذه العلوم، وتبوب وتفصل إلا في العصر التالي. وأول من نزع عن قوسه، ورمى إلى هذا الهدف شيخ البلاغة الإمام عبد القاهر3 صاحب دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة.
وبقيت الحال كذلك، حتى جاء فارس الحلبة أبو يعقوب يوسف السكاكي المتوفى سنة 626هـ، فبسط هذه العلوم في كتابه "المفتاح" وهذب مسائلها ورتب أبوابها، فكان كل من جاء بعده عيالًا عليه.
وجه الحاجة إلى دراستها:
إن لهذه العلوم الفضل الأول في بيان أسرار اللغة، والكشف عن كنوزها، والبحث عن نفائسها، وفي معرفة ما لها من ميزة السبق على سائر اللغات حتى نزل بها القرآن الكريم، فوسعته معنى وأسلوبًا -على ما فيه من روعة وجلال- فكان ذلك شهادة لها بإحرازها قصب السبق، واستوائها على عرش السيادة. كذلك لها الفضل الأول في الكشف عن سر إعجاز القرآن بما حواه من بارع اللفط، ورائع الأسلوب، وما تضمنه من بيان ساحر هو فوق متناول الإدراك، حتى وقف بنو العروبة وحاملو لوائها أمامه واجمين، وخر له عباقرة البيان ساجدين.
من أجل هذا، كانت حاجتنا إلى دراسة هذه العلوم فوق حاجتنا إلى شأن آخر من شئون الحياة، وما ظنك بما يكشف لك عن سر ما للغة آبائك من قوة واعتزاز، وما احتواه كتاب ربك رمز العظمة وآية الإعجاز!
1 هو الحسن بن عبد الله بن سهل، المتوفى سنة 295هـ.
2 هو أبو علي الحسن بن رشيق، المتوفى سنة 409هـ.
3 هو أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني، المتوفى عام 471هـ.
معنى الفصاحة والبلاغة:
الفصاحة معناها في اللغة: البيان والظهور. يقال: أفصح الصبي في منطقه، وفصح فيه: إذا بان وظهر كلامه، كما يقال: أفصح الأعجمي، وفصح: إذا انطلق لسانه بالعربية لا تشوبه لكنة. ومنه قوله تعالى حكاية عن موسى، عليه السلام:{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} أي: أبين مني قولًا.
ويقال: أفصح الصبح: إذا بدا ضوءه ولمع، ومنه المثل المشهور: أفصح الصبح لذي عينين1 كما يقال: هذا يوم مفصح أي: جلي لا غيم فيه.
ويقال: أفصح اللبن: إذا نزعت رغوته فظهر، ومنه المثل المعروف: وتحت الرغوة اللبن الفصيح2، فظهر لك مما تقدم من الأمثلة أن الفصاحة في اللغة لم تخرج عن معنى الظهور والبيان.
أما معناها في اصطلاح البلغاء فيختلف باختلاف موصوفها، وهو أحد أمور ثلاثة: الكلمة، والكلام، والمتكلم.
يقال: هذه كلمة فصيحة؛ إشارة إلى كلمة معينة كلفظ "الأجل" ويقال: هذا كلام فصيح؛ إشارة إلى مركب معين كقولنا: الله الأجل، ويقال: هذا فصيح؛ إشارة إلى متكلم خاص كأبي بكر، أو عمر، أو علي أو غيرهم من فصحاء العرب، وإليك بيان كل على الترتيب.
فصاحة الكلمة:
فصاحتها: أن تسلم من العيوب الثلاثة الآتية:
1-
تنافر الحروف.
2-
مخالفة الوضع.
3-
الغرابة.
وبسلامتها من هذه العيوب تسلم مادتها، وصيغتها، ومعناها من الخلل. وهاك العيوب الثلاثة على هذا النسق:
1 يضرب للشيء يظهر بعد استتاره.
2 يضرب للأمر ظاهره غير باطنه.
3 إنما آثرنا هذا التعبير على قولهم: مخالفة القياس؛ لأنه أدل على المعنى المراد منه على ما يأتي.
تنافر الحروف:
هو وصف في الكلمة التي ينشأ عنه ثقلها على اللسان، وتعسر النطق بها، وهو نوعان: تنافر شديد، وتنافر خفيف.
فالشديد كلفظ "الظش" للموضع الخشن و"كالهعخع" لنبات ترعاه الإبل، في قول أعرابي سئل عن ناقته: تركتها ترعى الهعخع. فهاتان الكلمتان غير فصيحتين؛ لما فيهما من تنافر الحروف تنافرًا شديدًا، يشعر به كل ناطق، وهو خلل واقع في مادتهما.
الخفيف كلفظ "النقاخ" بضم النون للماء العذب الصافي، و"كمستشزرات" في قول امرئ القيس1:
غدائره مستشزرات إلى العلا
…
تضل العقاص في مثنى ومرسل2
يصف الشاعر حبيبته بكثرة الشعر وغزارته، وأنه لكثافته مقسم إلى أقسام؛ فبعضه مرتفع، وبعضه مرسل، وبعضه مثنى، وبعضه معقوص ملوي، وأن المعقوص منه يتيه ويختفي فيما ثني وأرسل منه. فهاتان الكلمتان غير فصيحتين؛ لما فيهما من تنافر الحروف، وهو خلل واقع في مادتهما كذلك.
تنبيه:
قيل: إن الضابط المعول عليه في ضبط التنافر: قرب مخارج الحروف أو بعدها، بمعنى: أن تكون الحروف متقاربة في المخرج أو متباعدة فيه؛ فلفظ "الهعخع" مثلًا متنافر ثقيل لتقارب حروفه في المخرج، ذلك: أن الهاء والعين والخاء خارجة كلها من مخرج واحد هو الحلق، إلا أن بعضها خارج من أقصاه، وبعضها من قريب منه.
1 هو أسبق شعراء الجاهلية إلى ابتداع المعاني وحسن التعبير عنها، وأول من وقف على الديار واستبكى الأطلال.
2 الغدائر: جمع غديرة، وهي المسماة في عرفنا بالضفيرة، والضمير راجع إلى "فرع" في الشطر الأول من البيت قبله، وهو "وفرع يزين المتن أسود فاحم" أي: فرع محبوبته و"مستشزرات" بكسر الزاي أو فتحها بمعنى: مرتفعات أو مرفوعات، و"العقاص" جمع عقيصة وهي خصلة ضده.
ولفظ "مستشزرات" متنافر ثقيل أيضًا؛ لتقارب حروفه في المخرج كذلك، إذ إن حروفه -ما عدا الميم- خارجة من مخرج واحد هو اللسان، غير أن بعضها خارج من طرفه، وبعضها من وسطه. ولفظ "ملع" بمعنى: أسرع متنافر ثقيل؛ لتباعد حروفه في المخرج، إذ إن الميم خارجة من الشفتين، والعين من أقصى الحلق، وهكذا.
ورد هذا القول بأن الضابط المذكور غير مطرد؛ لأننا لا نجد تنافرًا في لفظتي "الجيش والشجي" مع تقارب الشين والجيم في المخرج، ولا نجد تنافرًا في {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ} مع تقارب الهمزة والعين والهاء في المخرج، كذلك كما لا نجد تنافرًا في مثل "علم وملح" مع تباعد المخرجين في العين والميم في الأول، والميم والحاء في الثاني. وإذن فقرب المخارج أو بعدها لا يصلح ضابطًا يعول عليه في ضبط التنافر لعدم اطراده كما عرفت، بل الحكم في ذلك للذوق السليم؛ فما عده الذوق السليم ثقيلًا متعثر النطق فهو متنافر، سواء أكان متقارب الحروف أو متباعدها ا. هـ.
مخالفة الوضع: هي أن تكون الكلمة مخالفة لما ثبت عن الواضع، سواء أكانت مخالفة للقياس الصرفي أيضًا أم لا، فمدار المخالفة على ما ثبت عند الواضع كما ستراه بعده.
فمثال ما خالف الأمرين معًا لفظ: "بوقات" جمع مؤنث مفرده "بوق" بمعنى المزمار، في قول المتنبي يمدح سيف الدولة:
فإن يك بعض الناس سيفًا لدولة
…
ففي الناس بوقات لها وطبول
يقول: إذا كنت سيفًا لدولتك له خطره وأثره، فغيرك من الملوك بمثابة البوق والطبل لا أثر له، ولا غناء فيه. فلفظ "بوقات" في البيت غير فصيح؛ لمخالفته ما ثبت عن الواضع والقياس الصرفي؛ إذ الثابت عن الواضع جمعه جمع تكسير، والقياس الصرفي يقتضي جمعه مكسرًا أيضًا فيقال:"أبواق"؛ لأن جمع المؤنث السالم له مواضع خاصة، ليس هذا الاسم منها، وذلك خلل واقع في الصيغة. ومثله لفظ "ضننوا" بمعنى: بخلوا، من قول الشاعر:
مهلًا أعاذل قد جربت من خلقي
…
أني أجود لأقوام وإن ضننوا
يقول الشاعر لمن لامته على إحسانه لمن بخلوا عليه: اقصدي من لومك، فقد عرفت أن من خلقي مجازاة من يسيء إليَّ بالإحسان إليه؛ لأني إنما أصنع المعروف للمعروف، لا لشيء وراءه. فلفظ "ضننوا" غير فصيح؛ لأنه مخالف لما ورد عن الواضع، وللقياس الصرفي، إذ الوارد عن الواضع:"وإن ضنوا" بالإدغام لا بالفك، والقياس الصرفي أيضًا يقتضي إدغام المثلين. ومنه لفط "الأجلل" في قول الشاعر:
الحمد لله العلي الأجلل
…
أنت مليك الناس ربا فاقبل
فلفظ "الأجلل" غير فصيح؛ لأنه مخالف لما ثبت على الواضع، وللقياس الصرفي كما في المثالين قبله.
ومثال ما خالف الثابت عن الواضع، ووافق القياس قولك:"يأبي" بكسر الباء مضارع "أبى" فهو غير فصيح؛ لأنه مخالف لما ثبت عن الواضع، إذ الثابت عنه "يأبى" بفتح الباء لا بكسرها، في حين أنه موافق للقياس الصرفي؛ لأن "فعَل" بفتح العين لا يأتي مضارعه على "يفعَل" بالفتح إلا إذا كان عين ماضيه أو لامه حرف حلق "كسأل يسأل" و"منع يمنع"، وليس "أبى يأبى" من هذا القبيل. كذلك لا يأتي مضارعه على "يفعُل" بالضم إلا إذا كان مضعف العين متعديًا "كمده ويمده"، أو أجوف واويًّا "كقال يقول"، أو ناقصًا واويًّا "كسما يسمو" وليس "أبى يأبى" أحد هذه الأنواع، فكسر عين مضارعه حينئذ موافق للقياس الصرفي، ولكنه مع ذلك غير فصيح لمخالفته ما ثبت عن الواضع.
فالشرط إذًا في مخالفته الوضع: أن تخالف الكلمة ما ثبت عن الواضع، سواء خالفت القياس الصرفي أيضًا أو لا "كما عرفت".
تنبيه:
علم مما تقدم: أن ما ثبت عن الواضع، سواء وافق القياس الصرفي أو خالفه فصيح؛ فنحو "آل وماء" من قولك: "هؤلاء آلك فاعطف عليهم، وهذا ماؤك
فاشربه" مخالف للقياس الصرفي؛ لأن الأصل فيهما: "أهل وموه" أبدلت الهاء فيهما همزة، وهذا الإبدال لا يقره القياس، ولكنه فصيح لموافقته ما ورد عن الواضع. ومثله "أبى يأبى" بفتح الباء في المضارع، والقياس كسرها لما تقدم بيانه، ولكنه فصيح لوروده هكذا عن الواضع. كذلك قولهم: عورت عين فلان، و {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} ، فالقياس فيهما أن يقال: عارت عينه، واستحاذ عليهم بقلب الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها، فتصحيح الواو حينئذ مخالف للقياس لكنه فصيح؛ لأنه ثبت هكذا عنالواضع.
الغرابة: هي أن تكون الكلمة وحشية أي: غير ظاهرة الدلالة على المعنى، ويكون ذلك لسببين:
الأول: عدم تداول الكلمة في لغة العرب الخلص، فيحتاج في معرفتها إلى بحث وتنقيب في معاجم اللغة.
فتارة يعثر على معناها بعد البحث، كلفظتي "تكأكأتم وافرنقعوا" من قول عيسى بن عمر النحوي، وقد سقط عن دابته، فاجتمع الناس حوله: ما لكم تكأكأتم عليَّ كتكأكئكم على ذي جنة، افرنقعوا، فمعنى "تكأكأتم": اجتمعتم، ومعنى "افرنقعوا": انصرفوا. يقول متعجبًا: ما لكم اجتمعتم علي كاجتماعكم على ذي جنون، تنحوا عني. ومنه لفط "رخاخ" بفتح الراء قي قولهم: نحن في رخاخ من العيش، أي: في سعة ورغد.
وتارة لا يعثر عليه بعد البحث كلفظ "جحلنجع" من قول أعرابي يسمى أبا الهميسع1: من طمحة2 صبيرها3 جحلنجع4 بجيم مفتوحة، فمهملة ساكنة، فلام مفتوحة، فنون ساكنة، فجيم مفتوحة، فعين مهملة.
فهذه الكلمات الثلاث غير فصيحة؛ لأنها غريبة غير ظاهرة المعنى لعدم تداولها، وذلك خلل واقع في المعنى.
1 بفتح الهاء والسين.
2 الطمحة: النظر.
3 الصبير: السحاب.
4 لم يعثر على معناها بعد.
الثاني: عدم استعمال الكلمة عند العرب الخلص بالمعنى الذي أريد منها، فيحتاج في معرفتها إلى تخريج على وجه بعيد، كلفظ "مسرجا" في قول العجاج أحد الرجازين المشهورين:
أيام أبدت واضحًا مفلجًا
…
أغر براقًا وطرفًا أدعجا
ومقلة وحاجبًا مزججًا
…
وفاحمًا ومرسنًا مسرجا1
يصف الشاعر من محبوبته عدة أشياء؛ منها الأنف في قوله: "ومرسنا مسرجا" فقد أراد بالمرسن أنفها، وهو في الأصل أنف البعير؛ إذ هو موضع الرسن2 منه.
ثم أريد به: مطلق أنف، مجازًا مرسلًا كما سيأتي بيانه في محله فقوله:"مسرجا" غير فصيح؛ لأنه غريب غير ظاهر المعنى لعدم استعماله بالمعنى الذي أريد منه على ما يظهر.
بيان ذلك: أنه لم يعلم ما أراده الشاعر بقوله: "مسرجا"؛ ولذلك اختلف فيه فقيل: هو من قولهم: "سيوف سريجية" أي: منسوبة إلى حداد يقال له: سريج3 كان يجيد صنعها، فهو يريد أن يشبه أنفها في الدقة والاستواء بالسيف السريجي.
وقيل: هو من السراج أي: المصباح، يريد أن يشبه أنفها في البريق واللمعان بالسراج. وهذا التأويل قريب من قولهم: سرج الله وجهه أي: بهجه وحسنه.
وعلى كلا القولين هو غير ظاهر الدلالة على ما ذكر؛ لأن مادة "فعَّل" بالتشديد إنما تدل فقط على مجرد نسبة شيء إلى شيء، فيقال: كفّر فلان فلانًا نسبه إلى الكفر، وفسَّقه نسبه إلى الفسق، فهو مكفر أو مفسق أي: منسوب إلى الكفر والفسق. أما النسبة التشبيهية، وهي أن يكون المنسوب شبيها بالمنسوب إليه، فلا تدل عليه
1 ضمير "أبدت" عائد على محبوبته في البيت قبله "وواضحًا" صفة لموصوف محذوف أي: سنًّا واضحًا متميزًا، والفلج بالتحريك: تباعد ما بين الأسنان، والأغر: الأبيض، والدعج بالتحريك: اتساع العين وحسنها، والتزجيج: التدقيق مع تقويس، و"فاحما" صفة لمحذوف أي: شعرًا أسود كالفحم، فهو نسبة تشبيهية من نسبة المشبه إلى المشبه به.
2 هو مقود البعير.
3 بضم السين، وفتح الراء.
المادة المذكورة، فأخذ ذلك منها بعيد؛ لهذا كان هذا اللفظ غريبًا، غير ظاهر الدلالة لعدم استعماله عند العرب بهذا المعنى.
تنبيهات:
الأول: اعلم أن عدم ظهور المعنى المتقدم ذكره في مفهوم الغرابة منظور فيه إلى الخلص من الأعراب سكان البادية، فهم قد يخفى عليهم معنى اللفظ إذا قلَّ تداوله بينهم، أو أهمل استعماله بالمعنى المراد كما ذكرنا. أما غير العرب من المولدين فغير منظور إليهم في ذلك، وإلا خرج كثير من قصائد العرب، بل جلها عن الفصاحة؛ لغلبة الجهل باللغة على غير أربابها.
الثاني: زاد بعضهم عيبًا رابعًا على العيوب المخلّة بفصاحة الكلمة، وهو أن تكون الكلمة مستكرهة، يمجّها السمع، ويأنفها الطبع، كلفظ "النقاخ" بضم النون بمعنى الماء العذب، في قول الشاعر:
وأحمق ممن يكرع الماء قال لي
…
دع الخمر واشرب من نقاخ مبرد
و"كالجرشى" بمعنى النفس، في قول أبي الطيب يمدح سيف الدولة:
مبارك الاسم أغر اللقب
…
كريم الجرشى شريف النسب1
والحق: أن في ذكر الغرابة غنية عن ذكر هذا العيب؛ لأن استكراه السمع للفظ إنما جاء من ناحية وحشيته وغرابته ا. هـ.
إذا علمت هذا، علمت أن كل كلمة برئت من العيوب المتقدم ذكرها، عدت في عرف علماء البلاغة فصيحة.
تمرين:
1-
تكلم بإيجاز عن تاريخ نشأة العلوم البلاغية، وبين وجه الحاجة إلى دراستها.
2-
عرف معنى الفصاحة في اللغة، ومثل لها بمثالين.
1 إنما كان مبارك الاسم لإشعاره بالعلو، ولموافقته لاسم علي بن أبي طالب فهو سميه، وأغر اللقب مشهوره لاشتهاره بسيف الدولة، والملوك يشار إليهم بألقابهم، وشريف النسب لأنه "على ما قيل" من سلالة بني العباس.
3-
بين معنى الفصاحة في الكلمة، ثم بين معنى التنافر فيها مع التمثيل.
4-
اختلف الرأي في ضابط التنافر، فوضح هذا الخلاف، ثم أبطل المرجوح منه بالدليل.
5-
بين معنى المخالفة في الكلمة، وهل المعول عليه فيها القانون الصرفي أو السماع؟ وضح ذلك بالأمثلة.
6-
بين معنى الغرابة في الكلمة، ومرجع الغرابة فيها، ثم وجه غرابة "مسرجا" في قول الشاعر:"وفاحما ومرسنا مسرجا".
7-
بين العيوب التي أخلّت بفصاحة الكلمة فيما يأتي:
1-
نقنق الضفدع في المثعنجر1.
2-
أكلت العرين وشربت الصمادح2.
3-
إن بني للئام زهده
ما لي في صدورهم من موددة3
4-
وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم
خضع الرقاب نواكس الأبصار
5-
مر بي رجل مسعوى به عند الأمير.
6-
ارتخش4 المهمل فزعًا عند الامتحان.
7-
اطلخم5 الأمر.
8-
تصفحت الكتاب، فإذا هو مصوون عن الحشو.
9-
نحن قوم فواهم ما تقول.
10-
صون يديك عن الأذى.
11-
ملأ البعاق الجردحل6.
12-
أسمع جعجعة، وأنا أشرب السمالج7
13-
يوم عصبصب وهلوف ملأ السجسج طلا8.
1 نقيق الضفدع: صوته، والمثعنجر: البحر.
2 العرين: اللحم، والصمادح بضم الضاد: الماء الخالص.
3 معنى البيت: إن أولاده عاقون لا يأخذهم به حنو ولا رحمة، وإنهم لئام يقابلون إحسانه بالإساءة.
4 اضطراب.
5 اشتد.
6 البعاق بكسر الباء، والجردحل بكسر فسكون ففتح فسكون: الوادي.
7 الجعجعة: صوت الرحى وصوت الجِمَال إذا اجتمعت، والسمالج بضم السين وكسر اللام: اللين.
8 "العصبصب": الشديد الحر، والهلوف بكسر الهاء وتشديد اللام المفتوحة: هو الذي يستر غمامة شمسه، والسجسج: الأرض ليست سهلة ولا صلبة، والطل: المطر الخفيف.
14-
أمنا أن تصرع عن سماح
وللآمال في يدك اصطراع1
15-
يظل بموماة ويمسي بغيرها
جحيشًا ويعرورى ظهور المسالك2
الجواب على السؤال الأخير:
1-
في "نقنق والمثعنجر" تنافر حروف، وفي الثاني منهما وحشية وغرابة يحتاج في الكشف عنهما إلى بحث.
2-
في "العرين والصمادح" غرابة في المعنى، تحتاج إلى بحث وتنقيب.
3-
في "موددة" مخالفة لما ثبت عن الواضع، وللقانون الصرفي إذ الثابت عن الواضع "مودة" بالإدغام، والقاعدة الصرفية توجب إدغام المثلين المتحركين.
4-
في "نواكس" مخالفة؛ إذ لا يصح نقلًا عن الواضع، ولا في القانون الصرفي جمع فاعل وصفا لمذكر عاقل على "فواعل".
5-
في "مسعوى" مخالفة، والصواب فيه أن يقال: مسعى بقلب الواو ياء، وإدغام الياء في الياء.
6-
في "ارتخش" تنافر الحروف، وغرابه في المعنى.
7-
"اطلخم" لفظ غريب وغليظ في السمع، يمجه الذوق، ويأنفه الطبع.
8-
في "مصوون" مخالفة، والصواب "مصون" بحذف الواو الثانية لالتقاء الساكنين، بعد نقل حركة الواو إلى الساكن قبلها.
9-
في "فواهم" مخالفة؛ إذ لا يجمع فاعل لمذكر عاقل على "فواعل".
10-
في "صون" مخالفة، وصوابه:"صن" بحذف الواو لالتقاء الساكنين.
1 تصرع بتشديد الراء مع البناء للمجهول، وتمنع بشدة، يريد: أنهم أمنوا أن يغلبه غالب يمنعه من السماح، واصطراع الآمال في يده: ازدحامها وتدافعها.
2 الموماة: الفلاة الواسعة، والجحيش بفتح فكسر أو بضم ففتح: المستبد برأيه، واعرورى: ركبها عريانة.
11-
"البعاق والجردحل" كلاهما غريب المعنى، يحتاج إلى بحث.
12-
في "جعجعة" تنافر الحروف، وفي "السمالج" غرابة في المعنى.
13-
في الكلمات الثلاث غرابة، وفي الثالثة منها تنافر.
14-
في لفظ "اصطراع" بمعنى كثرة النوال والكرم غرابة، يحتاج بسببها إلى تأويل بعيد.
15-
في لفظتي "جحيش ويعرورى" غرابة يمجها الطبع، ويأباها السمع.
تمرين على هذا السؤال مطلوب جوابه:
كتب بعض أمراء بغداد، حين مرضت أمه، رقاعًا وطرحها في المسجد الجامع بمدينة السلام، قال فيها:
صين امرؤ ورعي دعا لامرأة إنقحلة1 مقسئنة2 قد منيت3 بأكل الطرموق4، فأصابها من أجله الاستمصال5 أن يمن الله عليها بالاطرغشاش6؛ فكان كل من يقرأ كلامه يسلقه بحاد لسانه.
وقال أبو الطيب المتنبي:
فلا يبرم الامر الذي هو حالل
…
ولا يحلل الأمر الذي هو يبرم
وقال امرؤ القيس: رب جفنة مثعنجرة7 وطعنة مسحنفرة8 وخطبة مستحضرة، وقصيدة محبرة9 تبقى غدا بأنقرة10.
1 بكسر الهمزة وسكون النون وفتح القاف وسكون الحاء وفتح اللام، ومعناه يابسة.
3 أصيبت.
4 الخفاش.
5 الإسهال.
6 البرء.
7 الجفنة: القصعة، والمثعنجرة: المتسعة.
8 متسعة.
9 أي: محسنة.
10 عاصمة تركيا الآن، قال امرؤ القيس ذلك حين أدركه الموت، وكان قد ذهب إلى ملك الروم يستنجده على قتلة أبيه، فهويته "على ما قيل" بنت الملك، وبلغ ذلك قيصر فأسرها وفي نفسه ووعده بإجابة ما طلب، ولما كان بأنقرة بعث إليه بثياب مسموعة فلبسها فتساقط لحمه، وحين علم ذلك قال ما قال.
وقال أبو تمام:
نعم متاع الدنيا حباك به
…
أروع لا جيدر ولا جبس1
فصاحة الكلام 2:
هي أن يبرأ من العيوب الثلاثة الآتية: 1- تنافر الكلمات.
2-
ضعف التأليف.
3-
التعقيد بنوعيه.
غير أن سلامة الكلام من هذه العيوب مشروطة بسلامة أجزائه من العيوب السابقة. وإليك بيان العيوب الثلاثة على الترتيب:
تنافر الكلمات: هو وصف في الكلمات مجتمعة، يوجب ثقلها على اللسان، وعسر النطق بها، وإن كان كل كلمة منها على حدة لا ثقل فيها.
والتنافر فيها نوعان كذلك: تنافر شديد، وتنافر خفيف.
فالشديد البالغ الغاية، كقول الشاعر:
وقبر حرب بمكان قفر
…
وليس قرب قبر حرب قبر3
"قفر" بالرفع نعت "لمكان" على القطع للضرورة، وقيل: هو نعت "لقبر" ومعنى كونه قفرًا -على هذا القول- قيامه وحده في هذا المكان. والشاهد فيه المصراع الثاني، فإن كلماته متعادية، ينفر بعضها من بعض أشد النفور حتى لا يكاد اللسان ينطق بها مجتمعة. ومثله قول الشاعر:
"في رفع عرش الشرع مثلك يشرع"
فإن اللسان ليتعثر عند النطق به أيما تعثر.
والخفيف كقول أبي تمام يعتذر لممدوحه، ويتبرأ مما نسب إليه:
1 "حباك" أعطاك، و"الأروع" هو الذي يعجبك حسنه، و"الجيدر" بفتح الجيم والدال: القصير، والجبس بكسر فسكون: الجامد الثقيل الروح.
2 يراد بالكلام هنا ما يشمل التام والناقص.
3 زعموا أن هذا البيت لأحد الجان، صاح على حرب بن أمية جد معاوية أمير المؤمنين فمات لوقته، فأنشد الجني هذا البيت، والواقع أنه لم يعرف قائله.
كريم متى أمدحه أمدحه والورى
…
معي وإذا ما لمته لمته وحدي
يقول: إذا ما جرى لساني بمدحه رأيت الناس عامة ألسنة مدح وثناء معي لفيض إنعامه، وعموم أياديه، وإذا ما هممت بلومه لم يتبعني فيها أحد لعدم وجود ما يقتضيه. والشاهد في قوله:"أمدحه أمدحه" فإن في اجتماع هاتين الكلمتين ثقلا عند النطق بهما، يشعر به صاحب الذوق السليم1.
ضعف التأليف:
هو أن يكون الكلام في تركيبه مخالفًا للمشهور من قوانين النحو التي اعتمدها جمهور النحاة، كالإتيان بالضمير متصلًا بعد "إلا" وكالإضمار قبل ذكر المرجع لفظًا، أو معنى، أو حكمًا.
فمثال الأول قول الشاعر:
وما علينا إذا ما كنت جارتنا
…
ألا يجاورنا إلاك ديار2
والأصل أن يقال: إلا إياك.
ومثال الإضمار قبل الذكر قول حسان بن ثابت يرثي مطعم بن عدي:
ولو أن مجدا أخلد الدهر واحدًا
…
من الناس أبقى مجده الدهر مطعما
يقول: لا بقاء لأحد في الدار الدنيا، سواء في ذلك الرفيع والرضيع، ولو أن المجد يخلد صاحبه لبقي مطعم على مدى الدهر، يريد: أنه كان ماجدًا نبيلًا.
والشاهد في المصراع الثاني حيث أضمر قبل ذكر المرجع لفظًا، ومعنى، وحكمًا، ذلك أن الضمير في "مجده" راجع إلى "مطعم" وهو لم يذكر قبل الضمير لفظًا، وهو ظاهر، ولا معنى لأنه مفعول به، فمرتبته التأخير، ولا حكمًا لأنه محكوم عليه بالتأخر لمفعوليته.
1 ذكر الصاحب بن عباد أنه أنشد هذه القصيدة بحضرة ابن العميد، فلما بلغ هذا البيت قال له ابن العميد: هل تعرف فيه شيئًا من الهجنة؟ قال: نعم مقابلة المدح باللوم، وإنما يقابل بالذم أو الهجاء، فقال ابن العميد: غير هذا أريد، فقال الصاحب: لا أدري غير ذلك، فقال ابن العميد: هذا التكرار في "أمدحه" مع الجمع بين الحاء والهاء خارج عن حد الاعتدال، نافر كل التنافر، فأثنى عليه الصاحب.
2 ومنه قول الشاعر:
ليس إلاك يا علي همام
…
سيفه دون عرضه مسلول
فكل من الإتيان بالضمير متصلًا بعد "إلا" والإضمار قبل الذكر غير جائز عند جمهور النحاة؛ لهذا كان المصراع الثاني من البيتين الأول، والثاني غير فصيح؛ لضعف التأليف فيه.
أما نحو: هزم خالد عدوه، ورفع قبيلته عنترة، ونحو: نعم فارسًا علي1 وربه رجلًا2، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 3 فكل ذلك فصيح؛ لأنه جاز على قانون النحو المشهور لتقدم المرجع لفظًا في الأول، ومعنى في الثاني؛ لأنه فاعل ومرتبته التقدم على المفعول، ولتقدمه حكمًا في الأمثلة الباقية؛ لأن وضع الضمير على أن يعود على متقدم، وإنما أخر فيها لنكتة بلاغية كما سيأتي في محله.
التعقيد:
هو أن يكون الكلام غير ظاهر الدلالة على المعنى المراد؛ لخلل واقع فيه4، وهو نوعان: لفظي ومعنوي.
التعقيد اللفظي:
أن يكون الكلام غير ظاهر الدلالة على المعنى المراد؛ لخلل واقع في نظمه وتركيبه، بحيث لا يكون ترتيب الألفاظ على وفق ترتيب المعاني بسبب تقديم، أو تأخير، أو فصل، أو حذف، أو نحو ذلك مما ينشأ عنه صعوبة فهم المعنى المراد، وهو على ضربين: شديد وخفيف.
فالشديد، كقول الفرزدق5 يمدح إبراهيم المخزومي خال هشام بن عبد الملك:
وما مثله في الناس إلا مملكًا
…
أبو أمه حي أبوه يقاربه
يريد: وما مثل هذا الممدوح في الناس حي يقاربه في الفضائل إلا مملكًا، أبو أم ذلك المملك أبو الممدوح، أي: لا يحاكيه أحد إلا ابن اخته.
1 على رأي من يعرب مخصوص "نعم وبئس" مبتدأ لخبر محذوف أو العكس.
2 المراد: ضمير رب.
3 المراد: ضمير الشأن.
4 احترز به عما خفي المراد منه لا لخلل فيه، بل لإرادة المتكلم إخفاء المراد منه لحكمة، كالذي ورد في القرآن من المتشابه والمشكل والمجمل، فلا مقيد فيه.
5 أحد الشعراء المعروفين في الدولة الأموية.
ففيه فاصل كبير بين البدل وهو "حي" والمبدل منه وهو "مثله" وفيه تقديم المستثنى وهو "مملكًا" على المستثنى منه وهو "حي" وفيه فصل بين المبتدأ والخبر وهما "أبو أمه أبوه" بأجنبي هو "حي" وبين الصفة والموصوف وهما "حي يقاربه" بأجنبي هو "أبوه"، فانظر إلى أحد وصل تعقيد اللفظ حتى عمي المعنى، وكاد يستعصي على الفهم. ومثل هذا النوع في شدة تعقده قول الآخر:
فأصبحت بعد خط بهجتها
…
كأن قفرًا رسومها قلما1
يصف الشاعر دارًا بالية، وأصل الكلام: فأصبحت بعد بهجتها قفرًا كأن قلما خط رسومها، ففيه من الفصل والتقديم والتأخير ما جعل التعقيد اللفظي في أقبح صورة وأشنعها.
والخفيف، كقول أبي الطيب المتنبي:
جفخت2 وهم لا يجفخون بها بهم
…
شيم على الحسب الأغر دلائل
وأصل التركيب هكذا: جفخت بهم شيم دلائل على الحسب الأغر، وهم لا يجفخون بها أي: افتخرت بهم طبائع دالة على ما كان لآبائهم من مناقب ومفاخر، وهم لا يفتخرون بها؛ لأنهم حاصلون على ما هو خير وأوفى، فقد فصل بين الفعل والفاعل وهما "جفخت شيم" بأجنبي هو جملة "وهم لا يجفخون بها" الواقعة حالًا، وفصل بين الصفة والموصوف وهما "شيم دلائل" بالجار والمجرور وهما قوله:"على الحسب الأغر". ومثله قول الفرزدق من قصيدة يصف فيها ذئبًا:
تعال فإن عاهدتني لا تخونني
…
نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
يريد: نكن يا ذئب مثل من يصطحبان، ففصل بين الموصول وصلته وهما "من يصطحبان" بأجنبي هو قوله:"يا ذئب" فتعقد اللفظ نوع تعقيد.
التعقيد المعنوي: هو أن يكون الكلام خفي الدلالة على المعنى المراد؛ لخلل واقع في انتقال الذهن من المعنى الأول المفهوم من اللفظ لغة إلى المعنى الثاني المقصود
1 "خط" فعل ماضٍ، وبهجتها بكسر التاء على الإضافة، "ورسومها" بفتح الميم على المفعولية.
2 افتخرت.
بحيث يكون إدراك المعنى الثاني من الأول بعيدًا عن الفهم، يحتاج إلى تكليف وتمحل بسبب استعمال اللفظ في معنى خفي لزومه للمعنى الأول، كقول العباس بن الأحنف1:
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا
…
وتسكب عيناي الدموع لتجمدا2
يطلب الشاعر البعد عن أحبته، غير مبالٍ بما يعانيه في ذلك من غصص الفرقة وآلام النوى، كما يطلب اكتواءه بنار الأسى على فراقهم، وبلوغه الشوق إليهم عساه فيما بعد يحظى بوصل مقيم، وفرح لا يزول، وكأنه بهذا الطلب يخادع الزمان، ويغالطه ليوافيه بضد ما يطلب، على عادة الدهر من محاربته الناس في مطالبهم ووقوفه حائلًا دون ما يأملون، وبذلك يتم للشاعر في غفلة الدهر ما أراد من لقاء الأحبة، والابتهاج والأنس بهم، على حد قول الشاعر:
ولطالما اخترت الفراق مغالطًا
…
واحتلت في استثمال غرس ودادي
ورغبت عن ذكر الوصال لأنها
…
تبني الأمور على خلاف مرادي
والشاهد في قوله: "لتجمدا" فإن ابن الأحنف لم يوفق في أداء المعنى الذي أراده من هذا اللفظ على وجه صحيح؛ ذلك أنه أراد أن يكني عما قصده بكنايتين أصاب في إحداهما، وأخطأه الصواب في الأخرى.
بيان ذلك: أنه دل أولًا بسكب الدمع على ما يوجبه فراق الأحبة من الحزن والكمد، فأحسن وأصاب المحزن في هذه الكناية، فإن البكاء عادة يكون أمارة الحزن وعنوانه، كما يكون الضحك دليلًا على الابتهاج والسرور، فيقال: أبكاني وأضحكني على معنى: ساءني وسرني. ومنه قول الشاعر:
أنزلني الدهر على حكمه
…
من شامخ عالٍ إلى خفض3
أبكاني الدهر ويا ربما
…
أضحكني الدهر بما يرضي
1 من ندماء هارون الرشيد، وكان لطيف المجلس فكه الحديث.
2 تسكب بالرفع عطف على "أطلب" وبالنصب عطف على "بعد" من عطف الفعل على اسم خالص من التأويل، والمراد طلب استمرار السكب لا أصله؛ لئلا يلزم تحصيل الحاصل.
3 هو لحصان المعلمي من شعراء الحماسة، وقد كنى في البيت التالي بإبكاء الدهر له عن إساءته، وبإضحاكه له عن سروره.
ثم دل ثانيًا بجمود العين على سرورها بقرب أحبته، واجتماع شمله بهم، فأخطأه التوفيق في هذه الكناية، ولم يكن النجاح حليفه فيها؛ ذلك أن جمود العين جفافها من الدمع عند الدافع إليه، وهو الحزن على فراق الأحبة، فالجمود حينئذ كناية عن بخلها بالدموع وقت الحاجة إليه، لا عما أراده من السرور، يؤيد ذلك قول أبي عطاء يرثي ابن هبيرة:
ألا إن عينا لم تجد يوم واسط
…
عليك بجاري دمعها لجمود
أي: لبخيلة بالدمع، ومنه قول الخنساء ترثي أخاها صخرا:
أعيني جودا ولا تجمدا
…
ألا تبكيان لصخر الندى؟!
أي: أفيضا بالدموع، ولا تبخلا به. كما يرشد إلى ذلك أيضًا قولهم: سنة جماد أي: بخيلة بالقطر، وناقة جماد أي: لا تجود بالدر؛ ولهذا لا يصح عندهم أن يقال في مقام الدعاء للمخاطب بالسرور: لا زالت عينك جامدة، على معنى: لا أبكى الله عينك؛ لأنه دعاء عليه بالحزن لا بالسرور.
إذا علمت هذا، علمت أن المعنى الذي أراده الشاعر وهو السرور لا يفهم من الجمود إلا يدل عليه اللفظ لا لغة ولا عرفًا، اللهم إلا مع ارتكاب شيء من التعسف1، ومن هنا كان التعقيد في المعنى.
تنبيهان:
الأول: زاد بعضهم عيبًا رابعًا على العيوب المخلة بفصاحة الكلام، وهو أن يكثر2 فيه التكرار، أو تتوالى فيه الإضافات.
فمثال التكرار قول أبي الطيب يصف فرسًا له بالنجابة، وحسن الجري:
وتسعدني في غمرة بعد غمرة
…
سبوح لها منها عليها شواهد
"سبوح" فعول بمعنى فاعل من السبح وهو العوم في الماء، شبه به عدو الفرس،
1 هو أن يستعمل الجمود الذي هو خلو العين من الدمع حالة الحزن في خلو العين من الدمع مطلبًا إلى هنا صح أن يكنى به عن السرور؛ لأن المسرور تخلو عينه من الدمع عادة، غير أن استعمال الجمود في الخلو من الدمع مطلبًا لينتقل منه إلى السرور مخالف لاستعمالاتهم؛ لهذا كان الكلام بعيد المعنى.
2 المراد بالكثرة ما فوق الواحد، وهو أن يذكر اللفظ مرة بعد مرة.
يريد: أن في جريها سلامة وسهولة كأنما تسبح في الماء، وقوله:"لها" متعلق بمحذوف هو خبر مقدم، و"منها" حال من "شواهد"، و"عليها" متعلق به، وشواهد مبتدأ مؤخر، والجملة صفة لسبوح.
يصف الشاعر فرسه بحسن الجري، وأنها منجاة له من الشدائد بخفة حركتها وشدة عدوها، وأن أمارات النجابة بادية عليها. والشاهد في المصراع الثاني، فإن تكرار الضمير فيه أخل بفصاحته.
ومثال تتابع الإضافات قول ابن بابك يخاطب حمامة:
حمامة جرعاء حومة الجندل اسجعي
…
فأنت بمرأى من سعاد ومسمع1
يأمر الشاعر حمامة هذا المكان بالسجع والتطريب إعجابًا بمحبوبته، واحتفاء بها. والشاهد في المصراع الأول فإن فيه إضافات متتابعة؛ إذ قد أضيف "حمامة" إلى "جرعاء" المضافة إلى "حومة" المضافة إلى "جندل"، وهذا مخل بفصاحة الكلام.
هكذا زعم القائل وفيه نظر؛ لأن كثرة التكرار، أو تتابع الإضافات إن ثقل اللفظ به على اللسان فقد دخل في باب التنافر وإلا فلا يخل بالفصاحة، كيف وقد وردا في القرآن الكريم؛ قال تعالى:{مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} وقال: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} وقال سبحانه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} إلى غير ذلك مما تراه في غير موضع من كتاب مقدس هو في أعلى طبقات البلاغة، لا ينكر عليه ذلك أحد. وقد اجتمع الأمران في الحديث الشريف؛ قال صلى الله عليه وسلم:" الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم".
الثاني: إنما شرطنا في فصاحة الكلام أن تسلم كل كلمة فيه من العيوب المخلة بفصاحتها؛ لتعلم أن نحو قولهم: "محمد أصدق موددة من أخيه" ونحو: "شعر هند مستشزر"،
1 جرعاء: مؤنث أجرع، وهي الأرض الجرداء لا تنبت شيئًا، وقصرها للضرورة، و"الحومة" معظم الشيء و"الجندل" الأرض ذات الحجارة و"السجع" تغريد الحمام و"مرأى ومسمع" اسما مكان أي: بمكان تراك منه سعاد وتسمعك.
"أنفها مسرج" غير فصيح، مع أنه كلام سليم من العيوب المخلة بفصاحته، فلا تنافر كلمات فيه، ولا ضعف تأليف، ولا تعقيد، ولكنه لما لم يسلم من العيوب المخلة بفصاحة بعض أجزائه لم يكن فصيحًا؛ إذ الشرط في فصاحة الكلام "كما قلنا" سلامته من عيوبه وعيوب أجزائه، كما تقول في الأمثلة السابقة: محمد أصدق مودة من أخيه، وشعر هند مرتفع، وأنفها مستقيم، دقيق، أو ناضر بهيج ا. هـ.
إذا علمت هذا، علمت أن كل كلام سلم من عيوبه، وعيوب أجزائه عُدَّ في عرف البلغاء فصيحًا، وإن لم يسلم فقد عطل جيده من حلية الفصاحة.
فصاحة المتكلم:
هي ملكة أي: صفة قائمة بنفس المتكلم راسخة فيه، يستطيع بها أن يعبر تعبيرًا صحيحًا عما يجول بخاطره، ويجيش في صدره من الأغراض والمقاصد، فالمدار في فصاحته على أن تكون فيه هذه الصفة كامنة راسخة، يستطيع أن يستخدمها متى شاء في أي ضرب من ضروب الكلام، وفي أي فن من فنونه؛ كالمدح، والذم، والرثاء، والفخر، والتشبيب، وغير ذلك فهو فصيح وإن لم ينطق متى وجد فيه الاستعداد، والقدرة على صوغ اللفظ الفصيح، ولا يكون فصيحًا إذا فقد هذا الاستعداد، وهذه القدرة. كما لا يكون فصيحًا إذا استطاع أن يعبر بلفظ فصيح في مقصد دون آخر؛ إذ لم يكن ذلك منه وليد ملكة فيه.
وتكوين هذه الملكة إنما يكون بممارسة أساليب العرب الفصحاء، والوقوف على أسرارها، وحفظ الكثير من عيوب كلامهم، نثرًا وشعرًا.
تمرين:
1-
بين معنى الفصاحة في الكلام، مع بيان الفرق بين المتنافر وفي الكلمة، وبين المخالفتين فيها، ومثِّل لكل ما تقول.
2-
وضح معنى التعقيد في الكلام، واذكر نوعيه، وبين وجه التعقيد في قول ابن الأحنف: وتسكب عيناي الدموع لتجمدا.
3-
عرف فصاحة المتكلم، وهل إذا أجاد القول الفصيح في معنى الرثاء يكون فصيحًا؟ علل لما تقول.
4-
بين العيوب التي أخلت بفصاحة الكلام فيما يأتي:
1-
وازور من كان له زائرًا
وعاف عافي العرف عرفانه1
2-
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر
وحسن فعل كما جوزي سنمار2
3-
إلى ملك ما أمه من محارب
أبوه ولا كانت كليب تصاهره
4-
وقلقلت بالهم الذي قلقل الحشا
قلاقل عيس كلهن قلاقل3
5-
لما رأى طالبوه مصعبا ذعروا
وكاد -لو ساعد المقدور- ينتصر4
6-
أنى يكون أبا البرايا آدم
وأبوك والثقلان أنت محمد؟ 5
7-
قرب منا فرأيناه أسدًا، أي: أبخر.
8-
"وسلوت كل مليحة إلاك".
9-
نشر الملك ألسنته بالمدينة، يريد جواسيسه
1 "ازورّ" انحرف، و"عاف" كره، و"عافي العرف": طالب معروف، و"العرفان" المعرفة. والمعنى: انحرف عنه من كان يزوره، وكمده طالب الإحسان معرفته.
2 "سنمار" اسم رجل بنى للنعمان بن امرئ القيس قصرًا فخمًا بالكوفة سماه "الخورنق" وقد أتقن بحذقه وبراعته صنعه، ولما أتم بناءه وزخرفه ألقاه النعمان من أعلاه لئلا يبني قصرًا مثله لغيره، فمات سنمار لساعته، وضرب به المثل لكل من يجازى على الخير بالشر. ومعنى البيت: أن الشاعر دعا على أبي الغيلان أن يجازيه أولاده مع كبر سنه، وحسن صنيعه معهم شر جزاء، كما وقع لسنمار المذكور.
3 قلقل: حرك و"قلاقل" الأولى جمع قلقلة، وهي الناقة السريعة "وقلاقل" الثانية جمع قلقلة بمعنى الحركة، وضمير كلهن "للعيس" وهي النوق. والمعنى: حركت بسبب الهم الذي حرك نفسي نوقًا خفافًا في السير، والمراد أنه سافر ولم يعرج بالمكان الذي يلحقه فيه ضيم.
4 "مصعب" هو ابن الزبير بن العوام، ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم.
5 البرايا: جمع برية، وهي الناس جميعًا، والثقلان: الإنس والجن. والمعنى: كيف تعقل أبو آدم لجميع الناس في حين أن هذا العالم إنسه وجنه هو أنت وأبوك محمد، وفيه من المبالغة ما ترى.
الجواب على السؤال الأخير:
1-
"في البيت" في مصراعه الثاني تنافر كلمات.
2-
"في البيت" ضعف تأليف؛ لأن فيه عود الضمير في "بنوه" على متأخر في اللفظ والرتبة، وهو "أبا الغيلان" لأنه مفعول، و"بنوه" فاعل، ومن المعلوم أن رتبة الفاعل قبل رتبة المفعول.
3-
"في البيت" تعقيد لفظي، يريد: إلى ملك أبوه ما أمه من محارب أي: ليست أمه منهم، ولا كان صهرًا لقبيلة "كليب" أي: إنه رفيع النسب أبا وأما.
4-
"في البيت" تنافر كلمات وهو ظاهر.
5-
"في البيت" ضعف تأليف؛ لما فيه من عود الضمير في "طالبوه" على "مصعبا" وهو متأخر لفظًا ورتبة؛ لأنه مفعول.
6-
"في البيت" تعقيد لفظي، والأصل: أنى يكون آدم أبا البرايا، وأنت وأبوك محمد الثقلان؟
7-
فيه تعقيد معنوي؛ لخفاء لزوم البخر للأسد عرفًا، فانتقال الذهن فيه إنما يكون من الأسد إلى معنى الشجاع، لا إلى معنى الأبخر.
8-
فيه ضعف تأليف؛ لمجيء الضمير بعد "إلا" متصلًا، والصواب أن يؤتى به منفصلًا، فيقال: إلا إياك.
9-
فيه تعقيد معنوي؛ لأن في لزوم الجاسوسية للألسنة خفاء وبعدًا، والصواب أن يقال: نشر عيونه؛ لوضوح اللزوم بين العين والنجس.
تمرين على هذا السؤال يطلب جوابه:
ومن جاهل بي وهو يجهل جهله
…
ويجل علمي أنه بي جاهل
كسا حلمه ذا الحلم أثواب سؤدد
…
ورقى نداه ذا الندى في ذرا المجد1
بح صوت المال مما
…
منك يشكو ويصبح
أرض لها شرف سواها مثلها
…
لو كان مثلك في سواها يوجد
لو كنت كنت كتمت السر كنت كما
…
كنا وكنت ولكن ذاك لم يكن
والشمس طالعة ليست بكاسفة
…
تبكي عليك نجوم الليل والقمرا2
ما أحببنا إلاك يا محمد
البلاغة:
معناها في اللغة: بلوغ الرجل بعبارته كنه مراده، أي: غايته. يقال: بلغ3 محمد بلاغة، إذا كان يبلغ بعبارته الغاية التي يريدها.
أما معناها في الاصطلاح، فيختلف باختلاف موصوفها وهو أحد اثنين: الكلام والمتكلم. يقال: هذا كلام بليغ، وهذا متكلم بليغ ولا توصف بها الكلمة، فلا يقال: هذه كلمة بليغة؛ لعدم ورود السماع بذلك.
بلاغة الكلام:
هي مطابقته لمقتضى حال الخطاب، مع سلامته من العيوب المخلة بفصاحته، وفصاحة أجزائه.
وحال الخطاب أي: المقام الذي ورد فيه الخطاب، وهو الأمر الحامل للمتكلم على أن يورد كلامه في صورة خاصة.
و"مقتضى الحال" هو تلك الصورة الخاصة التي ورد عليها كلام المتكلم.
و"مطابقة الكلام للمقتضى" هي اشتماله على هذه الصورة الخاصة،
1 "السؤدد" بسكون الهمزة وضم الدال السيادية، و"الندى" الكرم، و"الذرا" جمع ذروة وهي أعلى الشيء كالقمة.
2 نجوم الليل والقمرا منصوبان على المفعولية لكاسفة.
3 على زنة شرف.
فإنكار المخاطب مثلًا "حال" لأنه أمر يحمل المتكلم على أن يورد كلامه على صورة التأكيد محوًا لهذا الإنكار، وصورة التأكيد التي ورد عليها الكلام هي مقتضى الحال، واشتمال الكلام على هذه الصورة هو معنى مطابقته للمقتضى.
مثال ذلك أن تقول لمنكر إمارة شوقي للشعر: "إن شوقيا لأمير الشعر" فإنكار المخاطب هو الحال؛ لأنه أمر دعاك لأن تورد كلامك مصورًا بصورة التأكيد، وصورة التأكيد هي مقتضى الحال، واشتمال هذا الكلام على هذه الصورة هو المطابقة للمقتضى، فهذا القول حينئذ كلام بليغ؛ لأنه مطابق لمقتضى الحال.
ومثل الإنكار "المدح" فهو حال تدعو المتكلم لأن يورد كلامه على صورة الإطناب؛ لأن مقام المدح يقتضي الإطالة في القول، والبسط فيه.
وكذلك ذكاء المخاطب حال تدعو المتكلم لأن يورد كلامه على صورة الإيجاز؛ لأن مقام الذكاء يقتضي الاختصار في الكلام، وكل من صورتي الإطناب والإيجاز مقتضى الحال، واشتمال الكلام على صورة الإطناب أو الإيجاز مطابقة للمقتضى، وهكذا يقال في كل حال من أحوال الخطاب1.
ومما ذكرنا نعلم أن:
مقتضيات الأحوال تختلف باختلاف تلك الأحوال، فإن كانت الحال إنكارًا من المخاطب مثلًا كان المقتضى توكيدًا؛ لأنه هو المناسب لحال المنكر
1 هناك قول آخر هو أن مقتضى الحال الكلام الكلي المشتمل على التأكيد مثلًا أو الإطناب أو الإيجاز، وليس هو التأكيد نفسه أو الإطناب أو الإيجاز كما هو الرأي الأول، فالإنكار مثلًا إنما يقتضي مطلق كلام مؤكد بأي نوع من أنواع التأكيد لا كلامًا خاصًّا مؤكدًا بتأكيد خاص، وقولنا لمنكر: إن محمدًا لكاتب، فرد من أفراد هذا المطلق المؤكد. ومعنى مطابقة هذا الكلام حينئذ أنه مندرج تحت هذا المطلق، وفرد من أفراده والفرق بين الرأيين واضح.
وإن كانت الحال ذكاء في المخاطب كان المقتضى هو الإيجاز في الكلام، والإتيان بالاعتبارات اللطيفة، والمعاني الدقيقة، اعتمادًا على هذا الذكاء، وإن كانت الحال عبارة فيه كان المقتضى هو الإطناب في القول، والإتيان بالمعاني الصريحة الواضحة لأن ذلك هو الموافق لحال الغبي
…
وهكذا: لكل مقام مقال، فللسوقة كلام لا يصح لسراة القوم وأمرائهم، وللذكي خطاب لا يناسب الغبي، وفي مواقف الحروب أو الوعيد والتهديد كلام يخالف ما يقال في مواطن توديع الأحبة، وبث الأشواق، وذكر أيام الفراق، وما قارب ذلك من معاني الاستعطاف والمعاذير، ففي الأول يستعمل اللفظ الضخم، والمعنى الفخم، وفي الثاني يستعمل اللفظ الرقيق الحاشية، الناعم الملمس، اللطيف الموقع، وإن لنا في القرآن والحديث لخير قدوة في استعمال ما يناسب المقام من فنون الكلام.
تنبيهان:
الأول: مما تقدم تعلم أن مراتب البلاغة تتفاوت في العلو والانحطاط بتفاوت مراعاة تلك المقتضيات، والاعتبارات المناسبة للمقام. فكلما كانت رعاية تلك المقتضيات أوفى بالغرض، وأليق بالمقام كان الكلام أبلغ وأسمى، وكلما كانت تلك الرعاية أقل وفاء، وأبعد لياقة كان الكلام أحط مرتبة وأقل بلاغة، فإذا كنت مثلا تخاطب ذكيا منكرا لحكم من الأحكام وجب أن تراعي في خطابك ذكاءه وإنكاره معًا، فتعطي له من الكلام ما يناسب ذكاءه من الإيجاز، وما يلائم إنكاره من التأكيد، فإذا راعيت ذلك كان كلامك أبلغ وأسمى مكانة؛ لأنه أكمل مطابقة لمقتضى حال الخطاب. وإن راعيت في الخطاب معه أحد الأمرين بأن أوجزت ولم تؤكد، أو أكدت ولم توجز كان كلامك أقل بلاغة وأدنى مكانة، فإن لم تراع الأمرين جميعًا كان كلامك عاطل الجيد من حلية البلاغة، وكاد يلتحق بأصوات الحيوان.
ولهذا كان القرآن الكريم في أعلى طبقات البلاغة؛ لصدوره عمن هو أعلم بكافة الأحوال: ظاهرها وخفيها، وأدرى بمقتضياتها واعتباراتها {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} .
الثاني: إنما شرطنا في بلاغة الكلام أن يسلم من العيوب المخلة بفصاحته وفصاحة أجزائه؛ لتعلم أن البلاغة أخص من الفصاحة، وأن كل كلام بليغ لا بد أن يكون فصيحًا ولا عكس.
فإذا قلت لمنكر: إن أنف هذا لمسرج، أو قلت: والله ليس بقرب قبر حرب قبر، لم يكن كلامك بليغًا مع أنه مطابق لمقتضى حال المخاطب، ذلك لفقدان شرط الفصاحة فيه، أما في المثال الأول فلكون بعض أجزائه وحشيًّا غريبًا، وأما في الثاني فلكونه متنافر الكلمات مجتمعة.
وإذا قلت لمن ينكر كرم علي ونبله: "علي كريم الخلق نبيل الطبع" من غير تأكيد، كان كلامك فصيحًا لسلامته من العيوب المخلة بالفصاحة، ولكنه ليس بليغًا لعدم مطابقته لمقتضى حال المنكر؛ إذ إن حاله يقتضي التأكيد محوًا لإنكاره.
فعلم من هذا أن الكلام لا يكون بليغًا إلا إذا كان فصيحا لأخذ شرط الفصاحة فيه، أما الفصاحة في الكلام فتتحقق بدون البلاغة لعدم أخذ شرط البلاغة فيها، كما يتبين لك ذلك من الأمثلة السابقة ا. هـ.
بلاغة المتكلم:
هي ملكة أو صفة قائمة بالمتكلم راسخة فيه، يتمكن بها متى شاء من تأليف كلام بليغ في أي معنى يريده.
فالمدار "كلما قلنا في فصاحة المتكلم" على أن تكون فيه هذه الصفة ثابتة راسخة، يستخدمها -متى أراد- في أي فن من فنون الكلام، فهو بليغ وإن لم ينطق متى وجدت فيه هذه القدرة على صوغ الكلام البليغ، فإذا فقد هذه القدرة لم يكن
بليغًا، كما لا يكون كذلك إذا استطاع صوغ الكلام البليغ في معنى دون آخر.
وقياسًا على ما سبق من أن البلاغة أخص من الفصاحة، يكون المتكلم البليغ أخص من الفصيح؛ لأن المتكلم البليغ هو "كما قلنا" من به ملكة الإتيان بكلام بليغ، والكلام البليغ "كما تقدم" مشروط فيه الفصاحة؛ وحينئذ لا يكون المتكلم بليغًا حتى يكون فصيحًا، أما المتكلم الفصيح فقد يفقد صفة البلاغة بأن يصوغ كلامًا خاليًا من العيوب المخلة بالفصاحة، غير مطابق لمقتضى الحال كما إذا قلت لمنكر نجاح أخيه:"نجح أخوك" من غير تأكيد. ومما تقدم تعلم أن:
البلاغة يتوقف تحققها على أمرين:
الأول: الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد، وهو معنى مطابقة الكلام لمقتضى حال الخطاب، على ما تقدم بيانه.
الثاني: سلامته من العيوب المخلة بفصاحته، على ما فصلناه لك سابقًا.
تتمة:
علمت مما تقدم في بيان تعريف الفصاحة والبلاغة ما يعرض للفظ من عيوب، وما ينتابه من خلل، فيجمل بنا إذًا أن نعرف: بم نتقي هذه العيوب ونتجنب هذا الخلل في كلامنا حتى يخرج اللفظ سليمًا معافى في جوهره، وصيغته، ومعناه، لا يشكو عيبًا، ولا يحس نقصًا؟ فنقول:
أ- الغرابة: يمكن اجتنابها بالاطلاع على علم متن اللغة، فمن تتبع كتب اللغة، ووقف على معاني المفردات المستعملة علم أن ما عداها مما يفتقر إلى تنقيب، أو تخريج غير سالم من الغرابة.
ب- المخالفة: يمكن الاحتراز عنها بالوقوف على ما نقل عن الواضع في معاجم اللغة، أو بالاطلاع على قواعد علم الصرف فهو الباحث في صيغ
المفردات ونهج استعمالها، فمن ألم بقواعده عرف أن نحو "الأجلل" مثلًا مخالف دون "الأجل" إذ من قواعدهم أن المثلين إذا اجتمعا في كلمة واحدة، وكان ثانيهما متحركًا، ولم يكن زائدًا لغرض وجب إدغامها.
ج- ضعف التأليف والتعقيد اللفظي: يمكن توقيهما بمعرفة قواعد النحو، إذ هو الباحث في طرق استعمال المركبات على الوجه الحق، فمن مارس هذا العلم، ووقف على أصوله ومسائله استطاع أن يصوغ الكلام على نهج قويم سليم من شوائب الضعف والتعقيد.
د- التنافر: ملاك معرفته الذوق السليم، فلا حاكم فيه سواه، فهو الذي يدرك أن نحو "مستشزر" متنافر دون مرتفع، وهو الذي يدرك ما بين الكلمات من تنافر أو تضافر، وقد تقدم في ذلك خلاف.
هـ- التعقيد المعنوي: يعرف من دراسة علم البيان، فمن زاول هذا العلم وأحصى مسائلة عرف كيف يتوقى التعقيد في معاني الكلام، وكيف يبرزه لك فاتحًا صدره، كاشفًا لك عن ضميره.
والاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى يعرف من دراسة علم المعاني، فمن مارس هذا العلم، وكشف عن أمره، ووقف على سره عرف كيف يتوقى الخطأ في تأدية المعنى المراد، وكيف يطبق الكلام على مقتضيات الأحوال.
أما الوجوه التي تخلع على اللفظ خلعة البهجة والبهاء فتعرف من علم البديع؛ إذ به نعرف كيف نحلي من اللفظ جيده العاطل، بما يبهج القلب، ويطرب السمع، ويشرح الخاطر.
والثلاثة الأخيرة هي المسماة بعلوم البلاغة، وبعض الأئمة يسمي الكل "علم البيان" لأن البيان هو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير، قال الجاحظ: البيان: اسم جامع لكل ما كشف لك عن المعنى، وبعضهم يسمي الجميع "علم البديع" لما في مباحثه من الإبداع والابتداع.
تمرين:
1-
اذكر معنى البلاغة في اللغة، ومعناها في اصطلاح علماء البلاغة.
2-
بين معنى بلاغة الكلام، مع بيان معنى الألفاظ الآتية: الحال، مقتضى الحال، المطابقة، ثم ائت بمثال من عندك موضحًا فيه ذلك.
3-
إذا استطاع متكلم أن يؤلف كلامًا في الطبقة العليا من البلاغة في أحد الأغراض؛ كالمدح أو الرثاء، فهل يعد في عرف البلغاء بليغًا؟
4-
بين وجه خروج الجمل الآتية عن حد البلاغة:
1-
قال رجل لمنكر قدوم الأمير: الأمير قادم.
2-
نزلت بالعدو داهية خنفقيق1.
3-
قال الفرزدق يمدح خالدًا، ويذم أسدًا أمير خراسان بعد خالد:
وليست خراسان التي كان خالد
…
بها أسد إذ كان سيفًا أميرها2
4-
قتل أخوه اللص.
5-
قال ابن نباتة في خطبة له، يذكر فيها أهوال يوم القيامة: اقمطر3 وبالها، واشمخر4 نكالها، فما ساغت، ولا طابت.
6-
إذا جاوز الاثنين سر فإنه
…
بنشر وتكثير الوشاة قمين5
الجواب على السؤال الأخير:
1-
لم يكن القول المذكور بليغًا؛ لعدم مطابقته لمقتضى الحال، إذ إن حال المخاطب يقتضي التأكيد.
1 أي: شديدة.
2 أصل الكلام: وليست خراسان بالبلد التي كان خالد بها سيفا، إذ كان الأسد أميرها، وفي "كان" الثانية ضمير الشأن، والجملة بعدها خبر عنها.
3 اشتد.
4 طال.
5 أي: جدير، يقول الشاعر: إذا جاوز وتعدى السر شخصين، لم يعد سرًّا خافيًا، فإذا شاع وذاع لم يكن بدعًا؛ لأنه خليق بذلك.
2-
غير بليغ؛ لأن في بعض أجزائه غرابة في المعنى، وتنافرًا في الحروف، وهذا مخلّ بفصاحة الكلام التي هي شرط في بلاغته.
3-
ليس من البلاغة في شيء؛ لما فيه من تعقيد في اللفظ، خفي المعنى بسببه. وهذا مخل بفصاحة الكلام المأخوذة شرطًا في بلاغته.
4-
غير بليغ؛ لعدم فصاحته لما فيه من الإضمار قبل الذكر، وهو ضعف في تأليف الكلام.
5-
خرج عن حد البلاغة؛ لأن في بعض أجزائه غرابة في المعنى وتنافرًا في الحروف، وهما مخلان بالفصاحة.
6-
ليس بليغًا؛ لمخالفته في لفظ "الاثنين" ما سمع عن العرب الفصحاء، ولمخالفته للقياس الصرفي، إذ إن هذه الكلمة من مواضع همزة الوصل، لا همزة القطع كما عرف في محله.
تمرين على هذا السؤال يطلب جوابه:
قال رجل لآخر لا ينكر عليه شيئًا: والله إن محمدًا لكريم الخلق. قال بعض الوعاظ في كلام له: حتى جنأت1 وجنات جنات الحبيب. مر رجل بخياط وقد خرج الرجل يبحث عن فرسه ومهر لها، فقال له: يا ذا النصاح2 وذات السم3 الطاعن بها في غيره وغى4 لغير عدا5، هل رأيت الخيفقانة6 القثاء7 يتبعها الحاسن8 المسرهف9 كأن غرته القمر الأزهر ينير في حضره10
1 أي: جنيت.
2 النصاح بكسر النون: الخيط.
3 ذات السم بفتح السين: الإبرة.
4 الوغى: الحرب.
5 جماع: عدو.
6 الفرس الطويلة الظهر.
7 بالثاء المشددة هي: الدقيقة الخصر، الضامرة البطن.
8 من حسن يحسن.
9 بفتح الهاء: المنعم المرهف.
10 بضم فسكون: الارتفاع عند الجري.