الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاستعارة في الفعل:
الفعل له مادة هي حروفه الدالة على الحدث، وله صيغة وهي الهيئة الدالة على الزمان كما في صيغتي الماضي والمضارع. والاستعارة في الفعل باعتبار مادته غيرها باعتبار صيغته، على ما سيأتي بيانه بعد.
فمثالها في الفعل من حيث مادته، قولك: نطقت الحال بكذا، فالنطق "كما هو معلوم" وصف للإنسان لا للحال، وإنما توصف الحال بالدلالة.
وتقريرها حينئذ أن يقال: شبهت الدلالة الواضحة بالنطق في إيضاح المعنى، ثم استعير لفظ "النطق" بعد التناسي والادعاء للدلالة الواضحة، فصار النطق بمعنى الدلالة الواضحة، ثم اشتق من النطق بهذا المعنى "نطقت" بمعنى "دلت" على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. ومنه قوله تعالى:{وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} فالإحياء وهو إيجاد الروح إنما يناسب الحيوان لا الأرض، والذي يناسب الأرض إنما هو "التزيين" فيشبه حينئذ "تزينها" بالنبات ذي الخضرة والنضرة "بالإحياء" في الحسن والنفع، ثم يستعار لفظ "الإحياء" بعد التناسي والادعاء للتزيين، ثم يشتق من الإحياء بمعنى التزيين "يحيي" بمعنى "يزين" على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.
ومثالها في الفعل من حيث صيغته قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} فمن المعلوم أن أمر الله لم يأت بعد وإنما سيأتي، بدليل قوله:{فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} فكان سياق الكلام أن يقول: يأتي أمر الله، ولكنه عبر بصيغة الماضي تجوزا في التعبير مبالغة؛ لأن أمر الله آتٍ لا محالة.
وتقرير الاستعارة فيه أن يقال: شبه الإتيان في المستقبل بالإتيان في الماضي في تحقيق الوقوع، ثم استعير لفظ "الإتيان في الماضي" بعد التناسي والادعاء للإتيان
في المستقبل، ثم اشتق منه {أَتَى} بمعنى "يأتي" على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية. ومثله قوله تعالى:{وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} فمما لا شك فيه أن النداء المذكور إنما يكون في الدار الأخرى، فكان سياق الكلام أن يقول: وينادي أصحاب الجنة، لكنه عبر بصيغة الماضي تجوزًا.
وإجراء الاستعارة فيه على نحو ما سبق في {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} فيقال: شبه النداء في المستقبل بالنداء في الماضي في تحقق الوقوع، ثم استعير "لفظ النداء في الماضي" بعد التناسي والادعاء للنداء في المستقبل، ثم اشتق منه "نادى" بمعنى ينادي على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.
وكما تستعمل صيغة الماضي في المستقبل -كما مثلنا- تستعمل صيغة المضارع في الماضي كما في قوله تعالى: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} فالرؤيا المذكورة وقعت "بالفعل" فكان سياق الكلام أن يقول: "إني رأيت" لكنه عبر بـ {أَرَى} تجوزًا في العبارة.
وتقرير الاستعارة فيها أن يقال: شبهت الرؤيا الماضية بالرؤيا الحاضرة في استحضار الصورة الغريبة، وهي صورة ذبح إبراهيم عليه السلام لابنه، ثم استعير لفظ الرؤيا في الحاضر للرؤيا في الماضي، ثم اشتق منه {أَرَى} بمعنى "رأيت" على سبيل الاستعارة التبعية، وعلى هذا يقاس.
ومثالها في "الصفة المشبهة" قولك: "إنما أصادق الأعمى عن العورات" فقد شبه غضّ البصر بالعمى في عدم الرؤية، ثم استعير لفظ "العمى" بعد التناسي والادعاء لغض البصر، ثم اشتق من العمى بمعنى غض البصر "أعمى" بمعنى غاضّ البصر، على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية.
ومثالها في "أفعل التفضيل" قول الشاعر:
ولئن نطقت بشكر برك مفصحًا
…
فلسان حالي بالشكاية أنطق
شبهت الدلالة بالنطق على نحو ما سبق، ثم استعير النطق للدلالة، ثم اشتق من النطق بمعنى الدلالة "أنطق" بمعنى "أدل" على طريق الاستعارة التبعية.
ومثالها في اسمي الزمان والمكان قولك: "هذا مقتل فلان" مشيرًا إلى مكان ضربه، أو زمانه، فيشبه الضرب الشديد بالقتل على قياس ما سبق في اسمي الفاعل والمفعول، ثم يشتق من القتل بمعنى الضرب الشديد "مقتل" اسم زمان أو مكان على سبيل الاستعارة التبعية. ومنه قوله تعالى:{مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} ؟ فمما لا ريب فيه أن هذا السؤال منهم إنما يكون بعد البعث من القبور، فالمراد "بالمرقد" حينئذ موضع الموت أي: القبر، لا موضع الرقاد وهو النوم؛ فقد شبه الموت بالرقاد في عدم الحس أو عدم النفع، ثم استعير لفظ "الرقاد" بعد التناسي والادعاء للموت، ثم اشتق من الرقاد بمعنى الموت "مرقد" بمعنى مكان الموت، وهو القبر على سبيل الاستعارة التبعية. وإن قدر "المرقد" مصدرًا ميميًّا بمعنى "الرقاد" واستعير للموت كانت الاستعارة أصلية؛ لأن اللفظ المستعار حينئذ اسم جنس غير مشتق.
ومثالها في اسم الآلة قولك: "هذا مفتاح الملك" مشيرًا إلى أحد وزرائه.
وتقرير الاستعارة فيه أن يقال: شبهت الوزارة1 بفتح الأبواب المغلقة في التوصل إلى المقصود، ثم استعير لفظ "الفتح" بعد التناسي والادعاء للوزارة، ثم اشتق من الفتح بمعنى الوزارة "مفتاح" بمعنى وزير على سبيل الاستعارة التبعية. وهكذا يقال في سائر المشتقات، ولا يعوزك القياس.
وسميت الاستعارة في الفعل والاسم المشتق تبعية؛ لجريانها فيهما تبعًا لجريانها في المصدر "كما رأيت". فتشبيه الدلالة في قولك: "نطقت الحال بكذا" يتبعه تشبيه "دل بنطق" واستعارة النطق للدلالة يتبعه كذلك استعارة "نطق لدل" لأن الفعل مشتق من المصدر، فكل تصريف يجري في المصدر يجري نظيره في الفعل تبعًا له، وهكذا سائر المشتقات.
1 مصدر بمعنى المؤازرة.