الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التقسيم السادس:
ينقسم التشبيه باعتبار الوجه أيضًا إلى قسمين: قريب مبتذل، وبعيد غريب، وإليك بيانهما:
فالقريب المبتذل: ما ينتقل فيه الذهن من المشبه إلى المشبه به من غير تأمل، ونظر بسبب وضوح وجه الشبه فيهما كتشبيه حسناء الوجه بالقمر في الإشراق وحسن الصوت بالبلبل في حسن النغم، فكلا التشبيهين قريب، في متناول العامة، مبتذل، يكثر تداوله بين الناس لظهور وجه الشبه بين الطرفين "كما ترى".
وأسباب وضوح وجه الشبه ثلاثة:
أ- أن يكون الوجه شيئًا واحدًا لا تعدد فيه، ولا تفضيل كالمثالين السابقين، فإن وجه الشبه في الأول "الإشراق" وفي الثاني "حسن النغم" وكلاهما شيء واحد، ولا شك أن إدراك الشيء الواحد لا يحتاج سوى ملاحظة واحدة، بخلاف غيره فإنه يحتاج إلى عدة ملاحظات.
ب- أن يكون في الوجه نوع تفصيل يحتاج إلى تعدد الملاحظة، غير أنه يسرع حضور صورة المشبه به في الذهن عند حضور صورة المشبه؛ لشدة التناسب بين الصورتين، كأن تشبه العنب بالبرقوق في حجمه ولونه، ففي وجه الشبه بين الطرفين تفصيل ما إذ لوحظ فيه أمران: الحجم واللون، وهذا يقتضي شيئًا من غرابة التشبيه وبعده، ولكن عارض ذلك ما يقتضي قربه وابتذاله وهو سرعة حضور المشبه به في الذهن عند حضور صورة المشبه؛ لما بينهما من شدة الانسجام، وقوة المناسبة إذ إن العنب والبرقوق من فصيلة واحدة ويجمعهما زمن واحد وسوق واحدة، فلا أثر للتفصيل في وجه الشبه مع قوة هذه المناسبة. ومثله تشبيه الجرة الصغيرة بالكوز في "المقدار والشكل" فإن سرعة حضور صورة الكوز في الذهن عند حضور صورة الجرة فيه لشدة المناسبة بين الصورتين عارضت التفصيل في الوجه على نحو ما ذكرناه في المثال الأول؛ لهذا كان التشبيه قريبًا مبتذلًا.
حـ- أن يكون في الوجه شيء من التفصيل "كسابقه" يحتاج إلى تعدد الملاحظة، غير أنه يكثر حضور صورة المشبه به في الذهن مطلقًا أي: لا بقيد حضور صورة المشبه؛ وذلك لكثرة مشاهدة صورة المشبه به وتكررها على الحس، فإن المشاهد كثيرًا يكثر خطوره بالبال عادة كتشبيه إنسان بالقمر في الرفعة والهداية، وكتشبيه المرآة المجلوة بالشمس في الاستدارة والاستنارة، ففي وجه الشبه بين الطرفين في "المثالين" شيء من التفصيل إذ لوحظ فيه أمران: الرفعة والهداية "في الأول"
والاستدارة والاستنارة في الثاني، وهذا يقتضي غرابة التشبيه وبعده ولكن عارض ذلك ما جعله قريبًا مبتذلًا وهو كثرة حضور صورة المشبه به في الذهن لكثرة مشاهدتها، إذ ليس من شك أن صورة "القمر" في المثال الأول، وصورة "الشمس" في المثال الثاني مما يشاهد كثيرًا.
والغريب البعيد: هو ما لا ينتقل فيه الذهن من المشبه إلى المشبه به بعد إعمال فكر، ودقة نظر بسبب خفاء وجه الشبه فيهما.
وأسباب خفاء الوجه ثلاثة أيضًا:
1-
أن يكون الوجه كثير التفصيل، يحتاج إلى كثرة الملاحظات والاعتبارات، كما في تشبيه الخد بالشقيق في قول الشاعر:
لا تعجبوا من خاله في خده
…
كل الشقيق بنقطة سوداء
فوجه الشبه بين الطرفين هو الهيئة الحاصلة من وجود نقطة مستديرة سوداء في وسط رقعة مبسوطة حمراء، وفيه من كثرة التفصيل والاعتبارات ما لا يقع في نفس مريد التشبيه إلا بعد تأمل وروية. وكما في تشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل، فإن الهيئة المشتركة في كليهما -على ما تقدم بيانه- لا تقوم بنفس مريد التشبيه إلا بعد أن يتأمل ويتعمل.
ب- أن يندر حضور صورة المشبه به في الذهن عند حضور صورة المشبه؛ لبعد التناسب بين الصورتين، وعدم التجانس بينهما كما في تشبيه القمر بالعرجون في قوله تعالى:{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} 1 فصورة "العرجون" في ذاتها غير نادرة الحضور في الذهن، ولكنها تندر عند استحضار صورة "القمر" للبون الشاسع بين الصورتين؛ فإن القمر مسكنه في السماء، والعرجون في الأرض، والقمر من فصيلة الكواكب، والعرجون من قبيل النباتات، والقمر مثال العلو والهداية، والعرجون شيء تافه حقير لا تكاد تظهر له فائدة، فشتان ما بين الصورتين، وناءٍ ما بين الطرفين. وكقول الشاعر:
1 هو عذق النخل، إذا يبس.
ولازوردية تزهو بزرقتها
…
بين الرياض على حمر اليواقيت
كأنها فوق قامات ضعفن بها
…
أوائل النار في أطراف كبريت1
كان المناسب للشاعر أن يشبه صورة أزهار البنفسج وهي على سيقانها بما يناسبها من الأزهار، إذ هو الذي يتبادر إلى الذهن عند استحضار صورة البنفسج، ولكنه شبهها بصورة النار في أطراف الكبريت أول شبوبها. ووجه الشبه: الهيئة الحاصلة من تعلق أجرام صغيرة لطيفة ذات لون خاص بجرم دقيق يخالفها لونًا، فصورة النار في أطراف الكبريت غير نادر الحضور في الذهن لأنها في متناول الناس، واقعة بين أيديهم وأرجلهم، لكنها تندر عند حضور صورة البنفسج وهو على سيقانه لما بينهما من عدم التجانس وبعد الموطن. فذاك زهر ندي لطيف، وهذا لهب حار عنيف، وذاك يسكن الخمائل، وهذا يستوطن المنازل، فبعد ما بين الطرفين.
جـ- أن يندر حضور المشبه به في الذهن مطلقًا أي: سواء حضرت صورة المشبه في الذهن أو لا؛ وذلك لأمور منها:
1-
أن يكون المشبه به وهميًّا أي: من اختراع الوهم، كما في تشبيه النصال المسنونة الزرق بأنياب الأغوال في قول الشاعر السابق، فإن أنياب الأغوال مما لا وجود له إلا في الوهم.
2-
أن يكون المشبه به خياليًّا أي: من نسيج الخيال، كصورة أعلام من ياقوت، منشورة على رماح من زبرجد في قول الشاعر المتقدم. إن هذه الصورة وما شاكلها من الهيئات المركبة لا وجود لها في غير الخيال.
3-
أن يندر تكرر صورة المشبه به على الحس، كصورة المرآة في كف الأشل، فقد ينقضي عمر الإنسان ولا يرى مرآة في كف إنسان أشل.
1 لازوردية بكسر الزاي وفتح الواو وسكون الراء صفة محذوف أي: ورب أزهار من البنفسج لازوردية، نسبة إلى الحجر المسمى باللازورد؛ لكونها على لونها فهي نسبة تشبيهية، وتزهو من الزهو وهو الكبر، ونسبة التكبر إلى البنفسج تجوز، وحمر اليواقيت من إضافة الصفة للموصوف أي: رب أزهار من البنفسج لازوردية نسبة إلى الحجر المسمى باللازورد استعارة أراد بها الأزهار الحمر؛ لمشابهة الأزهار لها وهو المناسب للبنفسج بدليل قوله: "بين الرياض".
تنبيه:
إنما كانت كثرة حضور صورة المشبه به في الذهن سببًا في ظهور وجه الشبه، وندرة حضور صورته سببًا في خفاء الوجه؛ لأن وجه الشبه "كما علمت" مشترك بين الطرفين، قائم بهما، فتصوره فيهما موقوف على تصورهما، فإذا كان المشبه به كثير الحضور في الذهن، أو نادر الحضور فيه لزم أن يكون وجه الشبه أيضًا كثير الحضور أو نادرًا تبعًا له، ومن هنا كان وضوحه أو خفاؤه.
تمرين:
1-
عرف وجه الشبه، ثم ائت بمثال يكون أحد الطرفين فيه حسيًّا والوجه عقليًّا، وبآخر يكون الوجه في أحد الطرفين تخيليًّا.
2-
بين وجه الشبه، ونوع التشبيه باعتبار هذا الوجه فيما يأتي:
1-
لفظ كالسحر وخلق كالعطر.
2-
له صوت كرنين الأوتار.
3-
التقي كالمصباح يضيء في الظلام.
4-
وما المرء إلا كالشهاب وصوته
…
يوافي تمام الشهر ثم يغيب
5-
محمد كأبيه شجاعة وإيمانًا وكرمًا.
6-
له قول يخترق القلوب كالسهم.
مهفهف وجنتاه
…
كالخمر لونًا وطعما
7-
8-
طلق شديد البأس راحته
…
كالبحر فيه النفع والضرر
9-
هذا أبو الهيجاء في الهيجاء
…
كالسيف في الرونق والمضاء
10-
وقد لاح في الصبح للثريا كما ترى
…
كعنقود ملاحية حين نورا1
1 الثريا: طائفة من النجوم متقاربة، على شكل خاص "وملاحية" بضم الميم، وتشديد اللام: عنب أبيض في حبه طول، وتخفيف اللام فيه أكثر والإضافة بيانية، و"نور" ظهر نوره، أي: تفتح زهره.
11-
كأنك شمس والنجوم كواكب
…
إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
12-
يا شبيه البدر في الحسـ
…
ـن وبعد المنال
13-
السفرجل كالبرتقال في لونه، وشكله، وحجمه.
14-
أنت كالمصباح في ضوئه وهدايته.
15-
النساء حبائل الشيطان.
16-
كأن صغرى وكبرى من فقاقعها
…
حصباء در على أرض من الذهب1
جواب التمرين الثاني:
1 "الفقاقيع" هي ما يطفو على وجه الماء كالبرد، ومفرده: فقاعة على زنة رمانة، و"الحصباء": الحصا.
تمرين يطلب جوابه على قياس ما سبق:
كلام ذي الفهامة كسكوته، وإشارة الفصيح كعبارته؛ قال الشاعر:
الشمس من مشرقها قد بدت
…
مشرقة ليس لها حاجب
كأنها بوتقة أحميت
…
يجول فيها ذهب ذائب
الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر. قد بدت هند قمرًا، وتضوعت مسكًا، وخطرت غزالًا. فلان كالبحر لا يعكره ولوغ الكلاب. إنك كالبحر في مده وجزره، وكالدهر في إقباله وإدباره. الأماني حلم اليقظان. حجة كفلق الصبح. مرآة الغريبة كالشمس استدارة، وصفاء النار في أطراف الكبريت كالبنفسج. قال الشاعر:
تزجي أغن كأن إبرة روقه
…
قلم أصاب من الدواة مدادها
وأرض كأخلاق الكريم قطعتها
…
وقد كحل الليل السماك فأبصرا