الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مبحث أغراض التشبيه:
أغراض التشبيه: هي البواعث التي تحمل المتكلم على أن يعقد شبها بين شيئين، وهي على ضربين:
1-
ما يعود على المشبه، وهو الأكثر.
2-
ما يعود على المشبه به.
الأغراض التي تعود على المشبه، وهي سبعة:
الاول: بيان حال المشبه، إذا كان المخاطب يجهل حال ذلك المشبه، ويريد أن يعرف حاله أي: وصفه الذي هو عليه، فيلحق بمشبه به معروف لدى المخاطب بيانًا لهذه الحال؛ كقول امرئ القيس السابق:
كأن قلوب الطير رطبًا ويابسًا
…
لدى وكرها العناب والحشف البالي
شبه الرطب من قلوب الطير، واليابس منها بالعناب، والحشف البالي بيانًا لما فيها من الأوصاف كالشكل، والمقدار، واللون. وكما في تشبيه ثوب بآخر في بياضه أو سواده، أو نحو ذلك.
وينبغي لتحقيق هذا الغرض أن يكون المشبه به معروفا عند المخاطب بوجه الشبه؛ لأن الغرض تعريف حال المشبه المجهول للمخاطب، فلو لم يكن المشبه به معروفًا لدى المخاطب من قبل للزم تعريف المجهول بالمجهول.
وليس بلازم هنا أن يكون المشبه به أتم وأقوى في وجه الشبه من المشبه وإن كان الشأن فيه ذلك؛ لأن المخاطب إنما يجهل حال المشبه، ويريد مجرد تصورها، وهذا يكفي فيه أن يكون المشبه به معروفًا بوجه الشبه عند المخاطب. فإذا قيل: ما لون ثوبك الذي اشتريته؟ فقلت: كهذا الثوب في سواده مثلًا، فقد تم الغرض؛ ولا يتوقف على كون هذا الثوب أتم من الثوب المشترى في سواده؛ لأن ذلك زائد على المطلوب.
الثاني: بيان مقدار حال المشبه من القوة والضعف، وذلك إذا كان المخاطب يعلم
حال المشبه ويجهل مقدار الحال، ويريد الوقوف على مقدارها، فيلحق حينئذ بشيء يعلم المخاطب مقدار حاله، كقول الشاعر:
فيها اثنتان وأربعون حلوبة
…
سودًا كخافية الغراب الأسحم1
شبه النياق السود بخافية الغراب في شدة السواد، وبهذا التشبيه اتضحت حال المشبه واستقر في الذهن مقدار سواده، وأنه بين الحلكة شديدها. وكتشبيه صوت ضعيف بالهمس، أو قوي بالرعد؛ بيانًا لمقدار ضعف هذا الصوت أو قوته.
ولتحقيق هذا الغرض ينبغي أن يكون المشبه به أعرف، وأشهر بوجه الشبه من المشبه لدى المخاطب، كما في الأمثلة المذكورة.
غير أنه يجب هنا أن يكون المشبه به مساويًا للمشبه في وجه الشبه لا أكثر ولا أقل؛ إذ لو كان المشبه به أتم في وجه الشبه، أو أنقص منه لم يتعين المقدار، فلم يتم الغرض من التشبيه كما في تشبيه شراب بالثلج في شدة البرودة أو بالنار في شدة الحرارة، اللهم إلا إذا قصدت المبالغة.
الثالث: بيان إمكان المشبه أي: بيان أن المشبه أمر ممكن الوجود، وذلك إذا كان أمرًا غريبًا من شأنه أن ينازع فيه؛ ويدعى امتناعه، فيمثل حينئذ بشيء مسلم الوقوع ليكون دليلًا على إمكان وجوده، كما في قول أبي الطيب من قصيدة يرثي بها والدة سيف الدولة:
فإن تفق الأنام وأنت منهم
…
فإن المسك بعض دم الغزال
ادعى الشاعر أن الممدوح من السمو والرفعة بحيث فاق الجنس البشري الذي هو أحد أفراده، وصار كأنه جنس آخر. ولما كان هذا المعنى "في بادي الرأي" غريبًا في بابه، لا تقبله العقول لاستبعاد أن يخرج الشيء عن جنسه، أراد أن يؤيده بما لا نزاع فيه ليتبين إمكانه، فشبهه بشيء أقرته العقول، وآمنت به، وهو "المسك" فإنه خرج عن أصله، وتحول إلى جنس آخر لما فيه من معنى ليس في سائر الدماء
1 "الحلوبة": الناقة ذات اللبن الغزير، والخافية: ريش في الطائر يختفي إذا ضم جناحيه، و"الأسحم": شديد السواد.
أي: وإذا جاز أن يفوق الشيء أصله لميزة فيه، فليس ببعيد أن يفوق الممدوح جنسه لما فيه من جليل الصفات. ومن هذا البيان يتبين أمران:
أحدهما: أن قوله: "فإن المسك
…
إلخ" لم يؤت به جوابًا للشرط في المصراع الأول، وإنما سيق مساق الدليل على هذا الجواب، وكأنه يقول: فإن تفق الأنام وأنت منهم فلا بدع ولا غرابة؛ لأن لك نظيرًا هو "المسك" فقد حذف الجواب، وهو قوله: "فلا بدع ولا غرابة" واستغنى عنه بهذا الدليل.
ثانيهما: أن التشبيه في "البيت" ليس صريحًا، بل دل عليه الكلام ضمنًا، ذلك أن المعنى لهذا الكلام هو أنه لا بدع ولا عجب أن يخرج الممدوح عن بني جنسه لمعنى فيه ليس فيهم؛ لأن المسك بعض دم الغزال، وهو "مع ذلك" لا يعد من الدماء لما اختص به من معنى كريم ليس فيها. ومفهوم هذا أن حال الممدوح شببهة بحال المسك وبهذا التشبيه الضمني تبين أن المشبه أمر ممكن الوجود.
ولتحقيق هذا الغرض ينبغي أن يكون المشبه به أعرف وأشهر بوجه الشبه من المشبه كالذي قبله.
وليس بلازم هنا أن يكون المشبه به أتم من المشبه في وجه الشبه؛ لأن المطلوب فيه إثبات نظير المشبه ليفيد عدم استحالته. وهذا يكفي فيه مجرد وجود وجه الشبه به خارجًا، ولا يتوقف الغرض على أن يكون الوجه فيه أتم منه في المشبه. فإذا قلت لإنسان: إنك في خروجك عن جنسك كالمسك تم الغرض بمجرد العلم بخروج المسك عن جنسه وإن لم يكن المسك أتم منه في هذا الخروج، وإن كان الواقع أن المسك أتم خروجًا عن جنسه من الممدوح.
الرابع: تقرير حال المشبه، وتمكينها في نفس السامع بإبرازها في صورة هي فيها أوضح وأقوى، وذلك فيما إذا كان المشبه به مما يدرك بالحس، إذ التمثيل
بالمحسوس يفيد زيادة قوة وتمكين، كما في قول الشاعر:
إن القلوب إذا تنافر ودها
…
مثل الزجاجة كسرها لا يجبر
شبه الشاعر القلوب المتنافرة بالزجاجة المتصدعة بجامع تعذر العودة إلى الحالة الأولى. ولما كان تنافر القلوب، وتعذر عودتها إلى التواصل كما كانت من الأمور المعقولة التي لا تطمئن إليها النفس أيما اطمئنان أراد أن يبرز هذا المعنى في شيء يرى بالعين لتسكن إليه النفس، وتؤمن به إيمانًا قويًّا. فشبه بالزجاجة إذا تصدعت، ومثل هذا التشبيه تجد فيه من تقرير الغرض، وتمكينه في الذهن ما لا تجده في غيره؛ لأن الجزم بالأمور الحسية أتم منه بالأمور العقلية وليس من شك في أن التئام الزجاجة بعد صدعها من الأمور المقطوع بتعذرها لتقررها في عالم الحس، ألا ترى لو وصفت يومًا بالطول فقلت: يوم كأطول ما يتوهم، أو كأنه لا آخر له أكنت تحس من الأنس والأريحية بمثل ما تجده في قول الشاعر:
ويوم كظل الرمح قصر طوله
…
دم الزق عنا واصطكاك المزاهر1
وهل تراك لو وصفته بالقصر فقلت: هو كأقصر ما يتصور، أو كلمح البصر أكنت ترى فيه من تجسيم المعنى وتشخيصه ما تراه في قولهم: أيام كأباهيم القطا2، أو في قول الشاعر:
ظللنا عند باب أبي نعيم
…
بيوم مثل سالفة الذباب3
ذلك أن اطمئنان القلب إلى المحسوس أقوى وأتم "كما عرفت" لهذا يقول الله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} .
وإن شئت المثل الأعلى لهذا النوع فعليك "بكتاب الله" في غير موضع
1 المراد بدم الزق الخمر، وهو على تقدير مضاف أي: شرب دم الزق، والزق: وعاء الخمر، و"عنا" حال من دم الزق أي: حالة كونه صادرا عنا، والمزاهر جمع: مزهر بكسر الميم، وهو العود الموسيقي، واصطكاكها: ضرب بعضها ببعض.
2 الأباهيم: جمع إبهام بكسر الهمزة، وهو أكبر أصابع اليد والرجل، والقطا جمع: قطاة، وهي طائر سريع الحركة.
3 سالفة الذباب: مقدم أعناقه.
منه؛ قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} . إلى غير ذلك من إبراز المعاني المحجوبة عن العيان في معارض الحس والمشاهدة؛ ليكون ذلك أمكن في النفس؛ فيقوى إيمانها بالمعنى، واطمئنانها إليه.
وهذا الغرض لا يتحقق إلا بالأمرين جميعًا: أن يكون المشبه به أعرف بوجه الشبه لدى المخاطب كما سبق، وأن يكون أتم وأقوى في وجه الشبه من المشبه؛ لأن النفس "كما قلنا" إلى الأتم الأقوى أميل منها إلى غيره. فإذا قلت مثلًا: إن القلوب المتنافرة يتعذر عودتها إلى التواصل، صح أن يتوهم إمكان عودتها إليه، فإذا مثلت هذا المعنى بالزجاجة المتصدعة التي لا يتوهم فيها مطلقًا أن تعود إلى الالتئام ثانيًا تمكن المعنى في النفس، وآمنت به إيمانها بالمعنى الممثل به.
الخامس: تزيين المشبه للسامع أي: تصويره له بصورة جميلة بأن يلحق بمشبه به قد استقر في النفس حسنه وحبه؛ ليتخيله السامع كذلك فيرغب فيه، كما في قول الشاعر:
سوداء واضحة الجبين
…
كمقلة الظبي الغرير1
شبه الوجه الأسود بمقلة الظبي في حسن سوادها، واستدارته تزيينا له عند السامع، وكما في تشبيه صوت حسن بصوت داود، أو جلد ناعم بالحرير، أو نكهة فم بالعطر، أو نحو ذلك.
السادس: تقبيح المشبه للسامع أي: تصويره بصورة قبيحة بأن يلحق بمشبه به تتقزز منه النفس؛ ليتخيله السامع كذلك فينفر منه، كما في قول الشاعر:
وإذا أشار محدثًا فكأنه
…
قرد يقهقه أو عجوز تلطم
شبه الشاعر إنسانًا يشير في حديثه بقرد يضحك، أو عجوز تلطم خديها في بشاعة المنظر وقبحه؛ تشويها له في نظر السامع.
1 "الغرير": الحسن الشكل.
وإذا كان المقصود تزيين المشبه أو تقبيحه بإلحاقه بمشبه به حسن أو قبيح، وجب لتحقيق هذين الغرضين أن يكون المشبه به أتم من المشبه في وجه الشبه. ولا شك أن في سواد مقلة الظبي من الحسن ما ليس في وجه أسود، وأن فيما نراه من قباحة القرد والعجوز المذكورين ما لا تجده في إنسان يشير محدثًا، مهما قبح منظره، وشاه خلقه.
السابع: استطراف المشبه أي: جعله طريفًا بديعًا في خيال السامع، وذلك يكون بأمرين:
الأول: أن يبرز في صورة ممتنعة الوجود عادة كما في تشبيه فحم سرت فيه النار ببحر من المسك، موجه الذهب. فإن صورة البحر المذكور عزيزة الوجود "كما ترى" فإذا أبرز المشبه المبتذل الذي لا يؤبه له لتفاهته "كالفحم المذكور" في صورة شيء نفيس ممتنع "كالصورة المذكورة للبحر" تخيله السامع طريفًا بديعًا.
الثاني: أن يشبه بشيء يندر حضوره في الذهن عند حضور المشبه؛ لما بينهما من بعد المناسبة، كقول عدي بن الرقاع يصف قرن الغزال:
تزجي أغن كأن إبرة روقه
…
قلم أصاب من الدواة مدادها1
فصورة القلم عليه أثر المداد قلما تخطر بالبال عند تصور قرن الغزال، فقد أراد الشاعر عناقًا بين متباعدين، وتآلفًا بين مختلفين، ومن هنا جاء الاستطراف. ومثله ما تقدم لك في تشبيه أزهار البنفسج فوق سيقانها بالنار في أطراف الكبريت، حيث أراك شبها لنبات غض وأوراق رطبة بلهب نار في جسم استولى عليه اليبس، ومبنى للطباع على أن الشيء إذا ظهر في مكان لم يعهد ظهوره فيه كانت صبابة النفس به أكثر، وكان الشغف به والميل إليه أجدر.
ولا يشترط لتحقيق هذا الغرض ما اشترط في غيره، من كون المشبه به أشهر وأتم في وجه الشبه من المشبه، بل كلما كان المشبه به أندر، وأخفى كان التشبيه لتأدية هذا الغرض أتم وأوفى.
1 "تزجي": تسوق، و"الأغن": غزال في صوته غنة، و"روقه": قرنه، و"إبرة": طرف القرن، و"المداد": الحبر، و"الدواة": المحبرة.
الأغراض التي تعود على المشبه، وهي اثنان:
الأول: إيهام المتكلم المخاطب أن المشبه أتم وأقوى في وجه الشبه من المشبه به، وذلك كما في التشبيه المقلوب أو المعكوس، وهو أن يجعل فيه الناقص مشبهًا به قصدًا إلى ادعاء أنه أكمل من المشبه به الأصلي مبالغة، كقول محمد بن وهيب يمدح المأمون الخليفة العباسي:
وبدا الصباح كأن غرته
…
وجه الخليفة حين يمتدح1
يريد الشاعر أن يشبه وجه الخليفة بغرة الصباح في الضياء والإشراق، جاعلًا وجه الخليفة مشبهًا به، وغرة الصباح مشبهًا، قاصدًا إيهام أن وجه الخليفة أتم وأكمل في الإشراق من غرة الصبح مبالغة.
وإنما قيد الشاعر إشراق وجه الخليفة بوقت الامتداح؛ ليدل على أمرين:
أحدهما: اتصاف الممدوح بحسن قبوله للمدح الدال على تقديره للمادح وتعظيمه له، ولو كان غير قابل للمدح لعبس في وجهه، وتجهم له.
ثانيهما: اتصافه بالكرم، إذ الكريم هو الذي يتهلل وجهه، وتنبسط أساريره للمدح، ولو كان لئيمًا ضنينًا لقطب جبينه وأشاح بوجهه. ونظيره قول البحتري يصف بركة المتوكل:
كأنها حين لجت في تدفقها
…
يد الخليفة لما سال واديها
فقد أراد البحتري أن يوهم أن يد الخليفة أقوى تدفقًا بالعطاء من البركة بالماء، فعكس التشبيه كما ترى.
الثاني: بيان اهتمام المتكلم بالمشبه به، كأن يشبه الجائع وجه حبيبته بالرغيف في الاستدارة، والاستلذاذ به؛ ليدل بهذا التشبيه على اهتمامه بالرغيف، وأنه لشدة سغبه لا يغيب عن خاطره ويسمى هذا التشبيه "إظهار المطلوب" ولا بد في مثل هذا من قرينة تدل قصد المتكلم، والقرينة هنا عدوله عن تشبيه الوجه بما يناسبه إلى التشبيه بغير المناسب، كما في المثال المذكور.
1 المراد بالغرة هنا الصباح، فالإضافة بيانية، وأصل الغرة بياض في جبهة الفرس فوق الدرهم، وقد استعير للإشراق.