الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التقسيم الخامس:
ينقسم التشبيه باعتبار الوجه أيضًا إلى قسمين: مفصل، ومجمل. فالمفصل: ما صرح فيه بذكر وجه الشبه على طريقته1 كما تقول: طبع فؤاد كالنسيم رقة أو في رقته، ويده كالبحر سخاء أو في سخائه، وكلامه كالدر حسنًا أو في حسنه، وقوامه كالسيف استقامة أو في استقامته، فكل هذه المثل من قبيل التشبيه المفصل للتصريح فيها بذكر الوجه كما رأيت.
ومن قبيل المفصل قولهم في تشبيه الكلام السهل، الخفيف على السمع:"ألفاظه كالعسل في الحلاوة" وفي تشبيه الحجة الواضحة: "حجة كالشمس في الظهور" فوجه الشبه في المثالين مذكور "كما ترى" وهو قائم بالطرفين، غير أنه في المشبه تخييلي، وفي المشبه به تحقيقي، وقد سبق الكلام فيه2.
والمجمل: ما لم يصرح فيه بذكر وجه الشبه على طريقته، وهو نوعان:
1-
ظاهر يستوي في إدراكه العامة والخاصة، كتشبيه الشعر بالفحم والقد بالغصن والوجه بالبدر، فأوجه الشبه في هذه المثل من الوضوح، بحيث لا تحتاج إلى إعمال فكر.
1 هي أن يذكر الوجه مجرورًا "بفي" أو منصوبًا على التمييز على معنى "في" كالأمثلة المذكورة. ومن هنا يعلم أن وجه الشبه كما يكون مجرورًا "بفي" يكون منصوبًا على التمييز على معنى "في" واحترز به عن نحو قولهم: يد فؤاد كالنهر تفيض، ووجه هند كالبدر يضيء، فليس ذلك من قبيل المفصل لعدم ذكر الوجه على طريقته المذكورة.
2 أما ما قيل من أن في مثل هذين المثالين تسامحًا من حيث إن الوجه لم يذكر، وإنما ذكر ملزومه وهو "الحلاوة" في الأول "والظهور" في الثاني، فغير سديد؛ لأن ذكر "الحلاوة والظهور" إن كان من قبيل التعبير بالملزوم عن اللازم الذي هو "ميل النفس" في الأول و"زوال الحجاب" في الثاني كان من قبيل المجاز ولا تسامح فيه؛ لأن الوجه مذكور غاية الأمر أنه عبر عنه بملزومه، وإن لم يكن من المجاز فخطأ إذ لا واسطة بين الحقيقة والمجاز غير الخطأ، ولا ينبغي حمل الكلام الفصيح على الخطأ.
ب- خفي يحتاج في فهمه إلى تأمل ونظر. مثاله ما روي: أن فاطمة بنت الخرشب1 الأنمارية سئلت عن بنيها الأربعة: أيهم أفضل؟ فقالت: هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها، تريد أن تقول: هم في تناسبهم في الشرف والشجاعة وعدم تفاوتهم فيهما، بحيث يمتنع تفضيل أحدهم على الآخر، كالحلقة المتصلة الجوانب فإن أجزاءها متناسبة في الصورة، يمتنع تعيين بعضها طرفًا وبعضها وسطًا، فوجه الشبه إذًا هو "التناسب الكلي الخالي عن التفاوت" وقد أشعر به قولها:"لا يدرى أين طرفاها" إلا أنه في المشبه تناسب في الشرف، وفي المشبه به تناسب في صورة الأجزاء وهو "كما ترى" خفي دقيق، فوق متناول مدارك العامة، ولا يدركه إلا من ارتفع منهم إلى طبقة الخاصة.
تنبيه:
من هذا المثال السابق يتضح: أن التشبيه المجمل لا يخرجه عن إجماله أن يذكر لأحد الطرفين، أو لكليهما وصف مشعر بوجه الشبه.
فمثال ما ذكر فيه وصف المشبه به دون المشبه قول فاطمة المتقدم، فإن قولها:"لا يدرى أين طرفاها" وصف للمشبه به، مشعر بوجه الشبه الذي هو "التناسب الكلي" إذ يفهم من عدم دراية الطرفين معنى التناسب في الأجزاء. ومثله قول زياد الأعجم:
فإنا وما تلقي لنا أن هجوتنا
…
لكالبحر مهما تلق في البحر يغرق2
1 بضم الخاء والشين، وسبب هذا القول أنها سئلت عن بنيها الأربعة الذين رُزِقتهم من زوجها وهم: ربيع الكامل، وعمارة الوهاب، وقيس الحفاظ. وأنس الفوارس، سئلت: أيهم أفضل؟ فقالت: عمارة، ثم بدا لها غير هذا فقالت: لا بل فلان، ثم بدا لها غير ذلك فقالت: لا، ثم قالت: ثكلتهم إن علمت أيهم أفضل، هم كالحلقة
…
إلخ. وقيل: إنه من قول كعب الأشعري في وصف بني المهلب للحجاج، حين قال له: كيف تركت الناس؟ فقال كعب: تركتهم بخير، أدركوا ما أملوا، وأمنوا مما خافوا، فقال الحجاج: فكيف بنو المهلب فيهم؟ فقال: هم حماة السرح نهارًا، فإذا أليلوا ففرسان البيات؛ فقال الحجاج: فأيهم كان أنجد، أي أشجع؟ فقال: هم كالحلقة المفرغة، لا يدري أين طرفاها.
2 أن هجوتنا بفتح همزة "أن" وهو مصدر مؤول من أن والفعل مجرور بحرف جر مقدر، والتقدير: يهجائك.
يشبه زياد حال قومه إذ يرميهم المخاطب بالنقيصة فلا تضرهم، ولا يظهر لها فيهم أثر لخطورة شأنهم بحال البحر العظيم، لا يتأثر بما يلقى فيه. ووجه الشبه أن كلا الطرفين من العظمة والخطر بحيث لا ينال منهما، وقوله:
"مهما تلق في البحر يغرق" وصف للمشبه به مشعر بهذا الوجه.
ومثال ما ذكر فيه وصف المشبه دون المشبه به قوله عليه الصلاة والسلام: $"أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم" فوجه الشبه في الحديث "الهداية" وقد أشعر به قوله: $"بأيهم اقتديتم اهتديتم" وهو وصف خاص بالمشبه.
ومثال ما ذكر فيه وصفهما معًا قول أبي تمام يمدح الحسن بن رجاء:
صدفت عنه ولم تصدف مواهبه
…
عني وعاوده ظني فلم يخب
كالغيث إن جئته وافاك ريقه أفضل
…
وإن ترحلت عنه لج في الطلب1
وصف الشاعر الممدوح الذي هو "المشبه" بأن عطاياه مغدقة سابغة عليه، أعرض عنه أو أقبل عليه. ثم وصف الغيث الذي هو المشبه به بأنه يصيبك أقبلت عليه أو تجنبته، ووجه الشبه "مطلق الإفاضة في الحالين" والوصفان المذكوران مشعران بهذا الوجه.
وصفوة القول: أن التشبيه المجمل هو ما لم يذكر فيه وجه الشبه على طريقته السابقة، طاهرًا ذلك الوجه أو خفيًّا "كما بينا"، وأن وصف أحد الطرفين أو كليهما بما يشعر بالوجه "كما رأيت" لا يتنافى مع الإجمال؛ لأن المدار في كون التشبيه مجملًا على ألا يذكر وجه للشبه ذاته لا وصف مشعر به ا. هـ.
1 صدف من باب ضرب: أعرض، والريق من كل شيء: أفضله؛ ولج في الطلب: ألح فيه.