الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجاز المركب
الاستعارة التمثيلية
…
المجاز المركب:
قلنا: إن المجاز في اللفظ على نوعين: مفرد، ومركب، وقد فرغنا من الكلام في المفرد وهاك بيان المجاز المركب.
تعريفه: هو اللفظ المركب المستعمل في غير المعنى الذي وضع له؛ لعلاقة بين المعنى الأول والثاني، مع قرينة مانعة من إرادة المعنى الأول.
وينقسم باعتبار هذه العلاقة إلى قسمين: استعارة تمثيلية، ومجاز مرسل.
الاستعارة التمثيلية:
هي ما يكون كل من الطرفين فيها هيئة منتزعة من متعدد، والعلاقة بينهما المشابهة كما تقدم في التشبيهات المركبة أي: في الهيئات المنتزعة من متعدد، إذا استعير فيها لفظ المشبه به للمشبه، كما في قوله تعالى:{فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ} وحقيقة الكلام: فتركوا الميثاق، ولم يعتدوا به إهمالًا لأمره، وتهوينًا من شأنه.
وإجراء الاستعارة فيه أن يقال: شبهت هيئة من أخذ عليهم الميثاق فأهملوه، ولم يراعوه بهيئة من كان معه شيء لا يهمه، ولا قيمة له عنده، فطرحه وراء ظهره، والجامع بينهما الهيئة الحاصلة من شيء يهمل احتقارًا لشأنه ثم استعير المركب الموضوع للمشبه به للمشبه، بعد تناسي التشبيه وادعاء الاتحاد على سبيل الاستعارة التمثيلية، والقرينة حالية؛ لأن التاركين للميثاق لم يطرحوا شيئًا وراء الظهور حقيقة، فحالتهم على غير ما يفيده هذا التركيب وضعًا. وكقولهم في المتردد في أمره المتحير: أراك تقدم وجلًا، وتؤخر
أخرى1، وحقيقة الكلام: أراك متحيرًا في أمرك، مترددًا.
وإجراء الاستعارة فيه أن يقال: شبهت هيئة المتردد في أمره بين الإقدام والإحجام بهيئة رجل قام ليذهب إلى جهة، فتارة يعقد النية على الذهاب فيقدم رجلًا، وتارة يعدل فيؤخرها ثانيًا، والجامع الهيئة الحاصلة من إقدام تارة، وإحجام أخرى ثم استعير المركب الموضوع للمشبه به للمشبه بعد التناسي والادعاء على سبيل الاستعارة التمثيلية، والقرينة حالية؛ إذ إن المتردد المذكور لا يقدم رجلًا ولا يؤخر أخرى، فحالته على غير ما يدل عليه المركب وضعًا.
وسميت الاستعارة في المركب "تمثيلية" لجريان التشبيه فيه بين الهيئات المركبة من متعدد كما في هذين المثالين، أو للتنويه بعظم شأنها كأن غيرها لا تمثيل فيه؛ ولذا كانت محط أنظار البلغاء، وموضع تقديرهم.
وإذا فشت الاستعارة التمثيلية، وكثر استعمالها سميت "مثلًا"، فالأمثال السائرة كلها من قبيل الاستعارة التمثيلية.
والمثل يراعى فيه المعنى الذي ورد فيه أولًا، فيخاطب به المفرد والمثنى والجمع، مذكرًا، أو مؤنثًا من غير تغيير في أصل العبارة؛ لأنه "كما قلنا" استعارة تمثيلية، والاستعارة يجب أن تكون لفظ المشبه به المستعمل في المشبه كما في مثال المتردد، فقد ورد في شخص معين ثم فشا استعماله حتى صار مثلًا يضرب لكل متحير في أمره، متردد فيه، مفردًا كان، أو مثنى، أو جمعًا، مذكرًا، أو مؤنثًا، فيقال لكل واحد ممن ذكر: أراك تقدم رجلًا وتؤخر أخرى، فينطق به كما ورد.
وأصل هذا المثل: أن الوليد بن يزيد لما بويع بالخلافة، وبلغه توقف مروان بن محمد في البيعة كتب له الوليد يقول: أما بعد: فإني أراك تقدم رجلًا وتؤخر
1 قوله: "تقدم رجلًا" أي: تارة، ومفعول "تؤخر" محذوف أي: تلك الرجل المقدمة "وأخرى" نعت "لتارة" المحذوفة، أي: تارة أخرى، وأصل الكلام: أراك تقدم رجلًا تارة، وتؤخرها تارة أخرى.
أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت، والسلام.
ومثل المثال المذكور قولهم: "الصيف ضيعت اللبن" بكسر تاء الفاعل، فقد ورد في امرأة، ثم شاع استعماله وذاع، حتى صار مثلًا يضرب لمن فرط في تحصيل شيء وقت إمكان تحصيله، ثم طلبه في زمن يتعذر فيه تحصيله. وأصل هذا المثال: أن امرأة شابة كانت تحت شيخ طاعن ذي ثروة، فطلبت إليه الطلاق لضعفه وكبره، وكان ذلك في زمن الصيف، فأجابها إلى ما طلبت وتزوجت بعده بشاب فقير، ثم احتاجت إلى اللبن فذهبت في فصل الشتاء إلى زوجها الأول تطلب منه لبنًا، فلم يجبها إلى طلبها، وقال لها هذا القول المأثور، فصار مثلًا.
وإجراء الاستعارة فيه أن يقال: شبهت هيئة من فرط في شيء وقت إمكان تحصيله، ثم طلبه في وقت يتعذر الحصول عليه فيه، بهيئة امرأة تركت زوجها وعنده لبن، ثم أتت إليه بعد فراقها تطلب اللبن منه، والجامع الهيئة الحاصلة من التفريط في شيء وقت إمكانه، وطلبه وقت تعذره، ثم استعير المركب الموضوع للمشبه به للمشبه، بعد التناسي والادعاء، على سبيل الاستعارة التمثيلية، والقرينة حالية إذ إن حالة المقول فيه المثل على غير ما يدل عليه اللفظ وضعًا.
وكقولهم: أحشفًا وسوء كيلة1، يضرب لمن يظلم من وجهين. وأصل هذا المثل: أن رجلًا اشترى تمرًا من آخر، فإذا هو حشف وناقص الكيل، فقال المشتري ذلك. وتقرير الاستعارة فيه أن يقال: شبهت هيئة من يظلم من جهتين بهيئة رجل باع لآخر تمرًا حشفًا، وكان مع ذلك يطفف المكيال، والجامع الهيئة الحاصلة من ظلم مزدوج، ثم استعير المركب الموضوع للمشبه به للمشبه بعد التناسي والادعاء استعارة تمثيلية، والقرينة حالية؛ لأن حالة المقول فيه المثل تغاير ما يدل عليه اللفظ وضعًا كما ذكرنا. وكقول الشاعر:
إذا جاء موسى وألقى العصا
…
فقد بطل السحر والساحر
1 بكسر الكاف اسم بمعنى الكيل، وبفتح الكاف مصدر كال الشيء يكيله بمعنى: قدره بالمكيال.