الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتقسيم وجوه التحسين: تنقسم المحسنات البديعية قسمين: معنوية، ولفظية:
فالمعنوية: هي التي يكون التحسين بها راجعًا إلى المعنى أصالة، وهو -إن تبعه تحسين اللفظ- غير مقصود.
واللفظية: هي التي يكون التحسين بها راجعًا إلى اللفظ أصالة، وهو -وإن تبعه تحسين المعنى- ولكنه أيضًا غير مقصود.
وقد أجمع العلماء على أن هذه المحسنات لا سيما اللفظية منها لا تقع موقعها من الحسن، إلا إذا طلبها المعنى بحيث لا يجد الشاعر، أو الناثر مندوحة عنها؛ لذلك لا يحمل الاسترسال فيها، والولع بها لأن المعاني لا تدين للألفاظ في كل موضع، ولا تنقاد لها في كل حين.
المحسنات المعنوية:
1-
المطابقة 1:
هي أن يجمع في كلام واحد بين معنى، ومقابلة، أو ضده، وتكون بلفظين من نوع واحد كأن يكونا "اسمين" كقوله تعالى:{وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ} فالجمع بين "الأيقاظ والرقود" مطابقة لأن اليقظة ضد الرقود وكلاهما من نوع الاسم كما ترى، أو "فعلين" كقوله تعالى:{لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} فالجمع بين {يَمُوتُ} و {يَحْيَى} مطابقة؛ لأن الموت ضد الحياة وكلاهما من نوع الفعل، أو "حرفين" نحو قوله تعالى:{لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فالجمع بين "اللام وعلى" مطابقة؛ لأن في "اللام" معنى المنفعة، وفي "على" معنى المضرة وهما متضادان.
وتكون المطابقة بلفظين من نوعين مختلفين، كقوله تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} فالجمع بين {مَيْتًا} و"أحيينا" مطابقة؛ لأن معناهما متضادان، غير أن الأول منهما من نوع الاسم، والآخر من نوع الفعل.
1 وتسمى الطباق أيضًا.
ثم إن المعنيين المتقابلين إما أن يتفقا في الإيجاب أو السلب كما مر، وإما أن يختلفا كما في قوله تعالى:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ، يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فالجمع بين {لا يَعْلَمُونَ} ، و {يَعْلَمُونَ} مطابقة؛ لأن المعنيين تقابلا بالإيجاب والسلب. ومثله قوله تعالى:{فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} وسمي هذا النوع طباق السلب؛ لاختلاف المعنيين إيجابًا وسلبًا.
والتقابل بين المعنيين إما واضح بين كما مر، وإما خفي نوع خفاء، نحو قوله تعالى:{أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} فإن صريح قوله: {فَأُدْخِلُوا نَارًا} لا يقابل معنى "الإغراق" ولكنه يستلزم ما يقابله، وهو "الإحراق" فكأنه قال: أغرقوا فأحرقوا؛ لهذا كان في التقابل بينهما بعض خفاء. ومثله قوله تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} فإن الرحمة تستلزم اللين المقابل للشدة.
2-
المقابلة: وهي أن يؤتى بمعنيين غير متقابلين، أو أكثر ثم يؤتى بما يقابل كلا على الترتيب اللفظي.
وتكون المقابلة بين معنيين كقوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا} أتي بالضحك والقلة، ثم بما يقابلهما من البكاء والكثرة على الترتيب، ولا شك أن ليس بين الضحك والقلة، ولا بين البكاء والكثرة تقابل.
وتكوين بين ثلاثة، كقول الشاعر:
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا
…
وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل
أتي بالحسن، والدين، والغنى المفهوم من "الدنيا" ثم أتي بما يقابلها من القبح، والكفر، والإفلاس على الترتيب. ومثله قوله تعالى:{يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} .
وتكون بين أربعة كقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} .
أتي أولًا بالإعطاء، والاتقاء، والتصديق، واليسر، ثم أتي بما يقابلها على الترتيب من البخل، والاستغناء، والتكذيب، والعسر. ووجه مقابلة "استغنى لاتقى" أن معنى "استغنى" زهد فيما عند الله، فلم يراقبه، أو معناه: استغنى بمتاع الدنيا عن نعيم الجنة، فلم يتق الله في عمله، وإذًا ففي مقابلة "استغنى لاتقى" نوع خفاء.
وتكون بين خمسة، كقوله المتنبي:
أزورهم وسواد الليل يشفع لي
…
وأنثني وبياض الصبح يغري بي
أتي بالزيارة، والسواد، والليل، والشفاعة له، ثم أتي بما يقابلها على الترتيب من الانثناء، والبياض، والصبح، والإغراء به.
وتكون بين ستة، كما تراه واضحًا في قول الشاعر:
على رأس عبد تاج عز يزينه
…
وفي رجل حر قيد ذل يشينه
والمقابلة فيه واضحة أتم وضوح، كما ترى.
تنبيه:
اعلم أن المقابلة نوع من المطابقة من حيث إن فيهما جمعا بين متقابلين، غير أن الشرط في المقابلة أن يكون التقابل فيها بين معنيين على الأقل وبين ما يقابلهما، ويكون بين أكثر من ذلك كما رأيت، بخلاف المطابقة فإنما تكون بين معنى واحد ومقابله كما عرفت ا. هـ.
3-
المشاكلة:
هي أن يذكر الشيء بلفظ غيره؛ لوقوع ذلك الشيء في صحبة ذلك الغير، كقوله تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} فالجزاء على السيئة في الحقيقة ليس بسيئة، وإنما هو "عقوبة" يراد بها الإصلاح، فالمعنى حينئذ: وجزاء سيئة عقوبة تعادلها، فتعبيره عن العقوبة بلفظ {سَيِّئَةٌ} مشاكلة؛ لوقوعه في صحبة ذلك اللفظ. ومثله قول الشاعر:
قالوا: اقترح شيئًا نجد لك طبخه
…
قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا
فتعبيره عن خياطة الجبة بالطبخ مشاكلة؛ لوقوعه في صحبة طبخ الطعام.
4-
الاستخدام:
هو أن يذكر لفظ بمعنى، ويعاد عليه ضمير بمعنى آخر، أو يعاد عليه ضميران يراد بثانيهما غش ما يراد بأولهما. فالأول كقول الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم
…
رعيناه وإن كانوا غضابا
ذكر لفظ "السماء" بمعنى الغيث ثم أعاد عليه الضمير في "رعيناه" بمعنى "النبات". والثاني كقول الشاعر:
فسقى الغضا والساكنيه وإن همو
…
شبوه بين جوانحي وضلوعي
يدعو الشاعر لأحبته الساكنين هذا المكان بالسقيا، وإن أحرقوا قلبه بنار الجوى، "والغضا": شجر شديد الاشتعال وقد أعاد عليه ضميرين؛ أولهما مجرور بالإضافة في "الساكنيه" وأريد به المكان، وثانيهما منصوب على المفعولية في "شبوه" وأريد به النار المشتعلة من شجر الغضا.
5-
التورية 1:
هي أن يذكر لفظ له معنيان، أحدهما قريب أي: دلالة اللفظ عليه ظاهرة؛ لكثرة استعماله فيه، والثاني بعيد أي: دلالة اللفظ عليه خفية لقلة استعماله فيه، ويراد المعنى البعيد اعتمادًا على قرينة، كقوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فلفظ {اسْتَوَى} له معنيان: قريب وهو الاستقرار في مكان، وبعيد وهو الاستيلاء على الشيء بالقهر والغلبة، والمراد منه في الآية المعنى البعيد، والقرينة على إرادته استحالة المعنى القريب على الله تعالى. ويسمى هذا النوع إيهامًا؛ لأن المتبادر إلى الذهن عند إطلاق اللفظ معناه القريب، فيتوهم السامع لأول وهلة أن المتكلم يريده، وهو ليس بمراد.
1 هي مصدر ورى عن كذا بتشديد الراء أي: أراده وأظهر غيره، فالتورية من معانيها ستر المعنى البعيد بالقريب.
والتورية قسمان: مجردة ومرشحة.
فالمجردة: هي التي لم تقترن بشيء يلائم المعنى القريب كالآية المتقدمة، فإن المعنى القريب "لاستوى" الاستقرار في مكان ولم يذكر شيء يلائم هذا المعنى.
والمرشحة: هي التي ذكر فيها شيء يلائم المعنى القريب، سواء ذكر الملائم قبلها أو بعدها. فمثال ذكره قبلها قوله تعالى:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} فاليد تطلق على الجارحة وهو المعنى القريب، وتطلق على القدرة وهو المعنى البعيد المقصود بقرينة استحالة المعنى القريب على الله، وقد ذكر قبلها ما يلائم المعنى القريب، وهو قوله:{بَنَيْنَاهَا} لأن البناء إنما يكون باليد بمعنى الجارحة. ومثال ذكر الملائم بعدها قول الشاعر:
مذ همت من وجدي في خالها
…
ولم أصل منه إلى اللثم
قالت: قفوا واستمعوا ما جرى
…
خالي قد هام به عمي
"فالخال" يطلق على خال النسب وهو المعنى القريب، ويطلق على الخال الذي يكون في الخد وهو المعنى البعيد المقصود، وقد ذكر بعده ما يلائم معناه القريب، وهو قوله:"عمي".
اللف والنشر:
هو أن يذكر متعدد، ثم يذكر ما لكل واحد من آحاده من غير تعيين؛ اتكالًا على أن السامع يرد إلى كلٍّ ما يليق به لوضوح الحال.
وهو قسمان: مفصل، ومجمل.
فالمفصل: أن يذكر المتعدد على سبيل التفصيل لفًّا، ثم يذكر ما لكل واحد نشرًا، سواء كان النشر على ترتيب اللف، أو على غير ترتيبه.
فالأول: كقوله تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} فقد ذكر المتعدد مفصلًا وهو {اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} ثم ذكر ما لليل
من السكون فيه؛ لأنه وقت نوم وراحة، وما للنهار من ابتغاء الرزق؛ لأنه وقت كد وعمل، والنشر فيه على ترتيب اللف، فالأول للأول والثاني للثاني. وكقول الشاعر:
ألست أنت الذي من ورد نعمته
…
وورد راحته أجني وأغترف
فقد ذكر متعددًا على سبيل التفصيل، وهو ورد نعمته بفتح الواو وورد راحته بكسر الواو، ثم ذكر ما للأول من "الجني" وما للثاني من "الاغتراف" والنشر على ترتيب اللف كما ترى.
والثاني: وهو ما يكون النشر فيه على غير ترتيب اللف، يكون على صورتين:
الأولى: أن يكون النشر على عكس اللف، كقول الشاعر:
كيف أسلو وأنت حقف وغصن
…
وغزال، لحظًا، وقدًّا، وردفا
فهو كما ترى معكوس، فاللحظ للغزال، والقد للغصن، والردف للحقف وهو "الرمل المتراكم".
الثانية: أن يكون النشر مختلطًا كقوله: هو شمس وأسد وبحر جودًا وبهاء وجرأة، فالجود للبحر والبهاء للشمس والجرأة للأسد.
والمجمل: أن يذكر المتعدد على سبيل الإجمال، ثم يذكر ما لكل واحد من آحاده، كقوله تعالى:{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} .
فقد ذكر المتعدد مجملًا، وهو "الواو" في "قالوا" إذ هي عبارة عن اليهود والنصارى، ثم ذكر ما يخص كلا من الفريقين في قوله:{إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} أي: قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى، فكل أمة منهما تكفر الأخرى.
التوجيه ويسمى "الإيهام": وهو أن يؤتى بكلام يحتمل على السواء معنيين متباينين، أو مضادين كهجاء ومديح ليصل القائل إلى غرضه بما لا يؤخذ عليه. مثاله ما حكي عن محمد بن حزم: أنه هنأ الحسن بن سهل مع من هنأ بتزويج ابنته "بوران" للخليفة المأمون، فأثابهم وحرمه، فكتب إليه يقول: إن أنت تماديت في حرماني قلت فيك بيتًا لا يعرف أمدح هو أو هجاء؟ فاستحضره وسأله عما كان منه فأقر، فقال الحسن: لا أعطيك، أوتفعل؟ فقال ابن حزم:
بارك الله للحسن
…
ولبوران في الختن
يا إمام الهدى ظفر
…
ت ولكن ببنت من؟
فلم يدر "ببنت من" في العظمة وعلو الشأن، أم في الدناءة والضعة، فاستحسن الحسن منه ذلك، وسأله: أمن مبتكراتك؟ فقال: لا، بل نقلته من شعر بشار بن برد، وكان كثير العبث بهذا النوع.
ومما يروى عنه في ذلك: أنه كلف خياطًا أعور العين يسمى "عمرًا" أن يخيط له قباء فقال له الخياط مازحًا: لأخيطنه، فلا تدري أهو جبة أم قباء؟ فقال له بشار: إذًا أنظم فيك شعرًا، لا يدري من سمعه: أدعوت لك أم عليك؟ فلما خاطه له على الصورة التي وعده بها، قال بشار:
خاط لي عمرو قباء
…
ليت عينيه سواء1
قل لمن يعرف هذا
…
أمديح أم هجاء
هكذا أخفى الشاعر مراده فلم يدر: أطلب أن تسوى العوراء بالصحيحة، فيكون دعاء له بالإبصار الكامل أم طلب أن تسوى الصحيحة بالعوراء، فيكون دعاء عليه بالعمى الكامل؟
8-
الاقتباس:
هو أن يضمن الكلام -نثرًا كان أو نظمًا- شيئًا من القرآن أو الحديث، لا على أنه منه، ويحسن أن يمهد للمقتبس، بحيث يكون مندمجًا
1 روي أن اسم الخياط "زيد"، والقباء بفتح القاف: ضرب من الثياب.
في الكلام اندماجًا تامًّا. وأحسنه: ما كان في معاني الوعظ، والتذكير والزهد، وكل ما يراد به إصلاح الحال، وهو ضربان:
1-
ما لا ينتقل فيه المقتبس عن معناه الأصلي، كقول الحريري:
"فلم يك إلا كلمح البصر أو هو أقرب، حتى أنشد فأغرب"، وكقول الشاعر:
إن كنت أزمعت على هجرنا
…
من غير ما جرم "فصبر جميل"
وإن تبدلت بنا غيرنا
…
"فحسبنا الله ونعم الوكيل"
2-
ما ينتقل فيه المقتبس من معناه الأصلي، كقول ابن الرومي الشاعر العباسي:
لئن أخطأت في مدحـ
…
ـك ما أخطأت في منعي
لقد أنزلت حاجاتي
…
بواد غير ذي زرع
فإن معنى "الوادي غير ذي الزرع" المقتبس من القرآن الكريم: المكان الجدب، لا ماء فيه ولا نبات، فنقله الشاعر من هذا المعنى إلى جانب لا خير فيه.
هذا، ولا يضر يسير التغيير لضرورة الشعر، كما تراه في قول الشاعر:
قد كان ما خفت أن يكونا
…
إنا إلى الله راجعونا
ونصه في القرآن: {وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} . وكما تراه في قول الصاحب في الاقتباس من الحديث الشريف:
قال لي: إن رقيبي
…
سيئ الخلق فداره
قلت: دعيني وجهك
…
الجنة حفت بالمكاره
ونص الحديث هكذا: "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات".
9-
الجمع: هو أن يجمع بين شيئين فأكثر في حكم واحد، كقوله تعالى:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} جمع بين "المال والبنين" في حكم واحد هو أنهما زينة الحياة وبهجتها. وكقول ابن الرومي:
آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم
…
في الحادثات إذا دجون نجوم
جمع بين هذه الأشياء الثلاثة في حكم واحد هو تألقها كالنجوم، يهتدى بها في دياجير الأحداث والمحن.
10-
التفريق:
هو أن يفرق المتكلم بين أمرين متدرجين تحت جنس واحد، كقول الشاعر:
ما نوال الغمام وقت ربيع
…
كنوال الأمير وقت سخاء
فنوال الأمير بدرة عين1
…
ونوال الغمام قطرة ماء
فالأمران هما "النوالان" وقد اندرجا تحت جنس واحد، وهو "العطاء" ففرق الشاعر بينهما في المنزلة، إذ جعل نوال الأمير فوق نوال الغمام، من حيث إن الأول يحل منفعة عن الثاني، وكقول الآخر:
من قاس جدواك بالغمام فما
…
أنصف في الحكم بين مثلين
أنت إذا جدت ضاحك أبدًا
…
وهو إذا جاد دامع العين
فرق بين الجمودين، مستندًا في التفريق إلى ما ابتدعه من هذا التعليل الجميل.
11-
التقسيم:
هو أن يذكر متعدد، ثم يضاف إلى كل من آحاده ما يخصه على التعيين، وبهذا القيد يفترق عن اللف والنشر إذ لا تعيين فيه، بل هو موكول إلى الأفهام كما ذكرنا. مثال التقسيم قول الشاعر:
ولا يقيم على ضيم يراد به
…
إلا الأذلان عير الحي والوتد2
هذا على الخسف مربوط برمته
…
وذا يشج فلا يرثي له أحد
ذكر متعددًا وهو "العير والوتد" ثم أضاف إلى الأول "الربط على الخسف" وهو الذل، وأضاف إلى الثاني "الشج بلا هوادة".
12-
المبالغة:
هي أن يدعى بلوغ وصف في الشدة، أو الضعف حدًّا يستحيل، أو يبعد.
1 البدرة: كيس فيه عشرة آلاف درهم.
2 الأذلان: مثنى الأذل، وهو المهين الحقير، والعير: الحمار، والوتد ككتف: ما يسمر في الأرض من الخشب، والرمة بضم الراء: قطعة من الحبل.
وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: تبليغ، وإغراق، وغلو.
فالتبليغ: ما يكون المدعى فيه ممكنًا عقلًا، وعادة كقول امرئ القيس:
فعادى عداء بين ثور ونعجة
…
دراكًا فلم ينضح بماء فيغسل1
يريد "بالثور": الذكر من بقر الوحش، و"بالنعجة": الأنثى منه. وصف الشاعر فرسًا له، فادعى أنه أدرك ثورًا وبقرة وحشيين في شوط واحد ولم يعرق، وهذا أمر يجيزه العقل، ولا تحيله العادة، وإن كان حصوله في غاية الندرة.
والإغراق: ما يكون المدعى فيه ممكنًا عقلًا، لا عادة كقول أبي الطيب:
روح تردد في مثل الخلال2 إذا
…
أطارت الريح عنها الثوب لم تبن
كفى بجسمى نحولا أنني رجل
…
لولا مخاطبتي إياك لم ترني
فيجوز عقلًا أن يصل الشخص في النحف والهزال إلى هذه الحال، وإن امتنع ذلك في العادة.
وأحسنه: ما اقترن به ما يقربه إلى الإمكان من نحو: "لو" و"لولا" و"كاد" و"خيل إلي" و"شبه لي" وما أشبه ذلك، والبيت المذكور من هذا القبيل لاشتماله على لفظ "لولا". والتبليغ والإغراق مقبولان؛ لعدم ظهور الكذب الموجب للرد فيهما.
والغلو: ما يكون المدعى فيه غير ممكن، لا عقلًا ولا عادة، وهو ضربان: مقبول ومردود.
فالمقبول أنواع ثلاثة:
الأول: ما اقترن به ما يقربه إلى الإمكان من نحو: {يَكَادُ} في قوله تعالى: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} فليس معقولًا ولا معتادًا أن
1 عادى عداء: والى موالاة بين الصيدين، يصرع أحدهما أثر الآخر، و"دراكًا": متتابعًا، والنضح: الرشح.
2 جمع خل بالفتح، وهو الثوب الخلق.
يضيء زيت من غير أن تمسه نار، ولكن الذي قربه إلى الإمكان، وجعل الذهن يستسيغه لفظ {يَكَادُ} الذي أفاد أن المدعى لم يكن، ولكنه قارب أن يكون مبالغة، ومن هنا كان الغلو مقبولًا.
الثاني: ما تضمن حسن تخييل، كقول المتنبي يصف خيلًا:
عقدت سنابكها عليها عثيرًا
…
لو تبتغي عنقًا عليه لأمكنا1
ادعى الشاعر أن الغبار المثار فوق الرءوس من سنابك الخيل قد تراكم وتكاثف، بحيث صار أرضًا في استطاعة الخيل "لو أرادت" أن تسير عليه كما تسير على الأرض، وهذا "كما ترى" ممتنع عقلًا وعادة، ولكن الذي جعله مقبولًا مستساغًا أنه تضمن تخيلا حسنا، نشأ من ادعاء كثرة الغبار، وتكاثفه حتى صار بمثابة الأرض المعلقة في الهواء إلى ما اقترن به مما قربه إلى الإمكان، وهو لفظ "لو" الدالة على أن مدعاه لم يكن. ومنه قول المعري يصف سيفًا:
يذيب الرعب منه كل عضب
…
فلولا الغمد يمسكه لسالا
الثالث: ما خرج مخرج الخلاعة والمجون، كقول الشاعر:
أسكر بالأمس إن عزمت على الشر
…
ب غدا إن ذا من العجب
ادعى أن شغفه بالشراب وصل إلى درجة أن يسكر بالأمس، عند عزمه على الشرب غدا. ولا شك أن ذلك محال عقلًا وعادة، ولكن لما أتى بالكلام على سبيل الهزل والمجون كان الغلو مقبولًا. وكقول الآخر:
ومر بفكري خاطرًا فجرحته
…
ولم أر خلقًا يجرحه الفكر
ادعى أن فكره جرح محبوبه وهو أمر محال الحصول في العقل والعادة، لكن خروج الكلام مخرج الخلاعة والتظرف جعله مقبولًا مساغًا.
والمردود ما ليس ممكنًا لا عقلًا، ولا عادة ولم يكن أحد الأنواع
1 السنابك: الحوافر، والعثير بكسر فسكون ففتح: الغبار، والعنق بفتح العين والنون: السريع، وضمير "عليها" للخيل.
السابقة، كقول أبي نواس الحسن بن هانئ يمدح هارون الرشيد:
وأخفت أهل الشرك حتى إنه
…
لتخافك النطف التي لم تخلق
يمدح الخليفة بأنه أخاف الكفار جميعًا، من وجد منهم ومن لم يوجد. وقد بالغ في إخافته أهل الشرك حتى جعله موضع خشية ورهبة للنطف التي لم توجد بعد، ومعلوم بالبداهة أن خوف النطف الموجودة محال عقلًا وعادة؛ لعدم قيام الحياة بها، فما بالك بنطف لم تخلق أصلًا، فمثل هذا غلو مردود لعدم اشتماله على شيء من موجبات القبول المتقدمة.
13-
حسن التعليل:
هو أن يدعى لوصف "على جهة التظرف" علة مناسبة ليست له في الواقع، وهذا الوصف لا يخلو حاله من أمرين:
1-
أن يكون ثابتًا، فيقصد بيان علته.
2-
أن يكون غير ثابت، فيراد إثباته بعلة مدعاة.
والأول إما ألا يظهر له في العادة علة، وإما أن تظهر له علة غير المدعاة. مثال الأول قول أبي هلال العسكري:
زعم البنفسج أنه كعذاره
…
حسنًا فسلوا من قفاه لسانه
فخروج ورقة البنفسج إلى الخلف وصف ثابت لا علة له، وقد علله الشاعر بما ليس علة له في الواقع وهو أنه سل لسانه من قفاه، إذ زعم أنه يشبه عذار الحبيب في الحسن كذبًا وافتراء. ومثال للثاني قول أبي الطيب المتنبي:
ما به قتل1 أعاديه ولكن
…
يتقي إخلاف ما ترجو الذئاب
يقول: ليس هناك ما يحمله على قتل أعدائه والفتك بهم؛ لتمكنه منهم بقوة سلطانه، ولكن الذي يحمله على ذلك تحقيق ما ترجوه جماعة الذئاب من إطعامه إياهم لحوم الأعداء، وأنه لا يريد أن يخيب رجاءها فيه. فقتل
1 "ما" نافية، أي: ليس بالممدوح حنق أوجب قتل أعاديه.
أعاديه وصف ثابت وعلته عادة دفع مضرتهم، وخلو المملكة من منازعاتهم، ولكن الشاعر علله على سبيل التظرف بعلة أخرى ليست له في الواقع، وهي ما ذكرناه من أنه يريد أن يحقق ما ترجوه الذئاب من اتساع الرزق على يديه، بلحوم من يفتك بهم من الأعداء.
والثاني، وهو الوصف غير الثابت المراد إثباته: إما ممكن، أو غير ممكن. فمثال الوصف الممكن قول مسلم بن الوليد:
يا واشيا حسنت فينا إساءته
…
نجي حذارك إنساني من الغرق
فاستحسان إساءة الواشي وصف غير ثابت عادة؛ إذ لا يستحسن الناس إساءة الوشاة، ولكنه ممكن الحصول وقد أريد إثباته، فعلله الشاعر بعلة تقتضي وقوعه في زعمه، وهي حذاره من أن يفطن الواشي، ويشعر بما عنده فيشمت به، ولأجل ذلك امتنع من البكاء، فسلم إنسان عينه من الغرق. ومثال الوصف غير الممكن قول الشاعر:
لو لم تكن نية الجوزاء خدمته
…
لما رأيت عليها عقد منتطق1
فنية الجوزاء خدمة الممدوح صفة غير ثابتة، وغير ممكنة أيضًا؛ لأن النية إنما تكون ممن له إدراك، وقد قصد إثباتها بالعلة المذكورة، وهي كونها منتطقة، أي: شادة النطاق في وسطها، كما يفعله الخادم عادة.
14-
ائتلاف اللفظ مع المعنى:
هو أن تكون الألفاظ على وفق المعاني، فتختار الألفاظ الجزلة، والعبارات الكزة الشديدة للمعنى الضخم، كالفخر والحماسة، وكالوعيد والتهديد، وتختار الألفاظ اللينة العود، الناعمة الملمس للمعنى الوديع الهادئ كالغزل، والاستعطاف، والاعتذار، ونحو ذلك من المعاني العاطفية.
فالأول كقول بشار بن برد في الحماسة والفخر:
إذا ما غضبنا غضبة مضرية
…
هتكنا حجاب الشمس أو مطرت دما
1 الانتطاق: شد المنطقة في الوسط.
إذا ما أعرنا سيدًا من قبيلة
…
ذُرَا منبر صلى علينا وسلما
والثاني كقول أبي العتاهية في الاستعطاف:
تذكر أمين الله حقي وحرمتي
…
وما كنت توليني لعلك تذكر
فمن لي بالعين التي كنت دائمًا
…
إلي بها في سالف الدهر تنظر؟
وهكذا: لكل مقام مقال، ولكل موقف مجال.
15-
حسن الابتداء:
هو أن يكون الكلام بارع المطلع أي: لمبدئه روعة تستهوي اللب، وتستخف السمع، وذلك بأن يكون عذب اللفظ، حسن السبك، صحيح المعنى؛ لأن الكلام المبتدأ به أول ما يقرع السمع، أو يقع عليه النظر، فإذا كان على هذه الصفات المذكورة وقع من قلب السامع أو القارئ موقعه من الحسن، فأقبل عليه واهتم له، ووعاه إلى نهايته وإن لم يكن لباقيه من الجودة ما لأوله. فإذا لم يكن مستهل الكلام على ما ذكرنا صدفت عنه النفس ونفرت، وإن كان باقيه رائع الحسن.
وأحسنه ما اشتمل على إشارة لطيفة إلى المقصود، ويسمى ذلك "براعة استهلال" كقول المتنبي في تهنئة سيف الدولة بإبلاله مما ألم به:
المجد عوفي إذ عوفيت والكرم
…
وزل عنك إلى أعدائك الألم
وكقول أشجع السلمي يهنئ ببناء قصر:
قصر عليك تحية وسلام
…
خلعت1 عليك جمالها الأيام
وكقول أبي تمام في مطلع قصيدة رثاء:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر
…
فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
وينبغي أن يتجنب في مطالع المديح والتهاني ما يتطير منه، كقول ابن مقاتل الضرير في مطلع قصيدة يمدح فيها الداعي العلوي:
1 ضمن "خلع" معنى طرح، فعداه للمفعول الثاني "بعلى" والمعنى: أن الأيام نزعت جمالها، وطرحته على ذلك القصر.
"موعد أحبابك بالفرقة1 غد"
وعند إنشادها تطير العلوي وقال: بل موعد أحبابك يا أعمى، ولك المثل السوء. وروي أن ابن مقاتل هذا دخل على العلوي المذكور في يوم المهرجان2 فأنشده:
لا تقل بشرى ولكن بشريان
…
غرة الداعي ويوم المهرجان
فتطير به الداعي العلوي، وأمر بإلقائه على وجهه وضربه خمسين عصا، وقال: إصلاح أدبه خير من إثابته.
16-
حسن الختام:
أن يكون الكلام بارع المقطع أي: في ختامه روعة تهتز لها النفس، ويطرب لها السمع؛ ذلك أن ختام الكلام هو آخر ما تعيه الأذن، ويرتسم في الخيال، فإن كان حسنًا هفت إليه النفس، واستلذه السمع، وقد يكون جابرًا لما عساه قد وقع من نقص أو تقصير، فإن لم يكن الانتهاء حسنًا رائعًا كان الأمر على العكس من صدوف النفس ونفورها، واستكراه السمع ومجه، وقد ينسي ذلك ما تقدم من محاسن الكلام، فيعود السامع أو القارئ على مجموعه بالذم وإن كان حسنًا.
وصفوة القول: أن ما يختم به الكلام بمثابة الطعام، يؤتى به في ختام الأطعمة، فإن كان حلوًا لذيذًا أنسى مرارة أو ملوحة ما قبله، وإن كان مرًّا أو مالحًا أنسى حلاوة أو عذوبة ما قبله.
ومثال ما في ختامه روعة قول أبي نواس في المدح:
وإني جدير "إذ بلغتك" بالمنى
…
وأنت بما أملت منك جدير
فإن تولني منك الجميل فأهله
…
وإلا فإني عاذر وشكور
وأروعه، ما آذن بانتهاء الكلام حتى لا يبقى للنفس تشوف إلى ما وراءه، ويسمى ذلك "براعة المقطع" كقول أبي العلاء:
1 بضم الفاء وسكون الراء اسم موضع، ولكن لما كان يوهم معنى الفراق كان موضع تطير وشؤم.
2 يوم المهرجان أول يوم من فصل الخريف، وهو عندهم يوم فرح وسرور.
بقيت بقاء الدهر يا كهف أهله
…
وهذا دعاء للبرية شامل
وكقول ابن حجة:
عليك سلام نشره كلما بدا
…
به يتغالى الطيب والمسك يختم
وكقولي في مدحة يوم عيد:
يا ناظم النجم كن "عوني" فقد عطلت
…
أجياد غيدي وإن أبدعت تقليدي
ويا ملوك القوافي أستميحكم
…
عفو الكرام فهذا كل مجهودي
تمرين:
1-
تكلم باختصار عن تاريخ علم البديع.
2-
وضح الفرق بين هذه العلوم الثلاثة: البيان، والمعاني، والبديع.
3-
عرف علم البديع وقسم وجوه الحسن فيه، وبين كل قسم مع التمثيل.
4-
بين أنواع المحسنات البديعية فيما يأتي:
1-
{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَار} .
2-
حملناهم طرًّا على الدهم بعدما
…
خلعنا عليهم بالطعان ملابسا
3-
{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} .
4-
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} .
5-
إن الشباب والفراغ والجدة1
…
مفسدة للمرء أي مفسدة
6-
حسبت جماله بدرًا منيرًا
…
وأين البدر من ذاك الجمال؟!
7-
فما هو إلا الوحي أو حد مرهف
…
تميل ظباه أخدعي كل مائل2
فهذا دواء الداء من كل عالم
…
وهذا دواء الداء من كل جاهل
1 الاستغناء.
2 "المرهف": السيف القاطع، و"ظباه" جمع: ظبة، وهي حد السيف، والأخدعان: تثنية أخدع، وهو مجرى من مجاري الدم، إذا قطع مات صاحبه.