الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: في الدلالة
مدخل
…
المبحث الثاني: في الدلالة
تعريفها:
هي فهم أمر من أمر، فالأمر الأول هو المدلول، والثاني هو الدال كدلالة لفظ "محمد" على معناه الذي هو "الذات" فاللفظ هو الدال، والذات هي المدلول، وفهم الذات من اللفظ هو معنى الدلالة.
ولما لم تكن كل دلالة تقبل الاختلاف في الوضوح الذي هو موضوع هذا الفن، وجب أن تقسم الدلالة، ثم يعين المقصود منها.
تقسيمها:
الدلالة باعتبار الدال قسمان: لفظية، وغير لفظية.
فاللفظية: ما كان الدال فيها لفظا؛ كدلالة لفظ "إنسان" على الحيوان الناطق، وكدلالة لفظ "أسد" على الحيوان المفترس.
وغير اللفظية: ما كان الدال فيها غير لفظ؛ كدلالة الدخان على النار، وكدلالة حمرة الخد على الخجل، ودلالة صفرته على الوجل. والثانية لا علاقة لها بمباحث علم البيان.
والأولى أقسام ثلاثة: وضعية، طبيعية، عقلية.
فالوضعية: ما كان للوضع فيها مدخل؛ كدلالة الإنسان على الحيوان الناطق، فالرابط بين الدال والمدلول وضع الواضع أي: تعيينه هذا اللفظ لهذا المعنى، ومثله دلالة الفرس على الحيوان الصاهل.
والطبيعية: ما كان قوامها الطبع؛ كدلالة التأوه على الوجع، فالربط بين الدال والمدلول في هذه الدلالة هو الطبع، إذ إن طبع المريض أن يتأوه عند استشعاره الألم.
والعقلية: ما كان قوامها العقل؛ كدلالة الصوت على حياة صاحبه، كما إذا سمعت صوت إنسان من وراء جدار، فإن صوته دليل على حياته، فالرابط بين الدال والمدلول في هذه الدلالة هو العقل لا غير.
والدلالتان الأخريان لا علاقة لهما أيضًا بعلم البيان، فهما خارجتان. والأولى وهي اللفظية الوضعية ثلاثة أقسام كذلك: مطابقية، تضمنية، التزامية.
فالمطابقية: دلالة اللفظ على كامل معناه؛ كدلالة الإنسان على الحيوان والناطق، ودلالة الفرس على الحيوان والصاهل. وسميت مطابقية لتطابق اللفظ والمعنى، أي: تساويهما؛ لأن الواضع إنما وضع لفظ "إنسان" ليدل على مجموع الحيوان والناطق، كما وضع لفظ "فرس" ليدل على مجموع الحيوان والصاهل.
والتضمنية: دلالة اللفظ على جزء معناه الموضوع له؛ كدلالة "الإنسان" على الحيوان فقط، أو الناطق فقط، وكدلالة "البيت" على السقف، أو الجدار.
وسميت تضمنية؛ لأن الحيوان أو الناطق جزء من معنى الإنسان، وداخل في ضمنه؛ لأن الواضع إنما وضع لفظ "إنسان" ليدل على الحيوانية والناطقية معًا، كما وضع لفظ "بيت" ليدل على جميع أجزائه، فدلالة "الإنسان" على الحيوانية فقط، أو الناطقية فقط دلالة تضمنية؛ لأن الكل متضمن لأحد أجزائه، وكذلك دلالة "البيت" على السقف، أو الجدار.
والالتزامية: دلالة اللفظ على لازم معناه الموضوع له؛ كدلالة "الإنسان" على الضحك، وكدلالة "حاتم" على الجود، والأسد على الشجاعة، ودلالة كثرة الرماد على الكرم1.
1 صورة الدلالة التضمنية أن يسألك سائل، مشيرًا إلى شبح: أناطق هذا أم صاهل؟ فتقول مجيبًا: هو إنسان، تريد هو ناطق، فقد دللت "بإنسان" على الناطق دلالة تضمنية؛ لأن الناطق جزء معنى الإنسان، وصورة الدلالة الالتزامية أن يسألك سائل، مشيرًا إلى شبح: أضاحك هذا أم غير ضاحك؟ فتقول مجيبًا: هو إنسان تريد هو ضاحك، فقد دللت "بإنسان" على الضاحك دلالة التزامية؛ لأن الضحك وصف لازم للإنسان.
وسميت التزامية؛ لأن الضحك ليس معنى الإنسان، ولا جزء معناه، وإنما هو خارج عن معناه، لكنه لازم له. وكذلك الجود لحاتم، والشجاعة للأسد، والكرم لكثرة الرماد، فكل ذلك لازم للمعنى الموضوع له.
تنبيهان:
الأول: يكفي في دلالة الالتزام أن يكون التلازم بين الشيئين في الذهن، كالتلازم الذي بين الإنسان والضحك، إذ يلزم من حضور معنى الإنسان "وهو الحيوان الناطق" في الذهن حضور معنى الضحك فيه. وكالتلازم الذي بين الأسد والشجاعة، إذ يلزم من تصور معنى الأسد، وهو الحيوان المفترس، تصور معنى الشجاعة.
أما التلازم في الخارج فليس بشرط، فإن وجد مع التلازم الذهني كان حسنًا كالتلازم بين الزوجية والأربعة، فإن الزوجية "كما يبدو بداهة" لازمة للأربعة ذهنًا وخارجًا، وإن لم يوجد التلازم الخارجي فلا ضير؛ كالتلازم الذي بين العمى والبصر؛ فإن البصر لازم للعمى ذهنًا فقط، إذ يلزم من تصور معنى العمى تصور معنى البصر؛ لأن العمى فقد البصر عما من شأنه الإبصار، أما في الخارج فبينهما التعاند.
كذلك يكفي في دلالة الالتزام أن يكون التلازم بين الشيئين عرفيًّا، بأن يتعارف الناس فيما بينهم على التلازم بينهما كالتلازم الذي بين "الأسد" و"الجرأة"، والذي بين "كثرة الرماد" و"الكرم"، والذي بين "الفاعل النحوي" و"حركة الرفع" فقد تعارف الناس على أن الجرأة لازمة للأسد، وتعارف علماء البيان على أن الكرم لازم لكثرة الرماد، وتعارف علماء النحو على أن حركة الرفع لازمة للفاعل، في حين أن لا تلازم عقلًا بين هذه الأشياء؛ إذ يتصور العقل أسدًا جبانًا كما يتصور كثرة رماد بدون كرم كما يتصور فاعلًا منصوبًا أو مجرورًا.
أما التلازم العقلي، وهو ما لا يتصور العقل انفكاكه، فليس بشرط في دلالة الالتزام كالتلازم الذي بين الزوجية والأربعة، أو بين الفردية والثلاثة
إذ لا يتصور العقل أربعة بدون زوجية، أو ثلاثة بدون فردية، فالمدار في دلالة الالتزام على وجود مطلق تلازم، ولو بسبب تعارف عام أو خاص كما مثلنا.
الثاني: اصطلح البيانيون على تسمية المطابقة "وضعية" لأن الواضع إنما وضع اللفظ لتمام معناه، لا لجزئه ولا للازمه، فلفظ "الإنسان" مثلًا وضعه الواضع لمجموع الحيوان والناطق ولم يضعه لواحد منهما ولا لوصف لازم "كالضحك". فقوام هذه الدلالة هو العلم بالوضع، بدون حاجة إلى شيء آخر وراءه، واصطلحوا على تسمية كل من التضمنية، والالتزامية عقلية؛ لأن دلالة اللفظ على جزء معناه، أو على لازم هذا المعنى متوقفة على أمر عقلي زائد على العلم بالوضع، وهو أن وجود الكل أو الملزوم يستلزم وجود الجزء أو اللازم. "فالإنسان" مثلًا موضوع لمجموع الحيوان والناطق، فمجرد العلم بهذا الوضع ليس كافيًا في جعل لفظ "إنسان" دالًّا على جزء معناه "كالناطقية" مثلًا، أو على لازمه "كالضاحكية" بل لا بد مع العلم بهذا الوضع من انتقال العقل من المعنى الموضوع له "إنسان" إلى جزئه ضرورة أن الكل يتضمن الجزء، أو إلى لازمه ضرورة أن الملزوم يستلزم اللازم. وإنما اقتصر على العقل في تسمية هاتين الدلالتين، مع أن كلا من العقل والوضع سبب فيهما؛ لأن سببية العقل أقرب من سببية الوضع، ذلك أن انتقال العقل من الكل إلى جزئه، أو من الملزوم إلى لازمه إنما جاء بعد العلم بوضع اللفظ لهذا الكل أو لهذا الملزوم، فهو لذلك سبب قريب، والذهن إلى القريب أكثر التفاتًا منه إلى البعيد1 ا. هـ.
والمقصود بالبحث في هذا الفن هو الدلالة العقلية بنوعيها، إذ هي التي يتأتى فيها الاختلاف في الوضوح الذي هو موضوع هذا الفن.
بيان ذلك في التضمنية: هو أنه يجوز أن يكون المعنى الواحد جزءًا من شيء
1 أما المناطقة فيسمون الدلالات الثلاث وضعية؛ لأن للوضع مدخلًا، وهم يعتبرون في تسميتها "وضعية" السبب البعيد.
"كالجسم" فإنه جزء من الحيوان، وأن يكون جزءًا لجزء من شيء آخر "كالجسم" أيضًا، فإنه جزء من الحيوان الذي هو جزء من الإنسان. وإذًا تكون دلالة الحيوان على الجسم الذي هو جزؤه المباشر أوضح من دلالة الإنسان على الجسم الذي هو جزء جزئه.
ومثل الجسم "فيما قلنا" التراب؛ فإنه جزء من الجدار الذي هو جزء من البيت، فدلالة الجدار على التراب الذي هو جزؤه المباشر أوضح من دلالة البيت على التراب الذي هو جزء جزئه، وهكذا.
وبيان ذلك في الالتزامية هو أنه يجوز أن يكون للازم الواحد عدة ملزومات، لزومه لبعضها أوضح منه لبعضها الآخر "كالكرم" مثلًا؛ فإنه لازم وله جملة ملزومات تستلزمه وتدل عليه، هي: كثرة الضيفان، وكثرة الطبخ، وكثرة إحراق الحطب، وكثرة الرماد، فهذه الأمور الأربعة تستلزم الكرم، وتدل عليه؛ إذ يلزم من وجودها وجوده، غير أن دلالة بعضها على معنى "الكرم" أوضح من دلالة بعضها الآخر عليه، فدلالة كثرة الأضياف على كرم "محمد" مثلًا أوضح من دلالة كثرة الطبخ عليه؛ لأن كثرة الأضياف أقرب إلى معنى الكرم من كثرة الطبخ، فقولك: محمد "كثير الأضياف" أدل على كرمه من قولك: "محمد كثير الطبخ"؛ إذ لا واسطة بين كثرة الضيفان والكرم، ودلالة كثرة الطبخ على الكرم أوضح من دلالة كثرة إحراق الحطب عليه؛ لأن كثرة الطبخ أقرب إلى معنى الكرم من كثرة الإحراق، فقولك:"محمد كثير الطبخ" أدل على كرمه من قولك: "محمد كثير إحراق الحطب" لقلة الوسائط بين كثرة الطبخ والكرم، ودلالة كثرة الإحراق على معنى الكرم أوضح من دلالة كثرة الرماد عليه؛ لأن كثرة الإحراق أقرب إلى معنى الكرم من كثرة الرماد، فقولك:"محمد كثير الإحراق" أدل على كرمه من قولك: "محمد كثير الرماد" لقلة الوسائط في الأول، وكثرتها في الثاني. وهكذا كلما كان الملزوم أقرب إلى لازمه كانت دلالته عليه أوضح، وأوضح هذه الدلالات على الكرم دلالة كثرة الضيفان عند محمد، وأقلها وضوحًا كثرة الرماد عنده كما رأيت.
ومثل الكرم فيما فصلنا "الحرارة" فهي لازمة لعدة ملزومات هي: "النار" و" الشمس" و"الحركة الشديدة" فدلالة النار على الحرارة أوضح من دلالة الشمس عليها، ودلالة الشمس عليها أوضح من دلالة الحركة الشديدة عليها. فقولك: محمد في جسمه نار، أدل على حرارته من قولك: في جسمه شمس، أو في جسمه حركة شديدة، وهكذا.
إلى هنا وضح لك اختلاف الوضوح في الدلالتين العقليتين: التضمنية والالتزامية، مما لا يقبل المزيد.
أما الدلالة الوضعية المطابقية التي هي دلالة اللفظ على تمام معناه، فليست من مباحث هذا الفن؛ إذ لا يتأتى فيها الاختلاف في وضوح الدلالة.
بيان ذلك: أن السامع لا يخلو حاله من أمرين:
1-
أن يكون عالمًا بوضع الألفاظ لمعانيها.
2-
ألا يكون عالمًا بهذا الوضع، فإن كان الأول فلا تفاوت في الدلالة على المعنى؛ لأن كل لفظ معلوم وضعه لمعناه، وإن كان الثاني فقد انعدم فهم المعنى من اللفظ؛ لتوقف الفهم على العلم بالوضع، وفهم المعنى من اللفظ "كما سبق" هو "الدلالة" عينها؛ إذ "هي كما قلنا" فهم أمر من أمر، وإذا انتفى الفهم المذكور الذي هو "الدلالة" فلا اختلاف في الوضوح؛ إذ لا يتصور اختلاف وضوح فيما لا دلالة له.
فإذا قلت مثلًا: "محمد يشبه السحاب في العطاء" وكان السامع يعلم بوضع هذه الألفاظ لمعانيها، ثم أتيت بتركيب آخر دال على هذا المعنى بألفاظ مرادفة لألفاظ التركيب الأول، فقلت:"محمد يحاكي الغمام في النوال" وكان السامع يعلم أيضًا بوضع هذه الألفاظ لمعانيها، امتنع حينئذ أن يكون التركيب الثاني أوضح دلالة من الأول بل هما في الدلالة سواء. فإذا لم يعلم السامع وضع الألفاظ لمعانيها في التركيبين، أو في أحدهما لم يفهم شيئًَا أصلًا؛ لتوقف الفهم على العلم بالوضع "كما قلنا"، وإذا انتفى الفهم فلا دلالة للفظ، فلا اختلاف في الوضوح.
فأنت ترى أن الاختلاف في الوضوح منتفٍ على كلا التقريرين في الدلالة الوضعية المطابقية، فهي إذًا خارجة عن موضع هذا الفن.