الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصاحة الكلام:
فصاحته أن يبرأ من العيوب الثلاثة الآتية بعد:
1-
تنافر الكلمات مجتمعة.
2-
ضعف التأليف.
3-
التعقيد بنوعيه، ووجه حصر فصاحة الكلام في البراءة من هذه العيوب الثلاثة هو أن كل كلام له "مادة" هي أجزاؤه أي: الكلمات التي تركب منها، وله "صورة" هي هيئة تأليفه من هذه الكلمات، وله دلالة على معناه. فعيبه إما في مادته وهو "التنافر"، أو في صورته وهو "ضعف التأليف" أو في دلالته على المعنى وهو "التعقيد".
غير أن براءة الكلام من هذه العيوب مشروطة بسلامة أجزائه أي: الكلمات مفردة من العيوب المتقدمة في فصاحة الكلمة، وإليك بيان العيوب المذكورة على هذا الترتيب.
تنافر الكلمات: هو أن تكون الكلمات مجتمعة ثقيلة على اللسان؛ يتعسر النطق بها، وإن كانت كل كلمة على حدة لا ثقل فيها، وهو أيضًا نوعان: تنافر شديد، وتنافر قريب منه.
فالأول كقول الشاعر:
وقبر حرب بمكان قفر
…
وليس قرب قبر حرب قبر1
قيل: قفر بالرفع نعت لمكان على القطع للضرورة، وإن لم يتعين المنعوت بدون هذا النعت. وقيل: هو خبر لقبر، ومعنى كون القبر
1 زعموا أن هذا البيت لأحد الجان صاح على حرب بن أمية جد معاوية أمير المؤمنين، فمات لساعته فأنشد الجني هذا البيت، والواقع أنه لم يعرف قائله ولعله مصنوع.
قفرا -على هذا القول- قيامه وحده في هذا المكان، و"قرب" ظرف مكان خبر ليس مقدما، ولفظ "قبر" اسمها مؤخرا.
والشاهد فيه المصراع الثاني؛ فإن كلماته متعادية ينفر بعضها من بعض أشد النفور، حتى إن اللسان لا يكاد يلفظ بها مجتمعة. ومثله قول الشاعر:
أزج زلوج هزرفي زفازف
…
هزف يبذ الناجيات الصوافنا1
فإن اللسان ليتعثر عند النطق به، أيما تعثر.
والثاني كقول أبي تمام من قصيدة يعتذر بها لممدوحه، ويتبرأ مما نسب إليه زورا وبهتانا:
كريم متى أمدحه أمدحه والورى
…
معي وإذا ما لمته لمته وحدي2
يصف الشاعر ممدوحه بالكرم والسخاء، وأنه إذا ما جرى لسانه بمدحه رأى الناس عامة ألسنة مدح وثناء معه لفيض إنعامه وعموم أياديه، وإذا ما هم بلومه لم يتبعه فيه أحد لبراءته مما يقتضي اللوم، والواو في قوله:"والورى معي" واو الحال بدليل وقوع هذه الجملة في مقابلة قوله: "وحدي" الواقع آخر البيت، فإنه حال أيضا،
1 "أزج" بفتح الهمزة والزاي وتشديد الجيم، "وزلوج" على زنة صبور، و"هزرفي" بفتح الهاء وسكون الزاي وفتح الراء وكسر الفاء وتشديد الياء، و"زفاف" على زنة صيغة منتهى الجموع، وكلها أوصاف لفرس معناها: خفيف سريع، و"هزف" بكسر ففتح ففاء مشددة معناه الجافي أو الطويل، و"يبذ": يسبق، و"الناجيات الصوافن": الخيل القوية.
2 ذكر الصاحب بن عباد أنه أنشد هذه القصيدة بحضرة ابن العميد، فلما بلغ هذا البيت قال له ابن العميد: هل تعرف فيه شيئا من الهجنة؟ قال: نعم مقابلة المدح باللوم، وإنما يقابل بالذم والهجاء فقال ابن العميد: غير هذا أردت، فقال: لا أدري غير هذا، فقال ابن العميد: هذا التكرار في "أمدحه" مع الجمع بين الحاء والهاء خارج عن حد الاعتدال، نافر كل التنافر، فأثنى عليه الصاحب.
ولا يصح جعل "الواو" عاطفة لما يترتب عليه من توقف مدح الورى على مدحه، وفي هذا قصور يبرأ منه مقام المدح، ولما يترتب عليه أيضًا من اتحاد الشرط والجزاء1.
والشاهد فيه قوله: "أمدحه أمدحه" فإن في اجتماع هاتين الكلمتين ثقلا في النطق بهما يشعر به صاحب الذوق السليم، وليس في مجرد الجمع بين الحاء والهاء ثقل كما قيل، كيف وقد وقع ذلك في القرآن الكريم قال تعالى:{وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} غير أن الجمع بينهما مع تكرار الكلمة يزداد به التنافر ثقلا، وهو مما يقبل التفاوت شدة وضعفا. ومثل البيت المذكور قول الشاعر:
ومن جاهل بي وهو يجهل جهله
…
ويجهل علمي أنه بي جاهل
فإن فيه نوع ثقل يشعر به ذو الذوق البلاغي السليم.
ضعف التأليف: هو أن يكون الكلام في تركيبه مخالفا للمشهور من قوانين النحو التي اعتمدها جمهور النحاة كالإضمار قبل ذكر المرجع لفظا، ومعنى، وحكما كما في قول القائل:"أنقذ خادمه الأمير" فإن الضمير في "خادمه" راجع إلى الأمير، وهو لم يذكر قبل الضمير لفظا وهو ظاهر ولا معنى لعدم وجود ما يقتضي تقدمه، ولا حكما لأنه
1 بيان ذلك: أن جملة "أمدحه" الثانية واقعة جزاء للشرط الذي هو جملة "أمدحه" الأولى، وجزاء الشرط -كما هو معلوم- متوقف تحققه على وجود الشرط، فلو جعلنا الواو عاطفة لكانت جملة "والورى معي" معطوفة على جملة الجزاء والمعطوف على الجزاء يكون داخلا في مفهومه وجزءا منه، فتكون الجملة المعطوفة حينئذ متوقفا تحققها على وجود الشرط كالتي عطفت عليها، وإذًا يكون مدح الورى متوقفا على مدحه. أما اتحاد الشرط والجزاء على تقدير العطف المذكور فأمره ظاهر، إذ إن الجملة المعطوفة مستقلة بذاتها عن المعطوفة عليها، بخلاف ما لو جعلت الواو حالا فإنه لا يؤدي إلى هذين المحظورين، أما في الأول فلأن التقدير حينئذ: متى أمدحه أمدحه في حال مشاركة الورى لي في المدح، فالجزاء مدحه في هذه الحالة، وهذا لا ينافي مدحهم له قبل ذلك، وأما في الثاني فلأن الجزاء مقيد دون الشرط فلم يتحدا.
محكوم عليه بالتأخر لمفعوليته، لا لنكتة بلاغية، وسيتضح لك ذلك فيما بعد، فالمثال المذكور إذًا غير فصيح لضعف تأليفه1. ومثله قول الشاعر:
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر
…
وحسن فعل كما جوزي سنمار2
يدعو الشاعر على أبي الغيلان أن يجازيه أولاده -مع كبر سنه، وحسن صنيعه معهم- شر جزاء كما وقع لسنمار. والشاهد فيه قوله في المصراع الأول: جزى بنوه أبا الغيلان، حيث أضمر قبل ذكر المرجع لفظا، ومعنى، وحكما كالمثال الذي قبله، فهو إذًا غير فصيح لضعف تأليفه.
تنبيه:
مما تقدم يفهم أن المرجع إذا تقدم على الضمير، أو معنى، أو حكما كان الكلام سليما معافى من الضعف المذكور.
فالتقدم اللفظي: أن يتقدم المرجع على الضمير لفظا، أي: أن ينطق به أولا، وبالضمير ثانيا كما في قوله تعالى:{وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} ، وكما في قولك: "أكرم محمدا
1 أجاز هذه المسألة بعض النحاة كالأخفش وابن جني، ولكنه جواز لا يدفع الضعف؛ لأنه مقابل للمشهور من قوانينهم، والمعول عليه في الضعف مخالفة الكلام لما اشتهر بين جمهورهم. أما الكلام المخالف لما أجمع النحاة على منعه كتقديم المحصور فيه بإنما في نحو: إنما عالم محمد، وكنصب الفاعل أو جره مثلا فهو فضلا عن ضعفه فاسد.
2 "سنمار": اسم رجل بنى للنعمان بن امرئ القيس قصرا عظيما بالكوفة سماه "الخورنق" وقد أتقن بحذقه وبراعته صنعه، ولما أكمل بناءه وزخرفه ألقاه النعمان من أعلاه لئلا يبني قصرا مثله لغيره فمات لوقته، وضرب به المثل لكل من يجازى على الخير بالشر، وفي هذا يقول شاعرهم:
جزتنا بنو سعد بحسن فعالنا
…
جزاء سنمار؛ وما كان ذا ذنب
صديقه"، فمرجع الضمير في الأول "لفظ الجلالة"، وفي الثاني "محمدا"، وقد تقدم كلاهما على الضمير لفظا، غير أنه في الأول تقدم لفظا ورتبة، وفي الثاني تقدم لفظا فقط؛ لأنه مفعول فمرتبته بعد الفاعل.
والتقدم المعنوي: ألا يتقدم المرجع على الضمير لفظا، لكن هناك ما يقتضي تقدمه معنى؛ كأن يدل عليه لفظ سابق من جنسه، أو ترشد إليه قرينة حال، أو كانت مرتبته التقدم على الضمير.
فمثال ما دل عليه لفظ سابق قوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، فمرجع الضمير هو "العدل" المدلول عليه بلفظ {اعْدِلُوا} ، فهو لم يتقدم لفظا، وإنما تقدم معناه في الفعل المذكور.
ومثال ما أرشدت إليه قرينة حال قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} فمرجع الضمير المستتر في {تَرَكَ} هو "الميت" ولم يدل عليه لفظ سابق من جنسه كما في {اعْدِلُوا} ، بل دلت عليه قرينة حال هي أن الكلام مسوق لبيان الإرث، ومثله قوله تعالى:{إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ، فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} ، فمرجع الضمير المستتر في {تَوَارَتْ} هو "الشمس" ولم يدل عليه لفظ سابق من جنسه، ولكن ذكر "العشي" والتواري بالحجاب وسياق الكلام قرائن تدل على أن المراد "الشمس".
ومثال ما مرتبته التقدم وإن تأخر في اللفظ قولك: "في داره صديقك"، وقولك: رفع قبيلته عنترة؛ فمرجع الضمير في الأول "صديقك"، وفي الثاني "عنترة"، وقد تأخر كل منهما عن الضمير في اللفظ، ولكن مرتبته التقدم عليه؛ لأنه في الأول مبتدأ، وفي الثاني فاعل، ومرتبة المبتدأ التقدم على الخبر، كما أن مرتبة الفاعل التقدم على المفعول، وكأنما لفظ بهما أولا.
والتقدم الحكمي: هو ألا يتقدم المرجع لفظا، وليس ثم ما يقتضي تقدمه سوى حكم الواضع بأن المرجع يجب تقدمه، غير أنه خُولف فيه حكم الواضع، فأخر لنكتة بلاغية، والمتأخر لعرض متقدم حكما كما في باب "نعم وبئس1"، وضميري "رب والشأن" نحو:"نعم فصيحا سحبان2"، "بئس عييا باقل3" ونحو:"ربه فتى"، ومثل قول الشاعر:
هي الدنيا تقول بملء فيها
…
حذار حذار من بطشي وفتكي
فالمرجع في "نعم وبئس" هو المخصوص بالمدح أو الذم، وفي "رب" هو "فتى"، وفي الحال والشأن هو لفظ "الدنيا"، وهو في كل هذه المثل لم يتقدم لفظا ولا معنى، ولكنه متقدم حكما من حيث إن وضع الضمير على أن يعود إلى متقدم، وإنما أخر هنا لنكتة هي البيان بعد الإبهام.
إلى هنا ظهر جليا أن كل ما سبق من الأمثلة مما تقدم فيه المرجع على الضمير لفظا، أو معنى، أو حكما فصيح لخلوه من ضعف التأليف؛ إذ إنه جرى على المشهور من قوانينهم، وأن ما لم يتقدم فيه المرجع أصلا كقولنا فيما سبق:"أنقذ خادمه الأمير" غير فصيح لضعف تأليفه؛ لأنه جرى على غير المشهور عندهم، وليس هذا من قبيل ما قدم فيه المرجع حكما؛ لأن تأخير المفعول في نحو المثال المذكور لا لنكتة بلاغية، بل لأن مرتبته التأخير عن الفاعل.
1 على رأي من يجعل المخصوص مبتدأ لخبر محذوف أو العكس.
2 هو سحبان وائل الخطيب المصقع، والمضروب به المثل في البلاغة والبيان، نشأ في الجاهلية وعاش إلى زمن معاوية.
3 هو رجل من إياد كان شديد العي في النطق، اتفق أنه اشترى ظبيا بأحد عشر درهما، فقيل له: بكم اشتريته؟ ففتح كفيه وفرق بين أصابعه، وأخرج لسانه ليشير بذلك إلى العدد المذكور؛ فانفلت الظبي من يده، فضرب به المثل في العي والفهاهة.
وإذًا، فالفرق بين الإضمار قبل الذكر الموجب للضعف، وبين الإضمار قبل الذكر الذي جعل من قبيل تقدم المرجع حكما، وجود النكتة في الثاني دون الأول. على أنهم قالوا: إذا قصدت النكتة في مثل المثال المذكور، وأن الغرض من تأخير المفعول هو البيان بعد الإبهام كما في "نعم وبئس" لم يبعد أن يكون فصيحا، غير أن الشأن في مثل هذا التركيب ألا تلتمس له نكتة، بخلاف الشأن في باب نعم وبئس وغيرهما مما قدم فيه المرجع حكما ا. هـ.
وكالإضمار قبل الذكر في تعطيل الكلام من حلية الفصاحة؛ لضعف تأليفه، الإتيان بالضمير متصلا بعد "ألا"، ونصب المضارع بدون ناصب مذكور في الكلام، فالأول كما في قول الشاعر:
وما علينا إذا ما كنت جارتنا
…
ألا يجاورنا إلاك ديار
يريد أن يقول: إن غاية ما أرجوه من متع الحياة أن أكون بجوارك، فإذا حظينا بهذه الأمنية، فقد نلنا كل شيء، فلا يعنينا بعد ذلك ألا يجاورنا أحد.
والأصل: إلا إياك. والثاني كما في قول الشاعر:
قبيح من الإنسان ينسى عيوبه
…
ويذكر عيبا في أخيه قد اختفى
أي: أن ينسى، وأن يذكر.
التعقيد: هو أن يكون الكلام خفي الدلالة على المعنى المراد لخلل واقع فيه1. وهو نوعان: لفظي ومعنوي.
1 هذا تعريف للتعقيد بالمعنى الاصطلاحي الذي هو كون الكلام معقدا، لا بالمعنى اللغوي الذي هو مصدر عقد المتكلم كلامه تعقيدا، إذا أخفى المراد منه، فإنه بهذا المعنى لا يصح حمل التعريف المذكور عليه؛ لأن التعقيد بهذا المعنى وصف للمتكلم والتعريف المذكور من صفات الكلام، واحترز بقوله: لخلل واقع فيه عما خفي المراد منه لا لخلل فيه، بل لإرادة المتكلم إخفاء المراد منه لحكمة، كالذي ورد في القرآن من المتشابه والمجمل والمشكل، فلا تعقيد فيه.
التعقيد اللفظي: أن يكون الكلام خفي الدلالة على المعنى لخلل واقع في نظمه وتركيبه، بحيث لا يكون ترتيب الألفاظ على وفق ترتيب المعاني بسبب تقديم، أو تأخير، أو فصل، أو حذف، أو نحو ذلك مما يترتب عليه صعوبة فهم المعنى المراد، وهو على ضربين: شديد، وخفيف.
فالشديد كما في قول الفرزدق1 يمدح إبراهيم بن المخزومي خال هشام بن عبد الملك، أحد خلفاء بني أمية:
وما مثله في الناس إلا مملكا
…
أبو أمه حي أبوه يقاربه
يريد أن يقول: ليس مثل الممدوح في الناس حي يقاربه في الفضائل إلا مملكا2 أبو أم ذلك الملك أبو الممدوح أي: لا يحاكيه أحد إلا ابن أخته وهو "هشام". ففيه فاصل كبير بين البدل وهو "حي" والمبدل منه وهو "مثله" وفيه تقديم المستثنى وهو "مملكا" على المستثنى منه وهو "حي"3، وفيه فصل بين المبتدأ والخبر وهما:"أبو أمه أبوه" بأجنبي هو "حي"، وبين الصفة والموصوف وهما:"حي يقاربه" بأجنبي هو "أبوه" فانظر إلى أي حد وصل تعقيد اللفظ حتى عمي المعنى، واستغلق على الفهم4.
1 هو همام بن غالب بن صعصعة، الشاعر التميمي الأموي المعروف، وقد لقب بهذا اللقب لتقطيع وجهه بالجدري على ما يروى.
2 أي: رجل أعطي الملك والجاه، يريد هشاما.
3 إنما عد تقديم المستثنى من موجبات التعقيد في البيت المذكور مع أنه جارٍ على وفق قوانين النحاة؛ لأن التعقيد يزداد به وهو مما يقبل التفاوت شدة وضعفا.
4 قيل: ويمكن أن يخرج البيت على وجه لا تعقيد فيه، فيجعل "إلا مملكا" مستثنى من الضمير المستتر في متعلق الجار والمجرور الواقع خبر "ما" أو خبر "مثله" على الخلاف في جعل "ما" حجازية أو تميمية، ويجعل "أبو أمه" مبتدأ و"حي" خبرا، ويجعل "أبوه" خبرا بعد خبر، والجملة صفة "لمملكا"، وكذلك جملة "يقاربه" أي: إلا مملكا موصوفا بهذه الصفة، وبأنه يقارب خاله في الفضائل. وعلى هذا القول يكون المراد بالحياة في قوله:"حي" الشبوبية والفتوة، وغاية ما يرد على هذا الوجه أن فيه نصب "مملكا"، والمختار رفعه لتأخر المستثنى على المستثنى منه بعد النفي.
ومثل هذا البيت في شدة تعقده قول الآخر:
فأصبحت بعد خط بهجتها
…
كأن قفرا رسومها قلما
يصف الشاعر دارا بالية، وأصل الكلام: فأصبحت بعد بهجتها قفرا كأن قلما خط رسومها؛ ففيه من الفصل، والتقديم، والتأخير ما جعل التعقيد اللفظي في أقبح صورة وأشنعها.
والخفيف كما في قول أبي الطيب المتنبي:
جفخت وهم لا يجفخون بها بهم
…
شيم على الحسب الأغر دلائل
يصف قوما بحسن الشمائل، وأصل التركيب هكذا: جفخت بهم شيم دلائل على الحسب الأغر، وهم لا يجفخون بها أي: افتخرت بهم طبائع دالة على ما كان لآبائهم من مناقب ومفاخر وهم لا يفخرون بها؛ لأنهم حاصلون على ما هو خير وأوفى، فقد فصل بين الفعل والفاعل، وهما:"جفخت شيم" بأجنبي هو جملة "وهم لا يجفخون بها" الواقعة حالا، وفصل بين الصفة والموصوف، وهما:"شيم دلائل" بالجار والمجرور، وهما قوله:"على الحسب الأغر". ومثله قول الفرزدق من قصيدة يصف بها ذئبا:
تعال فإن عاهدتني لا تخونني
…
نكن مثل من "يا ذئب" يصطحبان
يريد: نكن يا ذئب مثل من يصطحبان؛ ففصل بين الموصول وصلته وهما: "من يصطحبان" بأجنبي هو قوله: "يا ذئب"، فتعقد اللفظ نوع تعقد.
قيل: لا داعي لذكر التعقيد اللفظي بعد ذكر ضعف التأليف؛ لأن ذكره مغنٍ عن ذكر التعقيد المذكور، إذ لا سبب لهذا التعقيد سوى ضعف التأليف. بل لقد ذهب بعضهم1 إلى أن ذكر أحدهما مغنٍ عن ذكر الآخر، أما إغناء الضعف فلما ذكرنا من أنه لا سبب للتعقيد
1 هو العلامة الخلخالي.
سواه، وأما إغناء التعقيد فلأنه لازم للضعف، إذ إن تأليف الكلام إذا لم يكن على وفق المشهور من قوانينهم يوجب صعوبة في فهم المراد منه لا محالة، وذكر اللازم يغني عن ذكر الملزوم كالضاحك للإنسان، فإن ذكر الضاحك يغني عن ذكر الإنسان.
أجيب أولا: بأنا لا نسلم أن التعقيد اللفظي لا سبب له سوى ضعف التأليف؛ ذلك أن التعقيد المذكور قد يتحقق بدون الضعف كما في قولك: "إلا عمرا القوم هازم محمد" ففي هذا التركيب تقدم المستثنى على المستثنى منه، والمفعول على اسم الفاعل، والخبر على المبتدأ، وكل هذه الأمور أجازها جمهور النحاة لجريانها وفق المشهور من قوانينهم، والتركيب -مع ذلك- معقد لصعوبة فهم المراد منه، فقد تحقق التعقيد بدون ضعف التأليف.
وأجيب ثانيا: بأنا لا نسلم بأن التعقيد لازم للضعف، وأن كل ضعف يوجب تعقيدا، فإن في قولنا: جاءني أحمد "بالتنوين" ضعف تأليف؛ لمخالفته قانون النحاة وهو -مع ذلك- خلو من التعقيد لظهور المعنى المراد منه، فقد وجد الضعف من غير تعقيد.
وقد اجتمعا1 في قول الفرزدق السابق: "وما مثله في الناس
…
البيت" وإذا بطل ما ادعاه صاحب القيل، وما ذهب إليه الخلخالي، وثبت أن ذكر أحدهما لا يغني عن ذكر الآخر.
التعقيد المعنوي: أن يكون الكلام خفي الدلالة على المعنى المراد؛ لخلل في انتقال الذهن من المعنى الأول المفهوم من اللفظ لغة إلى المعنى الثاني المقصود، بحيث يكون إدراك المعنى الثاني من الأول بعيدا عن الفهم، يحتاج إلى تكلف بسبب استعمال اللفظ في معنى
1 فبينهما العموم والخصوص الوجهي.
خفي لزومه للمعنى الأول1، كقول العباس بن الأحنف2:
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا
…
وتسكب عيناي الدموع لتجمدا
عبر بالسين الدالة على معنى التسويف -وإن كان مراده الطلب في الحال- لاعتبار لطيف هو أن البعد عن الديار -وإن كان في زعمه وسيلة للقرب من الأحبة، وهو ما يأمله ويبتغيه- جدير أن يسوف، ولا يطلب في الحال لأنه في ذاته مبغض؛ غير مرغوب فيه، و"تسكب" برفع الباء عطف على "أطلب" مجردا عن السين؛ لأن البكاء شعار المحبين وسمة العاشقين، فالتسويف فيه لا يناسب حالهم. ولا يصح فيه نصب الباء؛ لأنه إما أن يكون معطوفا على "بعد الدار"، أو معطوفا على "لتقربوا" وهو لا يحسن في الأول، ولا يصح في الثاني.
1 اعلم أن المراد بخفاء دلالة الكلام على المعنى المراد بطء إدراك المراد منه، وأن المراد بخلل انتقال الذهن بطء انتقاله من المعنى الأصلي إلى المعنى المراد بسبب استعمال المتكلم اللفظ في اللازم الخفي أي: في معنى خفيت علاقته بالمعنى الأصلي. وإذًا فبطء انتقال الذهن من الأول إلى الثاني سبب في بطء فهم المعنى المقصود من اللفظ، كما أن سرعة انتقال الذهن من المعنى الأصلي إلى المعنى المراد سبب في سرعة إدراك المراد من اللفظ، والمراد بالذهن ذهن السامع على ما هو الظاهر؛ لأن الخفاء والظهور إنما هو بالنسبة إليه، وليس من شك أن السامع إذا سمع اللفظ فبطؤ انتقال ذهنه من المعنى الأول إلى الثاني بسبب استعمال اللفظ فيما خفي لزومه للمعنى الأول خفيف عليه دلالة اللفظ أي: بطؤ إدراك المراد منه. "وحاصل المسألة" أن شرط فصاحة الكلام أن يكون المعنى الثاني المراد قريبا فهمه من المعنى الأصلي كمعنى "الكرم" المفهوم من كثرة الرماد في قولك: محمد كثير الرماد، وكمعنى "الشجاع" المفهوم من الأسد في قولك: رأيت أسدا يعطي. فإن كان المعنى الثاني بعيدا فهمه من المعنى الأول، يحتاج في إدراكه إلى تكلف وتمحل بسبب استعمال اللفظ فيما لزم معناه لزوما خفيا، كان الكلام معقدا، فلا يكون فصيحا كما في قول ابن الأحنف.
2 من ندماء هارون الرشيد، وكان لطيف المجلس فكه الحديث.
أما أنه لا يحسن في الأول؛ فلأن سكب الدموع حينئذ يدخل في حيز الطلب، ولا يخفى أن الحزن والبكاء شعار العاشق المهجور، لا ينفكان عنه بحال. فطلبهما إذًا ضرب من العبث لحصولهما، اللهم إلا أن يقال: إن المراد طلب استمرار السكب لا أصله، وهذا الاحتمال هو سر عدم بطلان العطف على بعد الدار.
وأما أنه لا يصح في الثاني؛ فلأن تعليل طلب بعد الديار بالقرب يدل على أن المقصود من طلب البعد قرب الأحبة المقتضي للفرح والابتهاج، فلو عطف على "لتقربوا" لكان طلب البعد معللا بالحزن المدلول عليه بسكب الدمع، وتعليله به يقتضي أن المقصود من طلب بعد الدار حصول الحزن والكآبة له، لا قرب الأحبة. فالتعليل الثاني حينئذ يفيد نقيض ما أفاده الأول؛ وإذًا بطل النصب عطفا على "لتقربوا" كما لم يحسن عطفا على "بعد الدار"، وتعين الرفع عطفا على "أطلب".
ومعنى البيت: أن ابن الأحنف يطلب البعد عن أحبته غير مبالٍ بما يعانيه في ذلك من غصص الفرقة، وآلام النوى، ويعتزم أن يوطن نفسه على تجرع كئوس الأسى لفراق من أحبهم، وهام بهم، عساه فيما بعد يحظى بوصل مقيم، وفرح لا يزول، وكأنه بذلك يخادع الزمان، ويغالطه ليوافيه بضد ما يطلب على عادة الدهر من محاربة الناس في مطالبهم، ووقوفه حائلا دون ما يأملون، وبذلك يتم للشاعر -في غفلة الدهر- ما أراد من لقاء الأحبة والابتهاج والأنس بهم، على حد قول الشاعر:
ولطالما اخترت الفراق مغالطا
…
واحتلت في استثمار غرس ودادي
ورغبت عن ذكر الوصال لأنها
…
تبني الأمور على خلاف مرادي
والشاهد في بيت ابن الأحنف قوله: "لتجمدا" فإنه لم يوفق
في أداء المعنى الذي أراده من هذا اللفظ على وجه صحيح؛ ذلك أنه أراد أن يكني عما قصده بكنايتين أصاب في إحداهما، وأخطأه الصواب في الأخرى.
بيان ذلك: أنه عبر أولا "بسكب الدمع" كناية عما يوجبه فراق الأحبة من الحزن والكمد، فأحسن وأصاب المحز في هذه الكناية؛ لسرعة فهم الحزن من سكب الدموع عرفا. فإن البكاء عادة يكون أمارة الحزن، كما يكون الضحك عنوانا على الابتهاج والفرح، فيقال: أبكاني وأضحكني على معنى: ساءني وسرني. قال الشاعر:
أنزلني الدهر على حكمه
…
من شامخ عال إلى خفض
أبكاني الدهر ويا ربما
…
أضحكني الدهر بما يرضي
ثم عبر ثانيا "بجمود العين" كناية عما يوجبه اجتماع شمله بأحبته من السرور والابتهاج، فأخطأه التوفيق في هذه الكناية؛ ذلك أن جمود العين جفافها من الدمع عند الدافع إليه، وهو الحزن على فراق الأحبة، فجمودها حينئذ كناية عن بخلها بالدمع وقت الحاجة إليه، لا عما أراده من السرور. يؤيد ذلك قول أبي العطاء يرثي ابن هبيرة:
ألا إن عينا لم تجد يوم واسط
…
عليك بجاري دمعها لجمود
أي: لبخيلة الدمع، ومنه قول الخنساء ترثي أخاها صخرا:
أعيني جودا ولا تجمدا
…
ألا تبكيان لصخر الندى؟
أي: أفيضا بالدمع، ولا تبخلا به، كما يرشد إلى ذلك قولهم:"سنة جماد" أي: بخيلة بالقطر، "وناقة جماد": لا تجود بالدر. ومن هنا لا يصح عندهم أن يقال في مقام الدعاء للمخاطب بالسرور:
"لا زالت عينك جامدة" على معنى: لا أبكى الله عينك، إذ هو دعاء عليه بالحزن، لا بالسرور.
إذا علمت هذا، ظهر لك أن المعنى الذي أراده الشاعر، وهو "السرور" لا يفهم من "الجمود" إذ لا يدل عله اللفظ لا لغة ولا عرفا، اللهم إلا مع ارتكاب شيء من التعسف1؛ ومن هنا كان التعقيد في المعنى. ومثل قول ابن الأحنف قول الشاعر:
أمنا أن تصرع عن سماح
…
وللآمال في يدك اصطراع
تصرع بتشديد الراء مع البناء للمجهول بمعنى: تغلب وتمنع بشدة، ويريد باصطراع الآمال في يده: ازدحامها وتدافعها. يقول: أمنا أن يغلبك على أمرك غالب يحول دون سماحك وكرمك، والشاهد قوله:"وللآمال في يدك اصطراع" حيث كنى باصطراع الآمال في يده عن معنى الكرم، وهي كناية خفية الدلالة على ما أراد؛ ذلك أن معنى الاصطراع: الاطّراح على الأرض، يقال: اصطرع القوم وتصارعوا: ألقى بعضهم ببعض على الأرض، فاستعماله في معنى الكرم غير ظاهر لخفاء اللزوم بين المعنيين، كاستعمال جمود العين في معنى السرور. فلا بد إذًا من ارتكاب شيء من التعسف وهو أن يستعمل الاصطراع أولا في معنى التزاحم والتدافع؛ كاستعمال جمود العين في الخلو من الدمع مطلقا، وحينئذ يصح أن ينتقل منه إلى معنى الكرم؛ لأن الكريم عادة يزدحم على بابه ذوو الحاجات؛ يطلبون معروفه:
1 هو أن يستعمل الجمود الذي هو الخلو من الدمع حالة الحزن في خلو العين من الدمع مطلقا، وإلى هنا صح أن يكنى به عن السرور؛ لأن المسرور تخلو عينه من الدمع عادة. غير أن استعمال الجمود في مطلق الخلو من الدمع لينتقل منه إلى السرور مخالف لاستعمالاتهم؛ لهذا كان الكلام معقد المعنى.
يسقط الطير حيث ينتثر الحـ
…
ـب وتغشى منازل الكرماء
وهكذا كل كلام خفيت دلالته على المعنى المراد لخفاء اللزوم بين المعنيين، يكون معقد المعنى.
تنبيهان:
الأول: زاد بعضهم عيبا رابعا على العيوب المخلة بفصاحة الكلام، وهو أن يكثر فيه التكرار1، أو تتوالى فيه الإضافات.
فمثال التكرار قول أبي الطيب يصف فرسا له:
وتسعدني في غمرة بعد غمرة
…
سبوح لها منها عليها شواهد2
"سبوح" فعول بمعنى فاعل، يستوي في الوصف به المؤنث والمذكر، وهو من السبح بمعنى العوم. يريد: أن في جريها -مع شدة عَدْوها- سلاسة وسهولة كأنما تسبح في الماء3، وقوله:
1 التكرار: هو ذكر الشيء ثانيا بعد ذكره أولا، وكثرته بذكره ثالثا، والمراد بالكثرة ما فوق الواحد، وإنما شرط الكثرة لأن التكرار بلا كثرة لا يخل بالفصاحة، وإلا قبح التوكيد اللفظي.
2 "تسعدني" من الإسعاد وهو الإعانة والإنقاذ، "والغمرة": ما يغمرك من الماء وقد أراد بها الشدة، "وسبوح" صفة لموصوف محذوف أي: فرس سبوح، و"شواهد" بمعنى دلائل فاعل الظرف وهو "لها"؛ لاعتماده على الموصوف الذي هو "سبوح"، ولم يجعل النظر خبرا مقدما لشواهد لاحتياج التقديم إلى نكتة، ولا نكتة هنا.
3 فيه إشارة إلى أن استعمال "سبوح" في الفرس العادية مجاز؛ لأن السبوح في الأصل كثير السبح في الماء، فاستعمل في كثير الجري على سبيل الاستعارة التبعية المصرحة، إذ شبه الجري الشديد السلس بالسبح في الماء واستعير اسم المشبه به للمشبه، واشتق من السبح سبوح بمعنى جارية جريا شديدا مع سلاسة.
"لها" وصف لسبوح، وقوله:"منها" حال من شواهد1، و"عليها" متعلق به.
يصف الشاعر فرسه بشدة الجري وحسنه، وأنها منجاة له من الشدائد بخفة حركتها، وشدة عدوها، وأن أمارات النجابة بادية عليها. الشاهد في المصراع الثاني، فإن تكرار الضمير فيه أخل بفصاحته.
ومثال تتابع الإضافات قول ابن بابك:
حمامة جرعاء حومة الجندل اسجعي
…
فأتت بمرأى من سعاد ومسمع2
يأمر الشاعر حمامة هذا الوادي بالسجع والتطريب؛ إعجابا بمحبوبته واحتفاء بها، ولكي تسمع وترى ما يسرها ويبهجها. والشاهد في المصراع الأول، فإن فيه إضافات متتابعة، إذ أضيف "حمامة" إلى "جرعاء" المضافة إلى "حومة" المضافة إلى "جندل"، وهذا مخل بفصاحة الكلام.
هكذا زعم هذا القائل، وفيه نظر؛ لأن كثرة التكرار، أو تتابع الإضافات إن ثقل اللفظ به على اللسان فقد دخل في باب التنافر وإلا فلا يخل بالفصاحة، كيف وقد ورد في القرآن الكريم قال تعالى:{مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} ، وقال سبحانه:{ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ} ، وقال جل شأنه:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} إلى غير ذلك مما نراه في غير موضع من كتاب مقدس هو في أعلى طبقات البلاغة، لا ينكر عليه ذلك أحد. وقد اجتمع الأمران في الحديث
1 لأنه في الأصل نعت لها، ونعت النكرة إذا قدم عليها أعرب حالا.
2 "جرعاء" مؤنث أجرع، وهو الأرض الجرداء لا تنبت شيئا وقصرت للضرورة، و"الحومة": معظم الشيء و"الجندل": الأرض ذات الحجارة و"السجع": تغريد الحمام، وقوله: فأنت بمرأى
…
إلخ أي: في مكان تراك فيه سعاد وتسمعك، يقال: فلان بمرأى مني ومسمع أي: بحيث أراه وأسمع قوله.
الشريف، قال صلى الله عليه وسلم:"الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم" فهذا الحديث جمع بين التكرار، وتتابع الإضافات1.
الثاني: إنما شرطنا في فصاحة الكلام أن تسلم كل كلمة فيه من العيوب المخلة بفصاحتها؛ لتعلم أن نحو: "محمد أصدق مودة من أخيه"، ونحو:"شعر هند مستشزر"، و"أنفها مسرج" غير فصيح، مع أنه كلام سليم من العيوب المخلة بفصاحته، فلا تنافر كلمات فيه، ولا ضعف تأليف، ولا تعقيد، ولكنه لما لم يسلم من العيوب المخلة بفصاحة بعض أجزائه لم يكن فصيحا؛ إذ الشرط في فصاحة الكلام -كما قلنا- سلامته من عيوبه وعيوب أجزائه، كما تقول في الأمثلة السابقة:"محمد أصدق مودة من أخيه"، و"شعر هند مرتفع"، و"أنفها مستقيم دقيق، أو ناضر بهيج".
وهذا هو معنى قول الخطيب في تعريف فصاحة الكلام: خلوصه من ضعف التأليف وتنافر الكلمات والتعقيد، مع فصاحة الكلمات. وهم قد جعلوا الظرف حالا من الضمير في "خلوصه" العائد على الكلام أي: أن يخلص الكلام من هذه الثلاثة حال كونه فصيح الكلمات ليخرج بذلك نحو قولهم: شعر هند مستشزر، فإنه -وإن خلص من الأمور المذكورة- غير فصيح لخلو بعض كلماته من الفصاحة2.
إذا علمت هذا، علمت أن كل كلام سلم من عيوبه، وعيوب أجزائه عُدَّ في عرف البلغاء فصيحا، وإن لم يسلم من ذلك فقد تعطل جيده من حلية البلاغة.
1 ذلك لأن الإضافات تشمل المتداخلة بأن يكون الأول مضافا للثاني والثاني مضافا للثالث وهكذا كما في الآيتين الأوليين، وغير المتداخلة كما في الحديث، وكثرة التكرار تحصل بذكر الشيء ثالثا سواء كان المذكور ضميرا كما في الآية الثالثة، أو غير ضمير كما في الحديث.
2 وقيل: الظرف حال من الكلمات أي: أن يخلص الكلام من كذا وكذا ومن تنافر الكلمات حال كونها فصيحة، وفي هذا التقدير فساد لأن الظرف حينئذ يكون قيدا للتنافر الداخل تحت النفي وهو الخلوص، والقاعدة: أن النفي إذا دخل على مقيد بقيد توجه في الغالب إلى القيد، وهو هنا فصاحة الكلمات، فيكون المعتبر في فصاحة الكلام انتفاء فصاحة الكلمات مع وجود التنافر، وهذا عكس المقصود؛ إذ المقصود انتفاء التنافر مع وجود فصاحة الكلمات، فيدخل في الفصيح ما ليس بفصيح، ويكون التعريف حينئذ غير جامع.