الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرق بين الاستعارة والتشبيه المؤكد:
وههنا شيء لا بد من التنبيه عليه، وهو أنه إذا أجري في الكلام لفظ دلت القرينة1 على تشبيه شيء بمعناه، فيكون ذلك على وجهين:
أحدهما: ألا يكون المشبه مذكورا ولا مقدرا؛ كقولك: "رنت لنا ظبية"، وأنت تريد امرأة، و"لقيت أسدا"، وأنت تريد رجلا شجاعا. ولا خلاف أن هذا ليس بتشبيه وأن الاسم فيه استعارة.
والثاني: أن يكون المشبه مذكورا أو مقدرا1؛ فاسم المشبه به إن كان خبرا، أو في حكم الخبر -كخبر "كان وإن"، والمفعول الثاني لباب "علمت" والحال- فالأصح أنه يسمى تشبيها، وأن الاسم فيه لا يسمى استعارة؛ لأن الاسم إذا وقع هذه المواقع فالكلام موضوع لإثبات معناه لما يعتمد عليه، أو نفيه عنه؛ فإذا قلت:"زيد أسد"، فقد وضعت كلامك في الظاهر لإثبات معنى الأسد لزيد، وإذا امتنع إثبات ذلك له على الحقيقة، كان لإثبات شبه من الأسد له، فيكون اجتلابه لإثبات التشبيه، فيكون خليقا بأن يسمى تشبيها؛ إذ كان إنما جاء ليفيده، بخلاف الحالة الأولى؛ فإن الاسم فيها لم يجتلب لإثبات معناه للشيء، كما إذا قلت:"جاءني أسد، ورأيت أسدا"، فإن الكلام في ذلك موضوع لإثبات المجيء واقعا من الأسد، والرؤية واقعة منك عليه، لا لإثبات معنى الأسد لشيء؛ فلم يكن ذكر المشبه به لإثبات التشبيه، وصار قصد التشبيه مكنونا في الضمير، لا يعلم إلا بعد الرجوع إلى شيء من النظر.
ووجه آخر في كون التشبيه مكنونا في الضمير؛ وهو أنه إذا لم يكن المشبه مذكورا جاز أن يتوهم السامع في ظاهر الحال أن المراد باسم المشبه به ما هو موضوع له، فلا يعلم قصد التشبيه فيه إلا بعد شيء من التأمل، بخلاف الحالة الثانية، فإنه يمتنع ذلك فيه مع كون المشبه مذكورا أو مقدرا.
ومن الناس2 من ذهب إلى أن الاسم في الحالة الثانية استعارة؛ لإجرائه على المشبه مع حذف كلمة التشبيه3، وهذا الخلاف لفظي راجع إلى الكشف عن معنى الاستعارة والتشبيه في الاصطلاح4، وما اخترناه هو الأقرب لما أوضحناه من
المناسبة، وهو اختيار المحققين؛ كالقاضي أبي الحسن الجرجاني، والشيخ عبد القاهر، والشيخ جار الله العلامة، والشيخ صاحب المفتاح1 رحمهم الله؛ غير أن الشيخ عبد القاهر قال بعد تقرير ما ذكرناه2: فإن أبيتَ إلا أن تُطلق اسم الاستعارة على هذا القسم، فإن حسن دخول أدوات التشبيه لا يحسن إطلاقه؛ وذلك كأن يكون اسم المشبه به معرفة؛ كقولك:"زيد الأسد، وهو شمس النهار"، فإنه يحسن أن يقال:"زيد كالأسد، وخِلْتُه شمس النهار".
وإن حسن دخول بعضها دون بعض، هان الخطب في إطلاقه؛ وذلك كأن يكون نكرة غير موصوفة؛ كقولك:"زيد أسد"؛ فإنه لا يحسن أن يقال: "زيد كأسد"3، ويحسن أن يقال:"كأن زيدا أسد، ووجدته أسدا"4.
وإن لم يحسن دخول شيء منها إلا بتغيير لصورة الكلام كان إطلاقه أقرب؛ لغموض تقدير أداة التشبيه فيه؛ وذلك بأن يكون نكرة موصوفة بما لا يلائم المشبه به؛ كقولك: "فلان بدر يسكن الأرض، وهو شمس لا تغيب"؛ وكقوله:
شمس تألق، والفراق غروبها
…
عنا، وبدر والصدود كسوفه5
فإنه لا يحسن دخول الكاف ونحوه في شيء من هذه الأمثلة ونحوها إلا بتغيير صورته1؛ كقولك: "هو كالبدر إلا أنه يسكن الأرض، وكالشمس إلا أنه لا يغيب، وكالشمس المتألقة إلا أن الفراق غروبها، وكالبدر إلا أن الصدود كسوفه".
وقد يكون في الصفات والصلات التي تجيء في هذا النحو ما يحيل تقدير أداة التشبيه فيه؛ فيقرب إطلاقه أكثر، وذلك مثل قول أبي الطيب:
أسد دم الأسد الهزبر خضابه
…
موت فريص الموت منه يرعد2
فإنه لا سبيل إلى أن يقال: "المعنى: هو كالأسد وكالموت"؛ لما في ذلك من التناقض؛ لأن تشبيهه بجنس السبع المعروف دليل أنه دونه أو مثله، وجعل دم الهزبر -الذي هو أقوى الجنس- خضاب يده دليل أنه فوقه، وكذلك لا يصح أن يشبهه بالموت المعروف ثم يجعل الموت يخاف منه3. وكذا قول البحتري:
وبدر أضاء الأرض شرقا ومغربا
…
وموضع رجلي منه أسود مظلم4
إن رُجع فيه إلى التشبيه الساذج -حتى يكون المعنى: هو كالبدر- لزم أن يكون قد جعل البدر المعروف موصوفا بما ليس فيه1؛ فظهر أنه إنما أراد أن يُثبت من الممدوح بدرا له هذه الصفة العجيبة التي لم تعرف للبدر، فهو مبني على تخيل أنه زاد في جنس البدر واحدا له تلك الصفة؛ فالكلام موضوع لا لإثبات الشبه بينهما ولكن لإثبات تلك الصفة؛ فهو كقولك:"زيد رجل كيت كيت"، لم تقصد إثبات كونه رجلا، لكن إثبات كونه متصفا بما ذكرت. فإذا لم يكن اسم المشبه به في البيت مجتلبا لإثبات الشبه، تبين أنه خارج عن الأصل الذي تقدم2 من كون الاسم مجتلبا لإثبات الشبه؛ فالكلام فيه مبني على أن كون الممدوح بدرا أمر قد استقر وثبت، وإنما العمل في إثبات الصفة الغريبة3.
وكما يمتنع دخول الكاف في هذا ونحوه4، يمتنع دخول "كأن" ونحوه "تحسب" لاقتضائهما5 أن يكون الخبر والمفعول الثاني أمرا ثابتا في الجملة6، إلا أن كونه متعلقا بالاسم والمفعول الأول مشكوك فيه؛ كقولنا:"كأن زيدا منطلق"، أو خلاف الظاهر؛ كقولنا:"كأن زيدا أسد"7، والنكرة فيما نحن فيه غير
ثابتة1؛ فدخول "كأن" و"تحسب" عليها كالقياس على المجهول.
وأيضا هذا الجنس إذا فليت عن سره، وجدت محصوله أنك تدعي حدوث شيء هو من الجنس المذكور، إلا أنه اختص بصفة عجيبة لم يتوهم جوازها على ذلك الجنس2، فلم يكن لتقدير التشبيه فيه معنى3.
التجريد ليس استعارة ولا تشبيها:
وإن لم يكن اسم المشبه به خبرا للمشبه، ولا في حكم الخبر4؛ كقولهم:"رأيت بفلان أسدا، ولقيني منه أسد" سمي تجريدا، كما سيأتي إن شاء الله تعالى5 ولم يسم استعارة؛ لأنه إنما يتصور الحكم على الاسم بالاستعارة إذا جرى بوجه على ما يدعى أنه مستعار له؛ إما باستعماله فيه، أو بإثبات معناه له6، والاسم في مثل هذا غير جارٍ على المشبه بوجه.
ولأنه يجيء على هذه الطريقة1 ما لا يتصور فيه التشبيه، فيظن أنه استعارة2؛ كقوله تعالى:{لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} 3؛ إذ ليس المعنى على تشبيه جهنم بدار الخلد؛ إذ هي نفسها دار الخلد4، وكقول الشاعر:
يا خير من يركب المطي ولا
…
يشرب كأسا بكف من بخلا5
فإنه لا يتصور فيه التشبيه، وإنما المعنى أنه ليس ببخيل.
ولا يسمى6 تشبيها أيضا؛ لأن اسم المشبه به لم يُجتلَب فيه لإثبات التشبيه كما سبق، وعده الشيخ صاحب المفتاح تشبيها7، والخلاف أيضا لفظي8.