الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد الثالث
بسم الله الرحمن الرحيم
الفن الثاني: علم البيان
مدخل
تعريف علم البيان:
وهو علم يعرف به إيراد المعنى الواحد1 بطرق مختلفة في وضوح الدلالة
عليه1.
أقسام الدلالة:
ودلالة اللفظ: إما على ما وُضع له، أو على غيره. والثاني إما داخل في الأول دخول السقف في مفهوم البيت، أو الحيوان في مفهوم الإنسان، أو خارج عنه خروج الحائط عن مفهوم السقف، أو الضاحك عن مفهوم الإنسان.
وتسمى الأولى دلالة وضعية، وكل واحدة من الأخيرتين دلالة عقلية.
وتختص الأولى بدلالة المطابَقَة، والثانية بالتضمن، والثالثة بدلالة الالتزام، وشرط الثالثة: اللزوم الذهني؛ أي: أن يكون حصول ما وضع اللفظ له في الذهن ملزوما
لحصول الخارج فيه1؛ لئلا يلزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر؛ لكون نسبة الخارج إليه حينئذ كنسبة سائر المعاني الخارجية.
ولا يُشترط في هذا اللزوم أن يكون مما يُثبته العقل2؛ بل يكفي أن يكون مما يثبته اعتقاد المخاطب؛ إما لعرف عام، أو لغيره3؛ لإمكان الانتقال حينئذ من المفهوم الأصلي إلى الخارجي.
وقد وقع في كلام بعض العلماء4 ما يشعر بالخلاف في اشتراط اللزوم الذهني في دلالة الالتزام، وهو بعيد جدا، وإن صح فلعل السبب فيه توهم أن المراد باللزومِ الذهني اللزومُ العقلي5؛ لإمكان الفهم بدون اللزوم الذهني بهذا المعنى حينئذ كما سبق.
ثم إيراد المعنى الواحد على الوجه المذكور لا يتأتى بالدلالة الوضعية6؛ لأن
السامع إن كان عالما بوضع الألفاظ، لم يكن بعضها أوضح دلالة من بعض، وإلا لم يكن كل واحد منها دالا، وإنما يتأتى بالدلالات العقلية؛ لجواز أن يكون للشيء لوازم بعضها أوضح لزوما من بعض1.
أبواب علم البيان:
ثم اللفظ المراد به لازم ما وُضع له: إن قامت قرينة على عدم إرادة ما وضع له فهو مجاز، وإلا فهو كناية.
ثم المجاز منه الاستعارة، وهي ما تَبتني على التشبيه، فيتعين التعرض له2.
فانحصر المقصود في: التشبيه، والمجاز، والكناية.
وقدم التشبيه على المجاز؛ لما ذكرنا من ابتناء الاستعارة -التي هي مجاز-
على التشبيه، وقُدِّم المجاز على الكناية؛ لنزول معناه من معناها منزلة الجزء من الكل1.
الباب الأول: القول في التشبيه:
تعريف التشبيه:
التشبيه: الدلالة على مشاركة أمر لآخر في معنًى1.
والمراد بالتشبيه ههنا2 ما لم يكن على وجه الاستعارة التحقيقية، ولا الاستعارة بالكناية، ولا التجريد3؛ فدخل فيه ما يسمى تشبيها بلا خلاف؛ وهو ما ذُكرت فيه أداة التشبيه؛ كقولنا:"زيد كالأسد"، أو "كالأسد" بحذف "زيد" لقيام قرينة، وما يسمى تشبيها -على المختار- كما سيأتي4 وهو ما حذفت فيه أداة التشبيه وكان اسم المشبه به خبرا للمشبه، أو في حكم الخبر5 كقولنا:"زيد أسد"، وكقوله تعالى:
{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} 1 أي: هم. ونحوه قول من يخاطب الحجَّاج:
أسد علي وفي الحروب نعامة
…
فَتْخَاء تنفر من صفير الصافر2
وكقولنا: "رأيت زيدا بحرا".
تأثير التشبيه:
وإذ قد عرفتَ معنى التشبيه في الاصطلاح؛ فاعلم أنه مما اتفق العقلاء على شرف قدره وفخامة أمره في فن البلاغة3، وأن تعقيب المعاني به -لا سيما قسم التمثيل منه- يضاعف قواها في تحريك النفوس إلى المقصود بها، مدحا كانت أو ذما أو افتخارا أو غير ذلك، وإن أردت تحقيق هذا، فانظر إلى قول البحتري:
دانٍ على أيدي العفاة وشاسع
…
عن كل ند في الندى وضَرِيب4
كالبدر أفرط في العلو وضوءه
…
للعصبة السارين جد قريب5
أو قول ابن لَنْكَك:
إذا أخو الحسن أضحى فعله سَمِجا
…
رأيت صورته من أقبح الصور6
وهبه كالشمس في حسن ألم ترنا
…
نفر منها إذا مالت إلى الضرر1
أو قول ابن الرومي:
بذل الوعد للأخلاء سمحا
…
وأبى بعد ذاك بذل العطاء
فغدا كالخلاف يُورِق للعَيْـ
…
ـن ويأبى الإثمار كل الإباء2
أو قول أبي تمام:
وإذا أراد الله نشر فضيلة
…
طويت أتاح لها لسان حسود3
لولا اشتعال النار فيما جاورت
…
ما كان يُعرَف طيب عَرْف العود4
وقوله أيضا:
وطول مقام المرء في الحي مخلق
…
لديباجتيه فاغترب يتجدد5
فإني رأيت الشمس زِيدت محبة
…
إلى الناس أن ليست عليهم بسَرْمَد6
وقس حالك -وأنت في البيت الأول ولم تنتهِ إلى الثاني- على حالك وأنت قد انتهيتَ إليه ووقفتَ عليه، تعلم بُعد ما بين حالتيك في تمكن المعنى لديك، وكذا تَعَهَّدِ الفرق بين أن تقول:"الدنيا لا تدون" وتسكت وأنت تذكر عقيبه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من في الدنيا ضيف، وما في يده عارية، والضيف مرتحل والعارية مؤداة"، أو تنشد قول لبيد:
وما المال والأهلون إلا ودائع
…
ولا بد يوما أن ترد الودائع7
وبين أن تقول: "أرى قوما لهم منظر، وليس لهم مخبر" وتقطع الكلام، وأن تُتبعه نحو قول ابن لنكك:
في شجر السَّرْو منهم مَثَل
…
له رُواء وما له ثمر8
وانظر في جميع ذلك إلى المعنى في الحالة الثانية كيف يتزايد شرفه عليه في الحالة الأولى.
أسباب تأثير التشبيه:
ولذلك أسباب؛ منها: ما يحصل للنفس من الأُنس بإخراجها من خفي إلى جلي؛ كالانتقال مما يحصل لها بالفكرة إلى ما يُعلم بالفطرة، أو بإخراجها مما لم تألفه إلى ما ألفته. كما قيل:
ما الحُبّ إلا للحبيب الأول3
أو مما تعلمه إلى ما هي به أعلم؛ كالانتقال من المعقول إلى المحسوس؛ فإنك قد
تعبر عن المعنى بعبارة تؤديه وتبالغ، نحو أن تقول وأنت تصف اليوم بالقِصَر:"يوم كأقصر ما يُتصور"، فلا يجد السامع له من الأنس ما يجده لنحو قولهم:"أيام كأباهيم القَطَا"1، وقول الشاعر:
ظللنا عند باب أبي نعيم
…
بيوم مثل سالفة الذباب2
وكذا تقول: "فلان إذا همّ بالشيء لم يزل ذاك عن ذكره، وقصر خواطره على إمضاء عزمه فيه، ولم يشغله عنه شيء" فلا يصادف السامع له أريحية، حتى إذا قلت:
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه3
امتلأت نفسه سرورا، وأدركته هزة لا يمكن دفعها عنه. ومن الدليل على أن للإحساس من التحريك للنفس وتمكين المعنى ما ليس لغيره، أنك إذا كنت أنت
وصاحب لك يسعى في أمر على طرف نهر، وأنت تريد أن تقرر له أنه لا يحصل من سعيه على طائل، فأدخلت يدك في الماء ثم قلت له:"انظر: هل حصل في كفي من الماء شيء؟ فكذلك أنت في أمرك" كان لذلك ضرب من التأثير في النفس وتمكين المعنى في القلب زائد على القول المجرد.
ومنها: الاستطراف كما سيأتي1.
ومن فضائل التشبيه أنه يأتيك من الشيء الواحد بأشياء عدة2: نحو أن يعطيك من الزند بإيرائه3: شبه الجواد والذكي والنجح في الأمور، وبإصلاده4: شبه البخيل والبليد والخيبة في السعي، ومن القمر: الكمال عن النقصان، كما قال أبو تمام:
لهفي على تلك الشواهد فيهما
…
لو أُمهلت حتى تصير شمائلا5
لغدا سكوتهما حجا وصباهما
…
حلما وتلك الأريحية نائلا6
ولأعقب النجم المُرِذّ بديمة
…
ولعاد ذاك الطل جَوْدا وابلا7
إن الهلال إذا رأيت نموه
…
أيقنت أن سيصير بدرا كاملا1
والنقصان عن الكمال؛ كقول أبي العلاء المعري:
وإن كنتَ تبغي العيش فابغِ توسطا
…
فعند التناهي يقصر المتطاول2
تُوَقَّ البدور النقص وهي أهلة
…
ويدركها النقصان وهي كوامل3
وتتفرع من حالتي كماله ونقصه فروع لطيفة؛ كقول ابن بابك في الأستاذ أبي علي، وقد استوزره وأبا العباس الضبي فخر الدولة بعد وفاة ابن عبّاد:
وأُعرتَ شطر المُلْك شطر كماله
…
والبدر في شطر المسافة يكمل4
وقول أبي بكر الخوارزمي:
أراك إذا أيسرت خيمت عندنا
…
مقيما وإن أعسرت زرت لِماما
فما أنت إلا البدر إن قل ضوءه
…
أغَبَّ وإن زاد الضياء أقاما5
المعنى لطيف وإن لم تساعده العبارة على ما يجب؛ لأن الإغباب أن يتخلل بين وقتي الحضور وقت يخلو منه، فإنما يصلح لأن يراد أن القمر إذا نقص نوره لم يوالِ الطلوع في كل ليلة، بل يظهر في بعض الليالي دون البعض، وليس الأمر كذلك؛ لأنه -على نقصانه- يطلع كل ليلة حتى تكون السِّرار.
وكذا يُنظر إلى بعده وارتفاعه، وقرب ضوئه وشعاعه، في نحو ما مضى من بيتي البحتري1 وإلى ظهوره في كل مكان، كما في قول أبي الطيب:
كالبدر من حيث التفتَّ وجدتَهُ
…
يهدي إلى عينيك نورا ثاقبا2
إلى غير ذلك3.
أركان التشبيه:
ثم النظر في أركان التشبيه، وهي أربعة:"طرفاه، ووجهه، وأداته"، وفي الغرض منه، وفي تقسيمه بهذه الاعتبارات.
طرفا التشبيه:
أما طرفاه فهما إما حسيان، كما في تشبيه الخد بالورد، والقَدّ بالرمح، والفيل بالجبل في المبصرات، والصوت الضعيف بالهمس في المسموعات، والنكهة بالعنبر في المشمومات، والريق بالخمر في المذوقات، والجلد الناعم بالحرير في الملموسات1.
وإما عقليان؛ كما في تشبيه العلم بالحياة2.
وإما مختلفان؛ والمعقول هو المشبه؛ كما في تشبيه المنية بالسبع3، أو العكس؛ كما في تشبيه العطر بخُلُق كريم4.
والمراد بالحسي المدرَك -هو أو مادته- بإحدى الحواس الخمس الظاهرة؛ فدخل فيه الخيالي1 كما في قوله:
وكأن محمر الشقيـ
…
ـق إذا تصوّب أو تصعّد
أعلام ياقوت نُشر
…
ن على رماح من زبرجد2
وقوله:
كلنا باسط اليد
…
نحو نيلوفر ندي
كدبابيس عسجد
…
قُضْبها من زبرجد3
والمراد بـ "العقلي" ما عدا ذلك، فدخل فيه الوهمي؛ وهو ما ليس مدركا بشيء من الحواس الخمس الظاهرة، مع أنه لو أُدرك لم يدرك إلا بها4؛ كما في قول امرئ القيس:
ومسنونة زرق كأنياب أغوال5
وعليه قوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} 6، وكذا ما يُدرَك بالوجدان7؛ كاللذة، والألم، والشبع، والجوع.
وجه الشبه:
وأما وجهه: فهو المعنى الذي يشترك فيه الطرفان تحقيقا أو تخييلا، والمراد بالتخييل ألا يُمكن وجوده في المشبه به إلا على تأويل1؛ كما في قول القاضي التنوخي:
وكأن النجوم بين دجاها
…
سنن لاح بينهن ابتداع2
فإن وجه الشبه فيه الهيئة الحاصلة من حصول أشياء مشرقة بِيض في جوانب شيء مظلم أسود؛ فهي غير موجودة في المشبه به إلا على طريق التخييل، وذلك أنه لما كانت البدعة والضلالة وكل ما هو جهل يجعل صاحبها في حكم من يمشي في الظلمة، فلا يهتدي إلى الطريق، ولا يفصل الشيء من غيره؛ فلا يأمَن أن يتردّى في مَهْوَاة؛ أو يعثر على عدو قاتل، أو آفة مهلكة، شبهت بالظلمة، ولزم -على عكس ذلك- أن تشبه السنة والهدى وكل ما هو علم بالنور، وعليهما قوله تعالى:
{يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} 1 وشاع ذلك حتى وُصف الصنف الأول بالسواد، كما في قول القائل:"شاهدت سواد الكفر من جبين فلان" والصنف الثاني بالبياض؛ كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أتيتكم بالحنيفية البيضاء" وذلك لتخييل أن السنن ونحوها من الجنس الذي هو إشراق أو ابيضاض في العين، وأن البدعة ونحوها على خلاف ذلك، فصار تشبيه النجوم ما بين الدياجي بالسنن ما بين الابتداع كتشبيه النجوم في الظلام ببياض الشيب في سواد الشباب، وبالأنوار2 مؤتلقة بين النبات الشديد الخضرة؛ فالتأويل فيه أنه تخيّل ما ليس بمتلون متلونا، ويحتمل وجها آخر وهو أن يُتأول بأنه أراد معنى قولهم:"إن سواد الظلام يزيد النجوم حسنا" فإنه لما كان وقوف العاقل على عوار الباطل يزيد الحق نبلا في نفسه وحسنا في مرآة عقله؛ جُعل هذا الأصل من المعقول مثالا للمشاهد المبصر هناك، غير أنه لا يخرج -مع هذا- عن كونه على خلاف الظاهر؛ لأن الظاهر أن يُمثَّل المعقول في ذلك بالمحسوس3؛ كما فعل البحتري في قوله:
وقد زادها إفراط حسن جوارها
…
خلائق أصفار من المجد خُيِّب4
وحسن دراريّ الكواكب أن ترى
…
طوالع في داجٍ من الليل غَيْهب5
ومن التشبيه التخييلي قول أبي طالب الرقي:
ولقد ذكرتُكِ والظلام كأنه
…
يوم النوى وفؤاد من لم يعشق1
فإنه لما كانت أيام المكاره توصف بالسواد توسعا؛ فيقال: "اسودّ النهار في عيني، وأظلمت الدنيا عليَّ"، وكان الغَزِل يدعي القسوة على من لم يعشق، والقلب القاسي يوصف بالسواد توسعا، تخيل يوم النوى وفؤاد من لم يعشق شيئين لهما سواد، وجعلهما أعرف به، وأشهر من الظلام، فشبّهه بهما.
وكذا قول ابن بَابَك:
وأرض كأخلاق الكرام قطعتها
…
وقد كحّل الليل السماك فأبصرا2
فإن الأخلاق لما كانت توصف بالسعة والضيق تشبيها لها بالأماكن الواسعة والضيقة، تخيل أخلاق الكرام شيئا له سعة، وجُعل أصلا فيها، فشبه الأرض الواسعة بها. وكذا قول التنوخي:
فانهض بنار إلى فحم كأنهما
…
في العين ظلم وإنصاف قد اتفقا3
فإنه لما كان يقال في الحق: "إنه منير واضح"، فيستعار له صفة الأجسام المنيرة، وفي الظلم خلاف ذلك، تخيلهما شيئين لهما إنارة وإظلام، فشبه النار والفحم مجتمعَين بهما مجتمعين.
وكذا ما كتب به الصاحب إلى القاضي أبي الحسن4، وقد أهدى له الصاحب عطر القُطْر:
وقال له: هل سمعت هذا المعنى؟ فقال ابن رشيق: سمعته، وأخذتَه أنتَ وأفسدتَه؛ أما الأخذ فمن النابغة الذبياني حيث يقول:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
…
وهل يأثََمْن ذو إمّة وهو طائع5
لكلفْتني ذنب امرئ وتركته
…
كذي العُرّ يُكوَى غيره وهو راتع6
وأما الإفساد؛ فلأن سبابة المتندم أول شيء يتألم منه؛ فلا يكون المعاقَب غير الجاني، وهذا بخلاف بيت النابغة؛ فإن المكوي من الإبل يألم وما به عُرّ البتة، وصاحب العر لا يألم جملة7.
الوجه الداخل في الطرفين، والخارج عنهما:
وهو إما غير خارج عن حقيقة الطرفين، أو خارج.
والأول: إما تمام حقيقتهما كما في تشبيه إنسان بإنسان في كونه إنسانا، أو جزئهما؛ كما في تشبيه بعض الحيوانات العُجْم بالإنسان في كونه حيوانا.
والثاني: صفة؛ إما حقيقية أو إضافية1، والحقيقية إما حسية؛ وهي الكيفيات الجسمية مما يدرك بالبصر من الألوان والأشكال والمقادير والحركات وما يتصل بها من الحسن والقبح وغير ذلك، أو بالسمع من الأصوات القوية والضعيفة والتي بين بين، أو بالذوق من أنواع الطعوم، أو بالشم من أنواع الروائح، أو باللمس من الحرارة والبرودة، والرطوبة واليبوسة، والخشونة والملاسة، واللين والصلابة، والخفة والثقل، وما ينضاف إليها. وإما عقلية: كالكيفيات النفسية من الذكاء والتيقظ والمعرفة والعلم والقدرة والكرم والسخاء والغضب والحلم وما جرى مجراها من الغرائز والأخلاق. والإضافية: كإزالة الحجاب في تشبيه الحُجَّة بالشمس2.
الوجه الواحد، وغيره، والحسي، والعقلي:
تقسيم آخر باعتبار آخر:
وجه الشبه إما واحد، أو غير واحد.
والواحد: إما حسي، أو عقلي. وغير الواحد: إما بمنزلة الواحد؛ لكونه مركبا من أمرين أو أمور، أو متعدد غير مركب.
والمركب إما حسي، أو عقلي. والمتعدد: إما حسي، أو عقلي، أو مختلف.
والحسي لا يكون طرفاه إلا حسيين؛ لامتناع أن يدرك بالحس من غير الحسي شيء. والعقلي طرفاه إما عقليان، أو حسيان، أو مختلفان؛ لجواز أن يدرك بالعقل من الحسي شيء؛ ولذلك يقال: التشبيه بالوجه العقلي أعم من التشبيه بالوجه الحسي.
قال الشيخ صاحب المفتاح1: "وههنا نكتة لا بد من التنبه لها؛ وهي أن التحقيق في وجه الشبه يأبى أن يكون غير عقلي؛ وذلك أنه متى كان حسيا -وقد عرفت أنه يجب أن يكون موجودا في الطرفين، وكل موجود له تعين- فوجه الشبه مع المشبه متعين، فيمتنع أن يكون هو بعينه موجودا مع المشبه به؛ لامتناع حصول المحسوس المعين ههنا، مع كونه بعينه هناك بحكم الضرورة، وبحكم التنبيه على امتناعه إن شئت، وهو استلزامه إذا عُدمت حمرة الخد دون حمرة الورد، أو بالعكس:
كون الحمرة معدومة موجودة معا، وهكذا في أخواتها، بل يكون2 مثله مع المشبه به، لكن المِثلين لا يكونان شيئا واحدا، ووجه الشبه بين الطرفين -كما عرفتَ- واحد، فيلزم أن يكون أمرا كليا مأخوذا من المثلين بتجريدهما عن التعين، لكن ما هذا شأنه فهو عقلي. ويمتنع أن يقال: فالمراد بوجه الشبه حصول المثلين في الطرفين3؛ فإن المثلين متشابهان، فمعهما وجه تشبيه؛ فإن كان عقليا كان المرجع في وجه الشبه العقل في المآل، وإن كان حسيا استلزم أن يكون مع المثلين مثلان آخران، وكان الكلام فيهما كالكلام فيما سواهما، ويلزم التسلسل". هذا لفظه، ويمكن أن يقال: المراد بكونه حسيا أن تكون أفراده مدركة بالحس4؛ كالسواد؛ فإن أفراده مدركة بالبصر، وإن كان هو نفسه غير مدرك به ولا بغيره من الحواس.
الواحد الحسي:
الواحد الحسي: كالحمرة، والخفاء، وطِيب الرائحة، ولذة الطعم، ولين الملمس في تشبيه الخد بالورد، والصوت الضعيف بالهمس، والنكهة بالعنبر، والريق بالخمر، والجلد الناعم بالحرير، كما سبق1.
الواحد العقلي:
والواحد العقلي: كالعَراء عن الفائدة في تشبيه وجود الشيء العديم النفع بعدمه، وجهة الإدراك في تشبيه العلم بالحياة -فيما طرفاه معقولان- والجراءة في تشبيه الرجل الشجاع بالأسد، ومطلق الاهتداء في تشبيه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهم- بالنجوم2 فيما طرفاه محسوسان، والهداية في تشبيه العلم بالنور3، وتحصيل ما بين الزيادة والنقصان في تشبيه العدل بالقسطاس، فيما المشبه فيه معقول والمشبه به محسوس، واستطابة النفس في تشبيه العطر بخُلُق كريم4، وعدم الخفاء في تشبيه النجوم بالسنن5 فيما المشبه به فيه محسوس والمشبه به معقول.
قال الشيخ صاحب المفتاح6: "وفي أكثر هذه الأمثلة في معنى وحدتها تسامح"7.
المركب الحسي:
والمركب الحسي طرفاه إما مفردان: كالهيئة الحاصلة من الحمرة والشكل الكُرّي، والمقدار المخصوص في قول ذي الرمة:
وسِقْط كعين الديك عاورت صاحبي
…
أباها وهيأنا لموقعها وكرا7
وكالهيئة الحاصلة من تقارن الصور البِيض المستديرة الصغار المقادير في المرأى على كيفية مخصوصة إلى مقدار مخصوص في قول أحيحة بن الجلاح، أو أبي قيس بن الأسلت:
وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى
…
كعنقود مُلَّاحية حين نوَّرا1
وإما مركبان؛ كالهيئة الحاصلة من هَوِيّ أجرام مشرقة مستطيلة متناسبة المقدار متفرقة في جوانب شيء مظلم، في قول بشار:
كأن مثار النقع فوق رءوسنا
…
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه2
وكالهيئة الحاصلة من تفرق أجرام متلألئة مستديرة صغار المقادير في المرأى على سطح جسم أزرق صافي الزرقة في قول أبي طالب الرقي:
وكأن أجرام النجوم لوامعا3
…
درر نثرن على بساط
وإما مختلفان، كما في تشبيه الشاة الجبليّ4 بحمار أبتر مشقوق الشفة والحوافر
نابت على رأسه شجرتا غَضَا، وكما مر في تشبيه الشقيق والنيلوفر1.
ومن بديع هذا النوع -أعني المركب الحسي- ما يجيء في الهيئات التي تقع عليها الحركة، ويكون على وجهين: أحدهما: أن يقرن بالحركة غيرها من أوصاف الجسم؛ كالشكل، واللون؛ كما في قوله:
والشمس كالمرآة في كف الأشل2
من الهيئة الحاصلة من الاستدارة مع الإشراق والحركة السريعة المتصلة، وما يحصل من الإشراق بسبب تلك الحركة من التموج والاضطراب، حتى يُرَى الشعاع كأنه يهمّ بأن ينبسط حتى يفيض من جوانب الدائرة، ثم يبدو له فيرجع من الانبساط الذي بدا له إلى الانقباض، كأنه يجتمع من الجوانب إلى الوسط؛ فإن الشمس إذا أحدّ الإنسان النظر إليها ليتبين جِرْمها، وجدها مؤدية لهذه الهيئة، وكذا المرآة التي كانت في يد الأشل.
ومثله قول المهلبي الوزير:
والشمس من مشرقها قد بدت
…
مشرقة ليس لها حاجب3
كأنها بوتقة أحميت
…
يجول فيها ذهب ذائب4
فإن البوتقة إذا أُحميت وذاب فيها الذهب، تشكل بشكلها في الاستدارة، وأخذ
يتحرك فيها بجملته تلك الحركة العجيبة، كأنه يهم بأن ينبسط حتى يفيض من جوانبها؛ لما في طبعه من النعومة، ثم يبدو له فيرجع إلى الانقباض؛ لما بين أجزائه من شدة الاتصال والتلاحم؛ ولذلك لا يقع فيه غليان على الصفة التي تكون في الماء ونحوه مما يتخلله الهواء. وكما في قول الصنوبري:
كأن في غدرانها
…
حواجبا ظلت تمط1
أراد ما يبدو في صفحة الماء من أشكال كأنصاف دوائر صغار، ثم تمتد امتدادا يُنقِص من انحنائها، فينقلها من التقوس إلى الاستواء، وذلك أشبه شيء بالحواجب إذا امتدت؛ لأن للحاجب كما لا يخفى تقويسا، ومده يُنقِص من تقويسه.
والوجه الثاني: أن تُجرَّد هيئة الحركة عن كل وصف غيرها للجسم، فهناك أيضا لا بد من اختلاط حركات كثيرة للجسم إلى جهات مختلفة له؛ كأن يتحرك بعضه إلى اليمين، وبعضه إلى الشمال، وبعضه إلى العلو، وبعضه إلى السفل، فحركة الرحا والدولاب2 والسهم لا تركيب فيها؛ لاتحاد الحركة، وحركة المصحف في قول ابن المعتز:
وكأن البرق مصحف قار
…
فانطباقا مرة وانفتاحا3
فيها تركيب؛ لأنه يتحرك في الحالتين إلى جهتين4؛ في كل حالة إلى جهة.
وكلما كان التفاوت في الجهات التي تتحرك أبعاض الجسم إليها أشد، كان
التركيب في هيئة المتحرك أكثر.
ومن لطيف ذلك قول الأعشى1 يصف السفينة في البحر، وتقاذف الأمواج بها:
تَقِصّ السَّفِين بجانبيه كما
…
يَنْزُو الرباح خلا له كَرْع2
قال الشيخ عبد القاهر3: الرباح: الفصيل، والكرع: ماء السماء؛ شبّه السفينة في انحدارها وارتفاعها بحركات الفصيل في نزوه؛ فإنه يكون له حينئذ حركات متفاوتة تصير له أعضاؤه في جهات مختلفة، ويكون هناك تسفل وتصعد على غير ترتيب، وبحيث يكاد يدخل أحدهما في الآخر، فلا يتبينه الطرف مرتفعا حتى يراه متسفلا، وذلك أشبه شيء بحال السفينة وهيئة حركتها حين تتدافعها الأمواج.
ومنه قول الآخر:
حُفّت بسَرْو كالقيان تلحفت
…
خضر الحرير على قوام معتدل
فكأنها والريح جاء يُميلها
…
تبغي التعانق ثم يمنعها الخجل4
فإن فيه تفصيلا دقيقا؛ وذلك أنه راعى الحركتين: حركة التهيؤ للدنوّ والعناق، وحركة الرجوع إلى أصل الافتراق، وأدى ما يكون في الثانية من سرعة زائدة تأدية لطيفة؛ لأن حركة الشجرة المعتدلة في حال رجوعها إلى اعتدالها أسرع لا محالة من حركتها في حال خروجها عن مكانها من الاعتدال، وكذلك حركة من يدركه الخجل فيرتدع أسرع من حركة من يهم بالدنو؛ لأن إزعاج الخوف أقوى أبدا من
إزعاج الرجاء.
ومما مذهبه السهل الممتنع من هذا الضرب قول امرئ القيس:
مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا
…
كجلمود صخر حطه السيل من عَلِ1
يقول: إن هذا الفرس لفرط ما فيه من لين الرأس وسرعة الانحراف ترى كَفَله في الحال التي ترى فيها لَبَبه؛ فهو كجلمود صخر دفعه السيل من مكان عالٍ؛ فإن الحجر بطبعه يطلب جهة السفل؛ لأنها مركزه، فكيف إذا أعانته قوة دفع السيل من عل، فهو لسرعة تقلبه يرى أحد وجهيه حين يرى الآخر.
وكما يقع التركيب في هيئة الحركة قد يقع في هيئة السكون؛ فمن لطيف ذلك قول أبي الطيب في صفة الكلب:
يُقعي جلوس البدوي المصطلي2
وإنما لطف من حيث كان لكل عضو من الكلب في إقعائه موقع خاص، وللمجموع صورة خاصة مؤلفة من تلك المواقع.
ومنه البيت الثاني من قول الآخر في صفة مصلوب:
كأنه عاشق قد مد صفحته
…
يوم الوداع إلى توديع مرتحل
أو قائم من نعاس فيه لوثته
…
مواصل لتمطيه من الكسل3
والتفصيل فيه أنه شبّهه بالمتمطي إذا واصل تمطيه مع التعرض لسببه وهو اللوثة والكسل فيه، فنظر إلى هذه الجهات الثلاث1، ولو اقتصر على أنه كالمتمطي كان قريب التناول؛ لأن هذا القدر يقع في نفس الرائي للمصلوب ابتداء؛ لأنه من باب الجملة.
وشبيه بهذا القول قول الآخر:
لم أر صفا مثل صف الزُّط
…
تسعين منهم صُلبوا في خط
من كل عالٍ جذعه بالشط
…
كأنه في جذعه المشتط
أخو نعاس جدّ في التمطي
قد خامر النوم ولم يغط2
والفرق بين هذا والأول3: أن الأول صريح في الاستمرار على الهيئة والاستدامة لها دون بلوغ الصفة غاية ما يمكن أن يكون عليها، والثاني بالعكس.
قال الشيخ عبد القاهر4: وشبيه بالأول في الاستقصاء قول ابن الرومي في المصلوب أيضا:
كأن له في الجو حبلا يَبُوعه
…
إذا ما انقضى حبل أتيح له حبل5
فقوله: "إذا ما انقضى حبل أتيح له حبل" كقوله: "مواصل لتمطيه من الكسل" في التنبيه على استدامة الشبه؛ لأنه إذا كان لا يزال يبوع حبلا لم يقبض باعه، ولم يرسل يده، وفي ذلك بقاء شبه المصلوب على الاتصال.
وجه الشبه المركب العقلي:
والمركب العقلي كالمنظر المُطمِع مع المَخْبَر المؤيس الذي هو على عكس ما قدّر في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} 1 شبه ما يعمله من لا يُقرن الإيمان المعتبر بالأعمال التي يحسبها تنفعه عند الله وتنجيه من عذابه ثم يَخيب في العاقبة أمله ويلقى خلاف ما قدّر، بسراب يراه الكافر بالساهرة2 وقد غلبه عطش يوم القيامة، فيحسبه ماء فيأتيه، فلا يجد ما رجاه، ويجد زبانية الله عنده، فيأخذونه، فيعتِلونه3 إلى جهنم، فيسقونه الحميم والغساق. فهو كما ترى منتزع من أمور مجموعة قُرن بعضها إلى بعض، وذلك أنه روعي من الكافر فعل مخصوص، وهو حسبان الأعمال نافعة له، وأن تكون للأعمال صورة مخصوصة، وهي صورة الأعمال الصالحة التي وعد الله تعالى بالثواب عليها، بشرط الإيمان به وبرسله عليهم السلام، وأنها لا تفيدهم في العاقبة شيئا، وأنهم يلقَوْن فيها عكس ما أمّلوه وهو العذاب الأليم، وكذا في جانب المشبه به4.
وكحرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه، كما في قوله تعالى:
{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} 1 فإنه أيضا منتزع من أمور مجموعة قُرن بعضها إلى بعض، وذلك أنه روعي من الحمار فعل مخصوص وهو الحمل، وأن يكون المحمول شيئا مخصوصا وهي الأسفار التي هي أوعية العلوم، وأن الحمار جاهل بما فيها، وكذا في جانب المشبه.
دقيقة في الوجه المركب:
واعلم أنه قد تقع بعد أداة التشبيه أمور يظن أن المقصود أمر منتزع من بعضها، فيقع الخطأ؛ لكونه أمرا منتزعا من جميعها؛ كقوله:
كما أبرقت قوما عطاشا غمامة
…
فلما رأوها أقشعت وتجلت1
فإنه ربما يظن أن الشطر الأول منه تشبيه مستقل بنفسه لا حاجة به إلى الثاني، على أن المقصود به ظهور أمر مطمع لمن هو شديد الحاجة إليه2، ولكن بالتأمل يظهر أن مغزى الشاعر في التشبيه أن يثبت ابتداء مُطمعا متصلا بانتهاء مؤيس، وذلك يتوقف على البيت كله.
فإن قيل: هذا يقتضي أن يكون بعض التشبيهات المجتمعة كقولنا: "زيد يصفو ويكدر" تشبيها واحدا3؛ لأن الاقتصار على أحد الخبرين يُبطل الغرض من
الكلام؛ لأن الغرض منه وصف المخبر عنه بأنه يجمع بين الصفتين، وأن إحداهما لا تدوم.
قلنا: الفرق بينهما أن الغرض في البيت أن يُثبَت ابتداء مطمع متصل بانتهاء مؤيس كما مر، وكون الشيء ابتداء لآخر زائد على الجمع بينهما، وليس في قولنا:"يصفو ويكدر" أكثر من الجمع بين الصفتين، ونظير البيت قولنا:"يصفو ثم يكدر"؛ لإفادة "ثم" الترتيب المقتضي ربط أحد الوصفين بالآخر. وقد ظهر مما ذكرنا أن التشبيهات المجتمعة تفارق التشبيه المركب في مثل ما ذكرنا بأمرين:
أحدهما: أنه لا يجب فيها ترتيب، والثاني: أنه إذا حُذف بعضها لا يتغير حال الباقي في إفادة ما كان يفيده قبل الحذف، فإذا قلنا:"زيد كالأسد بأسا، والبحر جودا، والسيف مضاء" لا يجب أن يكون لهذه التشبيهات نسق مخصوص، بل لو قدم التشبيه بالبحر أو التشبيه بالسيف جاز، ولو أسقط واحد من الثلاثة لم يتغير حال غيره في إفادة معناه1، بخلاف المركب؛ فإن المقصود منه يختل بإسقاط بعض الأمور.
المتعدد الحسي:
والمتعدد الحسي كاللون والطعم والرائحة في تشبيه فاكهة بأخرى.
المتعدد العقلي:
المتعدد العقلي؛ كحدّة النظر، وكمال الحذر، وإخفاء السفاد في تشبيه طائر بالغراب.
المتعدد المختلف:
والمتعدد المختلف؛ كحسن الطلعة ونباهة الشأن في تشبيه إنسان بالشمس.
واعلم أن الطريق في اكتساب وجه الشبه أن يُميَّز عما عداه، فإذا أردت أن تشبه جسما بجسم في هيئة حركة، وجب أن تطلب الوِفَاق بين الهيئة والهيئة مجردتين عن الجسم وسائر أوصافه من اللون وغيره، كما فعل ابن المعتز في تشبيه البرق1؛ فإن لم ينظر إلى شيء من أوصافه سوى الهيئة التي تجدها العين من انبساط يعقبه انقباض.
أداة التشبيه:
وأما أداته: "فالكاف" في نحو قولك: "زيد كالأسد".
"وكأن"2 في نحو قولك: "زيد كأنه أسد".
"ومثل" في نحو قولك: "زيد مثل الأسد".
وما في معنى "مثل"، كلفظة "نحو"، وما يُشتق من لفظة "مثل" و"شبه" ونحوهما3.
والأصل في الكاف ونحوها1 أن يليها المشبه به2، وقد يليها مفرد لا يتأتى التشبيه به3.
وذلك إذا كان المشبه به مركبا؛ كقوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} 4؛ إذ ليس المراد تشبيه حال الدنيا بالماء، ولا بمفرد آخر يُتَمَحَّل لتقديره5؛ بل المراد تشبيه حالها في نضارتها وبهجتها وما يتعقبها من الهلاك والفناء بحال النبات يكون أخضرَ وارفا، ثم يهيج فتطيّره الرياح كأن لم يكن.
وأما قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} 6 فليس منه؛ لأن المعنى: كونوا أنصار الله كما كان الحواريون أنصار عيسى، حين قال لهم: من أنصاري إلى الله؟ 7.
وقد يذكر فعل8 ينبئ عن التشبيه؛ كعلمت في قولك: "علمت زيدا أسدا"، ونحوه9.
هذا إذا قرب التشبيه، فإن بُعِّد أدنى تبعيد قيل:"خلته وحسبته"، ونحوهما10.
الغرض من التشبيه:
وأما الغرض من التشبيه فيعود في الأغلب إلى المشبه، وقد يعود إلى المشبه به.
ما يعود إلى المشبه من أغراض التشبيه:
أما الأول فيرجع إلى وجوه مختلفة:
منها بيان أن وجود المشبه ممكن: وذلك في كل أمر غريب يمكن أن يخالَف فيه ويدعّى امتناعه؛ كقول أبي الطيب:
فإن تَفُقِ الأنام وأنت منهم
…
فإن المسك بعض دم الغزال4
أراد أنه فاق الأنام في الأوصاف الفاضلة، إلى حد بطل معه أن يكون واحدا منهم، بل صار نوعا آخر -برأسه- أشرف من الإنسان، وهذا -أعني أن يتناهى بعض أفراد النوع في الفضائل، إلى أن يصير كأنه ليس منها- أمر غريب يفتقر من يدعيه إلى إثبات جواز وجوده على الجملة، حتى يجيء إلى إثبات وجوده في الممدوح؛ فقال:"فإن المسك بعض دم الغزال" أي: ولا يعد في الدماء؛ لما فيه من الأوصاف الشريفة التي لا يوجد منها شيء في الدم، وخلوه من الأوصاف التي لها كان الدم دما؛ فأبان أن لما ادّعاه أصلا في الوجود على الجملة.
ومنها بيان حاله؛ كما في تشبيه ثوب بثوب آخر في السواد، إذا عُلم لون المشبه به دون المشبه1.
ومنها بيان مقدار حاله في القوة والضعف والزيادة والنقصان؛ كما في قوله:
مداد مثل خافية الغراب2
وعليه قول الآخر:
فأصبحت من ليلى الغداة كقابض
…
على الماء خانتْه فروج الأصابع3
أي: بلغت في بوار سعيي في الوصول إليها وإن أُمتَّع بها أقصى الغايات، حتى لم
أحظ منها بما قل ولا بما كثر.
ومنها تقرير حاله في نفس السامع؛ كما في تشبيه من لا يحصل من سعيه على طائل بمن يَرْقِم على الماء1.
وعليه قوله عز وجل: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ} 2 فإنه بيّن ما لم تجر به العادة بما جرت به العادة3.
وهذه الوجوه تقتضي أن يكون وجه الشبه في المشبه به أتم، وهو به أشهر4؛ ولهذا ضُعِّف قول البحتري:
على باب قِنَّسْرينَ والليل لاطخ
…
جوانبه من ظلمة بمداد1
فإنه رب مداد فاقد اللون، والليل بالسواد وشدته أحق وأحرى؛ ولهذا قال ابن الرومي:
حِبْر أبي حفص لعاب الليل
…
يسيل للإخوان أي سيل2
فبالغ في وصف الحبر بالسواد حين شبهه بالليل؛ فكأنه 3 نظر إلى قول العامة في الشيء الأسود: " هو كالنِّقْس"4، ثم تركه للقافية إلى المداد.
ومنها تزيينه للتغريب فيه، كما في تشبيه وجه أسود بمقلة الظبي.
ومها تشويهه للتنفير عنه، كما في تشبيه وجه مجدور بسِلحة جامدة قد نقرتها الديكة، وقد أشار إلى هذين الغرضين ابن الرومي في قوله:
تقول هذا مجاج النحل تمدحه
…
وإن تَعِبْ قلت ذا قيء الزنابير5
ومنها استطرافه1: كما في تشبيه فحم فيه جمرة موقد ببحر من المسك مَوْجه الذهب؛ لإبرازه في صورة الممتنع عادة. وللاستطراف وجه آخر؛ وهو أن يكون المشبه به نادر الحضور؛ إما مطلقا كما مر2 وإما عند حضور المشبه؛ كما في قوله:
ولازَوَرْدية تزهو بزرقتها
…
بين الرياض على حمر اليَوَاقيت
كأنها فوق قامات ضعُفن بها
…
أوائل النار في أطراف كبريت3
فإن صورة اتصال النار بأطراف الكبريت لا يندر حضورها في الذهن ندرة صورة بحر من المسك موجه الذهب، وإنما النادر حضورها عند حضور صورة البنفسج، فإذا أُحضر مع صحة الشبه استُطرف لمشاهدة عناق بين صورتين لا تتراءى ناراهما. ومما يؤيد هذا ما يحكى أن جريرا قال:"أنشدني عدي":
عرف الديار توهما فاعتادها
فلما بلغ إلى قوله:
تزجي أغَنَّ كأن إبرة رَوْقه
رحمته، وقلت: قد وقع، ما عساه يقول وهو أعرابي جلف جاف؟
فلما قال:
قلم أصاب من الدواة مدادها4
…
استحالت الرحمة حسدا.
فهل كانت رحمته في الأولى والحسد في الثانية إلا لأنه رآه حين افتتح التشبيه قد ذكر ما لا يحضر له في أول الفكر شبه، وحين أتمه صادفه قد ظفر بأقرب صفة من أبعد موصوف.
وذكر الشيخ عبد القاهر رحمه الله للاستطراف في تشبيه البنفسج بنار الكبريت وجها آخر1، وهو أنه أراك شبها لنبات غض يرفّ وأوراق رطبة من لهب نار في جسم مُستَولٍ عليه اليبس، ومبنى الطباع وموضوع الجبلّة على أن الشيء إذا ظهر من مكان لم يعهد ظهوره منه، وخرج من موضع ليس بمعدن له؛ كانت صبابة النفوس به أكثر، وكان الشغف به أجدر.
ما يعود إلى المشبه به من أغراض التشبيه:
وأما الثاني فيكون في الغالب إيهام أن المشبه به أتم من المشبه في وجه الشبه، وذلك في التشبيه المقلوب، وهو أن يكون الأمر بالعكس2؛ كقول محمد بن وهيب:
وبدا الصباح كأن غرته
…
وجه الخليفة حين يمتدح3
فإنه قصد إيهام أن وجه الخليفة أتم من الصباح في الوضوح والضياء.
واعلم أن هذا وإن كان في الظاهر يشبه قولهم: "لا أدري أوجهه أنوَر أم الصبح؟، وغرته أضوأ أم البدر؟ "، وقولهم إذا أفرطوا: "نور الصباح يخفى في ضوء
وجهه" أو "نور الشمس مسروق من نور جبينه" ونحو ذلك من وجوه المبالغة؛ فإن في الأول خلابة وشيئا من السحر ليس في الثاني، وهو أنه كأنه يستكثر للصباح أن يشبهه بوجه الخليفة، ويوهم أنه احتشد له واجتهد في تشبيه يفخم به أمره، فيوقع المبالغة في نفسك من حيث لا تشعر، ويفيدكها من غير أن يظهر ادعاؤه لها؛ لأنه وضع كلامه وضع من يقيس على أصل متفق عليه، لا يُشفِق من خلاف مخالف وتهكم متهكم، والمعاني إذا وردت على النفس هذا المورد كان لها نوع من السرور عجيب، فكانت كالنعمة التي لا تكدرها المنة، وكالغنيمة من حيث لا تحتسب، وفي قوله: "حين يمتدح" فائدة شريفة، وهي الدلالة على اتصاف الممدوح بما لا يوجد إلا فيمن هو كامل في الكرم، من معرفة حق المادح -على ما احتشد له من تزيينه وما قصده من تفخيم شأنه في عيون الناس- بالإصغاء إليه والارتياح له، والدلالة بالبشر والطلاقة على حسن موقعه عنده.
ومنه قوله تعالى حكاية عن مستحلّ الربا: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} 1؛ فإن مقتضى الظاهر أن يقال: إنما الربا مثل البيع؛ إذ الكلام في الربا لا في البيع، فخالفوا لجعلهم الربا في الحلّ أقوى حالا من البيع وأعرف به.
ومنه قوله عز وجل: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} 2؛ فإن مقتضى الظاهر العكس؛ لأن الخطاب للذين عبدوا الأوثان وسمَّوها آلهة تشبيها بالله سبحانه وتعالى؛ فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق، فخولف في خطابهم؛ لأنهم بالغوا في عبادتها؛ وغلوا حتى صارت عندهم أصلا في العبادة3 والخالق سبحانه وتعالى فرعا، فجاء الإنكار
على وفق ذلك.
وقال السكاكي1: "عندي أن المراد بـ {كَمَنْ لَا يَخْلُقُ} الحي العالم القادر من الخلق2؛ تعريضا بإنكار تشبيه الأصنام بالله عز وجل، وقوله: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} تنبيه توبيخ عليه، ونحوه3 قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} 4 بدل: "أرأيت من اتخذ هواه إلهه؟! ".
وقد يكون الغرض العائد على المشبه به بيان الاهتمام به، كتشبيه الجائع وجها كالبدر في الإشراق والاستدارة بالرغيف؛ إظهارا للاهتمام بشأن الرغيف لا غير، وهذا5 يسمى إظهار المطلوب.
قال السكاكي6: "ولا يحسن المصير إليه إلا في مقام الطمع في تسنِّي المطلوب، كما يحكى عن الصاحب أن قاضي سجستان دخل عليه، فوجده الصاحب متفننا، فأخذ يمدحه حتى قال:
وعالم يعرف بالسِّجْزي7
وأشار للندماء أن ينظموا على أسلوبه، ففعلوا واحدا بعد واحد، إلى أن انتهت النوبة إلى شريف في البَيْن1، فقال:
أشهى إلى النفس من الخبز2
…
فأمر الصاحب أن تقدم له مائدة.
هذا3 كله إذا أريد إلحاق الناقص في وجه الشبه حقيقة أو ادعاء4 بالزائد، فإن أريد مجرد الجمع بين شيئين في أمر5، فالأحسن ترك التشبيه إلى الحكم بالتشابه6 ليكون كل واحد من الطرفين مشبها ومشبها به؛ احترازا من ترجيح أحد المتساويين على الآخر؛ كقول أبي إسحاق الصابي:
تشابه دمعي إذ جرى ومدامتي
…
فمن مثل ما في الكأس عيني تسكُب7
فوالله ما أدري أبالخمر أسبَلَتْ
…
جفوني أم من عَبْرتي كنت أشرب؟ 1
وكقول الآخر:
رَقَّ الزجاج وراقت الخمر
…
فتشابها فتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قَدَح
…
وكأنما قدح ولا خمر2
ويجوز التشبيه أيضا3؛ كتشبيه غُرَّة الفرس بالصبح وتشبيه الصبح بغرة الفرس، متى أريد ظهور منير في مظلم أكثر منه4، وتشبيه الشمس بالمرآة المجلوّة أو الدينار الخارج من السّكَّة، كما قال:
وكأن الشمس المنيرة دينا
…
ر جلته حدائد الضّرَّاب5
وتشبيه المرآة المجلوة أو الدينار الخارج من السكة بالشمس، متى أريد استدارة متلألئ متضمن لخصوص في اللون، وإن عظم التفاوت بين بياض الصبح وبيان الغرة، وبين نور الشمس ونور المرآة والدينار، وبين الجِرْمين، فإنه ليس شيء من ذلك بمنظور إليه في التشبيه، وعلى هذا ورد تشبيه الصبح في الظلام بعَلَم أبيض على ديباج أسود في قول ابن المعتز:
والليل كالحُلَّة السوداء لاح به
…
من الصباح طراز غير مرقوم1
فإنه تشبيه حسن مقبول، وإن كان التفاوت في المقدار بين الصبح والطراز في الامتداد والانبساط شديدا.
أقسام التشبيه باعتبار طرفيه
…
على الماء، وكالراقم في الماء"؛ فإن المشبه هو الساعي، لا مطلقا، بل مقيدا بكون سعيه كذلك، والمشبه به هو القابض أو الراقم، لا مطلقا، بل مقيدا بكون قبضه على الماء أو رقمه فيه؛ لأن وجه الشبه فيهما هو التسوية بين الفعل وعدمه في عدم الفائدة، والقبض على الماء والرقم فيه كذلك؛ لأن فائدة قبض اليد على الشيء أن يحصل فيها، فإذا كان مما لا يتماسك؛ فقبضها عليه وعدمه سواء، وكذلك القصد بالرقم في الشيء أن يبقى أثره فيه، فإذا فُعل فيما لا يقبله كان فعله كعدمه؛ فالقيد في هاتين الصورتين هو الجار والمجرور.
ونحوهما قولهم: "هو كمن يجمع سيفين في غمد"1 وقولهم: "كمبتغي الصيد في عِرِّيسة الأسد"2، وقد يكون حالا؛ كقولهم:"هو كالحادي وليس له بعير"3.
ومما طرفاه مقيدان قول الشاعر:
إني وتزييني بمَدحي مَعشَرًا
…
كَمُعَلِّقٍ دُرًّا عَلى خِنزيرِ4
فإن المشبه فيه هو المتكلم بقيد اتصافه بتزيينه بمدحه معشرا، فمتعلق التزيين أعني قوله:"بمدحي" داخل في المشبه، والمشبه به من يعلق درا، بقيد أن يكون تعليقه إياه على خنزير، فالشبه مأخوذ من مجموع المصدر وما في صلته، وهو أن كل واحد منهما يضع الزينة حيث لا يظهر لها أثر؛ لأن الشيء غير قابل للتزيين؛ فالواو في قوله:"وتزييني" بمعنى مع؛ إذ لا يمكن أن يقال: إني كذا، وإن تزييني كذا5؛ لأنه ليس معنا شيئان يكون أحدهما خبرا عن ضمير المتكلم، والآخر عن تزييني، لا يقال تقديره: إني كمعلق درا على خنزير، وإن تزييني بمدحي معشرا كتعليق در على خنزير؛ لأنه لا يتصور أن يشبه المتكلم نفسه -من حيث هو- بمعلق درا على خنزير، بل لا بد أن يكون يشبه نفسه باعتبار تزيينه بمدحه معشرا.
وإما مختلفان، والمقيد هو المشبه به، كقوله:
والشمس كالمرآة في كف الأشل6
فإن المشبه هو الشمس على الإطلاق، والمشبه به هو المرآة لا على الإطلاق، بل بقيد كونها في يد الأشل.
أو على عكس ذلك؛ كتشبيه المرآة في كف الأشل بالشمس.
تشبيه المركب بالمركب:
الثاني: تشبيه المركب بالمركب، وهو ما طرفاه كثرتان مجتمعتان؛ كما في قول البحتري:
ترى أحجاله يصعدن فيه
…
صعود البرق في الغيم الجَهَام3
لا يريد به تشبيه بياض الحُجول على الانفراد بالبرق، بل مقصوده الهيئة الخاصة الحاصلة من مخالطة أحد اللونين4 بالآخر. وكذلك المقصود في بيت بشار5،
ولذلك وجب الحكم بأن "أسيافنا" في حكم الصلة للمصدر1، ونصب الأسياف لا يمنع من تقدير الاتصال؛ لأن الواو فيها بمعنى مع2؛ كقولهم:"لو تُركت الناقة وفصيلها لرضعها".
ومما ينبه على ذلك أن قوله: "تهاوى كواكبه" جملة وقعت صفة لليل؛ فإن الكواكب مذكورة على سبيل التبع لليل، ولو كانت مستبدة لشأنها لقال:"ليل وكواكب".
وأما بيت امرئ القيس:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا
…
لدى وكرها العناب والحَشَف البالي3
فهو على خلاف هذا، فإن أحد الشيئين فيه -في الطرفين- معطوف على الآخر، أما في طرف المشبه فبيّن، وأما في طرف المشبه؛ فلأن الجمع4 في المتفق كالعطف في المختلف؛ فاجتماع شيئين أو أشياء في لفظ تثنية أو جمع لا يوجب أن أحدهما أو أحدها في حكم التابع للآخر، كما يكون ذلك إذا جرى الثاني صفة للأول أو حالا منه أو ما أشبه ذلك، وقد صرح بالعطف فيما أجراه بيانا له من قوله:"رطبا ويابسا"5.
وهذا القسم ضربان:
أحدهما: ما لا يصح تشبيه كل جزء من أحد طرفيه بما يقابله من الطرف الآخر،
كقوله:
غدا والصبح تحت الليل بادٍ
…
كطِرْف أشهب ملقى الجِلال1
فإن "الجلال" فيه في مقابلة "الليل"، ولو شبهه به لم يكن شيئا. وكقول الآخر:
كأنما المريخ والمشتري
…
قُدّامه في شامخ الرفعه
منصرف بالليل عن دعوة
…
قد أسرجت قدامه شمعه2
فإن "المريخ" في مقابلة "المنصرف عن دعوة"، ولو قيل:"كأن المريخ منصرف بالليل عن دعوة" كان خَلْفا من القول3.
والثاني: ما يصح تشبيه كل جزء من أجزاء أحد طرفيه بما يقابله من أجزاء الطرف الآخر، غير أن الحال تتغير، ومثاله قوله:
وكأن أجرام النجوم لوامعا
…
درر نثرن على بساط أزرق4
فإنه لو قيل: كأن النجوم درر، وكأن السماء بساط أزرق، لكان تشبيها صحيحا، لكن أين يقع من التشبيه الذي يُريك الهيئة التي تملأ القلوب سرورا وعجبا من طلوع النجوم مؤتلقة متفرقة في أديم السماء، وهي زرقاء زرقتها الصافية؟!
تشبيه المفرد بالمركب:
الثالث: تشبيه المفرد بالمركب، كما مر من تشبيه الشاة الجَبَليّ والشقيق والنيلوفر1.
تشبيه المركب بالمفرد:
الرابع: تشبيه المركب بالمفرد، كقول أبي تمام:
يا صاحبيّ تقصيا نظريكما
…
تريا وجوه الأرض كيف تصور2
تريا نهارا مشمسا قد شابه
…
زهر الربا فكأنما هو مقمر3
يعني أن النبات من شدة خضرته -مع كثرته وتكاتفه- قد صار لونه إلى الاسوداد، فنقص من ضوء الشمس حتى صار كضوء القمر.
التشبيه الملفوف والمفروق:
وأيضا إن تعدد طرفاه4 فهو إما ملفوف أو مفروق.
فالملفوف ما أتى فيه بالمشبهين ثم بالمشبه بهما؛ كقول امرئ القيس:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا
…
لدى وكرها العناب والحشف البالي5
وغير الملفوف بخلاف ذلك6؛ كقول المرقِّش الأكبر:
النشر مسك والوجوه دنا
…
نير وأطراف الأكف عَنَم7
ومنه قول أبي الطيب:
بدت قمرا ومالت خُوط بان
…
وفاحت عنبرا ورَنَت غزالا8
تشبيه التسوية والجمع:
وإن تعدد طرفه الأول؛ أعني المشبه، دون الثاني، سمي تشبيه التسوية؛ كقول الآخر:
صدغ الحبيب وحالي
…
كلاهما كالليالي
وثغره في صفاء
…
وأدمعي كاللآلي1
وإن تعدد طرف الثاني -أعني المشبه به دون الأول- سمي تشبيه الجمع؛ كقول البحتري:
كأنما يَبْسَم عن لؤلؤ
…
منضّد أو بَرَد أو أقاح2
ومثله قول امرئ القيس:
كأن المدام وصوب الغمام
…
وريح الخُزَامَى ونشر القُطُر3
يعل به برد أنيابها
…
إذا طرّب الطائر المستَحِر4
إلا أن فيه شوبا من القصد إلى هيئة الاجتماع5.
أقسام التشبيه باعتبار وجه الشبه:
وأما باعتبار وجهه: فله ثلاثة تقسيمات: تمثيل وغير تمثيل، ومجمل ومفصل، وقريب وبعيد.
تشبيه التمثيل:
التمثيل ما وجهه وصف منتزع من متعدد؛ أمرين أو أمور1، وقيده السكاكي
بكونه غير حقيقي1، ومثّله بصور مثّل بها غيره أيضا، منها قول ابن المعتز:
اصبر على مَضَض الحسو
…
د فإن صبرك قاتله
فالنار تأكل نفسها
…
إن لم تجد ما تأكله2
فإن تشبيه الحسود المتروك مقاولته -مع تطلبه إياها لينال بها نفثة مصدور- بالنار التي لا تُمد بالحطب في أمر غير حقيقي3؛ منتزع من متعدد، وهو إسراع الفناء؛ لانقطاع ما فيه مدد البقاء.
ومنها قول صالح بن عبد القدوس:
وإن من أدبته في الصِّبا
…
كالعود يُسقَى الماء في غرسه
حتى تراه مونقا ناضرا
…
بعد الذي أبصرت من يبسه4
فإن تشبيه المؤدَّب في صباه بالعود المسقيّ أوان غرسه فيما يلزم كل واحد، من كون المؤدب في صباه مهذب الأخلاق حميد الفعال؛ لتأديبه المصادف وقته، وكون العود المسقي أوان غرسه مونقا بأوراقه ونضرته؛ لسقيه المصادف وقته من تمام الميل5 وكمال الاستحسان، بعد خلاف ذلك.
ومنها قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} 6 فإن تشبيه حال المنافقين بحال الموصوف بصلة الموصول في الآية في أمر غير حقيقي منتزع من متعدد، وهو الطمع في حصول مطلوب لمباشرة أسبابه القريبة، مع تعقب الحرمان والخيبة؛ لانقلاب الأسباب.
أقسام التشبيه باعتبار طرفيه:
وأما تقسيم التشبيه: فباعتبار طرفيه أربعة أقسام:
الأول: تشبيه المفرد بالمفرد:
وهو ما طرفاه مفردان: إما غير مقيدين، كتشبيه الخد بالورد ونحوه، وعليه قوله تعالى:{هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} 2.
فإن قلت: ما وجه الشبه في الآية؟ قلت: جعله الزمخشري حسيا، فإنه قال: "لما كان الرجل والمرأة يعتنقان، ويشتمل كل واحد منهما على صاحب في عناقه؛ شبه باللباس المشتمل عليه، قال الجعدي:
إذا ما الضجيع ثنى عطفها
…
تثنت فكانت عليه لباسا3
وقيل: شبه كل واحد منهما باللباس للآخر؛ لأنه يصونه من الوقوع في فضيحة الفاحشة، كاللباس الساتر للعورة4.
وإما مفردان مقيدان5 كقولهم لمن لا يحصل من سعيه على شيء: "هو كالقابض
تشبيه غير التمثيل:
وغير التمثيل ما كان بخلاف ذلك، كما سبق في الأمثلة المذكورة1.
التشبيه المجمل:
والمجمل ما لم يذكر وجهه؛ فمنه ما هو ظاهر يفهمه كل أحد حتى العامة؛ كقولنا: "زيد أسد"؛ إذ لا يخفى على أحد أن المراد به التشبيه في الشجاعة دون غيرها.
ومنه ما هو خفي لا يدركه إلا من له ذهن يرتفع عن طبقة العامة؛ كقول من وصف2 بني المهلب للحجاج لما سأله عنهم وأن أيهم أنجد: "كانوا كالحلقة المفرغة3 لا يدرى أين طرفاها" أي: لتناسب أصولهم وفروعهم في الشرف يمتنع
تعيين بعضهم فاضلا وبعضهم أفضل منهم، كما أن الحلقة المفرغة لتناسب أجزائها يمتنع تعيين بعضها طرفا وبعضها وسطا1. هكذا نسبه الشيخ عبد القاهر إلى من وصف بني المهلب2، ونسبه الشيخ جار الله العلامة3 إلى الأنمارية، قيل: هي فاطمة بنت الخرشب سُئلت عن بنيها: أيهم أفضل؟ فقالت: عُمارة، لا، بل فلان، لا، بل فلان، ثم قالت: "ثكلتُهم إن كنت أعلم أيهم أفضل4؛ هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها".
وأيضا منه ما لم يذكر فيه وصف المشبه ولا وصف المشبه به5 كالمثال الأول6.
ومنه ما ذكر فيه وصف المشبه به وحده كالمثال الثاني7، ونحوه قول زياد الأعجم:
وإنا وما تُلقِي لنا إن هجوتنا
…
لكالبحر مهما تُلقِ في البحر يغرق8
وكذا قول النابغة الذبياني:
فإنك شمس والملوك كواكب
…
إذا طلعت لم يبد منهن كوكب9
ومنه ما ذكر فيه وصف كل واحد منهما، كقول أبي تمام:
صدفت عنه ولم تَصدِف مواهبه
…
عني وعاوده ظني فلم يَخِب10
كالغيث إن جئته وافاك رَيِّقه
…
وإن ترحّلت عنه لَجّ في الطلب11
التشبيه المفصل:
والمفصل ما ذكره وجهه1، كقول ابن الرومي:
يا شبيه البدر في الحسـ
…
ـن وفي بعد المنال2
جُدْ فقد تنفجر الصخـ
…
ـرة بالماء الزلال3
وقول أبي بكر الخالدي:
يا شبيه البدر حسنا
…
وضياء ومنالا
وشبيه الغصن لينا
…
وقواما واعتدالا
أنت مثل الورد لونا
…
ونسيما وبلالا1
زارنا حتى إذا ما
…
سرّنا بالقرب زالا
وقد يُتسَامح بذكر ما يستتبعه مكانه2 كقولهم في وصف الألفاظ إذا وجدوها لا تثقل على اللسان لتنافر حروفها أو تكرارها، ولا تكون غريبة وحشية تستكره لكونها غير مألوفة، ولا مما تبعد دلالتها على معانيها:"هي كالعسل في الحلاوة، وكالماء في السلاسة، وكالنسيم في الرقة" وقولهم في الحُجَّة إذا كانت معلومة الأجزاء، يقينية التأليف، بينة الاستلزام للمطلوب:"هي كالشمس في الظهور"، والجامع في الحقيقة لازم الحلاوة؛ وهو ميل الطبع، ولازم السلاسة والرقة؛ وهو إفادة النفس نشاطا ورَوْحا3، ولازم الظهور؛ وهو إزالة الحجاب4؛ فإن شأن النفس مع الألفاظ الموصوفة بتلك الصفات كشأنها مع العسل الذي يَلَذّ طعمه فتهَش النفس له، ويميل الطبع إليه، ويُحب وروده عليه، أو كشأنها مع الماء الذي يسوغ في الحلق، ومع النسيم الذي يسري في البدن، فيتخلل المسالك اللطيفة منه، فيفيدان النفس نشاطا وروحا. وشأنها مع الشبهة التي تمنع القلب إدراك ما هي شبهة فيه، كشأنها مع الحجاب الحسي الذي يمنع أن يُرَى ما يكون من ورائه؛ ولذلك توصف بأنها اعترضت دون الذي يروم القلب إدراكه.
قال الشيخ صاحب المفتاح5: "وتسامحهم هذا لا يقع إلا حيث يكون التشبيه في وصف اعتباري كالذي نحن فيه6. وأقول: يشبه أن يكون تركهم التحقيق في وجه الشبه على ما سبق التنبيه عليه من تسامحهم هذا"7 انتهى كلامه.
التشبيه القريب المبتذل:
والقريب المبتذل، وهو ما يُنتقَل فيه من المشبه إلى المشبه به من غير تدقيق نظر؛ لظهور وجهه في بادئ الرأي، وسبب ظهوره أمران:
الأول: كون الشبه أمرا جمليا1؛ فإن الجملة أسبق أبدا إلى النفس من التفصيل؛ ألا ترى أن الرؤية لا تصل في أول أمرها إلى الوصف على التفصيل؟ لكن على الجملة، ثم على التفصيل؛ ولذلك قيل:"النظرة الأولى حمقاء، وفلان لم يُنعم النظر" وكذا سائر الحواس؛ فإنه يدرك من تفاصيل الصوت والذوق في المرة الثانية ما لم يدرك في المرة الأولى، فمن يروم التفصيل كمن يبتغي الشيء من بين جملة، يريد تمييزه مما اختلط به، ومن يروم الإجمال كمن يريد أخذ الشيء جزافا، وكذا حكم ما يدرك بالعقل، ترى الجمل أبدا تسبق إلى الذهن، والتفاصيل مغمورة فيها، لا تحضر إلا بعد إعمال الروية.
والثاني: كونه قليل التفصيل مع غلبة حضور المشبه به في الذهن: إما عند حضور المشبه؛ لقرب المناسبة بينهما، كتشبيه العنبة الكبيرة السوداء بالإجّاصة2 في الشكل وفي المقدار، والجرة الصغيرة بالكوز كذلك، وإما مطلقا لتكرره على الحس، كما مر من تشبيه الشمس بالمرآة المجلوة في الاستدارة والاستنارة؛ فإن قرب المناسبة والتكرر كل واحد منهما يعارض التفصيل؛ لاقتضائه سرعة الانتقال.
التشبيه البعيد الغريب:
والبعيد الغريب؛ وهو ما لا يُنتقل فيه من المشبه إلى المشبه به إلا بعد فكر؛ لخفاء وجهه في بادئ الرأي، وسبب خفائه أمران:
أحدهما: كونه كثير التفصيل؛ كما سبق من تشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل1؛ فإن ما ذكرناه من الهيئة2 لا يقوم في نفس الرائي للمرآة الدائمة الاضطراب إلا أن يُستأنف تأملا، ويكون في نظره متمهِّلا.
والثاني: نُدُور حضور المشبه به في الذهن: إما عند حضور المشبه؛ لبعد المناسبة بينهما، كما تقدم من تشبيه البنفسج بنار الكبريت3، وإما مطلقا؛ لكونه وهميا، أو مركبا خياليا، أو مركبا عقليا، كما مضى من تشبيه نصال السهام بأنياب الأغوال4، وتشبيه الشقيق بأعلام ياقوت منشورة على رماح من الزبرجد5، وتشبيه مثل أحبار اليهود بمثل الحمار يحمل أسفارا6؛ فإن كلا سبب لندرة حضور
المشبه به في الذهن، أو لقلة تكرره على الحس، كما مر من تشبيه الشمس بالمرآة في كف الأشل1؛ فإنه ربما يقضي الرجل دهره ولا يتفق له أن يرى مرآة في يد الأشل، فالغرابة في هذا التشبيه من وجهين2.
والمراد بالتفصيل أن يُنظر في أكثر من وصف واحد لشيء واحد أو أكثر، وذلك يقع على وجوه كثيرة، والأغلب الأعرف منها وجهان:
أحدهما: أن تأخذ بعضا3 وتدع بعضا، كما فعل امرؤ القيس في قوله:
حملت ردينيا كأن سنانه
…
سنا لهب لم يتصل بدخان4
ففصل السنا عن الدخان، وأثبته مفردا5.
والثاني: أن يعتبر الجميع، كما فعل الآخر في قوله:
وقد لاح في الصبح الثريا كما ترى
…
كعنقود ملاحية حين نَوَّرا6
فإنه اعتبر من الأنجم الشكل والمقدار واللون، واجتماعها على المسافة المخصوصة في القرب، ثم اعتبر مثل ذلك في العنقود المنوَّر من الملاحية.
وكلما كان التركيب من أمور أكثر كان التشبيه أبعد وأبلغ؛ كقوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا
أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} 1 فإنها عشر جمل إذا فُصِّلت2، وهي وإن دخل بعضها في بعض حتى صارت كلها كأنها جملة واحدة، فإن ذلك لا يمنع من أن تشير إليها واحدة واحدة، ثم إن الشبه منتزع من مجموعها من غير أن يمكن فصل بعضها عن بعض، حتى لو حُذف منها جملة أخل ذلك بالمغزى من التشبيه.
ومن تمام القول في هذه الآية ونحوها أن الجملة إذا وقعت في جانب المشبه به، تكون على وجوه:
أحدها: أن تلي نكرة؛ فتكون صفة لها، كما في هذه الآية، وعليه قول النبي صلى الله عليه وسلم:"الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة"3.
والثاني: أن تلي معرفة هي اسم موصول؛ فتكون صلة له، كقوله تعالى:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا. ..} 4 الآية.
والثالث: أن تلي معرفة ليست باسم موصول فتقع استئنافا5 كقوله عز وعلا: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} 6.
ومن أبلغ الاستقصاء في التفصيل وعجيبه قول ابن المعتز:
كأنا وضوء الصبح يستعجل الدجى
…
نُطير غرابا ذا قوادم جُون1
شبّه ظلام الليل حين يظهر فيه ضوء الصبح بأشخاص الغربان، ثم شرط أن تكون قوادم ريشها بيضاء؛ لأن تلك الفِرَق من الظلمة تقع في حواشيها من حيث يلي معظم الصبح وعموده لُمَع نور2 يتخيل منها في العين كشكل قوادم بيض، وتمام التدقيق في هذا التشبيه أن جعل ضوء الصبح -لقوة ظهوره ودفعه لظلام الليل- كأنه يحفز الدجى ويستعجلها، ولا يرضى منها بأن تتمهل في حركتها، ثم لما راعى ذلك في التشبيه ابتداء، راعاه آخرا حيث قال:"نطير غرابا" ولم يقل: "غراب يطير" ونحوه؛ لأن الطائر إذا كان واقعا في مكان، فأُزعج وأُطير منه، أو كان قد حبس في يد أو قفص فأرسل، كان ذلك لا محالة أسرع لطيرانه، وأدعى له أن يستمر على الطيران، حتى يصير إلى حيث لا تراه العيون، بخلاف ما إذا طار عن اختيار؛ فإنه حينئذ يجوز أن لا يسرع في طيرانه، وأن يصير إلى مكان قريب من مكانه الأول.
وكذا قول أبي نواس في صفة منقار البازي:
كعطفة الجيم بكف أعسرا3
غير خافٍ أن الجيم خطان: أولهما: الذي هو مبدؤه، وهو الأعلى، والثاني: الذي يذهب إلى اليسار. وإذا لم يوصل بها1 فلها تعريق2. والمنقار إنما يشبه الخط الأعلى فقط؛ فلهذا قال: "كعطفة الجيم" ولم يقل: "كالجيم"، ثم دقّق بأن جعلها بكف أعسر؛ لأن جيم الأعسر يقال: إنه أشبه بالمنقار من جيم الأيمن3، ثم أراد أن يؤكد أن الشبه مقصور على الخط الأعلى من الجيم، فقال:
يقول من فيها بعقل فكرا
لو زادها عينا إلى فاء ورا
…
فاتصلت بالجيم صارت جعفرا4
فأبان أنه لم يدخل التعريق في التشبيه؛ لأن الوصل يسقطه أصلا، ولا الخط5 الأسفل وإن كان لا بد منه مع الوصل؛ لأنه قال:"فاتصلت بالجيم" أي: بالعطفة المذكورة، ولم يقتصر على قوله:"لو زادها عينا إلى فاء ورا"؛ ولأجل هذا التدقيق قال: "يقول من فيها بعقل فكرا"؛ فنبه على أن بالمشبه حاجة إلى فضل فكر، وأن
يكون فكره فكر من يراجع عقله.
وإذ قد تحققتَ ما ذكرنا من التفصيل، علمتَ أن قول امرئ القيس في وصف السنان1 أعلى طبقة من قول الآخر:
يتابع لا يبتغي غيره
…
بأبيض كالقبس الملتهب2
لخلو الثاني عن التفصيل الذي تضمنه الأول، وهو قصر التشبيه على مجرد السنا وتصويره مقطوعا عن الدخان، ومعلوم أن هذا لا يقع في الخاطر أول وهلة، بل لا بد فيه من أن يتثبّت، وينظر في حال كل من الفرع والأصل، حتى يقع في النفس أن في الأصل شيئا يقدح في حقيقة التشبيه؛ وهو الدخان الذي يعلو رأس الشعلة.
وكذا قوله:
وكأن أجرام النجوم لوامعا
…
درر نثرن على بساط أزرق3
أفضل من قول ذي الرمة:
كأنها فضة قد مسها ذهب4
لأن الأول مما يندر وجوده دون الثاني؛ فإن الناس أبدا يرون في الصياغات فضة قد مُوِّهت بذهب، ولا يكاد يتفق أن يوجد درر قد نثرن على بساط أزرق.
وكذا بيت بشار1 أعلى طبقة من قول أبي الطيب:
يزور الأعادي في سماء عَجَاجة
…
أسنته في جانبيها الكواكب2
وكذا من قول الآخر:
تبني سنابكها من فوق أرؤسهم
…
سقفا كواكبه البيض المَبَاتير3
لأن كل واحد منهما، وإن راعى التفصيل في التشبيه، فإنه اقتصر على أن أراك لمعان الأسنة والسيوف في أثناء العجاجة، بخلاف بشار؛ فإنه لم يقتصر على ذلك، بل عبر عن هيئة السيوف وقد سُلَّت من أغمادها وهي تعلو وترسب وتجيء وتذهب، وهذه الزيادة زادت التفصيل تفصيلا؛ لأنها لا تقع في النفس إلا بالنظر إلى أكثر من جهة واحدة، وذلك أن للسيوف عند احتدام الحرب واختلاف الأيدي بها في الضرب اضطرابا شديدا وحركات سريعة، ثم لتلك الحركات جهات مختلفة تنقسم بين الاعوجاج والاستقامة، والارتفاع والانخفاض، ثم هي باختلاف هذه الأمور تتلاقى ويصدم بعضها بعضا، ثم أشكالها مستطيلة، فنبه على هذه الدقائق بكلمة واحدة وهي قوله:"تهاوى"؛ لأن الكواكب إذا تهاوت اختلفت جهات حركتها، ثم كان لها في التهاوي تواقع وتداخل، ثم استطالت أشكالها.
وكذا قول الآخر في الآذريون:
مَداهِن من ذهب
…
فيها بقايا غاليهْ4
أعلى وأفضل من قوله فيه:
ككأس عقيق في قرارتها مسك1
لأن السواد الذي في باطن الآذريونة -الموضوع بإزائه الغالية والمسك- فيه أمران:
أحدهما: أنه ليس بشامل لها.
والثاني: أنه لم يستدر في قعرها، بل ارتفع منه حتى أخذ شيئا من سمكها من كل الجهات، وله في منقطَعه هيئة تشبه آثار الغالية في جوانب المدهن إذا كانت بقيت بقية عن الأصابع.
وقوله: "في قرارتها مسك" يبين الأمر الأول، ويُؤمِن من دخول النقص عليه كما كان يدخل لو قال:"فيها مسك"، ولم يشترط أن يكون في القرارة.
وأما الثاني فلا يدل عليه كما يدل قوله: "بقايا غالية"؛ لأن من شأن المسك والشيء اليابس، إذا حصل في شيء مستدير له قعر أن يستدير في القعر، ولا يرتفع في الجوانب الارتفاع الذي في سواد الآذريونة، بخلاف الغالية؛ فإنها رَطِبة، ثم تؤخذ بالأصابع؛ فلا بد في البقية منها أن ترتفع عن القرارة ذلك الارتفاع، ثم هي لنعومتها تَرِقّ فتكون كالصبغ الذي لا يظهر له جِرْم، وذلك أصدق للشبه.
التشبيه البعيد وهو التشبيه البليغ:
والبليغ من التشبيه ما كان من هذا النوع -أعني البعيد- لغرابته1؛ ولأن الشيء إذا نِيل بعد الطلب له والاشتياق إليه كان نيله أحلى، وموقعه من النفس ألطف وبالمسرة أولى؛ ولهذا ضرب المثل لكل ما لطف موقعه ببرد الماء على الظمأ، كما قال:
وهن ينبذْنَ من قول يصبن به
…
مواقع الماء من ذي الغُلَّة الصادي2
لا يقال: عدم الظهور ضرب من التعقيد، والتعقيد مذموم؛ لأنا نقول: التعقيد -كما سبق- له سببان: سوء ترتيب الألفاظ، واختلال الانتقال من المعنى الأول إلى المعنى الثاني الذي هو المراد باللفظ.
والمراد بعدم الظهور في التشبيه ما كان سببه لطف المعنى ودقته أو ترتيب بعض المعاني على بعض، كما يشعر بذلك قولنا3:"في بادئ الرأي"؛ فإن المعاني الشريفة لا بد فيها -في غالب الأمر- من بناء ثانٍ على أول، وَرَدّ تالٍ إلى سابق، كما في قول البحتري: "دان على أيدي العفاة
…
" البيتين4.
فإنك تحتاج في تعرف معنى البيت الأول إلى معرفة وجه المجاز في كونه دانيا وشاسعا، ثم تعود إلى ما يعرض البيت الثاني عليك من حال البدر، ثم تقابل إحدى الصورتين بالأخرى، وتنظر كيف شرط في العلو الإفراط ليشاكل قوله:"شاسع"؛ لأن الشسوع هو الشديد من البعد، ثم قابله بما يشاكله من مراعاة التناهي في القرب، فقال:"جد قريب" فهذا ونحوه هو المراد بالحاجة إلى الفكر، وهل شيء أحلى من الفكر إذا صادف نهجا قويما إلى المراد؟
قال الجاحظ في أثناء فصل يذكر فيه ما في الفكر من الفضيلة: "وأين تقع لذة البهيمة بالعَلُوفة، ولذة السبع بلطع الدم وأكل اللحم، من سرور الظفر بالأعداء، ومن انفتاح باب العلم بعد إدمان قرعه؟ ".
تحول القريب إلى بعيد:
وقد يتصرف في القريب المبتذل بما يخرجه من الابتذال إلى الغرابة، وهو على وجوه: منها أن يكون كقوله:
لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا
…
إلا بوجه ليس فيه حياء1
وقوله:
فردت علينا الشمس والليل راغم
…
بشمس لهم من جانب الخِدْر تطلع
فوالله ما أدري أأحلام نائم
…
ألمت بنا أم كان في الركب يوشع2
فإن تشبيه وجوه الحسان بالشمس مبتذل، لكن كل واحد من حديث الحياء في الأول، والتشكيك -مع ذكر يوشع عليه السلام في الثاني، أخرجه من الابتذال إلى الغرابة. وشبيه بالأول قول الآخر:
إن السحاب لتستحي إذا نظرت
…
إلى نداك فقاسته بما فيها3
ومنها أن يكون كقوله:
عزماته مثل النجوم ثواقبا
…
لو لم يكن للثاقبات أفول4
وقوله:
مها الوحش إلا أن هاتا أوانس
…
قنا الخط إلا أن تلك ذوابل5
وقوله:
يكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا
…
لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا
والبدر لو لم يغب والشمس لو نطقت
…
والأسد لو لم تصد والبحر لو عذبا6
وهذا يسمى التشبيه المشروط7.
ومنها أن يكون كقوله:
في طلعة البدر شيء من محاسنها
…
وللقضيب نصيب من تثنيها1
وقول ابن بابك:
ألا يا رياض الحزن من أبرق الحِمَى
…
نسيمك مسروق ووصفك منتحل2
حكيت أبا سعد فنشرك نشره
…
ولكن له صدق الهوى ولك الملل3
وقد يُخرج من الابتذال بالجمع بين عدة تشبيهات، كقوله:
كأنما يبسم عن لؤلؤ
…
منضد أو برد أو أقاح4
كما يزداد بذلك لطفا وغرابة، كقوله:
له أيطلا ظبي وساقا نعامة
…
وإرخاء سرحان وتقريب تتفل5
أقسام التشبيه باعتبار أداته:
وأما باعتبار أداته؛ فإما مؤكد، أو مرسل:
والمؤكد:
ما حُذفت أداته؛ كقوله تعالى: {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} 1 وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} 2، وقول الحماسي:
هم البحور عطاء حين تسألهم
…
وفي اللقاء إذا تلقي بِهِم بُهَم3
إلى غير ذلك كما سبق4. ومنه نحو قول الشاعر:
والريح تعبث بالغصون وقد جرى
…
ذهب الأصيل على لُجَيْن الماء5
وقول الآخر يصف القمر لآخر الشهر قبل السرار:
كأنما أدهم الإظلام حين نجا
…
من أشهب الصبح ألقى نعل حافره6
وقول الشريف الرضي:
أرسى النسيم بواديكم ولا برحت
…
حوامل المزن في أجداثكم تضع
ولا يزال جنين النبت ترضعه
…
على قبوركم العَرَّاضة الهَمِع7
التشبيه المرسل:
والمرسل ما ذُكرت أداته؛ كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} 1؛ وقوله عز وجل: {عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} 2 وقول امرئ القيس:
وتعطو برَخْص غير شَثْن كأنه
…
أساريع ظبي أو مساويك إسحل3
وقول البحتري:
وإذا الأسنة خالطتها خلتها
…
فيها خيال كواكب في الماء4
إلى غير ذلك كما تقدم5.
أقسام التشبيه باعتبار الغرض:
وأما باعتبار الغرض؛ فإما مقبول، أو مردود:
1-
التشبيه المقبول:
الوافي بإفادة الغرض؛ كأن يكون المشبه به أعرف شيء بوجه الشبه1 إذا كان الغرض بيان حال المشبه من جهة وجه الشبه، أو بيان المقدار. ثم الطرفان في الثاني2 إن تساويا في وجه الشبه، فالتشبيه كامل في القبول، وإلا فكلما كان المشبه به أسلم من الزيادة والنقصان، كان أقرب إلى الكمال، أو كأن يكون المشبه به أتم شيء3 في وجه الشبه، إذا قُصد إلحاق الناقص بالكامل، أو كأن يكون المشبه به مسلم الحكم معروفه عند المخاطب في وجه الشبه؛ إذا كان الغرض بيان إمكان الوجود.
2-
التشبيه المردود:
والمردود بخلاف ذلك؛ أي: القاصر عن إفادة الغرض4.
وثامنتها: إفراد المشبه به بالذكر؛ كقولك: "أسد" أي: زيد، وهي كالسابعة1.
واعلم أن الشبه2 قد ينتزع من نفس التضاد؛ لاشتراك الضدين فيه، ثم ينزل منزلة التناسب3 بواسطة تمليح؛ أو تهكم4؛ فيقال للجبان:"ما أشبهه بالأسد"، وللبخيل:"هو حاتم".
خاتمة:
مراتب التشبيه:
قد سبق أن أركان التشبيه أربعة:
المشبه، والمشبه به، وأداة التشبيه، ووجهه. فالحاصل من مراتب التشبيه في القوة والضعف في المبالغة باعتبار ذكر أركانه كلها أو بعضها ثمانٍ:
إحداها: ذكر الأربعة؛ كقولك: "زيد كالأسد في الشجاعة" ولا قوة لهذه المرتبة1.
وثانيتها: ترك المشبه؛ كقولك: "كالأسد في الشجاعة" أي: زيد، وهي كالأولى في عدم القوة2.
وثالثتها: ترك كلمة التشبيه؛ كقولك: "زيد أسد في الشجاعة" وفيها نوع قوة3.
ورابعتها: ترك المشبه وكلمة التشبيه؛ كقولك: "أسد في الشجاعة" أي: زيد، وهي كالثالثة في القوة.
وخامستها: ترك وجه الشبه؛ كقولك: "زيد كالأسد"، وفيها نوع قوة؛ لعموم وجه الشبه من حيث الظاهر.
وسادستها: ترك المشبه ووجه التشبيه؛ كقولك: "كالأسد" أي: زيد، وهي كالخامسة.
وسابعتها: ترك كلمة التشبيه ووجهه؛ كقولك: "زيد أسد" وهي أقوى الجميع.
تمرينات على التشبيه:
تمرين1:
1-
من أي قسم من أقسام التشبيه باعتبار الطرفين قول الشاعر:
تحطمنا الأيام حتى كأننا
…
زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك؟
2-
بين التشبيه الضمني في قول الشاعر:
إن السلاح جميع الناس تحمله
…
وليس كل ذوات المخلب السبع
تمرين2:
1-
من أي قسم من أقسام التشبيه باعتبار وجه الشبه قول الشاعر:
أَيَهجُرُني قَومي عَفا اللَهُ عَنهُمُ
…
إِلى لُغَةٍ لَم تَتَّصِلِ بِلُغَاتِ
سَرَت لوثَةُ الإِفرِنجِ فيها كَما سَرى
…
لُعابُ الأَفاعي في مَسيلِ فُراتِ؟
2-
ما الفرق بين التشبيه المؤكد والتشبيه البليغ عند الخطيب وعند غيره؟
تمرين3:
1-
من أي أقسام التشبيه باعتبار الأداة قول الشاعر:
وتراكضوا خيل الشباب وبادِروا
…
أن تسترد فإنهن عواري؟
2-
ما هو الغرض من التشبيه في قول الشاعر:
ويا وطني لقيتك بعد يأس
…
كأني قد لقيت بك الشبابا؟
تمرين4:
1-
لماذا فضّل عبد الملك بن مروان قول ابن القيس الرقيات في مصعب بن الزبير:
إنما مصعب شهاب من الله
…
تجلت عن وجهه الظلماء
على قوله فيه:
يأتلق التاج فوق مفرقه
…
على جبين كأنه الذهب؟
2-
لماذا قبح التشبيه في قول أبي نواس في وصف الخمر:
وإذا ما الماء واقعها
…
أظهرت شكلا من الغزل
لؤلؤات يتحدرن بها
…
كانحدار الذر من جبل؟
تمرين5:
1-
أي التشبيهين أبلغ في هذين البيتين:
1-
يا شبيه البدر حسنا
…
وضياء ومنالا
2-
في طلعة البدر شيء من محاسنها
…
وللقضيب نصيب من تثنيها؟
2-
ما الفرق بين التمثيل والتشبيه؟ وأيهما أعلى منزلة في التشبيه؟
تمرين6:
بين أركان التشبيه وأقسامه باعتبارها فيما يأتي:
1-
والنفس كالطفل إن تهمله شب على
…
حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
2-
الأم مدرسة إذا أعددتها
…
أعددت شعبا طيب الأعراق
3-
والبدر في أفق السماء كغادة
…
بيضاء لاحت في ثياب حداد
4-
أبابل مرأى العين أم هذه مصر
…
فإني أرى فيها عيونا هي السحر
5-
ومكلف الأيام ضد طباعها
…
متطلب في الماء جذوة نار
تمرين7:
وازن بين التشبيه في هذين البيتين:
1-
ألا إنما ليلى عصا خيزرانة
…
متى غمزوها بالأكف تلين
2-
إذا قامت لحاجتها تثنت
…
كأن عظامها من خيزران
الباب الثاني: القول في الحقيقة والمجاز
وقد يقيدان باللغويين1.
تعريف الحقيقة:
الحقيقة: الكلمة المستعملة فيما وضعت له في اصطلاح به التخاطب2.
فقولنا: "المستعملة" احتراز عما لم يستعمل؛ فإن الكلمة قبل الاستعمال لا تسمى حقيقة، وقولنا:"فيما وضعت له" احتراز عن شيئين:
أحدهما: ما استعمل في غير ما وضعت له غلطا؛ كما إذا أردت أن تقول لصاحبك: "خذ هذا الكتاب" مشيرا إلى كتاب بين يديك، فغلطت فقلت:"خذ هذا الفرس".
والثاني: أحد قسمي المجاز: وهو ما استعمل فيما لم يكن موضوعا له، لا في اصطلاح به التخاطب، ولا في غيره؛ كلفظة الأسد في الرجل الشجاع، وقولنا:"في اصطلاح به التخاطب" احتراز عن القسم الآخر من المجاز؛ وهو ما استعمل فيما وضع له، ولا في اصطلاح به التخاطب؛ كلفظ "الصلاة" يستعمله المخاطِب بعرف الشرع في الدعاء مجازا3.
تعريف الوضع:
والوضع تعيين اللفظ للدلالة على معنى بنفسه1.
فقولنا: "بنفسه" احتراز من تعيين اللفظ للدلالة على معنى بقرينة -أعني المجاز- فإن ذلك التعيين لا يسمى وضعا، ودخل المشترك في الحد؛ لأن عدم دلالته على أحد معنييه بلا قرينة لعارض -أعني الاشتراك- لا ينافي تعيينه للدلالة عليه بنفسه2.
وذهب السكاكي إلى أن المشترك "كالقَرْء" معناه الحقيقي هو ما لا يتجاوز معنييه؛ كالطهر والحيض غير مجموع بينهما3.
قال: "فهذا ما يدل عليه بنفسه ما دام منتسبا إلى الوضعين، أما إذا خصصته بواحد إما صريحا، مثل أن تقول: "القرء بمعنى الطهر"، وإما استلزاما، مثل أن تقول: "القرء لا بمعنى الحيض"؛ فإنه حينئذ ينتصب دليلا دالا بنفسه على الطهر بالتعيين، كما كان الوضع عينه بإزائه بنفسه".
ثم قال في موضع آخر4: "وأما ما يظن بالمشترك من الاحتياج إلى القرينة في
دلالته على ما هو معناه؛ فقد عرفت أن منشأ هذا الظن عدم تحصيل معنى المشترك الدائر بين الوضعين".
وفيما ذكره نظر؛ لأنا لا نسلم أن معناه الحقيقي ذلك. وما الدليل على أنه عند الإطلاق يدل عليه؟ ثم قوله: "إذا قيل: القرء بمعنى الطهر أو: لا بمعنى الحيض، فهو دال بنفسه على الطهر بالتعيين" سهو ظاهر؛ فإن القرينة كما تكون معنوية، تكون لفظية، وكل من قوله:"بمعنى الطهر" وقوله: "لا بمعنى الحيض" قرينة1.
إنكار الوضع:
وقيل: دلالة اللفظ على معناه لذاته2، وهو ظاهر الفساد؛ لاقتضائه أن يمنع نقله إلى المجاز وجعله علما ووضعه للمضادين؛ كالجون للأسود والأبيض؛ فإن ما بالذات لا يزول بالغير، ولاختلاف اللغات باختلاف الأمم.
وتأوله السكاكي -رحمة الله3- على أنه تنبيه على ما عليه أئمة علمي الاشتقاق والتصريف؛ من أن للحروف في أنفسها خواص بها تختلف؛ كالجهر، والهمس، والشدة، والرخاوة، والتوسط بينها، وغير ذلك، مستدعية أن العالم بها إذا أخذ في تعيين شيء منها لمعنى لا يهمل التناسب بينهما؛ قضاء لحق الحكمة4 كـ "الفَصْم""بالفاء" الذي هو حرف رخو لكسر الشيء من غير أن يبين5، والقَصْم "بالقاف" الذي هو حرف شديد لكسر الشيء حتى يبين، وأن للتركيبات6 كالفَعَلان والفَعَلى بالتحريك كالنزوان والحيدى وفعُل مثل شرف وغير ذلك، خواص أيضا7، فيلزم فيها ما يلزم في الحروف، وفي ذلك نوع تأثير لأنفس الكلم في اختصاصها بالمعاني.
تعريف المجاز وأقسامه: والمجاز مفرد ومركب
أما المفرد فهو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له، في اصطلاح به التخاطب، على وجه يصح مع قرينة عدم إرادته.
فقولنا: "المستعملة" احتراز عما لم يستعمل؛ لأن الكلمة قبل الاستعمال لا تسمى مجازا كما لا تسمى حقيقة، وقولنا:"في اصطلاح به التخاطب" ليدخل فيه نحو لفظ الصلاة إذا استعمله المخاطب بعرف الشرع في الدعاء مجازا؛ فإنه -وإن كان مستعملا فيما وضع له في الجملة1- فليس بمستعمل فيما وضع له في الاصطلاح الذي به وقع التخاطب. وقولنا: "على وجه يصح" احتراز عن الغلط كما سبق2.
وقولنا: "مع قرينة عدم إرادته" احتراز عن الكناية؛ كما تقدم1.
"أنواع الحقيقة": والحقيقة: لغوية، وشرعية، وعرفية، خاصة أو عامة؛ لأن واضعها إن كان واضع اللغة فلغوية، وإن كان الشارع فشرعية، وإلا فعرفية، والعرفية إن تعين صاحبها نسبت إليه؛ كقولنا: كلامية ونحوية، وإلا بقيت مطلقة.
مثال اللغوية لفظ "أسد" إذا استعمله المخاطب بعرف اللغة في السبع المخصوص.
ومثال الشرعية لفظ "صلاة" إذا استعمله المخاطب بعرف الشرع في العبادة المخصوصة، ومثال العرفية الخاصة لفظ "فِعْل" إذا استعمله المخاطب بعرف النحو في الكلمة المخصوصة، ومثال العرفية العامة لفظ "دابة" إذا استعمله المخاطب بالعرف العام في ذي الأربع2.
"أنواع المجاز": وكذلك المجاز المفرد لغوي، وشرعي، وعرفي؛ مثال اللغوي لفظ "أسد" إذا استعمله المخاطب بعرف اللغة في الرجل الشجاع، ومثال الشرعي لفظ "صلاة" إذا استعمله المخاطب بعرف الشرع في الدعاء، ومثال العرف الخاص لفظ "فعل" إذا استعمله المخاطب بعرف النحو في الحدث، ومثال العرفي العام لفظ "دابة" إذا استعمله المخاطب بالعرف العام في الشاة3.
اشتقاق الحقيقة والمجاز:
والحقيقة: إما فعيل بمعنى مفعول من قوله: "حققت الشيء أحقه": إذا أثبته، أو
فعيل بمعنى فاعل من قولك: "حق الشيء يحق إذا ثبت" أي: المثبتة أو الثابتة في موضعها الأصلي. فأما التاء فقال صاحب المفتاح1: "هي عندي للتأنيث في الوجهين، لتقدير لفظ "الحقيقة" قبل التسمية صفة مؤنث غير مجراة على الموصوف وهو الكلمة"2. وفيه نظر3. وقيل: هي لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية الصرفة؛ كما قيل في أكيلة ونطيحة: إن التاء فيهما لنقلهما من الوصفية إلى الاسمية4؛ فلذلك لا يوصف بهما؛ فلا يقال: شاة أكيلة أو نطيحة.
والمجاز: قيل: "مفعل" من "جاز المكان يجوزه" إذا تعداه؛ أي: تعدت موضعها الأصلي5. وفيه نظر6.
والظاهر أنه من قولهم: "جعلت كذا مجازا إلى حاجتي" أي: طريقا له7، على أن معنى جاز المكان: سلكه، على ما فسره الجوهري وغيره؛ فإن المجاز طريق إلى تصور معناه، واعتبار التناسب في التسمية يغاير اعتبار المعنى في الوصف8؛ كتسمية إنسان له حمرة بأحمر، ووصفه بأحمر؛ فإن الأول لترجيح الاسم على غيره حال وضعه له، والثاني لصحة إطلاقه؛ فلا يصح نقض الأول بوجود المعنى في غير المسمى كما يلهج به بعض الضعفاء.
تقسيم المجاز المفرد إلى مرسل واستعارة:
والمجاز ضربان: مرسل، واستعارة؛ لأن العلاقة المصححة إن كانت تشبيه معناه بما هو موضوع له فهو استعارة، وإلا فهو مرسل، وكثيرا ما تطلق الاستعارة على استعمال اسم المشبه به في المشبه1، فيسمى المشبه به مستعارا منه، والمشبه مستعارا له، واللفظ مستعارا2، وعلى الأول لا يشتق منه؛ لكونه اسما للفظ لا للحدث3.
المجاز المرسل وعلاقاته: علاقة السببية والمجاورة:
الضرب الأول: المرسل، وهو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه وما وضع له ملابسة غير التشبيه4؛ كاليد إذا استعملت في النعمة؛ لأن من شأنها أن تصدر عن
الجارحة، ومنها تصل إلى المقصود بها1. ويشترط أن يكون في الكلام إشارة إلى المولي لها2؛ فلا يقال:"اتسعت اليد في البلد"، أو"اقتنيت يدا" كما يقال:"اتسعت النعمة في البلد"، أو "اقتنيت نعمة"، وإنما يقال:"جلت يده عندي، وكثرت أياديه لدي" ونحو ذلك.
ونظير هذا قولهم في صفة راعي الإبل: "إن له عليها إصبعا"3. أرادوا أن يقولوا: "له عليها أثر حذق" فدلوا عليه بإصبع؛ لأنه ما من حذق في عمل يد إلا وهو مستفاد
من حسن تصريف الأصابع، واللطف في رفعها ووضعها، كما في الخط والنقش.
وعلى ذلك قيل في تفسير قوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} 1 أي: نجعلها كخف البعير، فلا يتمكن من الأعمال اللطيفة، فأرادوا بالإصبع الأثر الحسن، حيث يقصد الإشارة إلى حذق في الصنعة لا مطلقا، حتى يقال2:"رأيت أصابع الدار، وله إصبع حسنة، وإصبع قبيحة" على معنى: له أثر حسن، وأثر قبيح، ونحو ذلك.
وينظر إلى هذا قولهم: "ضربته سوطا"؛ لأنهم عبروا عن الضربة الواقعة بالسوط باسم السوط، فجعلوا أثر السوط سوطا. وتفسيرهم له بقولهم:"المعنى ضربته ضربة بالسوط" بيان لما كان الكلام عليه في أصله.
ونظير قولنا: "له علي يد" قول النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه: "أسرعكن لحوقا -ويروى لحاقا- بي أطولكن يدا"، وقوله:"أطولكن" نظير ترشيح الاستعارة، ولا بأس أن يسمى ترشيح المجاز، والمعنى3: بسط اليد بالعطاء، وقيل: قوله: "أطولكن" من الطَّوْل بمعنى الفضل؛ يقال: "لفلان على فلان طَوْل" أي: فضل؛ فاليد على هذين الوجهين4 بمعنى النعمة، ويحتمل أن يريد: أطولكن يدا بالعطاء؛ أي: أمدكن، فحذف قوله:"بالعطاء" للعلم به5.
وكاليد أيضا إذا استعملت في القدرة؛ لأن أكثر ما يظهر سلطانها في اليد، وبها يكون البطش، والضرب، والقطع، والأخذ، والدفع، والوضع، والرفع، وغير ذلك من الأفعال التي تنبئ عن وجود القدرة ومكانها. وأما اليد في قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم" فهو استعارة1، والمعنى أن مَثَلَهم مع كثرتهم في وجوب الاتفاق مثل اليد الواحدة، فكما لا يتصور أن يخذل بعض أجزاء اليد بعضا، وأن تختلف بها الجهة في التصرف، كذلك سبيل المؤمنين في تعاضدهم على المشركين؛ لأن كلمة التوحيد جامعة لهم.
وكالرواية للمَزادة مع كونها للبعير الحامل لها؛ لحمله إياها2، وكالخفض في البعير، مع كونه لمتاع البيت لحمله إياه. وكالسماء في الغيث، كقوله:"أصابتنا السماء" لكونه من جهة المظلة. وكالإكاف في قول الشاعر:
يأكلن كل ليلة إكافا3
…
أي: علفا بثمن الإكاف4.
علاقة الجزئية:
وهذا الضرب من المجاز يقع على وجوه كثيرة غير ما ذكرناه1:
منها تسمية الشيء باسم جزئه2؛ كالعين في الرَّبيئة3 لكون الجارحة المخصوصة هي المقصود في كون الرجل ربيئة؛ إذ ما عداها لا يُغني شيئا مع فقدها، فصارت كأنها الشخص كله4. وعليه قوله تعالى:{قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} 5 أي: صل، ونحوه:{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} 6 أي: لا تصل، وقول النبي عليه السلام:"من قام رمضان إيمانا واحتسابا، غُفر له ما تقدم من ذنبه" أي: من صلى7.
علاقة الكلية:
ومنها عكس ذلك8 نحو: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} 9 أي: أناملهم، وعليه قولهم:"قطعتُ السارق" وإنما قُطعت يده10.
علاقة السببية أيضا:
ومنها تسمية المسبب باسم السبب؛ كقولهم: "رعينا الغيث" أي: النبات الذي سببه الغيث، وعليه قوله عز وجل:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} 1 سمي جزاء الاعتداء اعتداء؛ لأنه مسبب عن الاعتداء، وقوله تعالى:{وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} 2 تجوز بالبلاء عن العرفان؛ لأنه مسبب عنه، كأنه قيل: ونعرف أخباركم، وعليه قول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا
…
فنجهل فوق جهل الجاهلينا3
الجهل الأول: حقيقة، والثاني: مجاز، عبر به عن مكافأة الجهل4. وكذا قوله تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} 5 تجوز بلفظ السيئة6 عن الاقتصاص؛ لأنه مسبب عنها. وقيل: إن عبر بها عما ساء أي: أحزن لم يكن مجازا؛ لأن الاقتصاص محزن في الحقيقة كالجناية. وكذا قوله تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} 7 تجوز بلفظ المكر عن عقوبته لأنه سببها. قيل: ويحتمل أن يكون مكر الله حقيقة؛ لأن المكر هو التدبير فيما يضر الخصم، وهذا محقق من الله تعالى باستدراجه إياهم بنعمه مع ما أعد لهم من نقمه.
علاقة المسببية:
ومنها تسمية السبب باسم المسبب؛ كقولهم: "أمطرت السماء نباتا"، وعليه قولهم:"كما تدين تدان" أي: كما تفعل تجازى1، وكذا لفظ "الأسنمة" في قوله يصف غيثا:
أقبل في المستنّ من ريابه
…
أسنمة الآبال في سحابه2
وكذا تفسير إنزال أزواج الأنعام في قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} 3 بإنزال الماء على وجه4؛ لأنها لا تعيش إلا بالنبات، والنبات لا يقوم إلا بالماء؛ وقد أنزل الماء فكأنه أنزلها، ويؤيده ما ورد أن كل ما في الأرض من السماء يُنزله الله تعالى إلى الصخرة ثم يقسمه. قيل: وهذا5 معنى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} 6. وقيل: معناه: وقضى لكم؛ لأن قضاياه وقسمه موصوفة بالنزول من السماء، حيث كُتب في اللوح كل كائن يكون. وقيل: خلقها في الجنة ثم أنزلها، وكذا قوله تعالى:{وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} 7.
أي: مطرا هو سبب الرزق، وقوله تعالى:{إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} 1، وقولهم:"فلان أكل الدم" أي: الدية التي هي مسببة عن الدم2، قال:
أكلت دما إن لم أرعك بضرة
…
بعيدة مهوى القرط طيبة النشر3
وقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} 4 أي: أردت القراءة بقرينة الفاء5 مع استفاضة السنة بتقديم الاستعاذة، وقوله تعالى:{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ} 6 أي: أراد؛ بقرينة {فَقَالَ رَبِّ} ، وقوله تعالى:{وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} 7 أي: أردنا إهلاكها؛ بقرينة {فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} . وكذلك قوله تعالى: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} 8؛ بقرينة {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} ، وفيه دلالة واضحة على الوعيد بالإهلاك؛ إذ لا يقع الإنكار9 في {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} في المحز إلا بتقدير:"ونحن على أن نهلكهم"10.
علاقة اعتبار ما كان:
ومنها تسمية الشيء باسم ما كان عليه1؛ كقوله عز وجل: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} 2 أي: الذين كانوا يتامى؛ إذ لا يتم بعد البلوغ، وقوله:{إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا} 3 سماه مجرما باعتبار ما كان عليه في الدنيا من الإجرام.
علاقة اعتبار ما يكون:
ومنها تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه4 كقوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} 5.
علاقة المحلية:
ومنها تسمية الحال باسم محله7 كقوله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} 7 أي: أهل ناديه.
علاقة الحالية:
ومنها عكس ذلك1 نحو: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ} 2 أي: في الجنة.
علاقة الآلية:
ومنها تسمية الشيء باسم آلته3 كقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} 4 أي: بلغة قومه، وقوله تعالى:{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} 5 أي: ذكرا جميلا وثناء حسنا.
وكذا غير ذلك مما بين معنى اللفظ وما هو موضوع له تعلق سوى التشبيه6.
قال صاحب المفتاح7: "وللتعلق بين الصارف عن فعل الشيء والداعي إلى تركه8 يحتمل عندي أن يكون المراد بـ "منعك" في قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ
إِذْ أَمَرْتُكَ} 1؛ دعاك، و"لا" غير صلة قرينة المجاز2. وكذا {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا، أَلَّا تَتَّبِعَنِ} 3.
وقال الراغب رحمه الله: "قال بعض المفسرين: إن معنى {مَا مَنَعَكَ} ما حماك وجعلك في منعة مني في ترك السجود؛ أي: في معاقبة تركه. وقد استبعد ذلك بعضهم بأن قال: لو كان كذا لم يكن يجيب بأن يقول: "أنا خير منه" فإن ذلك ليس بجواب السؤال على ذلك الوجه، وإنما هو جواب من قيل له: ما منعك أن تسجد؟ ويمكن أن يقال في جواب ذلك: إن إبليس لما كان أُلزم ما لم يجد سبيلا إلى الجواب عنه -إذ لم يكن له من كالئ يحرسه ويحميه- عدل عما كان جوابا، كما يفعل المأخوذ بكظمه في المناظرة". انتهى كلامه4.
المجاز المرسل الخالي عن الفائدة والمفيد:
وقسم الشيخ صاحب المفتاح5 المجاز المرسل إلى خالٍ عن الفائدة، ومفيد، وجعل الخالي عن الفائدة ما استعمل في أعم مما هو موضوع له؛ كالمرسن في قول العجا
وفاحما ومرسنا مسرجا6
فإنه مستعمل في الأنف لا بقيد كونه المِرْسون1 مع كونه موضوعا له بهذا القيد لا مطلقا، وكالمشفر2 في نحو قولنا:"فلان غليظ المشافر" إذا قامت قرينة على أن المراد هو الشفة لا غير، وقال: سمي هذا الضرب غير مفيد لقيامه مقام أحد المترادفين من نحو: "ليث وأسد، وحبس ومنع" عند المصير إلى المراد منه3.
وأراد بالمفيد ما عدا الخالي عن الفائدة والاستعارة كما مر.
والشيخ عبد القاهر -رحمه الله4- جعل الخالي عن الفائدة ما استعمل في شيء بقيد، مع كونه موضوعا لذلك الشيء بقيد آخر من غير قصد التشبيه، ومثّله ببعض ما مثّله الشيخ صاحب المفتاح ونحوه؛ مصرحا بأن الشفة والأنف موضوعان للعضوين المخصوصين من الإنسان5 فإن قصد التشبيه صار اللفظ استعارة6؛ كقولهم في مواضع الذم:"غليظ المشفر"، فإنه بمنزلة أن يقال:"كأن شفته في الغِلَظ مشفر البعير". وعليه قول الفرزدق:
فلو كنت ضبّيّا عرفت قرابتي
…
ولكن زنجي غليظ المشافر7
أي: ولكنك زنجي كأنه جمل لا يهتدي لشرفي.
وكذا قول الحطيئة يخاطب الزبرقان:
قروا جارك العَيْمان لما جفوته
…
وقلص عن برد الشراب مشافره1
فإنه وإن عنى نفسه بالجار، جاز أن يقصد إلى وصف نفسه بنوع من سوء الحال؛ ليزيد في التهكم بالزبرقان، ويؤكد ما قصده من رميه بإضاعة الضيف وإسلامه للضر والبؤس. وكذا قول الآخر:
سأمنعها أو سوف أجعل أمرها
…
إلى ملك أظلافه لم تشقَّق2
الاستعارة:
الاستعارة التصريحية:
الضرب الثاني من المجاز الاستعارة، وهي ما كانت علاقته تشبيه معناه بما وضع له1.
وقد تقيد بالتحقيقية2؛ لتحقق معناها3 حسا أو عقلا؛ أي: التي تتناول أمرا معلوما يمكن أن ينص عليه ويشار إليه إشارة حسية أو عقلية، فيقال: إن اللفظ نقل من مسماه الأصلي، فجعل اسما له على سبيل الإعارة للمبالغة في التشبيه.
أما الحسي:
فكقولك: "رأيت أسدا"، وأنت تريد رجلا شجاعا، وعليه قول زهير:
لدى أسد شاكي السلاح مقذف4
أي: لدى رجل شجاع.
ومن لطيف هذا الضرب ما يقع التشبيه فيه في الحركات، كقول أبي دلامة يصف بغلته:
أرى الشهباء تعجن إذ غدونا
…
برجليها وتخبز باليدين1
شبه حركة رجليها حيث لم تثبتا على موضع تعتمد بهما عليه وهَوَتا ذاهبتين نحو يديها بحركة يدي العاجن، فإنهما لا تثبتان في موضع، بل تزلّان إلى قدام لرخاوة العجين، وشبه حركة يديها بحركة يد الخابز؛ فإنه يثني يده نحو بطنه، ويحدث فيها ضربا من التقويس، كما تجد في يد الدابة إذا اضطربت في سيرها ولم تقو على ضبط يدها وأن ترمي بها إلى قدام، وأن تشد اعتمادها حتى تثبت في الموضع الذي تقع عليه، فلا تزلّ عنه ولا تنثني.
وأما العقلي:
فكقولك: "أبديت نورا" وأنت تريد: حجة؛ فإن الحجة مما يدرك بالعقل من غير وساطة حس؛ إذ المفهوم من الألفاظ هو الذي ينور القلب ويكشف عن الحق لا الألفاظ أنفسها، وعليه قوله عز وجل:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} 2 أي: الدين الحق، وأما قوله تعالى:{فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} 3. فعلى ظاهر قول الشيخ جار الله العلامة4 استعارة عقلية؛ لأنه قال: شبه باللباس -لاشتماله على اللابس- ما غشي الإنسان والتبس به من بعض الحوادث. وعلى ظاهر قول الشيخ صاحب المفتاح: حسية؛ لأنه جعل اللباس استعارة لما يلبسه الإنسان عند جوعه وخوفه من امتقاع اللون ورثاثة الهيئة5.
فالاستعارة ما تضمن تشبيه معناه بما وضع له6، والمراد بمعناه ما عُني به؛ أي: ما استعمل فيه7؛ فلم يتناول ما استعمل فيما وضع له، وإن تضمن التشبيه به؛ نحو:"زيد أسد، ورأيته أسدا"، ونحو:"رأيت به أسدا"8 لاستحالة تشبيه الشيء بنفسه9. على أن المراد بقولنا: "ما تضمن" مجاز تضمن؛ بقرينة تقسيم المجاز إلى الاستعارة وغيرها، والمجاز لا يكون مستعملا فيما وضع له.
الفرق بين الاستعارة والتشبيه المؤكد:
وههنا شيء لا بد من التنبيه عليه، وهو أنه إذا أجري في الكلام لفظ دلت القرينة1 على تشبيه شيء بمعناه، فيكون ذلك على وجهين:
أحدهما: ألا يكون المشبه مذكورا ولا مقدرا؛ كقولك: "رنت لنا ظبية"، وأنت تريد امرأة، و"لقيت أسدا"، وأنت تريد رجلا شجاعا. ولا خلاف أن هذا ليس بتشبيه وأن الاسم فيه استعارة.
والثاني: أن يكون المشبه مذكورا أو مقدرا1؛ فاسم المشبه به إن كان خبرا، أو في حكم الخبر -كخبر "كان وإن"، والمفعول الثاني لباب "علمت" والحال- فالأصح أنه يسمى تشبيها، وأن الاسم فيه لا يسمى استعارة؛ لأن الاسم إذا وقع هذه المواقع فالكلام موضوع لإثبات معناه لما يعتمد عليه، أو نفيه عنه؛ فإذا قلت:"زيد أسد"، فقد وضعت كلامك في الظاهر لإثبات معنى الأسد لزيد، وإذا امتنع إثبات ذلك له على الحقيقة، كان لإثبات شبه من الأسد له، فيكون اجتلابه لإثبات التشبيه، فيكون خليقا بأن يسمى تشبيها؛ إذ كان إنما جاء ليفيده، بخلاف الحالة الأولى؛ فإن الاسم فيها لم يجتلب لإثبات معناه للشيء، كما إذا قلت:"جاءني أسد، ورأيت أسدا"، فإن الكلام في ذلك موضوع لإثبات المجيء واقعا من الأسد، والرؤية واقعة منك عليه، لا لإثبات معنى الأسد لشيء؛ فلم يكن ذكر المشبه به لإثبات التشبيه، وصار قصد التشبيه مكنونا في الضمير، لا يعلم إلا بعد الرجوع إلى شيء من النظر.
ووجه آخر في كون التشبيه مكنونا في الضمير؛ وهو أنه إذا لم يكن المشبه مذكورا جاز أن يتوهم السامع في ظاهر الحال أن المراد باسم المشبه به ما هو موضوع له، فلا يعلم قصد التشبيه فيه إلا بعد شيء من التأمل، بخلاف الحالة الثانية، فإنه يمتنع ذلك فيه مع كون المشبه مذكورا أو مقدرا.
ومن الناس2 من ذهب إلى أن الاسم في الحالة الثانية استعارة؛ لإجرائه على المشبه مع حذف كلمة التشبيه3، وهذا الخلاف لفظي راجع إلى الكشف عن معنى الاستعارة والتشبيه في الاصطلاح4، وما اخترناه هو الأقرب لما أوضحناه من
المناسبة، وهو اختيار المحققين؛ كالقاضي أبي الحسن الجرجاني، والشيخ عبد القاهر، والشيخ جار الله العلامة، والشيخ صاحب المفتاح1 رحمهم الله؛ غير أن الشيخ عبد القاهر قال بعد تقرير ما ذكرناه2: فإن أبيتَ إلا أن تُطلق اسم الاستعارة على هذا القسم، فإن حسن دخول أدوات التشبيه لا يحسن إطلاقه؛ وذلك كأن يكون اسم المشبه به معرفة؛ كقولك:"زيد الأسد، وهو شمس النهار"، فإنه يحسن أن يقال:"زيد كالأسد، وخِلْتُه شمس النهار".
وإن حسن دخول بعضها دون بعض، هان الخطب في إطلاقه؛ وذلك كأن يكون نكرة غير موصوفة؛ كقولك:"زيد أسد"؛ فإنه لا يحسن أن يقال: "زيد كأسد"3، ويحسن أن يقال:"كأن زيدا أسد، ووجدته أسدا"4.
وإن لم يحسن دخول شيء منها إلا بتغيير لصورة الكلام كان إطلاقه أقرب؛ لغموض تقدير أداة التشبيه فيه؛ وذلك بأن يكون نكرة موصوفة بما لا يلائم المشبه به؛ كقولك: "فلان بدر يسكن الأرض، وهو شمس لا تغيب"؛ وكقوله:
شمس تألق، والفراق غروبها
…
عنا، وبدر والصدود كسوفه5
فإنه لا يحسن دخول الكاف ونحوه في شيء من هذه الأمثلة ونحوها إلا بتغيير صورته1؛ كقولك: "هو كالبدر إلا أنه يسكن الأرض، وكالشمس إلا أنه لا يغيب، وكالشمس المتألقة إلا أن الفراق غروبها، وكالبدر إلا أن الصدود كسوفه".
وقد يكون في الصفات والصلات التي تجيء في هذا النحو ما يحيل تقدير أداة التشبيه فيه؛ فيقرب إطلاقه أكثر، وذلك مثل قول أبي الطيب:
أسد دم الأسد الهزبر خضابه
…
موت فريص الموت منه يرعد2
فإنه لا سبيل إلى أن يقال: "المعنى: هو كالأسد وكالموت"؛ لما في ذلك من التناقض؛ لأن تشبيهه بجنس السبع المعروف دليل أنه دونه أو مثله، وجعل دم الهزبر -الذي هو أقوى الجنس- خضاب يده دليل أنه فوقه، وكذلك لا يصح أن يشبهه بالموت المعروف ثم يجعل الموت يخاف منه3. وكذا قول البحتري:
وبدر أضاء الأرض شرقا ومغربا
…
وموضع رجلي منه أسود مظلم4
إن رُجع فيه إلى التشبيه الساذج -حتى يكون المعنى: هو كالبدر- لزم أن يكون قد جعل البدر المعروف موصوفا بما ليس فيه1؛ فظهر أنه إنما أراد أن يُثبت من الممدوح بدرا له هذه الصفة العجيبة التي لم تعرف للبدر، فهو مبني على تخيل أنه زاد في جنس البدر واحدا له تلك الصفة؛ فالكلام موضوع لا لإثبات الشبه بينهما ولكن لإثبات تلك الصفة؛ فهو كقولك:"زيد رجل كيت كيت"، لم تقصد إثبات كونه رجلا، لكن إثبات كونه متصفا بما ذكرت. فإذا لم يكن اسم المشبه به في البيت مجتلبا لإثبات الشبه، تبين أنه خارج عن الأصل الذي تقدم2 من كون الاسم مجتلبا لإثبات الشبه؛ فالكلام فيه مبني على أن كون الممدوح بدرا أمر قد استقر وثبت، وإنما العمل في إثبات الصفة الغريبة3.
وكما يمتنع دخول الكاف في هذا ونحوه4، يمتنع دخول "كأن" ونحوه "تحسب" لاقتضائهما5 أن يكون الخبر والمفعول الثاني أمرا ثابتا في الجملة6، إلا أن كونه متعلقا بالاسم والمفعول الأول مشكوك فيه؛ كقولنا:"كأن زيدا منطلق"، أو خلاف الظاهر؛ كقولنا:"كأن زيدا أسد"7، والنكرة فيما نحن فيه غير
ثابتة1؛ فدخول "كأن" و"تحسب" عليها كالقياس على المجهول.
وأيضا هذا الجنس إذا فليت عن سره، وجدت محصوله أنك تدعي حدوث شيء هو من الجنس المذكور، إلا أنه اختص بصفة عجيبة لم يتوهم جوازها على ذلك الجنس2، فلم يكن لتقدير التشبيه فيه معنى3.
التجريد ليس استعارة ولا تشبيها:
وإن لم يكن اسم المشبه به خبرا للمشبه، ولا في حكم الخبر4؛ كقولهم:"رأيت بفلان أسدا، ولقيني منه أسد" سمي تجريدا، كما سيأتي إن شاء الله تعالى5 ولم يسم استعارة؛ لأنه إنما يتصور الحكم على الاسم بالاستعارة إذا جرى بوجه على ما يدعى أنه مستعار له؛ إما باستعماله فيه، أو بإثبات معناه له6، والاسم في مثل هذا غير جارٍ على المشبه بوجه.
ولأنه يجيء على هذه الطريقة1 ما لا يتصور فيه التشبيه، فيظن أنه استعارة2؛ كقوله تعالى:{لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} 3؛ إذ ليس المعنى على تشبيه جهنم بدار الخلد؛ إذ هي نفسها دار الخلد4، وكقول الشاعر:
يا خير من يركب المطي ولا
…
يشرب كأسا بكف من بخلا5
فإنه لا يتصور فيه التشبيه، وإنما المعنى أنه ليس ببخيل.
ولا يسمى6 تشبيها أيضا؛ لأن اسم المشبه به لم يُجتلَب فيه لإثبات التشبيه كما سبق، وعده الشيخ صاحب المفتاح تشبيها7، والخلاف أيضا لفظي8.
الاستعارة مجاز لغوي لا عقلي:
والدليل على أن الاستعارة مجاز لغوي كونها موضوعة للمشبه به، لا للمشبه ولا لأمر أعم منها؛ كالأسد فإنه موضوع للسبع المخصوص لا للرجل الشجاع ولا للشجاع مطلقا؛ لأنه لو كان موضوعا لأحدهما لكان استعماله في الرجل الشجاع من جهة التحقيق لا من جهة التشبيه، وأيضا لو كان موضوعا للشجاعة مطلقا لكان وصفا لا اسم جنس.
وقيل: الاستعارة مجاز عقلي؛ بمعنى أن التصرف فيها أمر عقلي لا لغوي1؛ لأنها لا تطلق على المشبه إلا بعد ادعاء دخوله في جنس المشبه به؛ لأن نقل الاسم وحده لو كان استعارة لكانت الأعلام المنقولة كـ "يزيد ويشكر" استعارة، ولما كانت الاستعارة أبلغ من الحقيقة؛ لأنه لا بلاغة في إطلاق الاسم المجرد عاريا عن معناه، ولما صح أن يقال لمن قال:"رأيت أسدا" يعني زيدا: إنه جعله أسدا،
كما لا يقال لمن سمى ولده أسدا: إنه جعله أسدا؛ لأن "جعل" إذا تعدى إلى مفعولين كان بمعنى "صير" فأفاد إثبات صفة للشيء، فلا تقول:"جعلته أميرا" إلا على معنى أنك أثبت له صفة الإمارة، وعليه قوله تعالى:{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} 2 المعنى: أنهم أثبتوا صفة الأنوثة، واعتقدوا وجودها فيهم، وعن هذا الاعتقاد صدر عنهم للملائكة إطلاق اسم الإناث عليهم، لا أنهم أطلقوه من غير اعتقاد ثبوت معناه لهم؛ بدليل قوله تعالى:{أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} .
وإذا كان نقل الاسم تبعا لنقل المعنى؛ كان الاسم مستعملا فيما وضع له؛ ولهذا صح التعجب في قول ابن العميد:
قامت تظللني من الشمس
…
نفس أعز علي من نفسي
قامت تظللني ومن عجب
…
شمس تظللني من الشمس3
والنهي عنه في قول الآخر:
لا تعجبوا من بِلَى غلالته
…
قد زر أزراره على القمر4
وقوله:
ترى الثياب من الكتان يلمحها
…
نور من البدر أحيانا فيُبليها
فكيف تنكر أن تبلى معاجرها
…
والبدر في كل وقت طالع فيها5
والجواب عنه أن ادعاء دخول المشبه في جنس المشبه به لا يُخرِج اللفظ عن كونه مستعملا في غير ما وضع له. وأما التعجب والنهي عنه -فيما ذكر- فلبناء الاستعارة على تناسي التشبيه؛ قضاء لحق المبالغة.
التوفيق بين الادعاء في الاستعارة والقرينة المانعة:
فإن قيل: إصرار المتكلم على ادعاء الأسدية للرجل، ينافي نصبه قرينة مانعة من أن يراد به السبع المخصوص؟ قلنا: لا منافاة. ووجه التوفيق هو ما ذكره السكاكي1 وهو أن تبني دعوى الأسدية للرجل على ادعاء أن أفراد جنس الأسد قسمان بطريق التأويل متعارف؛ وهو الذي له غاية الجرأة ونهاية قوة البطش مع الصورة المخصوصة2، وغير متعارف؛ وهو الذي له تلك الجرأة وتلك القوة لا مع
تلك الصورة بل مع صورة أخرى1 على نحو ما ارتكب المتنبي هذا الادعاء في عد نفسه وجماعته من جنس الجن، وعد جماله من جنس الطير، حين قال:
نحن قوم مِلْجن في زي ناس
…
فوق طير لها شخوص الجمال2
مستشهدا لدعواه هاتيك3 بالمخيلات العرفية. وأن تخصص4 القرينة بنفيها المتعارف الذي يسبق إلى الفهم5؛ ليتعين الآخر6.
ومن البناء على هذا التنويع7 قوله:
تحية بينهم ضرب وجيع8
وقولهم: "عتابك السيف"، وقوله تعالى:{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} 9ومنه قوله:
وبلدة ليس بها أنيس
…
إلا اليعافير وإلا العيس10
الفرق بين الاستعارة والكذب:
وإذ قد عرفت معنى الاستعارة وأنها مجاز لغوي؛ فاعلم أن الاستعارة تفارق الكذب من وجهين: بناء الدعوى فيها على التأويل1، ونصب القرينة على أن المراد بها خلاف ظاهرها؛ فإن الكاذب يتبرأ من التأويل، ولا ينصب دليلا على خلاف زعمه.
الاستعارة لا تدخل في الأعلام:
وأنها لا تدخل في الأعلام2؛ لما سبق من أنها تعتمد إدخال المشبه في جنس المشبه به، والعلمية تنافي الجنسية، وأيضا لأن العَلَم لا يدل إلا على تعين شيء من غير إشعار بأنه إنسان أو فرس أو غيرهما؛ فلا اشتراك بين معناه وغيره، إلا في مجرد التعين ونحوه من العوارض العامة التي لا يكفي شيء منها جامعا في الاستعارة، اللهم إلا إذا تضمن نوع وصفية لسبب خارج؛ كتضمن اسم حاتم "الجواد"، ومادر "البخيل"، وما جرى مجراهما3.
قرينة الاستعارة:
وقرينة الاستعارة إما معنى واحد؛ كقولك: "رأيت أسدا يرمي"، أو أكثر1؛ كقول بعض العرب:
فإن تعافوا العدل والإيمانا
…
فإن في أيماننا نيرانا2
أي: سيوفا تلمع كأنها شعل نيران، كما قال الآخر:
ناهضتهم والبارقات كأنها
…
شعل على أيديهم تتلهب3
فقوله: "تعافوا" باعتبار كل واحد من تعلقه بالعدل وتعلقه بالإيمان قرينة لذلك4؛ لدلالته على أن جوابه أنهم يحاربون ويُقسَرون على الطاعة بالسيف، أو معانٍ مربوط بعضها ببعض5، كما في قول البحتري:
وصاعقة من نصله تنكفي بها
…
على أرؤس الأقران خمس سحائب6
عنى بـ "خمس سحائب": أنامل الممدوح؛ فذكر أن هناك صاعقة، ثم قال:"من نصله" فبين أنها من نصل سيفه، ثم قال:"على أرؤس الأقران" ثم قال: "خمس"، فذكر عدد أصابع اليد؛ فبان من مجموع ذلك غرضه7.
تقسيمات الاستعارة:
ثم الاستعارة تنقسم باعتبار الطرفين، وباعتبار الجامع، وباعتبار الثلاثة، وباعتبار اللفظ، وباعتبار أمر خارج عن ذلك كله.
أقسام الاستعارة باعتبار الطرفين:
أما باعتبار الطرفين فهي قسمان؛ لأن اجتماعهما في شيء إما ممكن، أو ممتنع، واسم الأولى: وفاقية، والثانية: عنادية.
الوفاقية:
أما الوفاقية فكقوله تعالى: {فَأَحْيَيْنَاهُ} 1 في قوله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} فإن المراد بـ "أحييناه" هديناه؛ أي: أَوَمَن كان ضالا فهديناه. والهداية والحياة لا شك
في جواز اجتماعهما في شيء1.
العنادية:
وأما العنادية: فمنها ما كان وضع التشبيه فيه على ترك الاعتداد بالصفة وإن كانت موجودة؛ لخلوها مما هو ثمرتها والمقصود منها، وما إذا خلت منه لم تستحق الشرف؛ كاستعارة اسم المعدوم للموجود، إذا لم تحصل منه فائدة من الفوائد المطلوبة من مثله، فيكون مشاركا للمعدوم في ذلك2، أو اسم الموجود للمعدوم إذا كانت الآثار المطلوبة من مثله موجودة حال عدمه، فيكون مشاركا للموجود في ذلك، أو اسم الميت للحي الجاهل؛ لأنه عدم فائدة الحياة والمقصود بها؛ أعني العلم، فيكون مشاركا للميت في ذلك؛ ولذلك جُعل النوم موتا؛ لأن النائم لا يشعر بما بحضرته، كما لا يشعر الميت، أو للحي العاجز؛ لأن العجز كالجهل يحط من قدر الحي3.
ثم الضدان إن كانا قابلين للشدة والضعف كان استعارة اسم الأشد للأضعف أولى4، وكل من كان أقل علما وأضعف قوة كان أولى بأن يستعار له اسم الميت،
ولما كان الإدراك أقدم من العقل في كونه خاصة للحيوان؛ كان الأقل علما أولى باسم الميت أو الجماد من الأقل قوة.
وكذا في جانب الأشد؛ فكل من كان أكثر علما كان أولى بأن يقال له: إنه حي، وكذا من كان أشرف علما، وعليه قوله تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ} 1 فإن العلم بوحدة الله تعالى وما أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم أشرف العلوم.
العنادية التهكمية والتمليحية:
ومنها ما استعمل في ضد معناه أو نقيضه؛ بتنزيل التضاد أو التناقض2 منزلة التناسب، بواسطة تهكم أو تمليح3 على ما سبق في التشبيه؛ كقوله تعالى:{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} 4.
ويُخَص هذا النوع باسم "التهكمية" أو "التمليحية"5.
أقسام الاستعارة باعتبار الجامع:
وأما باعتبار الجامع فهي قسمان:
أحدهما ما يكون الجامع فيه داخلا في مفهوم الطرفين1.
كاستعارة الطيران للعدو؛ كما في قول امرأة من بني الحارث ترثي قتيلا:
لو يشا طار به ذو ميعة
…
لاحق الآطال نهد ذو خصل2
وكما جاء في الخبر: "كلما سمع هيعة طار إليها" 3 فإن الطيران والعدو يشتركان في أمر داخل في مفهومهما؛ وهو قطع المسافة بسرعة4، ولكن الطيران أسرع من العدو.
ونحوهما قول بعض العرب:
فطرت بمُنْصُلي في يَعْمَلات
…
دوامي الأيد يخبطن السريحا5
يقول: إنه قام بسيفه مسرعا إلى نوق فعقرهن، ودميت أيديهن، فخبطن السيور المشدودة على أرجلهن.
وكاستعارة الفيض لانبساط الفجر في قوله:
كالفجر فاض على نجوم الغيهب6
فإن الفيض موضوع لحركة الماء على وجه مخصوص؛ وذلك أن يفارق مكانه دفعة، فينبسط، وللفجر انبساط شبيه بذلك. وكاستعارة التقطيع لتفريق الجماعة وإبعاد بعضهم عن بعض في قوله تعالى:{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا} 1، فإن القطع موضوع لإزالة الاتصال بين الأجسام التي بعضها ملتزق ببعض؛ فالجامع بينهما إزالة الاجتماع التي هي داخلة في مفهومهما، وهي في القطع أشد. وكاستعارة الخياطة لسرد الدرع في قول القطامي:
لم تلق قوما هم شر لإخوتهم
…
منا عشية يجري بالدم الوادي
نقريهم لهذميات نقد بها
…
ما كان خاط عليهم كل زرّاد2
فإن الخياطة تضم خرق القميص، والسرد يضم حلق الدرع؛ فالجامع بينهما الضم الذي هو داخل في مفهومهما، وهو في الأول أشد.
وكاستعارة النثر لإسقاط المنهزمين وتفريقهم في قول أبي الطيب:
نثرته فوق الأحيدب نثرة
…
كما نُثرت فوق العروس الدراهم3
لأن النثر أن تجمع أشياء في كف أو وعاء، ثم يقع فعل تتفرق معه دفعة من غير ترتيب ونظام، وقد استعاره لما يتضمن التفرق على الوجه المخصوص، وهو ما اتفق من تساقط المنهزمين في الحرب دفعة من غير ترتيب ونظام، ونسبه إلى الممدوح؛ لأنه سببه4.
ما يخرج جامعها عن مفهوم الطرفين:
والثاني ما يكون الجامع فيه غير داخل في مفهوم الطرفين؛ كقولك: "رأيت شمسا"، وتريد إنسانا يتهلل وجهه؛ فالجامع بينهما التلألؤ، وهو غير داخل في مفهومهما1.
الاستعارة العامية والخاصية:
وتنقسم باعتبار الجامع أيضا إلى عامية وخاصية2؛ فالعامية: المبتذَلة؛ لظهور الجامع فيها؛ كقولك: "رأيت أسدا ووردت بحرا". والخاصية: الغريبة، التي لا يظفر بها إلا من ارتفع عن طبقة العامة، كما سيأتي في الاستعارات الواردة في التنزيل، وكقول طفيل الغنوي:
وجعلت كُوري فوق ناجية
…
يقتات شحم سنامها الرحل4
وموضع اللطف والغرابة منه: أنه استعار الاقتيات لإذهاب الرحل شحم السنام؛ مع أن الشحم مما يقتات. وقول ابن المعتز:
حتى إذا ما عرف الصيد الضار
…
وأذن الصبح لنا في الإبصار1
ولما كان تعذر الإبصار منعا من الليل جعل إمكانه عند ظهور الصبح إذنا منه.
وقول الآخر:
بعُرْض تنوفة للريح فيه
…
نسيم لا يروع في التراب2
وقوله:
يناجيني الإخلاف من تحت مطله
…
فتختصم الآمال واليأس في صدري3
ثم الغرابة قد تكون في الشبه نفسه4، كما في تشبيه هيئة العنان في موقعه من قربوس السرج بهيئة الثوب في موقعه من ركبة المحتبي، في قول يزيد بن مسلمة بن عبد الملك يصف فرسا له بأنه مؤدب:
وإذا احتبى قَرْبُوسه بعَنانه
…
عَلَكَ الشكيم إلى انصراف الزائر5
وقد تحصل بتصرف في العامية؛ كما في قول الآخر:
وسالت بأعناق المطي الأباطح1
أراد أنها سارت سيرا حثيثا في غاية السرعة، وكانت سرعة في لين وسلاسة حتى كأنها كانت سيولا وقعت في تلك الأباطح فجرَتْ بها.
ومثلها في الحسن وعلو الطبقة في هذه اللفظة بعينها، قول ابن المعتز:
سالت عليه شعاب الحي حين دعا
…
أنصاره بوجوه كالدنانير2
أراد أنه مطاع في الحي، وأنهم يسرعون إلى نصرته، وأنه لا يدعوهم لخطب إلا أتوه وكثروا عليه وازدحموا حواليه، حتى تجدهم كالسيول تجيء من ههنا وههنا، وتنصبّ من هذا المسيل وذاك، حتى يَغَصّ بها الوادي ويطفح منها، وهذا شبه معروف ظاهر، ولكن حسن التصرف فيه أفاد اللطف والغرابة، وذلك أن أسند الفعل إلى الأباطح والشعاب3 دون المطي أو أعناقها، والأنصار أو وجوههم، حتى أفاد أنه امتلأت الأباطح من الإبل، والشعاب من الرجال على ما تقدم4 في
قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} 1، وفي كل واحد منهما شيء غير الذي في الآخر يؤكد أمر الدقة والغرابة؛ أما الذي في الأول فهو أنه أدخل الأعناق في السير؛ فإن السرعة والبطء في سير الإبل يظهران غالبا في أعناقها على ما مر، وأما الذي في الثاني فهو أنه قال:"عليه"؛ فعدى الفعل إلى ضمير الممدوح بـ "على"، فأكد مقصوده من كونه مطاعا في الحي.
وكما في قوله:
فرعاء إن نهضت لحاجتها
…
عَجِلَ القضيب وأبطأ الدِّعْص2
إذ وصف القضيب بالعجلة، والدعص بالبطء3.
وقد تحصل الغرابة بالجمع بين عدة استعارات لإلحاق الشكل بالشكل؛ كقول امرئ القيس:
فقلت له لما تمطى بصلبه
…
وأردف أعجازا وناء بكَلْكَل4
أراد وصف الليل بالطول، فاستعار له صلبا يتمطى به؛ إذ كان كل ذي صلب يزيد في طوله عند تمطيه شيء، وبالغ في ذلك بأن جعل له أعجازا يردف بعضها بعضا، ثم أراد أن يصفه بالثقل على قلب ساهره والضغط لمكابده؛ فاستعار له كلكلا ينوء به؛ أي: يثقل به. وقال الشيخ عبد القاهر5: "لما جعل لليل صلبا قد تمطى به، ثنّى ذلك، فجعل له أعجازا قد أردف بها الصلب، وثلَّث فجعل له كلكلا قد ناء به، فاستوفى له جملة أركان الشخص، وراعى ما يراه الناظر من سواده إذا نظر قدامه، وإذا نظر خلفه، وإذا رفع البصر ومده في عُرْض الجو"6.
أقسام الاستعارة باعتبار الطرفين والجامع:
وأما باعتبار الثلاثة -أعني الطرفين والجامع- فستة أقسام: استعارة محسوس لمحسوس بوجه حسي، أو بوجه عقلي، أو بما بعضه حسي وبعضه عقلي، واستعارة معقول لمعقول، واستعارة محسوس لمعقول، واستعارة معقول لمحسوس، كل ذلك بوجه عقلي؛ لما مر1.
استعارة محسوس لمحسوس بوجه حسي:
أما استعارة محسوس لمحسوس بوجه حسي؛ فكقوله تعالى: {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} 2؛ فإن المستعار منه ولد البقرة، والمستعار له الحيوان الذي خلقه الله تعالى من حُليّ القبط التي سبكتها نار السامري عند إلقائه فيها التربة التي أخذها من موطئ حيزوم فرس جبريل عليه السلام، والجامع لهما الشكل3، والجميع حسي4.
وكقوله تعالى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} 5 فإن المستعار منه حركة الماء على الوجه المخصوص، والمستعار له حركة الإنس والجن، أو يأجوج ومأجوج، وهما حسيان، والجامع لهما ما يشاهد من شدة الحركة والاضطراب.
وأما قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} 6 فليس مما نحن فيه وإن عد منه؛ لأن فيه تشبيهين: تشبيه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته، وتشبيه انتشاره في الشعر باشتعالها في سرعة الانبساط مع تعذر تلافيه، والأول استعارة بالكناية، والجامع في الثاني عقلي7، وكلامنا في غيرهما8.
استعارة محسوس لمحسوس بوجه عقلي:
وأما استعارة محسوس لمحسوس بوجه عقلي؛ فكقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} 1، فإن المستعار منه كشط الجلد وإزالته عن الشاة ونحوها، والمستعار له إزالة الضوء عن مكان الليل ومُلْقَى ظله، وهما حسيان، والجامع لهما ما يُعقل من ترتب أمر على آخر2. وقيل: المستعار له ظهور النهار من ظلمة الليل، وليس بسديد؛ لأنه لو كان ذلك لقال:"فإذا هم مبصرون" ونحوه، ولم يقل:{فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} أي: داخلون في الظلام3. قيل: ومنه قوله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} 4 فإن المستعار منه المرأة، والمستعار له الريح، والجامع المنع من ظهور النتيجة والأثر؛ فالطرفان حسيان والجامع عقلي. وفيه نظر؛ لأن العقيم صفة للمرأة لا اسم لها، وكذلك جعلت صفة للريح لا اسما5.
والحق أن المستعار منه ما في المرأة من الصفة التي تمنع من الحمل6، والمستعار له ما في الريح من الصفة التي تمنع من إنشاء مطر وإلقاح شجر، والجامع لهما ما ذكر7.
استعارة محسوس لمحسوس بوجه مختلف:
وأما استعارة محسوس لمحسوس بما بعضه حسي وبعضه عقلي فكقولك: "رأيت شمسا" وأنت تريد إنسانا شبيها بالشمس في حسن الطلعة ونباهة الشأن، وأهمل السكاكي هذا القسم1.
استعارة معقول لمعقول:
وأما استعارة معقول لمعقول فكقوله تعالى: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} 1 فإن المستعار منه الرقاد2، والمستعار له الموت، والجامع لهما عدم ظهور الأفعال3، والجميع عقلي4.
استعارة محسوس لمعقول:
وأما استعارة محسوس لمعقول فكقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} 5 فإن المستعار منه صدع الزجاجة، وهو كسرها، وهو حسي6، والمستعار له تبليغ الرسالة7، والجامع لهما التأثير، وهما عقليان، كأنه قيل:"أَبِنِ الأمر إبانة لا تنمحي كما لا يلتئم صدع الزجاجة" وكقوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} 8 جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم، فهم فيها كما يكون في القبة من ضُربتْ عليه، أو ملصقة بهم حتى لزمتهم ضربة لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلزمه؛ فالمستعار منه إما ضرب القبة على الشخص، وإما ضرب الطين على الحائط، وكلاهما حسي، والمستعار له حالهم مع الذلة، والجامع الإحاطة أو اللزوم، وهما عقليان9.
استعارة معقول لمحسوس:
وأما استعارة معقول لمحسوس، فكقوله تعالى:{إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} 1 فإن المستعار له كثرة الماء وهو حسي، والمستعار منه التكبر، والجامع الاستعلاء المفرط، وها عقليان2.
أقسام الاستعارة باعتبار المستعار:
الأصلية، والتبعية:
وأما باعتبار اللفظ3 فقسمان؛ لأنه إن كان اسم جنس، فأصلية كـ "أسد" و"قتل"4، وإلا فتبعية؛ كالأفعال والصفات المشتقة منها الحروف؛ لأن الاستعارة
تعتمد التشبيه، والتشبيه يعتمد كون المشبه موصوفا1، وإنما يصلح للموصوفية الحقائق2 كما في قولك:"جسم أبيض وبياض صافٍ" دون معاني الأفعال والصفات المشتقة منها والحروف3.
فإن قلت: فقد قيل في نحو "شجاع باسل، وجواد فياض، وعالم نحرير": إن باسلا وصف لشجاع، وفياضا وصف لجواد، ونحريرا وصف لعالم4، قلت: ذلك متأول بأن الثواني لا تقع صفات إلا لما يكون موصوفا بالأول5.
فالتشبيه في الأفعال والصفات المشتقة منها لمعاني مصادرها6، وفي الحروف لمتعلقات معانيها؛ كالمجرور7 في قولنا:"زيد في نعمة ورفاهية"؛ فيقدر التشبيه في
قولنا: "نطقت الحال بكذا، والحال ناطقة بكذا" للدلالة بمعنى النطق1.
وعليه في التهكمية قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} 2 بدل "فأنذرهم"، وقوله تعالى:{إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} 3 بدل "السفيه الغوي"، وفي لام التعليل4 كقوله تعالى:{فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} 5 للعداوة والحزن الحاصلين بعد الالتقاط بالعلة الغائية للالتقاط6.
ومما يتصل بهذا أن "يا" حرف وضع في أصله لنداء البعيد ثم استعمل في مناداة القريب؛ لتشبيهه بالبعيد باعتبار أمر راجع إليه أو إلى المنادى؛ أما الأول فكقولك لمن سها وغفل وإن قرب: "يا فلان"، وأما الثاني فكقول الداعي في جُؤَاره:"يا رب يا ألله" وهو أقرب إليه من حبل الوريد؛ فإنه استقصار منه لنفسه، واستبعاد لها من مظانّ الزُّلْفى ومما يقربه إلى رضوان الله تعالى ومنازل المقربين؛ هضما لنفسه، وإقرارا عليها بالتفريط في جنب الله تعالى، مع فرط التهالك على استجابة دعوته والأذن7 لندائه وابتهاله.
واعلم أن مدار قرينة التبعية1 في الأفعال والصفات المشتقة منها على نسبتها إلى الفاعل، كما مر في قولك:"نطقت الحال"، أو إلى المفعول؛ كقول ابن المعتز:
جمع الحق لنا في إمام
…
قتل البخل وأحيا السماحا2
وقول كعب بن زهير:
صبّحنا الخزرجية مرهفات
…
أباد ذوي أرومتها ذووها3
والفرق بينهما أن الثاني مفعول ثانٍ دون الأول. ونظير الثاني قوله:
نقريهم لهذميات نقد بها
…
ما كان خاط عليهم كل زراد4
أو إلى المفعولين الأول والثاني؛ كقول الحريري:
وأقري المسامع إما نطقت
…
بيانا يقود الحرون الشموسا5
أو إلى المجرور كقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} 6
قال السكاكي7 "أو إلى الجميع؛ كقول الآخر:
تقري الرياح رياض الحزن مزهرة
…
إذا سرى النوم في الأجفان إيقاظا8
فيه نظر9
أقسام الاستعارة باعتبار الخارج:
وأما باعتبار الخارج، فثلاثة أقسام:
أحدها المطلقة: وهي التي لم تقترن بصفة ولا تفريع كلام1، والمراد المعنوية لا النعت.
المجردة: وثانيها المجردة، وهي التي قرنت بما يلائم المستعار له2 كقول كثير:
غَمْر الرداء إذا تبسم ضاحكا
…
غَلِقت لضحكته رقاب المال1
فإنه استعار الرداء للمعروف؛ لأنه يصون عِرْض صاحبه كما يصون الرداء ما يُلْقَى عليه، ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف لا الرداء2، فنظر إلى المستعار له، وعليه قوله تعالى:{فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112] .
حيث قال: "أذاقها" ولم يقل: كساها؛ فإن المراد بالإذاقة إصابتهم بما استعير له اللباس3 كأنه قال: فأصابها الله بلباس الجوع والخوف4. قال الزمخشري: "الإذاقة جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمس الناس منها؛ فيقولون: "ذاق فلان البؤس والضر، وأذاقه العذاب" شبه ما يدرك من أثر الضر والألم بما يدرك من طعم المر والبشع"5.
فإن قيل: الترشيح أبلغ من التجريد، فهلا قيل:"فكساها الله لباس الجوع والخوف"؟ قلنا: لأن الإدراك بالذوق يستلزم الإدراك باللمس من غير عكس، فكان في الإذاقة إشعار بشدة الإصابة بخلاف الكسوة. فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل: "فأذاقها الله طعم الجوع والخوف"؟ قلنا: لأن الطعم وإن لاءم الإذاقة فهو مفوت لما يفيده لفظ اللباس من بيان أن الجوع والخوف عم أثرهما جميع البدن عموم الملابس.
المرشحة: وثالثها المرشحة
وهي التي قُرنت بما يلائم المستعار منه1؛ كقوله:
ينازعني ردائي عبد عمرو
…
رويدك يا أخا عمرو بن بكر
لي الشطر الذي ملكت يميني
…
ودونك فاعتجر منه بشطر2
فإنه استعار الرداء للسيف لنحو ما سبق، ووصفه بالاعتجار الذي هو وصف الرداء، فنظر إلى المستعار منه، وعليه قوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} 3 فإنه استعار الاشتراء للاختيار، وقفّاه بالربح والتجارة اللذين هما من متعلقات الاشتراء؛ فنظر إلى المستعار منه.
وقد يجتمع التجريد والترشيح، كما في قول زهير:
لدى أسد شاكي السلاح مقذف
…
له لبد أظفاره لم تقلم4
والترشيح أبلغ من التجريد5؛ لاشتماله على تحقيق المبالغة؛ ولهذا كان مبناه على تناسي التشبيه6، حتى إنه يوضع الكلام في علوّ المنزلة وضعه في علو المكان،
كما قال أبو تمام:
ويصعد حتى يظن الجهول
…
بأن له حاجة في السماء1
فلولا أن قصده أن يتناسى التشبيه، ويصمم على إنكاره، فيجعله صاعدا في السماء من حيث المسافة المكانية؛ لما كان لهذا الكلام وجه.
وكما قال ابن الرومي:
يا آل نُوبَخْت لا عَدِمتكم
…
ولا تبدلت بعدكم بدلا2
إن صح علم النجوم كان لكم
…
حقا إذا ما سواكم انتحلا3
كم عالم فيكم وليس بأن
…
قاس ولكن بأن رَقَى فَعَلا4
أعلاكم في السماء مجدكم
…
فلستم تجهلون ما جهلا
شافهتم البدر بالسؤال عن الـ
…
ـأمر إلى أن بلغتم زحلا1
وكما قال بشار:
أتتني الشمس زائرة
…
ولم تك تبرح الفَلَكا2
وكما قال أبو الطيب:
كبرت حول ديارهم لما بدت
…
منها الشموس وليس فيها المشرق3
وكما قال غيره:
ولم أر قبلي من مشى البدر نحوه
…
ولا رجلا قامت تعانقه الأُسْد4
ومن هذا الفن5 ما سبق من التعجب والنهي عنه6؛ غير أن مذهب التعجب على عكس مذهب النهي عنه؛ فإن مذهبه إثبات وصف ممتنع ثبوته للمستعار منه7، ومذهب النهي عنه إثبات خاصة من خواص المستعار منه8.
وإذا جاز البناء على المشبه به1 مع الاعتراف بالمشبه، كما في قول العباس بن الأحنف:
هي الشمس مسكنها في السماء
…
فعز الفؤاد عزاء جميلا2
فلن تستطيع إليها الصعود
…
ولن تستطيع إليك النزولا
وقول سعيد بن حميد:
قلت: زوري فأرسلت
…
أنا آتيك سُحْرَهْ3
قلت: فالليل كان أخـ
…
ـفى وأدنى مسره
فأجابت بحجة
…
زادت القلب حسره
أنا شمس وإنما
…
تطلع الشمس بكره4
فلأن يجوز مع جحده في الاستعارة أولى.
ومن هذا الباب5 قول الفرزدق:
أبي أحمد الغيثين صعصعة الذي
…
متى تُخلف الجوزاء والدلو يمطر
أجار بنات الوائدين ومن يجر
…
على الموت فاعلم أنه غير مخفر6
ادَّعى لأبيه اسم الغيث ادّعاء من سُلِّم له ذلك، ومن لا يخطر بباله أنه متناول له من طريق التشبيه. وكذا قول عدي بن الرقاع يصف حمارين وحشيين:
يتعاوران من الغبار ملاءة
…
بيضاء محكمة هما نسجاها7
تُطْوَى إذا وردا مكانا محزنا
…
وإذا السنابك أسهلت نشراها8
المجاز المركب أو التمثيل:
وأما المجاز المركب فهو اللفظ المركب المستعمل فيما شُبِّه بمعناه الأصلي تشبيه التمثيل1 للمبالغة في التشبيه2؛ أي: تشبيه إحدى صورتين منتزعتين من أمرين أو
أمور بالأخرى1، ثم تدخل المشبهة في جنس المشبه بها مبالغة في التشبيه، فتذكر بلفظها من غير تغيير بوجه من الوجوه. كما كتب به الوليد بن يزيد2 -لما بويع- إلى مروان بن محمد، وقد بلغه أنه متوقف في البيعة له:"أما بعد، فإني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى3، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت، والسلام" شبه صورة تردده في المبايعة بصورة تردد من قام ليذهب في أمر، فتارة يريد الذهاب فيقدم رجلا، وتارة لا يريد فيؤخر أخرى4. وكما يقال لمن يعمل في غير مَعْمَل:
"أراك تنفخ في غير فحم1 وتخط على الماء" والمعنى: إنك في فعلك كمن يفعل ذلك. وكما يقال لمن يُعمِل الحيلة حتى يُميل صاحبه إلى ما كان يمتنع منه: "ما زال يفتل منه في الذروة والغارب حتى بلغ منه ما أراد" والمعنى أنه لم يزل يرفق بصاحبه رفقا يشبه حاله فيه حال من يجيء إلى البعير الصعب فيحكه، ويفتل الشَّعْر في ذروته وغاربه2 حتى يسكن ويستأنس.
وهذا في المعنى نظير قولهم: "فلان يقرِّد فلانا" أي: يتلطف به فعل من ينزع القراد3 من البعير؛ ليلتد بذلك، فيسكن ويثبت في مكانه حتى يتمكن من أخذه.
وكذا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} 4 فإنه لما كان التقدم بين يدي الرجل خارجا عن صفة المتابع له؛ صار النهي عن التقدم متعلقا باليدين مثلا للنهي عن ترك الأتباع. وكذا قوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 5 إذ المعنى -والله أعلم- أن مَثَل الأرض في تصرفها تحت أمر الله تعالى وقدرته مَثَل الشيء يكون في قبضة الآخذ له منا، والجامع يده عليه. وكذا قوله تعالى:{وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} 6 أي: يخلق فيها صفة الطي حتى ترى كالكتاب المطويّ بيمين الواحد منا، وخص اليمين ليكون أعلى وأفخم للمثل؛ لأنها أشرف اليدين وأقواهما والتي لا غناء للأخرى دونها؛ فلا يهش إنسان لشيء إلا بدأ بيمينه فهيأها لنيله، ومتى قصد جعل الشيء في جهة العناية جعل في اليد اليمنى،
ومتى قُصد خلاف ذلك جُعل في اليسرى، كما قال ابن ميَّادة:
ألم تك في يمنى يديك جعلتَني
…
فلا تجعلني بعدها في شمالكا1
أي: كنت مكرما عندك فلا تجعلني مهانا، وكنت في المكان الشريف منك فلا تحطني في المنزل الوضيع.
وكذا إذا قلت للمخلوق: "الأمر بيدك" أردت المثل؛ أي: الأمر كالشيء يحصل في يدك فلا يمتنع عليك. وكذا قوله تعالى: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} 2 قال الزمخشري: كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له: قل لقومك كذا وأَلْقِ الألواح وجُرّ برأس أخيك إليك، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء3. ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها كل ذي طبع سليم وذوق صحيح إلا لذلك، ولأنه من قبيل شعب البلاغة4، وإلا فما لقراءة معاوية بن قرة: "ولما سكن عن موسى الغضب"2 لا تجد النفس عندها شيئا من الهِزّة، وطرفا من تلك الروعة5.
وأما قولهم: "اعتصمتُ بحبله" فقال الزمخشري أيضا: يجوز أن يكون تمثيلا لاستظهاره به، ووثوقه بحمايته، بامتساك المتدلِّي من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن
انقطاعه، وأن يكون الحبل استعارة لعهده والاعتصام لوثوقه بالعهد، أو ترشيحا لاستعارة الحبل بما يناسبه1. وكذا قول الشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد
…
تلقّاها عرابة باليمين2
الشبه مأخوذ من مجموع التلقي واليمين، على حد قولهم:"تلقيته بكلتا اليدين"؛ ولهذا لا تصلح حيث يقصد التجوز فيها وحدها؛ فلا يقال: "هو عظيم اليمين" بمعنى عظيم القدرة، ولا:"عرفت يمينك على هذا" بمعنى: عرفت قدرتك عليه.
ومثله قول الآخر:
هون عليك؛ فإن الأمور
…
بكف الإله مقاديرها3
وكذا ما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: $"إن أحدكم إذا تصدق بالتمرة من الطَّيِّب -ولا يقبل الله إلا الطيب- جعل الله ذلك في كفه فيُربيها كما يُربي أحدكم فلوه4 حتى يبلغ بالتمرة مثل أحد"، والمعنى فيهما5 على انتزاع الشبه من المجموع.
وكل هذا6 يسمى التمثيل على سبيل الاستعارة، وقد يسمى التمثيل مطلقا،
ومتى فشا استعماله كذلك1 سمي مثلا؛ ولذا لا تغير الأمثال2.
ومما يُبْنَى على التمثيل نحو قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} 3 معناه: لمن كان له قلب ناظر فيما ينبغي أن ينظر فيه، واعٍ لما يجب وعيه، ولكن عدل عن هذه العبارة ونحوها إلى ما عليه التلاوة4 بقصد البناء على التمثيل؛ ليفيد ضربا من التخييل؛ وذلك أنه لما كان الإنسان حين لا ينتفع بقلبه، فلا ينظر فيما ينبغي أن ينظر فيه، ولا يفهم ولا يعي؛ جُعل كأنه قد عَدِم القلب جملة، كما جُعل من لا ينتفع بسمعه وبصره، فلا يفكر فيما يؤديان إليه، بمنزلة العادم لهما، ولزم على هذا ألا يقال:"فلان له قلب" إلا إذا كان ينتفع بقلبه فينظر فيما ينبغي أن ينظر فيه، ويعي ما يجب وعيه، فكان في قوله تعالى:{لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} تخييل أن من لم ينتفع بقلبه كالعادم للقلب جملة، بخلاف نحو قولنا:"لمن كان له قلب ناظر فيما ينبغي أن ينظر فيه، واعٍ لما يجب وعيه"5، وفي نظر الآية فائدة أخرى شريفة وهي تقليل
اللفظ مع تكثير المعنى. ونقل الشيخ عبد القاهر1 عن بعض المفسرين أنه قال: "المراد بالقلب العقل"، ثم شدّد عليه النكير في هذا التفسير، وقال:"وإن كان المرجع فيما ذكرناه عند التحصيل إلى ما ذكره، ولكن ذهب عليه أن الكلام مبني على تخييل أن من لا ينتفع بقلبه -فلا ينظر ولا يعي- بمنزلة من عَدِم قلبه جملة2، كما تقول في قول الرجل إذا قال: "قد غاب عني قلبي"، أو "ليس يحضرني قلبي": إنه يريد أن يخيل إلى السامع أنه غاب عنه قلبه بجملته، دون أن يريد الإخبار أن عقله لم يكن هناك، وإن كان المرجع عند التحصيل إلى ذلك، وكذا إذا قال: "لم أكن ههنا"، يريد غفلته عن الشيء، فهو يضع كلامه على التخييل".
هذا معنى كلام الشيخ، وهو حق؛ لأن المراد بالآية الحثّ على النظر، والتقريع على تركه، فإن أراد هذا المفسر بتفسيره أن المعنى: لمن كان له عقل مطلقا، فهو ظاهر الفساد3، وإن أراد أن المعنى: لمن كان له عقل ينتفع به ويُعمِله فيما خُلق له من النظر؛ فتفسير القلب بالعقل، ثم تقييد العقل بما قيده عَرِيّ عن الفائدة؛ لصحة وصف القلب بذلك4 بدليل قوله تعالى:{لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} 5.
واعلم أن المثل السائر لما كان فيه غرابة، استُعير لفظة المَثل للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة6. وهو في القرآن كثير كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ
كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} 1 أي: حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد نارا.
وكقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} 2 أي: الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة، وكقوله تعالى:{مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} 3 أي: صفتهم وشأنهم المتعجب منه4، وكقوله تعالى:{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} 5؛ أي: فيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة، ثم أخذ في بيان عجائبها6، إلى غير ذلك.
فصل: الاستعارة المكنية والتخييلية:
قد يضمر التشبيه في النفسن، فلا يصرح بشيء من أركانه سوى لفظ المشبه، ويُدَل عليه1 بأن يثبت للمشبه أمر مختص بالمشبه به، من غير أن يكون هناك أمر ثابت حسا أو عقلا أجري عليه اسم ذلك الأمر2، فيسمى التشبيه استعارة بالكناية، أو مكنيا منها، وإثبات ذلك الأمر للمشبه استعارة تخييلية3.
والعَلَم 4 في ذلك قول لبيد:
وغداة ريح قد كشفت وقِرَّة
…
إذ أصبحت بيد الشَّمال زمامها5
فإنه جعل للشمال يدا، ومعلوم أنه ليس هناك أمر ثابت حسا أو عقلا تجري اليد عليه؛ كإجراء الأسد على الرجل الشجاع، والصراط على ملة الإسلام فيما سبق1، ولكن لما شبه الشمال لتصريفها القرة -على حكم طبيعتها في التصريف- بالإنسان المصرِّف لما زمامه بيده؛ أثبت لها يدا على سبيل التخييل مبالغة في تشبيهها به، وحكم الزمام في استعارته للقرة2 حكم اليد في استعارتها للشمال، فجعل للقرة زماما ليكون أتم في إثباتها مُصَرَّفة، كما جعل للشمال يدا ليكون أبلغ في إثباتها مصرفة، فوفّى المبالغة حقها من الطرفين؛ فالضمير في "أصبحت" و"زمامها" للقرة، وهو قول الزمخشري، والشيخ عبد القاهر جعله للغداة3، والأول أظهر.
واعلم أن الأمر المختص بالمشبه به المثبت للمشبه، منه ما لا يكمل وجه الشبه في المشبه به بدونه، كما في قول أبي ذؤيب الهذلي:
وإذا المنية أنشبت أظفارها
…
ألفيتَ كل تميمة لا تنفع4
فإنه شبه المنية بالسبع في اغتيال النفوس بالقهر والغلبة، من غير تفرقة بين نفّاع وضرّار ولا رقة لمرحوم، ولا بُقْيا على ذي فضيلة، فأثبت للمنية الأظفار التي لا يكمل ذلك في السبع بدونها؛ تحقيقا للمبالغة في التشبيه5.
ومنه ما به يكون قوام وجه الشبه في المشبه به، كما في قول الآخر:
ولئن نطقت بشكر برك مفصحا
…
فلسان حالي بالشكاية أنطق1
فإنه شبه الحال الدالة على المقصود بإنسان متكلم في الدلالة؛ فأثبت لها اللسان الذي به قوام الدلالة في الإنسان2.
وأما قول زهير:
صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله
…
وعُرِّيَ أفراس الصِّبا ورواحله3
فيحتمل أن يكون استعارة تخييلية، وأن يكون استعارة تحقيقية؛ أما التخييل فأن يكون أراد أن يبين أنه ترك ما كان يرتكبه أوان المحبة من الجهل والغي، وأعرض عن معاودته؛ فتعطلت آلاته كأي أمر وطّنْتَ النفس على تركه؛ فإنه تهمل آلاته فتتعطل، فشبه الصبا بجهة من جهات المسير -كالحج والتجارة- قُضي منها الوطر فأُهملت آلاتها، فتعطلت4، فأثبت له الأفراس والرواحل5؛ فالصبا على هذا من الصبوة بمعنى الميل إلى الجهل والفتوّة، لا بمعنى الفتاء6. وأما التحقيق فأن يكون أراد بالأفراس والرواحل دواعي النفوس وشهواتها، والقوى الحاصلة لها في استيفاء اللذات، أو الأسباب التي قلّما تتآخذ في اتباع الغي إلا أوان الصبا7.
فصل: اعتراضات على السكاكي
اعلم أن كلام السكاكي في هذا الباب -أعني: باب الحقيقة والمجاز والفصل الذي يليه- مخالف لمواضع مما ذكرنا؛ فلا بد من التعرض لها، ولبيان ما فيها.
اعتراض عليه في تعريف الحقيقة والمجاز:
منها أنه عرف الحقيقة اللغوية بالكلمة المستعملة فيما هي موضوعة له من غير تأويل في الوضع2، وقال:"إنما ذكرت هذا القيد يعني قوله: "من غير تأويل في الوضع" ليُحترَز به عن الاستعارة؛ ففي الاستعارة تُعَد الكلمة مستعملة فيما هي موضوعة له على أصح القولين3، ولا نسميها حقيقة، بل نسميها مجازا لغويا؛ لبناء
دعوى المستعار موضوعا للمستعار له على ضرب من التأويل كما مر"1.
ثم عرّف المجاز اللغوي بالكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق استعمالا في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها2 مع قرينة مانعة عن إرادة معناها في ذلك النوع3، وقال: قولي "بالتحقيق" احتراز عن ألا تخرج الاستعارة4 التي هي من باب المجاز، نظرا إلى دعوى استعمالها فيما هي موضوعة له على ما مر. وقوله:"استعمالا في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها" بمنزلة قولنا في تعريف المجاز: "في اصطلاح به التخاطب" على ما مر، وقوله: "مع قرينة
…
إلخ" احتراز عن الكناية كما تقدم.
وفيهما نظر؛ لأن لفظ الوضع وما يشتق منه إذا أُطلق لا يُفهَم منه الوضع بتأويل، وإنما يفهم منه الوضع بالتحقيق؛ لما سبق من تفسير الوضع، فلا حاجة إلى تقييد الوضع في تعريف الحقيقة بعدم التأويل، وفي تعريف المجاز بالتحقيق، اللهم إلا أن يراد زيادة البيان لا تتميم الحد، ثم تقييد الوضع باصطلاح التخاطب ونحوه إذا كان لا بد منه في تعريف المجاز؛ ليدخل فيه نحو لفظ "الصلاة" إذا استعملها المخاطِب بعرف الشرع في الدعاء مجازا، فلا بد منه في تعريف الحقيقة أيضا؛ ليخرج نحو هذا اللفظ منه كما سبق، وقد أهمله في تعريفها.
لا يقال: قوله في تعريفها: "من غير تأويل في الوضع" أغنى عن هذا القيد؛ فإن استعمال اللفظ فيما وُضع له في غير اصطلاح التخاطب إنما يكون بتأويل في وضعه؛ لأن التأويل5 في الوضع يكون في الاستعارة على أحد القولين6 دون سائر أقسام المجاز7؛ ولذلك قال: "وإنما ذكرت هذا القيد ليحترز به عن الاستعارة". ثم تعريفه للمجاز يدخل فيه الغلط كما تقدم8.
الاعتراض عليه في جعل التمثيل من المجاز المفرد:
ومنها أنه قسّم المجاز إلى الاستعارة وغيرها1، وعرّف الاستعارة بأن تذكر أحد طرفي التشبيه وتريد به الطرف الآخر، مدعيا دخول المشبه في جنس المشبه به2، وقسّم الاستعارة إلى المصرح بها، والمكني عنها، وعنَى بالمصرح بها أن يكون المذكور من طرفي التشبيه هو المشبه به3، وجعلها ثلاثة أضرب: تحقيقية، وتخييلية، ومحتملة للتحقيق والتخييل4.
وفسر التحقيقية بما مر5، وعد التمثيل على سبيل الاستعارة منها.
وفيه نظر؛ لأن التمثيل على سبيل الاستعارة لا يكون إلا مركبا كما سبق، فكيف يكون قسما من المجاز المفرد؟! ولو لم يقيِّد الاستعارة بالإفراد وعرّفها بالمجاز الذي أريد به ما شُبِّه بمعناه الأصلي مبالغة في التشبيه، دخل كل من التحقيقية والتمثيل في تعريف الاستعارة6.
الاعتراض على السكاكي في تعريف التخييلية:
ومنها أنه فسر التخييلية بما استُعمل في صورة وهمية محضة قدّرت مشابهة لصورة محققة هي معناه، كلفظ "الأظفار" في قول الهذلي1؛ فإنه لما شبّه المنية بالسبع في الاغتيال على ما تقدم، أخذ الوهم في تصويرها بصورته، واختراع مثل ما يلائم صورته ويتم به شكله لها من الهيئات والجوارح، وعلى الخصوص ما يكون قوام اغتياله للنفوس به؛ فاخترع للمنية صورة مشابهة لصورة الأظفار المحققة، فأطلق عليها اسمها2.
وفيه نظر؛ لأن تفسير التخييلية بما ذكره بعيد؛ لما فيه من التعسف3، وأيضا فظاهر تفسير غيره لها بقولهم:"جعل الشيء للشيء كجعل لبيد4 للشمال يدا" يخالفه؛ لاقتضاء تفسيره أن يجعل للشمال صورة متوهمة مثل صورة اليد، لا أن يجعل لها يدا؛ فإطلاق اسم اليد على تفسيره استعارة، وعلى تفسير غيره حقيقة، والاستعارة إثباتها للشمال، كما قلنا في المجاز العقلي الذي فيه المسند حقيقة
لغوية1 وأيضا فيلزمه أن يقول بمثل ذلك -أعني بإثبات صورة متوهَّمة- في ترشيح الاستعارة2؛ لأن كل واحد من التخييلية والترشيح فيه إثبات بعض لوازم المشبه به المختصة به للمشبه، غير أن التعبير عن المشبه في التخييلية بلفظه الموضوع له، وفي الترشيح بغير لفظه3، وهذا لا يفيد فرقا، والقول بهذا يقتضي أن يكون الترشيح ضربا من التخييلية، وليس كذلك4. وأيضا فتفسيره للتخييلية أعم من أن تكون تابعة للاستعارة بالكناية، كما في بيت الهذلي5، أو غير تابعة بأن يتخيل ابتداء صورة وهمية مشابهة لصورة محققة، فيستعار لها اسم الصورة المحققة، والثانية بعيدة جدا، ويدل على إرادته دخول الثانية في تفسير التخييلية أنه قال6: "حسنها بحسب حسن المكنيّ عنها متى كانت تابعة لها، كما في قولك: "فلان بين أنياب المنية ومخالبها" وقلما تحسن الحسن البليغ غير تابعة لها؛ ولذلك استُهجنت في قول الطائي:
لا تسقني ماء الملام فإنني
…
صَبّ قد استعذبت ماء بكائي7
فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يريد بغير التابعة للمكني عنها التابعة لغير المكني عنها؟ قلنا: غير المكني عنها هي المصرح بها؛ فتكون التابعة لها ترشيح الاستعارة، وهو من أحسن وجوه البلاغة، فكيف يصح استهجانه؟ ".
وأما قول أبي تمام فليس له فيه دليل؛ لجواز أن يكون أبو تمام شبه الملام بظَرْف الشراب؛ لاشتماله على ما يكرهه الملوم، كما أن الظرف قد يشتمل على ما يكرهه الشارب؛ لبشاعته أو مرارته؛ فتكون التخييلية في قوله تابعة للمكني عنها، أو بالماء نفسه1؛ لأن اللوم قد يسكن حرارة الغرام كما أن الماء يسكن غليل الأُوام، فيكون تشبيها على حد "لُجَيْن الماء" فيما مر2، لا استعارة. والاستهجان على الوجهين3؛ لأنه كان ينبغي له أن يشبهه بظرف شراب مكروه، أو بشراب مكروه4؛ ولهذا لم يُستهجَن نحو قولهم:"أغلظت لفلان القول، وجرّعته منه كأسا مُرَّة، أو سقيته أمرّ من العلقم"5.
الاعتراض عليه في تعريف المكنية:
ومنها أنه عنى بالاستعارة المكني عنها أن يكون المذكور من طرفي التشبيه هو المشبه1، على أن المراد بالمنية في قول الهذلي2 السبع، بادعاء السَّبُعية لها، وإنكار أن تكون شيئا غير السبع، بقرينة إضافة الأظفار إليها3.
وفيه نظر؛ للقطع بأن المراد بالمنية في البيت هو الموت لا الحيوان المفترس، فهو مستعمل فيما هو موضوع له على التحقيق، وكذا كل ما هو نحوه، ولا شيء من الاستعارات مستعملا كذلك، وأما ما ذكره في تفسير قوله:"من أنّا ندعي ههنا أن اسم المنية اسم للسبع، مرادف للفظ السبع بارتكاب تأول، وهو أن ندخل المنية في جنس السبع للمبالغة في التشبيه، ثم نذهب على سبيل التخييل إلى أن الواضع كيف يصح منه أن يضع اسمين لحقيقة واحدة ولا يكونا مترادفين، فيتهيأ لنا بهذا الطريق دعوى السبعية للمنية مع التصريح4 بلفظ المنية" فلا يفيده؛ لأن ذلك لا يقتضي كون اسم المنية غير مستعمل فيما هو موضوع له على التحقيق من غير تأويل، فيدخل في تعريفه للحقيقة، ويخرج من تعريفه للمجاز5، وكأنه -لما رأى علماء البيان يطلقون لفظ الاستعارة على نحو ما نحن فيه6 وعلى أحد نوعي المجاز اللغوي- الذي هو اللفظ المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي7 -ويقولون: الاستعارة تنافي ذكر طرفي التشبيه- ظن أن مرادهم بلفظ "الاستعارة" عند الإطلاق وفي قولهم: "استعارة بالكناية" معنى واحد8، فبنَى على ذلك ما تقدم9.
الاعتراض على السكاكي في ردّ التبعية إلى المكنية:
ومنها أنه قال في آخر فصل الاستعارة التبعية:
"هذا ما أمكن من تلخيص كلام الأصحاب في هذا الفصل، ولو أنهم جعلوا قسم الاستعارة التبعية من قسم الاستعارة بالكناية، بأن قلَبوا فجعلوا -في قولهم: "نطقت الحال بكذا"- الحال -التي ذكرُها عندهم قرينة الاستعارة بالتصريح1- استعارة بالكناية عن المتكلم بوساطة المبالغة في التشبيه على مقتضى المقام، وجعلوا نسبة النطق إليه قرينة الاستعارة، كما تراهم في قوله:
وإذا المنية أنشبت أظفارها2
يجعلون المنية استعارة بالكناية عن السبع، ويجعلون إثبات الأظفار لها قرينة الاستعارة. وهكذا لو جعلوا البخل3 استعارة بالكناية عن حي أُبطلتْ حياته بسيف أو غير سيف، فالتحق بالعدم، وجعلوا نسبة القتل إليه قرينة الاستعارة، ولو
جعلوا أيضا اللَّهْذَميات1 استعارة بالكناية عن المطعومات اللطيفة الشهية على سبيل التهكم، وجعلوا نسبة لفظ "القِرَى" إليها قرينة الاستعارة، لكان أقرب إلى الضبط"2 هذا لفظه3.
وفيه نظر؛ لأن التبعية التي جعلها قرينة لقرينتها التي جعلها استعارة بالكناية؛ كـ "نطقتْ" في قولنا: "نطقت الحال بكذا" لا يجوز أن يقدرها حقيقةً حينئذ؛ لأنه لو قدرها حقيقة لم تكن استعارة تخييلية؛ لأن الاستعارة التخييلية عنده مجاز كما مر، ولو لم تكن تخييلية لم تكن الاستعارة بالكناية مستلزمة للتخييلية؛ واللازم باطل بالاتفاق4؛ فيتعين أن يقدرها مجازا، وإذا قدرها مجازا لزمه أن يقدرها من قبيل الاستعارة؛ لكون العلاقة بين المعنيين هي المشابهة، فلا يكون ما ذهب إليه مغنيا عن قسمه الاستعارة إلى أصلية وتبعية، ولكن يستفاد مما ذكر رد التركيب في التبعية5 إلى تركيب الاستعارة بالكناية على ما فسرناها6، وتصير التبعية حقيقة واستعارة تخييلية؛ لما سبق أن التخييلية -على ما فسرناها7- حقيقة لا مجاز.
فصل: شروط حسن الاستعارة
وإذا قد عرفتَ معنى الاستعارة التحقيقية، والاستعارة التخييلية، والاستعارة بالكناية، والتمثيل على سبيل الاستعارة؛ فاعلم أن لحسنها شروطا إن لم تصادفها عريت عن الحسن، وربما تكتسب قبحا. وهي في كل من التحقيقية والتمثيل1: رعاية ما سبق ذكره من جهات حسن التشبيه2، وأن لا يشم من جهة اللفظ رائحته3؛ ولذلك يوصى فيه أن يكون الشبه بين طرفيها جليا بنفسه أو عرف أو
غيره1، وإلا صار تعمية وإلغازا، لا استعارة وتمثيلا، كما إذا قيل:"رأيت أسدا" وأُريد إنسان أبخر، وكما إذا قيل:"رأيت إبلا مائة لا تجد فيها راحلة" وأُريد الناس2، أو قيل:"رأيت عودا مستقيما أوان الغرس" وأريد إنسان مؤدب في صباه، وبهذا ظهر أنهما لا يجيئان في كل ما يجيء فيه التشبيه.
ومما يتصل بهذا3 أنه إذا قَوِي الشبه بين الطرفين بحيث صار الفرع كأنه الأصل لم يحسن التشبيه وتعيّنت الاستعارة4، وذلك كالنور إذا شُبِّه العلم به، والظلمة إذا شبهت الشبهة بها؛ فإنه لذلك يقول الرجل إذا فهم المسألة:"حصل في قلبي نور"، ولا يقول:"كأن نورا حصل في قلبي"5، ويقول لمن أوقعه في شبهة:"أوقعتني في ظلمة" ولا يقول: "كأنك أوقعتني في ظلمة".
وكذا المكني عنها حسنها برعاية جهات حسن التشبيه6.
وأما التخييلية فحسنها بحسب حسن المكنيّ عنها؛ لما بيّنّا أنها لا تكون إلا تابعة لها.
فصل: المجاز بالحذف والزيادة
واعلم أن الكلمة كما توصف بالمجاز لنقلها عن معناها الأصلي كما مضى؛ تُوصَف به أيضا لنقلها عن إعرابها الأصلي إلى غيره لحذف لفظ أو زيادة لفظ؛ أما الحذف فكقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} 1 أي: أهل القرية2؛ فإعراب القرية في الأصل هو الجر، فحذف المضاف وأعطي المضاف إليه إعرابه، ونحوه قوله تعالى:{وَجَاءَ رَبُّكَ} 3 أي: أمر ربك4. وكذا قولهم: "بنو فلان يطؤهم الطريق" أي: أهل الطريق.
وأما الزيادة: فكقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} 5 على القول بزيادة الكاف6، أي: ليس مثله شيء؛ فإعراب "مثله" في الأصل هو النصب، فزِيدت الكاف فصار جرا.
فإن كان الحذف أو الزيادة لا يوجب تغيير الإعراب كما في قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} 7 إذ أصله: أو كمثل ذوي صيِّب، فحذف "ذوي" لدلالة {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} عليه، وحذف "مثل" لما دل عليه عطفه على قوله:{كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} ؛ إذ لا يخفى أن التشبيه ليس بين صفة المنافقين العجيبة الشأن وذوات ذوي صيب8، وكقوله تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} 9، وقوله تعالى:{لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} 10، فلا توصف الكلمة بالمجاز.
إنكار المجاز بالحذف والزيادة:
وقد بالغ الشيخ عبد القاهر في النكير على من أطلق القول بوصف الكلمة بالمجاز للحذف أو الزيادة1.