الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تقسيم السكاكي للبلاغة:
البلاغة والفصاحة عند السكاكي
وذكر السكاكي1 بعد الفراغ منه2 تفسير البلاغة بما نقلناه عنه في صدر الكتاب3، ثم قسم الفصاحة إلى: معنوية ولفظية.
وفسر المعنوية بخلوص المعنى عن التعقيد، وعَنَى بالتعقيد اللفظي على ما سبق تفسيره4. وفسر اللفظية بأن تكون الكلمة عربية أصلية، وقال: "وعلامة ذلك أن تكون على ألسنة الفصحاء الموثوق بعربيتهم أَدْوَر، واستعمالهم لها أكثر، لا مما أحدثه المولدون، ولا مما أخطأت فيه العامة، وأن تكون أجرى على قوانين اللغة، وأن تكون سليمة عن التنافر".
فجعل الفصاحة غير لازمة للبلاغة5، وحصر مرجع البلاغة في الفنين6، ولم يجعل الفصاحة مرجعا لشيء منهما7.
ثم قال: "وإذ قد وقفت على البلاغة والفصاحة المعنوية واللفظية، فأنا أذكر على سبيل الأنموذج آية أكشف لك فيها عن وجوه البلاغة والفصاحتين ما عسى يسترها عنك"، وذكر ما أورده الزمخشري في تفسير قوله تعالى:{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} 1، وزاد عليه نكتا لا بأس بها، فرأيت أن أورد تلخيص ما ذكره، جاريا على اصطلاحه في معنى البلاغة والفصاحة:
قال: أما النظر فيها من جهة علم البيان فهو أنه -تعالى- لما أراد أن يبيِّن معنى أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع، وأن يغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن يقضى أمر نوح -وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه- فقُضي، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى؛ بنى الكلام على تشبيه المراد منه2 بالمأمور الذي لا يتأتى منه -لكمال هيبته- العصيان، وتشبيه تكوين المراد3 بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود، تصويرا لاقتداره تعالى، وأن السموات والأرض وهذه الأجرام العظام تابعة لإرادته، كأنهم عقلاء مميزون قد عرفوه حق معرفته، وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره، وتحتم بذل المجهود عليهم في تحصيل مراده، ثم بنى على تشبيهه هذا نظم الكلام؛ فقال تعالى:{وَقِيلَ} على سبيل المجاز عن الإرادة الواقع بسببها قول القائل4، وجعل قرينة المجاز خطاب الجماد، وهو: يا أرض ويا سماء، ثم قال:{يَا أَرْضُ} و {وَيَا سَمَاءُ} ، مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه
المذكور1. ثم استعار لغَوْر الماء في الأرض البلع الذي هو إعمال الجاذبة في المطعوم بجامع الذهاب إلى مقر خفي2، واستتبع ذلك تشبيه الماء بالغذاء على طريق الاستعارة بالكناية؛ لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزرع والأشجار، وجعل قرينة الاستعارة لفظ "ابلعي"3؛ لكونه موضوعا للاستعمال في الغذاء دون الماء، ثم أمر على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره4، ثم قال: "ماءك" بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز؛ تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك، واستعار لحبس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل؛ للشبه بينهما في عدم ما كان، وخاطب في الأمرين5 ترشيحا للاستعارة، ثم قال: " {وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} فلم يصرح بالغائض والقاضي والمسوي والقائل، كما لم يصرح بقائل {يَا أَرْضُ} و {وَيَا سَمَاءُ} سلوكا في كل واحد من ذلك سبيل الكناية أن تلك الأمور العظام6 لا تتأتى إلا من ذي قدرة لا تُكتنه، قهار لا يُغالَب؛ فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون الفاعل لشيء من ذلك غيره. ثم ختم الكلام بالتعريض لسالكي مسلكهم في تكذيب الرسل7 -ظلما
لأنفسهم- ختْم إظهار لمكان السخط، ولجهة استحقاقهم إياه1.
وأما النظر فيها من حيث علم المعاني -وهو النظر في فائدة كل كلمة فيها، وجهة كل تقديم وتأخير بين جملها- فذلك أنه اختير "يا" دون سائر أخواتها؛ لكونها أكثر استعمالا، ولدلالتها على بعد المنادَى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة، ويؤذن بالتهاون به، ولم يقل: يا أرض بالكسر؛ تجنبا لإضافته التشريف تأكيدا للتهاون. ولم يقل: "يا أيتها الأرض" للاختصار مع الاحتراز عما في "أيتها" من تكلف التنبيه غير المناسب للمقام؛ لكون المخاطَب غير صالح للتنبيه على الحقيقة2. واختير لفظ "أرض" دون سائر أسمائها؛ لكونه أخف وأدور، واختير لفظ السماء لمثل ذلك مع قصد المطابقة3. واختير {ابْلَعِي} على "ابتلعي" لكونه أخصر، ولمجيء حظ التجانس بينه وبين {أَقْلِعِي} أوفر4، وقيل:{مَاءَكِ} بالإفراد دون الجمع؛ لدلالة الجمع على الاستكثار الذي يأباه مقام إظهار الكبرياء، وهو الوجه في إفراد الأرض والسماء، ولم يحذف مفعول {ابْلَعِي} لئلا يفهم ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وغيرها، نظرا إلى مقام ورود الأمر الذي هو مقام عظمة وكبرياء، ثم إذ بيّن المراد اختصر الكلام على {أَقْلِعِي} فلم يقل:"أقلعي عن إرسال الماء" احترازا عن الحشو المستغنَى عنه من حيث الظاهر5 وهو الوجه في أنه لم يقل: "يا أرض ابلعي ماءك فبلعتْ، ويا سماء أقلعي فأقلعتْ".
واختير {وَغِيضَ الْمَاءُ} على "غُيِّض" المشددة؛ لكونه أخصر وأخف وأوفق
لـ "قيل"1، وقيل:{الْمَاءُ} دون أن يقال: "ماء طوفان السماء"، وكذا {الْأَمْرُ} دون أن يقال:"أمر نوح" للاختصار، ولم يقل:"سُوِّيتْ على الجودي" بمعنى أُقِرَّت على نحو: "قِيل وغِيض وقُضي" في بناء الفعل للمفعول؛ اعتبارا لبناء الفعل للفاعل مع السفينة في قوله: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ} مع قصد الاختصار2. ثم قيل: {بُعْدًا لِلْقَوْمِ} دون أن يقال: "ليبعد القوم" طلبا للتوكيد مع الاختصار، وهو نزول {بُعْدًا} منزلة "ليبعدوا بعدا" مع إفادة أخرى وهي استعمال اللام3 مع "بعدا" الدال على معنى أن البعد حق لهم، ثم أُطلق الظلم ليتناول كل نوع حتى يدخل فيه ظلمهم لأنفسهم بتكذيب الرسل.
هذا من حيث النظر إلى الكَلِم4، وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل؛ فذلك أنه قدم النداء على الأمر فقيل:"يا أرض ابلعي ويا سماء أقلعي" دون أن يقال: "ابلعي يا أرض وأقلعي يا سماء" جريا على مقتضى اللازم فيمن كان مأمورا حقيقة من تقديم التنبيه؛ ليتمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى قصدا بذلك لمعنى الترشيح5، ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء لابتداء الطوفان منها ونزولها لذلك في القصة منزلة الأصل، ثم أتبعها قوله:{وَغِيضَ الْمَاءُ} لاتصاله بقصة الماء، ثم أتبعه ما هو المقصود من القصة وهو قوله:{وَقُضِيَ الْأَمْرُ} أي: أنجز الوعد من إهلاك الكفرة وإنجاء نوح ومن معه في السفينة، ثم أتبعه حديث السفينة، ثم ختمت القصة بما خُتمت.
هذا كله نظر في الآية من جانب البلاغة، وأما النظر فيها من جانب الفصاحة
المعنوية فهي -كما ترى- نَظْم للمعاني لطيف، وتأدية لها ملخّصة مبينة، لا تعقيد يُعْثِر الفكر في طلب المراد، ولا التواء يُشيك الطريق إلى المرتاد، بل ألفاظها تُسابق معانيها، ومعانيها تُسابق ألفاظها.
وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية؛ فألفاظها على ما ترى عربية مستعملة، جارية على قوانين اللغة، سليمة عن التنافر، بعيدة عن البشاعة، عذبة على العذَبات1، سَلِسَة على الأسَلات2، كل منها كالماء في السلاسة، وكالعسل في الحلاوة، وكالنسيم في الرقة، والله أعلم.