الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1-
المطلوب بها غير صفة ولا نسبة:
الأولى: المطلوب بها غير صفة ولا نسبة1: فمنها ما هو معنى واحد؛ كقولنا: "المضياف" كناية عن زيد، ومنه قوله كناية عن القلب:
الضاربين بكل أبيض مِخْذَم
…
والطاعنين مجامع الأضغان2
ونحوه قول البحتري في قصيدته التي يذكر فيها قتله الذئب:
فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها
…
بحيث يكون اللب والرعب والحقد3
فقوله: "بحيث يكون اللب والرعب والحقد" ثلاث كنايات لا كناية واحدة؛ لاستقلال كل واحد منها بإفادة المقصود4.
ومنها: ما هو مجموع معانٍ؛ كقولنا كناية عن الإنسان: "حي مستوي القامة، عريض الأظفار"5.
وشرط كل واحدة منهما1 أن تكون مختصّة بالمكنيّ عنه لا تتعدّاه؛ ليحصل الانتقال منها إليه.
وجعل السكاكي الأولى قريبة، والثانية بعيدة2، وفيه نظر3.
2-
المطلوب بها صفة:
الثاني: المطلوب بها صفة4؛ وهي ضربان: قريبة، وبعيدة.
القريبة: ما يُنتقَل منها إلى المطلوب بها، لا بواسطة.
وهي إما واضحة؛ كقولهم كنايةً عن طويل القامة: "طويل نجاده، وطويل النجاد" والفرق بينهما أن الأول كناية ساذجة، والثاني كناية مشتملة على تصريح ما؛ لتضمن الصفة فيه ضمير الموصوف، بخلاف الأول5. ومنها قول الحماسي:
أَبَتِ الرَّوَادِف والثُّدِيّ لقُمْصها
…
مَسَّ البطون وأن تمس ظُهُورا1
وإما خفية: كقولهم كناية عن الأبله: "عريض القفا" فإن عرض القفا وعظم الرأس إذا أفرط -فيما يقال- دليل الغباوة2؛ ألا ترى إلى قول طرفة بن العبد:
أنا الرجل الضَّرْب الذي تعرفونه
…
خَشاش كرأس الحية المتوقد3
والبعيدة: ما يُنتقَل منها إلى المطلوب بها بواسطة؛ كقولهم كناية عن الأبله: "عريض الوسادة" فإنه ينتقل من عرض الوسادة إلى عرض القفا، ومنه إلى المقصود. وقد جعله السكاكي من القريبة على أنه كناية عن عرض القفا، وفيه نظر4.
وكقولهم: "كثير الرماد" كناية عن المضياف، فإنه ينتقل من كثرة الرماد إلى كثرة إحراق الحطب تحت القُدُور، ومنها إلى كثرة الطبائخ، ومنها إلى كثرة الأَكَلَة، ومنها إلى كثرة الضِّيفان، ومنها إلى المقصود.
وكقوله:
وما يَكُ فيّ من عيب فإني
…
جبان الكلب مهزول الفصيل1
فإنه ينتقل من جبن الكلب عن الهرير في وجه من يدنو من دار من هو بمرصد لأن يعسّ دونها؛ مع كون الهرير في وجه من لا يعرفه طبيعيا له، إلى استمرار تأديبه؛ لأن الأمور الطبيعية لا تتغير بموجب لا يقوى، ومن ذلك إلى استمرار موجب نباحه وهو اتصال مشاهدته وجوها إثر وجوه، ومن ذلك إلى كونه مقصد أدان وأقاص، ومن ذلك إلى أنه مشهور بحسن قِرَى الأضياف. وكذلك ينتقل من هزال الفصيل إلى فقد الأم، ومنه إلى قوة الداعي إلى نحرها؛ لكمال عناية العرب بالنوق لا سيما المُتلِيات، ومنها إلى صرفها إلى الطبائخ، ومنها إلى أنه مضياف. ومن هذا النوع قول نُصيب:
لعبد العزيز على قومه
…
وغيرهم مِنَن من ظاهره2
فبابك أسهل أبوابهم
…
ودارك مأهولة عامره3
وكلبك آنَس بالزائرين
…
من الأم بالابنة الزائره
فإنه ينتقل من وصف كلبه بما ذكر، إلى أن الزائرين معارف عنده، ومن ذلك إلى اتصال مشاهدته إياهم ليلا ونهارا، ومنه إلى لزومهم سدته، ومنه إلى تسني مباغيهم لديه من غير انقطاع، ومنه إلى وفور إحسانه إلى الخاص والعام، وهو المقصود.
ونظيره مع زيادة لطف قول الآخر:
يكاد إذا ما أبصر الضيف مقبلا
…
يكلمه من حبه وهو أعجم4
ومنه قوله:
لا أُمتِع العوذ بالفِصَال ولا
…
أبتاع إلا قريبة الأجل1
فإنه ينتقل من عدم إمتاعها إلى أنه لا يُبقي لها فصالها لتأنس بها، ويحصل لها الفرح الطبيعي بالنظر إليها، ومن ذلك إلى نحرها، أو لا يُبقي العوذ إبقاء على فصالها2، وكذا قرب الأجل ينتقل منه إلى نحرها، ومن نحرها إلى أنه مضياف.
ومن لطيف هذا القسم3 قوله تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} 4؛ أي: ولما اشتدّ ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل؛ لأن من شأن من اشتدّ ندمه وحسرته أن يعضّ يده غما، فتصير يده مسقوطا فيها؛ لأن فاه قد وقع فيها.
وكذا قول أبي الطيب كناية عن الكذب:
تشتكي ما اشتكيتُ من ألم الشو
…
ق إليها والشوق حيث النحول5
وكذا قوله:
إلى كم تَرُدّ الرُّسْل عما أتوا له
…
كأنهم فيما وهبتَ مَلام6
فإن أوله كناية عن الشجاعة، وآخره كناية عن السماحة.
وكذا قول أبي تمام:
فإن أنا لم يحمدك عني صاغرا
…
عدوك، فاعلم أنني غير حامد1
يريد بحمده عنه حفظه مدحه فيه وإنشاده، أي: إن لم أكن أجيد القول في مدحك حتى يدعو حسنه عدوك أن يحفظه ويلهج به صاغرا؛ فلا تَعُدني حامدا لك بما أقول فيك. ووصفه بالصَّغار؛ لأن من يحفظ مديح عدوه وينشده فقد أذل نفسه، فكنى بحفظ عدو الممدوح مدحه له عن إجادته القول في مدحه2.
وكذا قول من يصف راعي إبل أو غنم:
ضعيف العصا بادي العروق ترى له
…
عليها إذا ما أجدب الناس إصبعا3
وقول الآخر:
صلب العصا بالضرب قد دَمَّاها4
أي: جعلها كالدُّمى في الحسن.
والغرض5 من قول الأول: "ضعيف العصا" وقول الثاني: "صلب العصا" -وهما وإن كانا في الظاهر متضادين- فإنهما كنايتان عن شيء واحد، وهو حسن الرعية والعمل بما يصلحها ويحسن أثره عليها، فأراد الأول أنه رفيق بها مشفق عليها، لا يقصد من حمل العصا أن يوجعها بالضرب من غير فائدة، فهو يتخير ما لان من العصا، وأراد الثاني أنه جيد الضبط لها، عارف بسياستها في الرعي، يزجرها عن المراعي التي لا تُحمَد ويتوخى بها ما تسمن عليه، ويتضمن أيضا أنه يمنعها عن التشرد والتبدد، وأنها -لما عرفت من شدة شكيمته وقوة عزيمته- تنساق في الجهة التي يريدها، وقوله:"بالضرب قد دماها" تورية حسنة6، ويؤكد أمرها قوله:"صلب العصا".