الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل: الاستعارة المكنية والتخييلية:
قد يضمر التشبيه في النفسن، فلا يصرح بشيء من أركانه سوى لفظ المشبه، ويُدَل عليه1 بأن يثبت للمشبه أمر مختص بالمشبه به، من غير أن يكون هناك أمر ثابت حسا أو عقلا أجري عليه اسم ذلك الأمر2، فيسمى التشبيه استعارة بالكناية، أو مكنيا منها، وإثبات ذلك الأمر للمشبه استعارة تخييلية3.
والعَلَم 4 في ذلك قول لبيد:
وغداة ريح قد كشفت وقِرَّة
…
إذ أصبحت بيد الشَّمال زمامها5
فإنه جعل للشمال يدا، ومعلوم أنه ليس هناك أمر ثابت حسا أو عقلا تجري اليد عليه؛ كإجراء الأسد على الرجل الشجاع، والصراط على ملة الإسلام فيما سبق1، ولكن لما شبه الشمال لتصريفها القرة -على حكم طبيعتها في التصريف- بالإنسان المصرِّف لما زمامه بيده؛ أثبت لها يدا على سبيل التخييل مبالغة في تشبيهها به، وحكم الزمام في استعارته للقرة2 حكم اليد في استعارتها للشمال، فجعل للقرة زماما ليكون أتم في إثباتها مُصَرَّفة، كما جعل للشمال يدا ليكون أبلغ في إثباتها مصرفة، فوفّى المبالغة حقها من الطرفين؛ فالضمير في "أصبحت" و"زمامها" للقرة، وهو قول الزمخشري، والشيخ عبد القاهر جعله للغداة3، والأول أظهر.
واعلم أن الأمر المختص بالمشبه به المثبت للمشبه، منه ما لا يكمل وجه الشبه في المشبه به بدونه، كما في قول أبي ذؤيب الهذلي:
وإذا المنية أنشبت أظفارها
…
ألفيتَ كل تميمة لا تنفع4
فإنه شبه المنية بالسبع في اغتيال النفوس بالقهر والغلبة، من غير تفرقة بين نفّاع وضرّار ولا رقة لمرحوم، ولا بُقْيا على ذي فضيلة، فأثبت للمنية الأظفار التي لا يكمل ذلك في السبع بدونها؛ تحقيقا للمبالغة في التشبيه5.
ومنه ما به يكون قوام وجه الشبه في المشبه به، كما في قول الآخر:
ولئن نطقت بشكر برك مفصحا
…
فلسان حالي بالشكاية أنطق1
فإنه شبه الحال الدالة على المقصود بإنسان متكلم في الدلالة؛ فأثبت لها اللسان الذي به قوام الدلالة في الإنسان2.
وأما قول زهير:
صحا القلب عن سلمى وأقصر باطله
…
وعُرِّيَ أفراس الصِّبا ورواحله3
فيحتمل أن يكون استعارة تخييلية، وأن يكون استعارة تحقيقية؛ أما التخييل فأن يكون أراد أن يبين أنه ترك ما كان يرتكبه أوان المحبة من الجهل والغي، وأعرض عن معاودته؛ فتعطلت آلاته كأي أمر وطّنْتَ النفس على تركه؛ فإنه تهمل آلاته فتتعطل، فشبه الصبا بجهة من جهات المسير -كالحج والتجارة- قُضي منها الوطر فأُهملت آلاتها، فتعطلت4، فأثبت له الأفراس والرواحل5؛ فالصبا على هذا من الصبوة بمعنى الميل إلى الجهل والفتوّة، لا بمعنى الفتاء6. وأما التحقيق فأن يكون أراد بالأفراس والرواحل دواعي النفوس وشهواتها، والقوى الحاصلة لها في استيفاء اللذات، أو الأسباب التي قلّما تتآخذ في اتباع الغي إلا أوان الصبا7.