الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يملكون أسرار المهنة الطبية وقوة العلاج كانت موجودة منذ بداية الاحتلال، سواء عند الخاصة أو عند العامة. وإذا عدنا إلى وصف أدريان بيربروجر لتهافت الناس على الطبيب الفرنسي الذي كان ضمن الوفد الذي زار معسكر الأمير في الونوغة سنة 1837، ندرك تمكن تلك القناعة حتى عند قادة المقاومة، أمثال الحاج سيدي السعدي. ولكن علينا الآن أن نتتبع تطور العقلية الجزائرية في ميدان الطب والعلوم والرياضيات أثناء فترة الاحتلال.
الطب والتقاليد
ومنذ البداية أحدث الفرنسيون ثورة في عالم الطب والعلاج. فرغم أن الدلائل تدل على وجود بقايا الطب القديم عند الجزائريين فإن الرأي العام كان يميل إلى أن الطب قد انتقل إلى الأوروبيين، كما لاحظ ذلك ابن العنابي في كتابه (السعي المحمود).
والثورة التي أحدثها الفرنسيون تتمثل في عدة مظاهر. فهم قد نقلوا أطباءهم ووسائلهم إلى المراكز التي احتلوها من البلاد، وفتحوا المستشفيات العسكرية والمدنية والعيادات، وحاولوا التعرف على أمراض البلاد ووسائل علاجها بالطرق التقليدية، وأصدروا النصائح الطبية للأهالي وحثوهم على المداواة عندهم، وكانت مدرسة الطب من أول ما افتتحوا من المدارس العليا، وكان في كل مكتب عربي تقريبا طبيب ملازم. ولكن ردود الفعل عند الأهالي كانت مختلفة كما سترى.
وتبين للفرنسيين منذ البداية أن البلاد كانت صحية بهوائها وقلة أمراضها ومناعة سكانها. فقد ذكر السيد جنتي دي بوسيه الذي حل بالجزائر حوالي 1832 أنه سأل أوروبيين قطنوا الجزائر سنوات طويلة قبل الاحتلال فأجابوا جميعا بأنها بصفة عامة بلاد صحية وأنه باستثناء الأراضي القريبة من المستنقعات فإن الحمى الخطيرة غير معروفة تقريبا، وأن الطاعون ليس معديا، وله لم يتنقل أبدا عن طريق البر. وذكر من هؤلاء الأوروبيين: سولتز
قنصل السويد في الجزائر، وقارنيه Garnet الذي تولى القضاء مدة طويلة، ومارتن الذي كان موثقا بالعاصمة. وثلاثتهم عاشوا في الجزائر أكثر من أربعين عاما. كما ذكر دي بوسيه أسماء أخرى أجابت نفس الإجابة، وهم: ابن زعموم الذي قال عنه إنه كان مسؤول قنصلية توسكانيا في الجزائر منذ أكثر من عشرين سنة، والتاجر بونيفال الذي كان مهتما بمسألة الطاعون والصحة، ثم ذكر الجراح العسكري الدكتور قيون Guyon الذي قام بأبحاث دقيقة حول الأمراض المعدية (1).
وقد شملت الثورة الفرنسية في مجال الطب نشر الإحصاءات وإجراء التجارب، وترجمة الآثار الطبية الجزائرية والعربية عامة، وإصدار النشرات والبحوث وتبادل الخبرات، وغير ذلك. والذي يرجع إلى المجلدات التي صدرت بعنوان (المنشآت الفرنسية في الجزائر) سيجد فيها إحصاءات كثيرة مفيدة للغاية عن أحوال الصحة والأمراض والمستوصفات والمتداوين فيها. وهو تقليد لم تكن تعرفه الجزائر من قبل. حقيقة أن هذه الإحصاءات كانت تنصب في أغلبها على الأوروبيين، ولكن المرء سيجد فيها بيانات هامة عن الوضع الصحي في مختلف المناطق وعن الأهالي أيضا.
وقد أصدر الفرنسيون منذ فاتح يناير 1856 مجلة طبية باسم (الغازيت الطبية الجزائرية) ودامت أربعين سنة، وغطت الأخبار الطبية وبحوث العلماء والترجمات (2). وفي هذه المجلة ترجم الدكتور بيرون رسالة في (الطب النبوي). كما ظهرت فيها ترجمة كتاب (الرحمة في الطب والحكمة) للسيوطي. وذكر لوسيان ليكليرك أن هذا الكتاب كان منتشرا بكثرة في الجزائر حتى أن بعضهم كان يضيف إليه (3). كما أفادنا ليكليرك أن الفرنسيين
(1) جنتي دي بوسيه (عن المؤسسة الفرنسية في الجزائر)، مرجع سابق، ص 154 - 155.
(2)
ظهرت في أول يناير 1856 واستمرت إلى 30 ديسمبر 1895. وكانت نصف شهرية.
(3)
لوسيان ليكليرك (تاريخ الطب العربي) ج 2، باريس 1876، ص 300 - 301. وعن بيرون انظر فصل الاستشراق.
وجدوا عدة كتب مخطوطة في الطب في الجزائر، لا سيما في قسنطينة مثل (تحفة الأريب عندما لا يحضر الطبيب) لمحمد الجيلاني، كما وجدوا رسالة في الطب لمحمد العياشي (أبو عبد الله). وقال إن كتاب داود الأنطاكي في الطب (التذكرة؟) كان كثير الانتشار في البلاد. وكان ليكليرك نفسه هو مكتشف آثار ابن حمادوش في الطب (1).
إلى سنة 1908 تقريبا كان الجزائريون مبتعدين عن الفرنسيين في مجال الطب ولا يقصدون حكماءهم للعلاج لأن فكرة العداء والخوف كانت هي المسيطرة. إن الثقة كانت مفقودة بين الطرفين. وهذا رغم قناعة الكثير من الجزائريين بمعرفة الفرنسيين لأسرار العلوم الطبية. لقد كان عامة الجزائريين يعرفون أن الفرنسيين قد ربطوا بين عناصر ثلاثة: الاستعمار والدين والطب (2)، ولم يكن من السهل عند الجزائريين الفصل بين الطب وغيره من ظواهر الاستعمار، رغم أن الفرنسيين كانوا يعزون موقف الجزائريين من أطبائهم إلى التعصب.
وفي هذه السنة (1908) ألقى الدكتور ديركل محاضرة عن موقف العرب (الجزائريين) من الطب الفرنسي. فقال إنهم في نظره، يمرون على الحضارة الفرنسية (الطب منها) دون الالتفات إليها، فهم كالأشباح في العصور الوسطى. ونسب إلى الجزائريين الاعتماد على القدرية لأن كل شيء عندهم (مكتوب). وجاء الدكتور المذكور بنصوص قرآنية تؤكد كلامه في ظاهر الأمر. وأخبرنا أن الجزائريين ما يزالون يتعالجون بالأدوية المعروفة
(1) نفس المصدر، ص 317. من بين ما وجده منتشرا في الجزائر أيضا. كتاب (ذهاب الكسوف) في الطب، وهو من تأليف عبد الله بن عزوز المراكشي. انظر عنه الجزء الثاني من التاريخ الثقافي. وعن دور ليكليرك في التعريف بابن حمادوش انظر كتابنا (الطبيب الرحالة)، الجزائر 1982.
(2)
انظر كتاب يافون تورين (المواجهات الثقافية)، 1971. وتشير بعض التقارير والآراء الفرنسية إلى أن الجزائريين كانوا يقصدونهم للعلاج منذ وقت مبكر، انظر لاحقا.
لديهم منذ قرون، مثل الحشائش والمشروبات وأنواع الثمار. وقد يطلب المريض منهم نصيحة حكيم تقليدي فيقترح عليه أكل شيء أو أخذ حمام، أو نحو ذلك. وليس هناك تلقائية عندهم لطلب الدواء من الحكيم الأوروبي. ولكن الدكتور ديركل أقر بأن الجزائريين قد أخذوا يغيرون من وضعهم ويقبلون بالتدرج على الطب الأوروبي. ولذلك نصح أن يتعلم الأطباء الفرنسيون لغة الأهالي لكسب ثقتهم (وقد فعل رجال الدين? المبشرون - ذلك)، ولاحظ أن الترجمة بين الحكيم والمريض لا تؤدي المقصود. وقد ربط ديركل بين صحة الشعب وحضارته إذ أن التأثير على الصحة يعني بالضرورة التأثير الحضاري عليه. والغريب أن ديركل لم ينصح بنشر الطب بين الشباب الجزائري لكي يعالج الجزائريون بعضهم بعضا. فاحتكار الطب كان من الظواهر الاستعمارية أيضا. وقد أقر ديركل أن هناك تقاليد اجتماعية، مثل دخول البيوت، لا بد من مراعاتها (1).
وقبل أن نتحدث عن العلاج نذكر أنواع الأمراض التي كانت شائعة. وقد حاول الفرنسيون دراسة المجتمع الجزائري وحصر هذه الأمراض سواء من اختلاطهم بالشعب أو برجوعهم إلى النصوص المكتوبة مثل مؤلفات ابن حمادوش (القرن 18 م). ومن الأمراض التي كانت شائعة: الجدري الذي كان يشوه الوجوه ويتسبب في وفيات كثيرة، كما كان يتسبب في عاهات كالعمى والصمم. وكان ينتشر بطريقة العدوى. وكانت لهذا المرض أوقات ينتشر فيها أكثر من غيرها. ومنها الكوليرا، وكانت تظهر من وقت إلى آخر أيضا. وقد ادعى الفرنسيون أنها انتقلت إلى فرنسا من إيران، ثم من فرنسا إلى الجزائر، سنوات 1849 - 1851. ففي السنة الأولى انتشر المرض في الولايات الثلاث وتسبب في وفيات كثيرة (782 من 1042 إصابة). وكثيرا ما ربط الفرنسيون بعض الأمراض بالحج، ولذلك كانوا يجدون سببا في منعه تماما تفاديا للعدوى. وقد ادعوا أن مرض الكوليرا سنة 1850 قد انتشر من
(1) ديركل (محاضرة عن الطب الفرنسي وموقف العرب منه)، انظر مجلة الجمعية الجزائرية 1908) SGAAN)، ص 22 - 32.
تونس وتسرب إلى المناطق الشرقية من الجزائر حتى تعطلت أسواق كثيرة خوفا من زيادة انتشاره. ففي بجاية ونواحيها أصيب بالكوليرا حوالي 3000 شخص. وفي سيدي عقبة جاء الوباء من تونس عن طريق وادي سوف فأصيب به حوالي 385 شخص في سيدي عقبة وحدها. كما عانت منه بسكرة، ولكننا لا نعرف عدد الإصابات.
وفي سنة 1865 انتشر الجدري في الجزائر، ثم امتد إلى عدة نواح، منها زواوة. وخوفا من أن يستفحل أمره أمرت السلطات الفرنسية بتعلم طريقة علاجه عن طريق التلقيح، بينما كانت من قبل تدعى أن (الأهالي) غير قادرين على استيعاب علوم الطب والاستفادة منها. كما نشرت عن طريق جريدة (المبشر) الرسمية النصائح الطبية في تفادي مثل هذه الأمراض الخطرة وطريقة العلاج منها والحث على الاتصال بالأطباء الأوروبيين والتردد على المستشفيات (1).
وكانت نكبة 1867 (وباء ومجاعة
…
) مدعاة للحديث عن الأمراض وزيادة الحاجة إلى العلاج، وظهر منها عدم استعداد الإدارة الفرنسية لمواجهة الأخطار المحدقة بالصحة العامة. فقد انتشرت الكوليرا بعنف نتيجة سوء الأحوال الاقتصادية (المجاعة نتيجة الجراد والجفاف، وبعض الزلازل). ولم تصب الكوليرا الأوربيين لحسن وضعهم الاقتصادي واتخاذهم أسباب الوقاية (2).
بالإضافة إلى مرضي الجدري والكوليرا، ظهرت الأمراض الجلدية، والإسهال، والحمى، وفقر الدم، ومرض المفاصل (الروماتيزم)، وأمراض الكبد والطحال، والمسالك البولية، والضعف الجنسي. ونضيف إلى ذلك أمراض العيون سيما في بعض المناطق الصحراوية، والتيفوس، والجنون، والحمق. أما أمراض النساء فمنها الإجهاض (الإسقاط)، ولاحظ بعض
(1) بحث إبراهيم الونيسي عن دور جريدة (المبشر) - رسالة ماجستير.
(2)
انظر الجزء الأول من الحركة الوطنية (عن الجوائح ونتائجها).
الدارسين أن المصابين ببعض الأمراض المذكورة لا يعيشون طويلا لأن المرض سرعان ما يقضي عليهم. ولا بد من الإشارة إلى أمراض أخرى كالصفير (بتضعيف الفاء)، والربو، والأورام، والهيستيريا، والصرع، والعقم، ولدغة الحشرات السامة كالعقارب والثعابين، ثم الكلب؛ وقد لاحظ الأطباء ندرة مرض الزهري بين الجزائريين، وكان من الأمراض التي أدخلها الفرنسيون معهم.
وعقيدة الشعب في الطب والعلاج مع ذلك كانت قوية. ولكن الجهل جعلهم يتجهون إلى الاستعمالات التقليدية واللجوء إلى حكمائهم ومرابطيهم. كما أن احتكار الطب والعلاج من قبل الفرنسيين جعل الجزائريين لا يقصدون المستشفيات الفرنسية. وقد قيل إن الوزير الفرنسي المسؤول على الجزائر أمر سنة 1849 بأن يوجه الأطباء الفرنسيون أنفسهم إلى بيوت الأهالي للعلاج دون مقابل. وكانت الوزارة تعتقد أن ذلك يساعد على التقارب مع الجزائريين ودمجهم في المجتمع الفرنسي. كما أن السلطات أنشأت دورا خاصة بالأيتام والعجزة ونشرت بينهم فكرة العلاج. ففي 1849 كان حوالي 600 طفل يتيم في هذه البيوت. وقد ازداد العدد كثيرا بعد جوائح 1867. وشاركت الكنيسة بمؤسساتها الطبية في جلب الناس إلى النصرانية. ولارتباط الطب والعلاج بالسلطة الإدارية التي تجعل من العلاج وسيلة لنشر الحضارة وبالكنيسة التي تجعل من العلاج وسيلة للتنصير - كان الجزائريون يتوجسون خيفة من الاختلاط بالفرنسيين سواء في مجال العلاج أو في مجال التعليم. ولكن ذلك لا يعني المقاطعة المطلقة، كما رأينا. إن السلطات الفرنسية جعلت أيضا من العلاج الصحي وسيلة للمقارنة بين تأخر المسلمين وتقدم الفرنسيين، وبين بؤس العهد العثماني وسعادة العهد الفرنسي.
وأمام تحفظ الجزائريين من تقديم أنفسهم لمعالجة الفرنسيين، لجأ هؤلاء إلى مختلف المغريات. من ذلك الإعلان على أن التلقيح طريقة يستعملها أمراء المسلمين مثل باشا مصر وسلطان اسطانبول، وكذلك
العلماء. كما أعلن الفرنسيون عن مجانية العلاج، وأمروا أطباءهم بالتوجه مباشرة إلى بيوت الجزائريين، كما ذكرنا (1). كما أنشأ الفرنسيون مدرسة للطب سنة 1857 بمدينة الجزائر وسمحوا لبعض أبناء الجزائر بدخولها. وسنتحدث عن هذه المدرسة بعد قليل.
درس الفرنسيون الأحوال الصحية والتقاليد الطبية في الجزائر منذ الاحتلال. وتخصص بعضهم في ذلك باعتبارهم جزءا من المكاتب العربية التي سماها بعضهم (همزة الوصل) بينهم وبين الجزائريين. ومن هؤلاء الطبيب ايميل لويس بيرتيراند الذي نشر كتابا هاما سنة 1855، بعد تجاربه حوالي عشر سنوات في الميدان، وسنعرض إليه، كما ظهرت مؤلفات أخرى تراثية أو خاصة بجهة من الجهات (2). فنشر الدكتور رينو Raynaud كتابا عنوانه (شهر في الأوراس)، وآخر تحت عنوان (الأمراض الزهرية والجلدية لبربر الأوراس). وكذلك كتب الدكتور باريس Paris (فتح Trepanon الجمجمة عند أهل الأوراس). ومن جهته كتب الدكتور شالان Challan عملا عن (النظافة الصحية عند قبائل قلعة نابليون)، وألف الدكتور ريشار كتابا بعنوان (أسرار الشعب العربي).
أما الدكتور ليكليرك فقد كتب عملا بعنوان (مهمة طبية في بلاد القبائل)، ولكن معظم أعماله الأخرى كرسها للتراث الطبي العربي، فنشر عن تاريخ الطب عند العرب جزئين، وترجم عدة أعمال أخرى. ومنها ترجمة ما تركه عبد الرزاق بن حمادوش. فقد كتب ليكليرك مقالة عنوانها (ملاحظات حول طبيب جزائري من القرن الثامن عشر وبعض التعميمات عن الطب والصيدلة الأهلية)(3). وجاء فيها بمقدمة عن الطب في بجاية وغيرها من مخطوط كتاب الغبريني (عنوان الدراية). وذكر أن كتاب ابن البيطار والأنطاكي وابن حمادوش كانت منتشرة، وأنه عرف عن وجود نسخة من
(1) القرار أصدره الحاكم العام راندون سنة 1852.
(2)
انظر عنه لاحقا.
(3)
مجلة الغازيت الطبية الجزائرية السنة 5، 1860، ص 78 - 83.
كتاب ابن حمادوش في العقاقير والأعشاب (وهي النسخة التي جاء بها بيربروجر إلى المكتبة العمومية الجديدة. واستخرج حياة ابن حمادوش من إشارات وردت في كتابه، وذكر ما توافق فيه مع ابن سينا والأنطاكي وما اختلف عنهما، والتجارب التي قلد فيها النصارى، وجاء بنماذج من مواد كتاب ابن حمادوش مثل البن، والدارسيني، والزئبق، والكنكينا. ثم ذكر قائمة بالأعشاب والعقاقير والأسواق المتوفرة فيها وباعتها من الجزائريين في وقته.
والباعة هم بنو ميزاب والعرب الرحل (البدو) والزواوة (القبائل)، واليهود. وكانوا جميعا يبيعون بضاعتهم في العاصمة وغيرها. وأهمهم، حسب رأي ليكليرك، هم الميزابيون، فقد وصفهم بالتحضر وقال إنهم يملكون دكاكين ذات أدراج ورفوف، عليها اسماء الأعشاب والعقاقير. واليهود أقل اهتماما بالأدوية، ولكن اهتمامهم كان منصبا على العقاقير المستعملة في الصناعات. وأما العرب الرحل (البدو والعشابة) فقد كانوا يبيعون الأعشاب والأدوية في الأسواق، وكانوا يضعونها في أكياس أو في صرائر (ج. صرة) أو في قراطيس. ويرى المرء باعة الأدوية في كل الأسواق، حسب قوله. وكان الزواوة يملكون مستودعات حيث يأتي التجار الجوالة ويأخذون منها حاجتهم. وقد رأى ليكليرك نوع هذه المستودعات في تاقموت وحدادن قرب قلعة نابليون، وسمع بوجود مثلها في قرية علي بن حرزون، قبيلة بودرار. وكان للفرنسيين زيارات سنوية لهذه المستودعات،. وقد منعوا بعض الأدوية مثل (الكنثريد) ونصح ليكليرك باتخاذ إجراءات لمعرفة ما يجري عند الأهالي في هذا المجال. وقال إنهم حذرون من استعمال السموم.
ذكر ليكليرك قائمة من الأدوية التي يجدها الإنسان في الدكاكين الأهلية بصفة عامة، وعند الجوالة أو الرحالة بصفة أقل. وفي هذه القائمة نجد: الأفيون، وحبة حلاوة، وجوزة الطيب، ولسان العصفور، والزعفران، والجاوي (واستغرب ليكليرك كيف أن كتاب ابن حمادوش لم يحتو على
الجاوي) الذي قال إنه يستهلك بكثرة في الجزائر. ومن الأعشاب التي قال عنها إنها طرقة وتباع في سوق شارو (عمار القامة حاليا) بالعاصمة: السدابة Sedab والفجلة، وفي القائمة التي ذكرها هناك 120 اسما للأعشاب الجافة وحوالي 60 اسماه من النباتات الطرية (1).
وقد قام محمد بلعربي بإعداد أطروحته عن (الطب العربي في الجزائر) وناقشها سنة 1884. ثم في آخر القرن (1896) ناقش الدكتور أرموند ريشاردو A. Richardot أطروحته وعنوانها (الممارسات الطبية لأهالي الجزائر).
ويمكننا مواصلة ذكر نماذج أخرى صدرت بعد فاتح القرن، ولكن تجب الإشارة إلى أن اهتمام الفرنسيين بالطب الشعبي كان في الخمسين سنة الأولى للاحتلال أثناء حرصهم على معرفة الجزائريين، أما منذ فان القرن فقد ساد الطب الحديث ودخل بعض الجزائريين المجالات الطبية والصيدلية، وانحصر الطب الشعبي في السحر والخرافات في الأرياف خاصة، كما ستلاحظ.
…
ولنقل كلمة عن كتاب بيرتيراند الذي يعتبر ربما أوفى كتاب عن (الطب والنظافة الصحية عند العرب) في منتصف القرن الماضي. وقد قال المؤلف إنه عمل في مختلف المكاتب العربية بين 1848 - 1853 وكلف بإنشاء الملجأ الطبي الإسلامي في العاصمة. وبذلك تمكن من جمع المعلومات والمصطلحات وأسرار الطب الشعبي، وتعلم العربية الدارجة. وفي المقدمة قال إن الجزائر من المستعمرات الجديدة ولا يمكن لفرنسا أن
(1) نفس المصدر، ص 81 - 82. انظر أيضا في نفس المصدر ما ذكره الدكتور بايلن BAELEN عن حالة الطب والصحة في سوف وتقرت وغيرهما عبر رحلة قام بها في سطيف وبوسعادة والديس وبسكرة. انظر القازيت أعداد 25 مايو، 22 مايو، 20 مايو، 1856.
تتوغل فيها وتتسرب إلى دواخلها إلا بدراسة حاجة الأهالي ومعرفة اتجاهاتهم ومزاجهم بهدف الإصلاح، دون المساس بهم بطريقة مؤلمة، واعتبر الجزائر حقلا مفتوحا على مصراعيه للتجارب. ومن رأيه أن أعمالا هامة ألفت حول الجغرافية والتاريخ والتجارة والتشريع والزراعة والعدل. وبقي أن يعرف الفرنسيون الأحوال الاجتماعية للأهالي، وهو دور المكاتب العربية، في رأيه (1). واقترح أن يخاطب الفرنسيون، بالنسبة للطب والصحة، بما جاء به القرآن نفسه، ومعناه أن (من أحيا نفسا واحدة فكأنما أحيا الناس جميعا). ونصح الأطباء أن يدخلوا إلى قلوب الأهالي عن طريق هذا النص القرآني. والظاهر أن بيرتيراند كان متفائلا، فالمكاتب العربية وأطباؤها لم يكونوا للعلاج فقط ولكنهم كانوا رموز قمع وإرهاب، ومهما كانت نية الطبيب فهو داخل ضمن هذا الرمز المخيف (2).
ومن جهة أخرى أشار بيرتيراند إلى أن من عادة الجزائري عدم الذهاب إلى المستشفى وأنه يفضل العلاج في بيته. وليس للجزائريين في الماضي مستشفيات عامة أو مشتركة. وكانوا يلحقون ملاجئ بالمساجد، ينزل بها المرضى والعجزة. ولكن كانت لديهم مؤسسات خيرية (الوقف) لرعاية هذه الأماكن وحماية الدين. ونوه بأن الأمير عبد القادر قد جدد في هذا المجال عندما نصت قوانين الجيش في (وشاح الكتائب) على وجود الأطباء
(1) كان نشاطه وكتاباته في العهد المعروف بالحكم العسكري، أي من 1830 إلى 1870. وكانت المكاتب العربية (العسكرية) هي أساس هذا الحكم.
(2)
بيرتيراند (الطب والنظافة الصحية لدى العرب) Medecine et hygiene chez les Arabes، باريس 1855، ص 9 - 13. ولهذا الكتاب عنوان فرعي طويل يصف محتواه وهو: دراسات عن ممارسة الطب والجراحة لدى مسلمي الجزائر ومعرفتهم لوظائف الأعضاء (أناتومي) والتاريخ الطبيعي، والصيدلة، والطب الشرعي، وحالتهم المناخية والبيئية وممارساتهم في ميدان الصحة العامة والخاصة وأمراضهم وعلاجاتهم واستعمالاتهم. وكل ذلك مسبوق بنظرة عن الحالة العامة للطب في الدول الإسلامية الرئيسية، وقد أهداه المؤلف إلى الجنرال دوماس، مستشار الدولة ومدير شؤون الجزائر في وزارة الحربية (انظر لاحقا).
والجراحين وتوفير جميع الوسائل للمحافظة على الصحة وتوفير العلاج والراحة للجنود. وجاء في ذلك النص أيضا ما على الطبيب أن يكون عليه من الانشراح أمام المريض والاحترام وطيب المعاملة، كما أن إجراءات الأمير خصصت للأطباء الأجور اللازمة والغذاء. ولم تكن هذه الإجراءات خاصة بالجيش بل شملت الشعب الذي حارب معه. ولاحظ الطبيب بيرتيراند أن الطب قد تخلف عند الجزائريين بعد الأمير عبد القادر، ومع ذلك فإنهم ظلوا يحترمون الطبيب احترامهم لعلمائهم.
وحين درس بيرتيراند تطور نظرة الجزائريين في الطب والعلاج، وجد أنهم فقدوا الكتب الطبية التي كانت لهم، وعوضوا ذلك بالأحجبة والحروز، وبقيت لديهم فقط أوراق مكتوبة في فوضى وتحتوي على نصائح علاجية، وهي تخلط بين الأدعية والطب. وللأهالي أسماء أعلام يعتبرونهم (أطباء)، مثل سيدي علي بن سليمان، وسيدي عبد الله بن باطو، وسيدي عبد الله بن العاصي، الخ. ويوجد عندهم الأحاديث النبوية التي يرجعون إليها في التطبب، وكتاب الهارونية الذي يضم نصائح وتعاليم علاجية، وكتاب داود المصري. وقد اعترف بيرتيراند أنه كان للجزائريين كتب في الطب، ولكن الاحتلال أدى إلى نهبها، فقد كان باي قسنطينة (صالح باي) قد أوقف عدة كتب في الطب على الزوايا، مثل التذكرة لداود الأنطاكي وكتاب (؟) أحمد زروق الفاسي. ولكنها اختفت بعد احتلال المدينة (1). ومن الكتب التي ما زالت شائعة عندهم في وقته كتاب البولي الذي يصف الحروف وحساب ايقش، وكان كثير الرواج.
وشاع عند العرب الإيمان بالخرافة وعقيدة المرابط، ورسخ عندهم وجود الجن في المرضى، وهو سبب معاناة المريض. وليس هناك سبيل إلى العلاج منه غير الحجاب الذي يحميه، وكلما حدث مرض أسرع صاحبه إلى المرابط (الطبيب) ليحميه منه بكتاب حجاب أو حرز. وشاعت أيضا. عندهم
(1) انظر فصل المنشآت الثقافية، فقرة المكتبات.
عبارة التوكل، فكل الأمور (مكتوبة) ومعزوة إلى إرادة الله، ولذلك كانوا لا ينفكون في رأيه يكررون عبارة (إن شاء الله). ومع ذلك قال بيرتيراند إن العرب (الجزائريين) قد اهتموا كثيرا بالحيوانات، ولا سيما الخيول والإبل لأن حياتهم متوقفة عليها ومتصلة بها، ونوه بكتاب دوماس (خيول الصحراء) الذي كتبه وجمع معلوماته أثناء وجوده في الجزائر، من العلماء والأعيان.
وكدليل على احترام العرب للأطباء وثقتهم فيهم ذكر بيرتيراند أن الجزائريين الذين اعتقلهم الفرنسيون ونفوهم إلى أماكن بعيدة مثل (سان مرغريت) قد قصوا على مواطنيهم، بعد إطلاق سراحهم، تجاربهم مع الأطباء الفرنسيين، ومن ذلك أنهم جاؤوا لزيارة هؤلاء الأطباء بعد تسريحهم اعترافا لهم بالجميل على علاجهم. وبنى بيرتيراند على ذلك فكرته القائلة إن الأهالي يرحبون - خلافا لما كان شائعا - بالأطباء الفرنسيين، لمصلحتهم البدنية، وحث على أن يدخل الطب الفرنسي أيضا مجال المهمة الحضارية التي تزعم فرنسا أنها جاءت بها. وها هم الجزائريون يدخلون الجيش الفرنسي، وها هم رؤساؤهم يعملون في الإدارة والقضاء، فلماذا لا يكون التأثير عن طريقهم، ففي نظره يجب الربط بين الطب والسياسة والنفوذ الفرنسي. إن على الأطباء الفرنسيين أن يلعبوا هذا الدور، عن طريق (التأثير المعنوي) لفائدة تمدين العرب ونشر النفوذ الفرنسي. ومن الأمثلة التي ذكرها بيرتيراند على (وحشية) الممارسات الطبية، طريقة الولادة، ونادى بالتخلص من هذه الممارسات وحث الأطباء الفرنسيين على دراسة تأثير تعدد الزوجات وتعاليم القرآن على الأهالي، سيما على المرأة (1).
…
(1) بيرتيراند، مرجع سابق، ص 48، 67، 549، وهنا وهناك. ولهذا الطبيب كتابات أخرى حول الموضوع، منها: الكوليرا في الجزائر 1849، 1850، 1851. وأعمال الجمعية الطبية للجزائر 1853، وأمراض العيون في الجزائر وعلاجها عند العرب، =
أشرنا إلى تأليف ريشاردو سنة 1896، وهو عمل صغير الحجم تناول فيه أشهر الأمراض في الجزائر على عهده، وقد لخصها في ثلاثة، وهي: حمى المستنقعات، والزهري (السيفليس) والجدري. وكان حمدان خوجة في أول الاحتلال قد ألح على وجود بعض هذه الأمراض، مثل حمى المستنقعات لتنفير الفرنسيين من الاحتفاظ بالجزائر. ولكن الزهري والجدري جاءا مع الفرنسيين. وهناك أمراض أخرى جاءت معهم أيضا، ومن رأي الدكتور ريشاردو أن هناك أمراضا شائعة في الريف وأخرى في المدن، وأن لكل بيئة أطباءها الشعبين. واشتهرت في الريف أسماء مثل (بوموس)، وهو (الطبيب) المداوي بالوسائل المعروفة الحجامة والختان والكي. أما (بو عجب) فهو (الطبيب) الذي يستعمل الخرافات ويلجأ إلى السحر ونحوه كالأحجبة وخط الرمل. وهذان الطبيبان متنافسان على الفوز بالمريض وإظهار الشفاء. وكلاهما جاهل ولكن فيه فطانة. وكان أطباء المدن أيضا يلجأون إلى الخرافة، وهم طبعا غير الأطباء الفرنسيين. وقد ذكر ريشاردو مجموعة من الأمراض الأخرى وعلاجها الشائع عند الأهالي وكيف يمكن للطب الحديث أن يعالجها.
ولذلك أوصى في آخر كتابه بتوسيع التسهيلات الطبية للأهالي في البلديات، لأنه لاحظ أن المستفيدين من الطب هم الأوروبيون فقط. وطالب بجعل (الكينا) تحت تصرف الأهالي ضد حمى المستنقعات، ونصح بوضع بيان بالعربية لطريقة استعمال هذا الدواء، وكذلك نصح بنفس التسهيلات حول مرض الزهري، بإنشاء محطات علاجية لدى (الأطباء الاستعماريين). - هكذا التعبير الأصلي? لكي يوزعوا الجرعات اللازمة على المصابين من الأهالي. أما عن الجدري فقد نصح بالتلقيح ضده إجباريا. وأكد أن الأهالي
= 1854، وملاحظات على البيئة بناحية ثنية الحد، ثم حول إنشاء المستشفيات العربية. وهناك غيرها. انظر مقالته لاحقا. وذكر بيرتيراند أن الجزائريين في وقته كانوا يعالجون بالأعشاب الآتية: الجنجلان والحرمل والسنوج، والزيت وجوزة الطيب الخ ..
لن يعارضوا ذلك لأنهم يرون في الأطباء الفرنسيين (محررين) لهم. وهم خاضعون تماما لعلاجهم. وهذا يؤكد ما ذهب إليه الدكتور بيرتيراند من أن الجزائريين يكون احتراما خاصا للأطباء والحكماء عموما.
وامتدح ريشاردو إنشاء بعض المستشفيات في المناطق العربية، وهي مراكز خاصة بالأهالي. ونصح بأن تسند إدارة هذه المراكز إلى الأطباء الداخليين أو إلى الآباء البيض (المنصرين) في بعض المناطق. وأوصى باحترام العادات والتقاليد. كذلك نوه ببعثة الحاكم العام الطبية إلى الأوراس للاطلاع على تقاليد التوليد، وكانت البعثة تقودها السيدة شيلييه، ولاحظ أنها قد استقبلت استقبالا حسنا وأن الأهالي قدموا لها المعلومات حول الولادة. وليست بعثة الأوراس هي الوحيدة، فقد بعث الحاكم العام عندئذ (جول كامبون) بعثات مشابهة إلى مناطق أخرى. وفي نظر ريشاردو أن هذه الطريقة ستجعل فرنسا تؤدي مهمة كبيرة لدى الأهالي، وهي الخدمة الصحية، والصحة هي أغلى ما يملك الإنسان (1).
ولا شك أن الأطباء الجزائريين الذين تخرجوا بالشهادات العليا، رغم قلتهم، قد كتبوا أطروحاتهم حول مواضيع اختاروها وتناولوا فيها الأمراض وعلاجاتها في ضوء الطب الشعبي والحديث. ولكننا الآن لم نطلع على هذه الأطروحات. وربما غيرنا سيفعل ذلك غير بعيد (2).
…
وعقيدة الطب عند الجزائريين كانت دينية واجتماعية. فالدين كان يحث
(1) الدكتور ريشاردو (الممارسات الطبية لأهالي الجزائر)، تولوز، 1896. ويجب التنويه هنا بالنشرات الطبية التي كان يصدرها الفرنسيون مثل (الجزائر الطبية)، ومثل (النشرة الطبية للجزائر). ولكننا لا ندري مدى مساهمة الأطباء الجزائريين في هذه الدوريات.
(2)
مثلا أطروحة ابن التهامي في أمراض العيون (؟) وأطروحات مرسلي، وبريهمات، وموسى. من الرعيل الأول. وقد اطلعنا نحن على أطروحة ابن العربي.
على معرفة الطب والوقاية من الأمراض، ويحث على العلاج وحفظ الصحة - صحة الأبدان -. أما من الناحية الاجتماعية فالممارسات للطب والعلاج لم تتوقف أو تضعف. وكانت على نوعين على الأقل، نوع (علمي) قائم على التجربة والملاحظة واستخدام الوسائل المادية بطريق عقلية، ولكن الجهل والتخلف والاستعمار منعت من تطوير الممارسات لكي تصبح علمية بمعنى الكلمة، اللهم إلا في فترة متأخرة. أما النوع الثاني من الممارسات فقد كان (خرافيا) قائما على السحر والشعوذة، وبعيدا كل البعد عن الدين والعلم، وقد أشرنا إلى ذلك.
في عهد الأمير عبد القادر وجدنا القيادة الوطنية كانت تهتم بالطب حسب الامكانات المتوفرة، ولم تكن تمارس الشعوذة ولا كانت ضد التداوي الخالي من الدعاية والتمويه. يقول محمد بن الأمير عبد القادر في (التحفة) إن والده قد أحدث ما كان معروفا عن ملوك المغرب، وهو إنشاء المستشفيات (البيمارستانات) لمرضى جنوده في مختلف المقاطعات. وقد عين الأمير في كل مستشفى (بيمارستان) أربعة أطباء، يرجع أمرهم إلى طبيبه الخاص، وهو أبو عبد الله (محمد) الزروالي. وقيل عن محمد الزروالي إنه كان ماهرا في علم الطب وكان مشهودا له بذلك. ولم يكن الزروالي بالطبع على نمط الأوربيين في علمه أو متخرخا من مدرستهم. فنحن لا نعلم حتى أين تمهر في هذه الصنعة، ولعله إنما وصل إلى ذلك عن طريق الوراثة والتجربة. يقول صاحب (التحفة) عنه إنه كان (عالما بخواص الأعشاب على اختلاف صنوفها، وكان يخرج الرصاص من داخل العضو المصاب بوضع عشب على مدخله فيخرج بعد بضع ساعات من موضعه بسهولة دون ألم)(1).
وقد أكد ذلك الفرنسيون الذين زاروا معسكرات الأمير. فكتب توستان دي منوار (سنة 1841) أن في جيش الأمير طبيبين بلقب باش جراج (كبير
(1) تحفة الزائر، 1/ 203، ط 1. انظر ما قاله الدكتور بيرتيرات عن الموضوع سابقا. وقد نوه بما جاء في (وشاح الكتائب) من تعليمات حول الصحة والطب في عهد الأمير.
الجراحين). وكان الجراحون عادة من المرابطين، حسب قوله، أي أنهم كانوا من العلماء ورجال الدين. ولكن دي منوار ذهب، لأسباب معروفة، إلى أن العرب يثقون في الأطباء الفرنسيين أكثر من الأطباء الأهالي. ونفهم من كلام دي منوار أن الجزائريين لم يكونوا أبدا ضد الطب المتقدم، كما كانت تدعى السلطات الفرنسية. وقد زاد منوار ذلك تأكيدا بقوله إن كلمة (طبيب) عندهم كلمة سحرية، وهي وسيلة للدخول إلى نفوسهم وإلى معرفة دواخلهم، ونصح بأن ممارسة الطب من قبل أناس (فرنسيين) متعلمين وغير مرتبطين بمصالح ولهم ضمائر حية، ستكون ربما إحدى الوسانل الأكثر نجاعة لتسريب الحضارة الفرنسية بين الجزائريين. وزعم أن الفرنسيين استطاعوا أن يخففوا من تأثير العديد من الأمراض عنهم (1).
ونفس هذه الملاحظات تقريبا أبداها أدريان بيربروجر الذي زار معسكر الأمير، على رأس وفد هام، سنة 1837. فقد تحدث عن احترام العرب للأطباء وسحرية كلمة طبيب بينهم أيضا، وكذلك كلمة حكيم. وقد وصف كيف تجمهر حولهم الجنود عندما علموا أن طبيبا. كان ضمن الوفد، وأن كل من له شكوى من مرض تقدم من الطبيب الفرنسي المرافق، بما في ذلك بعض قادة الجيش (2). ولكن بيربروجر لم يحدثنا - كما فعل زميله دي منوار - عن أطباء الأمير ولا كبير أطبائه محمد الزروالي. ومهما كان الأمر فإن الشهادتين تثبتان أن الجزائريين لم يكونوا مقاطعين للأطباء الفرنسيين. وربما كانت المقاطعة مقتصرة على العامة الذين كانوا يخشون على أنفسهم من المزج بين الدين والطب، أو لأسباب لغوية وحواجز حضارية أخرى.
وهناك ممارسات تبدو في غاية العقلنة، رغم التقاليد، كان يمارسها الخبراء في كل قبيلة وقرية. وهي ممارسات قائمة على الطب الشعبي. وهو
(1) توستان دي منوار، مذكرات، نشرها مارسال ايمريت (المجلة الإفريقية)، 1955، عدد 442، ص 141 - 146.
(2)
زيارة إلى معسكر الأمير في ونوغة، سنة 1837 - 1838، باريس؛ وقد ترجمنا هذا العمل إلى العربية.
مزيج من الطب الديني والعلمي والوراثي. وقد تحدث الأوروبيون عن بعض هؤلاء الأطباء الشعبيين. فالضابط ريشارد قد سجل قائمة بأسمائهم. وهم كما قال آخر، ليسوا من خريجي المدارس، بل كانوا لا يعرفون حتى الكتابة والقراءة، ولعلهم كانوا يعتقدون أنها غير مفيدة لهم، ولا يقوم هؤلاء (الأطباء) بأي بحث في الموضوعات الطبية. وإنما كانوا يتعلمون بالوراثة والملاحظة والتجربة، ولهم ذكاء فطري، وقد لاحظ أحد الفرنسيين أن أعلام الطب (الإسلامي) أمثال الرازي وابن سينا وابن رشد، غير معروفين حتى للمتعلمين من الجزائريين سنة 1870. وهذه الحالة في الواقع، حجة على الفرنسيين أنفسهم. واستغرب ذلك الفرنسي من أن كتب الأطباء العرب التي سيطرت على المدارس الأوروبية إلى منتصف القرن السادس عشر أصبحت مجهولة عند أحفادهم (1). وهو تعليق يذكرنا بتعليق الدكتور شو عن الجزائريين في القرن الثامن عشر.
ومن الأطباء الشعبيين من حذق عملية ثقب الجمجمة، ومن يعرفون كيف ينزعون الأسنان بحذق ويمارسون الحجامة، ويقومون بختان أحفادهم وأبناء العشيرة، ولهم طرقهم الخاصة وآلاتهم التي تجبر الأعضاء المكسورة. وقد وصف الدكتور بيرتوراند Bertherand ذلك في تأليفه السابق، فقال:(إن لعرب الجزائر اليوم عددا أكبر من الأطباء، أو بالأحرى عدد أمن الأفراد الذين يمارسون فن العلاج الطبي، ويمكن تقسيم هؤلاء إلى قسمين، حسب درجة تعلمهم: أولئك الذين يمارسون فن العلاج الطبي، ويمكن تقسيم هؤلاء إلى قسمين، حسب درجة تعلمهم: أولئك الذين يمارسون الطب التقليدي (الأطباء)، وأولئك الذين يجمعون إلى معرفة الطب معرفة أخرى واسعة في العلم والدراسة. ولهم أيضا قدرة على الكتابة عن الأدوية، وهؤلاء هم (الحكماء) أو الأطباء العلماء. وهناك صنف ثالث في نظره، وهم المداوون أو الأطباء الذين يسهرون على عملية جراحية داخلية. وصفة (المداوي) هنا
(1) الضابط فيون VILLONT (دراسات جزائرية) في مجلة (روكاي) 1870، ص 478.
تعني الطبيب الذي يأتي بالدواء الذي يستعمله بنفسه والذي يصفه للمريض. وهناك أيضا اسم (الجراح) وهو القادر على إجراء عمليات جراحية واستعمال العلاج المناسب للبرء. وفي الصحراء قال الدكتور بيرتيراند إن هناك (الخبير) الذي يعني الدليل ومرشد القوافل، ولكنه يعني أيضا عند أهل الصحراء العارف بأمور الصحة الواجبة لكل منطقة والأدوية اللازمة لأمراضها، مثل عضة الثعبان ولدغة العقرب والكسور (1).
أما عند الحضر فقد أخبرنا الضابط فيون بأنهم لا يعرفون الطب وأنواع العلاج لانتشار الجهل بينهم، وشيوع الخرافة. وتكاد الجراحة عندهم تنحصر في ممارسة الحجامة والختان وخلع الأسنان.
وأما في الريف فالأطباء هم كبار الأعراش، وهم حكماؤها الذين مارسوا مهنتهم مدة طويلة حتى أصبحت لديهم خبرة واسعة، وهم يتلقون هذه المعرفة إما بالوراثة والتقاليد، وإما بطريق الرحلة إلى تونس والمغرب وغيرهما، أو قراءة جداول للطب السحري والشعوذة، وأحيانا كانوا يعتمدون على الطب النبوي الذي كانوا يخلطونه بالخرافات. والجراحة أكثر شيوعا عند أطباء الريف منها لدى أطباء الحضر. وأطباء الريف يأتون إلى الأسواق وينصبون خيمة خاصة بهم لاستقبال المرضى (2).
وفي 1911 وصف السيد سيكار Sicard بعض الممارسات الطبية التي تجمع بين الطب والخرافة، وهو يقول إنها كانت شائعة في بلدة تقيطونت. وكان سيكار متصرفا إداريا للبلديات المختلطة. فقد لاحظ أن سكان هذه البلدة كانوا يترددون على الأطباء الشعبيين والأطباء الأوربيين أيضا. ومن المعالجات عند الأطباء الشعبيين أن الحمى مثلا كانوا يتخلصون منها عن طريق كتابة ألفاظ كروم وفيروم وحمانة على ثلاثة أنوية (جمع نواة) ثم تحرق ويشم المريض دخانها. وقد يكتب لهم الطبيب الشعبي آية قرآنية على ورقة
(1) الضابط فيون عن الدكتور بيرتيراند، ص 474 - 475.
(2)
نفس المصدر، ص 476 - 478.
كلخة ثم يعلقها المريض في رقبته، وقد يلجأون إلى حرق أوراق بعض الأشجار أو كتابة أسماء الجن. ويعالجون مرض الصفير بجرح أعلى الرأس ووضع غبرة (بودرة) الشاص المحروق على مكان الجرح. ومن علاج أمراض المعدة كتابة آية قرآنية في كوب من الماء ثم يشرب المريض ماء الكوب. ويعالجون ضيقة الصدر (الربو) بمشروب الخنجلان وسنكنجبير، والكي، واستعمال الأعشاب كمشروبات وكضمائد. وكانت المهارة في العلاج لا تتوقف عند معالجة أمراض الإنسان بل تشمل معالجة أنواع الحيوانات. والذين يقومون بالعلاج، حسب سيكار، هم المرابطون والطلبة (وهو هنا يعني المتعلمين عموما)(1).
اهتم الفرنسيون بترجمة آثار المسلمين في الطب، فكانت أعداد مجلة الغازيت الطبية تحتوي على مجموعة من هذه الآثار، فقد ترجم بيرون كتاب الطب المعروف (بالناصري) الذي ألفه أبو بكر بن بدر للسلطان الناصر بن قلاوون، وهو، كما فهمنا، في الطب البيطري، وترجم الدكتور بيرون (Perron) أيضا كتاب الطب النبوي من تأليف جلال الدين داود (أبو سليمان) وقدم له بمقدمة طويلة ونشر ذلك على حلقات في (الغازيت)(2). كما ظهرت ترجمة لكتاب الرحمة في الطب والحكمة لجلال الدين السيوطي، ونسبت الترجمة لفرعون (ولعله لبيرون نفسه). وقد كتب المقدمة الدكتور بيرتراند وقال فيها إن المسلمين لم يكونوا متخلفين في الطب كما كان يظن الفرنسيون (3). وفي أحد أعداد الغازيت نشر الدكتور بيرتراند مقالة أعلن فيها، بعد أن جرب العمل سنوات طويلة، في المستشفيات الأهلية، أن
(1) سيكار (ممارسات طبية: خرافات وأساطير
…
في بلدة تقيطونت) في المجلة الأفريقية 1911، ص 42 - 47.
(2)
ابتداء من 20 يوليو 1856، ص 102. انظر (الغازيت الطبية الجزائرية) السنة الأولى 1856.
(3)
أول حلقة من هذه الترجمة ظهرت في (الغازيت الطبية الجزائرية)، 25 يناير، GAZETTE MED. de L'ALGERIE 1856.