الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مع ذلك كان قليلا جدا، رغم تنقل العلماء والمثقفين شرقا وغربا وشمالا وحتى جنوبا. فالجزائريون قصدوا المشرق وفرنسا والمغرب الأقصى وأفريقية. ومع ذلك فإن رحلاتهم المسجلة في جملتها قليلة وصغيرة الحجم.
ويضاف إلى ذلك المذكرات والتقاييد. وتعتبر المذكرات أو السيرة الذاتية نوعا جديدا في هذا الباب، وقد ألف عدد قليل من السياسيين والعلماء والأعيان عن حياتهم الخاصة وعبروا عن آرائهم في شؤون الحياة والناس. وكدنا نعتبر كتاب المرآة لحمدان خوجة من أوائل كتب المذكرات. أما التقاييد فليست فنا جديدا، ولكننا اعتبرناها من ضمن التواريخ الذاتية، إذا صح التعبير.
مفهوم التاريخ وتعريفاته
يبدو أن مفهوم التاريخ لم يتطور كثيرا خلال الاحتلال، وإذا كان هناك من تطور فقد بدأ مع نهاية الحرب العالمية الأولى ومع الوعي الوطني والسياسي والبحث عن ماضي الجزائر، تعبيرا عن رفض الاندماج وتغييب الذاكرة الجماعية، وهو التغييب الذي فرضه الفرنسيون عن طريق تعليم تاريخهم فقط وقطع الصلة بين الجزائريين وتاريخهم. وإلى عهد السبعينات من القرن الماضي كان أبو حامد المشرفي يعرف التاريخ بأنه علم الجغرافية (1). وكانت التواريخ عندهم تبدأ عادة من حياة آدم. ولعل أول كتاب تناول الجزائر في ماضيها وفي علاقتها بالمغرب العربي القديم ثم مرورا بمختلف العصور الإسلامية إلى الاحتلال، هو محمد ابن الأعرج السليماني صاحب (زبدة التاريخ وزهرة الشماريخ) في آخر القرن الماضي، ثم جاء
(1) يقول المشرفي في كتابه (ذخيرة الأواخر والأول) وهو يتحدث عما كانت تقدمه مدرسة تلمسان العربية الفرنسية سنة 1877 إنهم (يدرسون الجغرافية، أعني علم التاريخ).
بعده بقليل محمد بن الأمير عبد القادر الذي أرخ للجزائر بصورة سريعة في مختلف العهود ثم تاريخها منذ الاحتلال وبالأخص أثناء مقاومة والده الطويلة. وكلا الكتابين يؤرخ للجزائر باعتبارها امتدادا في التاريخ عبر العصور المختلفة، خلافا لمعظم مؤرخي القرن التاسع عشر المحليين من الاكتفاء بناحية أو قبيلة أو مدينة، وبشكل مقطوع عن الماضي الجماعي.
ولنذكر الآن بعض التعاريف للتاريخ. والواقع أن المشرفي قد عرف بفضل التاريخ ونوه به في صفحات عديدة من كتابه (الحسام المشرفي لقطع لسان الجعرفي) إذ خصص قرابة أربع عشرة صفحة منه لهذه المسألة (ص 26 - 42). وفي الجزء الأول من (ذخيرة الأواخر والأول) مقدمة عرف فيها أيضا بالتاريخ رغم أنه ابتدأ الكتاب من آدم. وفي آخر الجزء الثاني منه خاتمة ضمنت الحديث عن أهمية علم التاريخ.
وحين قرظ محمد بن عبد الرحمن الديسي كتاب (تعريف الخلف) للحفناوي عرف التاريخ بأنه (الفن الجليل، المعظم في كل أمة وقبيل، الذي لولاه ما عرفت سير الملوك والعظماء، ولا حفظت تراجم العلماء والحكماء). وهو تعريف واسع يجعل التاريخ جامعا للسياسة والتراجم.
وبعد أن أورد الشيخ عبد الرحمن الجيلالي طائفة من أقوال العلماء في تعريف التاريخ وأهميته، وهم من الشرق والغرب، قال عن التاريخ في المصطلح بأنه (علم تعرف به أحوال الماضين من الأمم الخالية، من حيث معيشتهم وسيرتهم ولغتهم وعاداتهم، ونظمهم وسياستهم واعتقادهم وآدابهم حتى يتم بذلك معرفة أسباب الرقي والانحطاط في كل أمة وجيل). وجاء الجيلالي بما يشترط في المؤرخ أيضا، وهو في نظره (العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الأمم والبقاع والأعصار
…
والإحاطة بالحاضر من ذلك ومماثلة بينه وبين الغائب
…
وتعليل المتفق منه والمختلف) (1). وهو تعريف رغم استناده إلى مبادئ ابن خلدون في التاريخ
(1) عبد الرحمن الجيلالي (تاريخ الجزائر العام) ط. 2 مزيدة، 1965، 1/ 23، 25.
والعمران فإنه ينظر إلى الأساليب الحاضرة وشروط المعرفة والموضوعية والتعليل. وستعرف في فقرة أخرى رأي أبي يعلى الزواوي ومحمد مبارك الميلي وأحمد توفيق المدني في التاريخ.
والمفهوم السياسي للتاريخ ظهر ربما لأول مرة، على يد حركة الأمير خالد وما تلاها. فقد استشهد خالد في خطبه وعرائضه بتاريخ جده وبكفاح الجزائريين خلال القرن التاسع عشر. وكان ذلك منبها للغافلين، فانتشرت فكرة الربط بين التاريخ والوطنية ولم تتوقف الفكرة عند الكفاح المذكور بل رجعت إلى الماضي البعيد. وكان الجزائريون في الخارج قد درسوا التاريخ المتعلق بالشعوب الأخرى ودرسوا كذلك تاريخ الإسلام وما قام به الأولون، ورجعوا إلى بلادهم بأفكار واضحة عن الاطلاع والكشف والمنافسة للشعوب الأخرى. وقصد من هؤلاء ابن باديس والزريبي والإبراهيمي والعقبي وأبا يعلي الزواوي. وكان الزواوي - وكذلك سعيد بوليفة - قد ألف عملا في التاريخ يفيض (بالوطنية) ولكنه خاص بالزواوة. وخلال العشرينات أيضا نشر أحمد توفيق المدني في (تقويم المنصور) فصولا في التاريخ واهتم بالتاريخ السياسي. وكانت تونس سباقة إلى ربط الحاضر بالماضي. وقد تأثر الجزائريون الذين درسوا فيها منذ بداية القرن بالتاريخ المشترك وبالمفهوم السياسي الذي نتحدث عنه.
ورغم أن التنظيمات السياسية (الأحزاب) كانت أولى بالاهتمام بالتاريخ واستثماره للحاضر، فإنها كانت في أول أمرها، بعيد عن ذلك، إما لجهل أصحابها بالتاريخ الإسلامي وتاريخ الجزائر بالذات، وإما لابتعادها منذ البداية عن التراث والأصالة وتعلقها بالفكر الاقتصادي الماركسي والصراع الطبقي الذي يؤدي عندهم إلى انتزاع السلطة من يد أرباب العمل ويضعها في يد العمال. وكانت الأناشيد السياسية تشير إلى وقائع تاريخية معينة وإلى أسماء شهيرة مثل يوغرطة وماسينيسا وعقبة بن نافع، ولكن الزعماء السياسيين لم يكونوا يهتمون أو لم يكونوا يعرفون الضروري عن الكتابة التاريخية ولو من أجل توظيفها في البرامج السياسية لأحزابهم.
وأمام طغيان المدرسة الفرنسية التي جردت الجزائريين من الاتصال بماضيهم كثر الحديث عن أن الجزائر لم تكن شيئا مذكورا قبل الاحتلال الفرنسي. كانت المدرسة الفرنسية تدعي أن الجزائر كانت ممرا للمحتلين الذين يتداولون عليها، الغالب بعد الغالب، وأنها لم تكن دولة في يوم من الأيام، وأن فرنسا هي التي (صنعتها) وألحقتها بها، فهي ابنتها عند البعض، وهي فرنسا الصغيرة عند آخرين. وكانت تدعى أيضا أن الفرنسيين هم الذين حققوا الأمن والرخاء، ونظموا البلاد وجعلوا الجزائر جنة فوق الأرض. كما أشاعت أن سكان الجزائر لا يمثلون شعبا له ماض عريق، ولكن مجموعة من (المتساكنين) الذين لولا فرنسا لأكلوا بعضهم البعض. إن هذه الادعاءات نجد أصداءها في كتابات عديدة صدرت عن بعض الجزائريين الذين انقطعوا عن ماضيهم، نذكر منهم أبا بكر بوطالب صاحب (نزهة الأفكار) وفرحات عباس في كتاباته قبل 1943. ولكن يجب ألا نعمم هنا، ذلك أن بعض الأفراد من المتعلمين في المدارس الفرنسية كانوا على صلة بالحضارة العربية الإسلامية، وكانوا يرفضون الأطروحة الفرنسية المذكورة، ونحن نجد ذلك في كتابات حسن بريهمات وابنه أحمد، وكتابات بعض النواب مثل عريضة 1891 التي تقدم بها أعيان من نواحي قسنطينة (1).
ومهما كان الأمر فإن هذه الروح هي التي دفعت بأعيان الإصلاح إلى (إصلاح التاريخ) إلى جانب إصلاح العقيدة والمجتمع. وعلى رأس هؤلاء الشيخ مبارك الميلي. فقد حكى أنه لم يكن قد درس التاريخ صغيرا ولا كبيرا، ولكنه كان مهتما بتراجم الماضين وتاريخ صدر الإسلام والتاريخ الحديث، فقرأ واستوعب، ورأى كيف زيف الفرنسيون تاريخ بلاده وأثروا بذلك على عقول فئة من الجزائريين كان يعرفها ويختلط بها، وكانت هذه الفئة تنكر أن للجزائر تاريخا جديرا بالدراسة والإطلاع، فعزم على كتابة تاريخ لوطنه يسد به الفراغ في انتظار ظهور مؤرخين أكفاء. ومن يقرأ
(1) انظر فقرة العرائض من الحركة الوطنية، ج 1.
مقدمات كتابه (تاريخ الجزائر في القديم والحديث) سيجده مركزأ كثيرا على ذلك الدافع. ونعني به الجهل بالتاريخ الوطني مضافا إليه التنكر له أيضا والقدح فيه. وسنتناول كتابه في حينه. وفي اعتقادنا أن الميلي كتب تاريخا هو في الواقع درس في السياسة والوطنية وجزء من مهمته كمرشد وواعظ ومدرس في مدرسة الإصلاح. ويبدو لنا أن الذين تلقوا عليه الدروس العامة كانوا أيضا يتلقون عليه دروس الوطنية لأن أفكاره في دروسه هي أفكاره في كتابه. ودعك ممن قال عن هذا النوع من الكتابات إنها (دعاية) وعمل سياسي، بينما سكت هذا القائل عن كتابات ايميل غوتييه (العهود المظلمة في بلاد المغرب)، وربما اعتبرها في منتهى الموضوعية (1).
إن الاعتماد على المراجع ونقد الأعمال المتقدمة وذكر محتوى الكتاب وغير ذلك من تقنيات البحث لم تكن جديدة على مؤرخي الجزائر. وكان الذين تناولوا التاريخ خلال القرن التاسع عشر قد عمدوا إلى ذلك بصفة عامة، ما عدا ربما نقد الماضين. كما أن مؤرخي هذه الحقبة كانوا يبدأون من التواريخ الغابرة، وأحيانا من سيرة الأنبياء والأمم المتمدنة. ومثال ذلك الكتاب المنسوب إلى الأمير عبد القادر والذي حرره أثناء سجنه بفرنسا. ولكن (اللمحة) التاريخية التي كتبها حمدان خوجة سنة 1833 لم يرجع فيها إلا إلى تواريخ العهد العثماني وميزاته.
وتقنيات البحث الأوروبي ظهرت في أعمال الذين اتصلوا بالمستشرقين وتعلموا منهم. ونخص بالذكر ابن أبي شنب وبوليفة ومن جاء بعدهما. الأول ظهر عليه ذلك في دراساته وتحقيقاته. ومن ذلك رحلة الورتلاني، والبستان لابن مريم، فقد استعمل فيهما تقنيات البحث من فهرسة ومقابلة والرجوع إلى النسخ الأخرى. ولكن كتاب التراجم الذي أصدره أبو القاسم الحفناوي في بداية هذا القرن لم يظهر عليه التأثر بالأوروبيين رغم اختلاط
(1) نشير بذلك إلى ما كتبه جوزيف ديبارمي على إثر صدور كتاب الميلي وكتاب المدني. وقد سار سعد الدين بن شنب على منوال ديبارمي أيضا، كما سنرى.
المؤلف بهم والعمل معهم سنوات طويلة، كما شهد على ذلك بنفسه حين قال إنه ظل في رفقة آرنو قرابة أربعين سنة. أما بوليفة فقد ظهر عليه التأثر بالأوروبيين في كتابه (جرجرة عبر التاريخ) واستفاد من تجاربهم في البحث واستخدام المصادر والنقد وما إلى ذلك. ولكن معاصره أبا يعلي الزواوي لم يفعل مثله في كتابه (تاريخ الزواوة)، فقد ظل فيه على الطريقة القديمة رغم أنه رجع إلى المراجع العديدة وانتقد بعضها.
فقد كان أبو يعلي الزواوي من الذين ربطوا التاريخ بالوعي القومي وبالجنس (العرق) ونهضة الشعوب، وقد يكون الزواوي رائدا في ذلك. فمشروع كتابه عن الزواوة كتبه سنة 1912، وظل كما قال عشر سنوات يعمل على استيعاب معنى التاريخ وعلاقته باليقظة والماضي والأمجاد. فرأى أن الفرنسيين والإنكليز لم يتقدموا إلا بعد دراسة التاريخ الوطني. ورأى أن الشعوب المناهضة هي التي فهمت تاريخها ودرسته وحافظت عليه. فعزم على كتابة كتاب يكون رائدا أيضا في هذه الفكرة. ونحن نجده يقول بذلك عن نفسه.
وقد عاب أبو يعلي من لا يدرس التاريخ ويتعظ به ويعمل بما جاء فيه، ومن ينظر إلى التاريخ على أنه أخبار وحكايات أو شكك في فائدته. فقال: إن قوما ظنوه خبرا يروى (تخشى آفته). وقال آخرون، فيما روي، إن التاريخ هو (أسطورة الأباطيل) يجب الابتعاد عنه والعقيدة فيه. بينما هناك من يذهب إلى أن التاريخ هو خير العبر لأنه هو (ديوان المبتدأ والخبر). وهذا هو رأي أبي يعلى الذي يبدو أنه استعاره من تاريخ ابن خلدون، أو من عنوان كتابه على الأقل. وأكد أبو يعلي أن (القرآن نفسه تاريخ وعبر). ثم أخذ يعرف التاريخ تعاريف عامة وعاطفية، مثل إنه (حياة الأمم الذي يحملها على المطالبة بمجد الغابرين
…
(ولعل في ذلك ردا على الفرنسيين الذين طمسوا تاريخ الجزائر، ومنه تاريخ الزواوة). ويخبرنا أبو يعلي أن الفرنج (ولم يقل الفرنسيين) قد عرفوا التاريخ وفضله فدونوه، ووضعوا له الأسس والأصول. ومن الدول التي أحياها التاريخ بعد الحرب العالمية الأولى دولة بولونيا
(بولندا) وغيرها، في نظره. وعاب على قومه وعلماء المسلمين عامة إهمالهم للتاريخ حتى أنهم إذا جادلوا علماء أوروبا في التاريخ عجزوا. ومن المهم جدا هنا اان كتاب الزواوي - خلافا للمشروع الذي سبقه - قد تحدث عن نتائج الحرب العالمية الأولى في العالم العربي. ولكي يقنع قومه بالتحولات التي طرأت على العالم الإسلامي قال إن هذا العالم قد مر من الجاهلية والوثنية إلى الفتوحات، وغيرها - ولعله يريد أن يصل إلى الاحتلال وكونه مرحلة فقط في هذا التطور التاريخي -.
وقد أعلن الزواوي أن الهدف من كتابه هو تنوير الجيل الجديد حتى يكون على بصيرة بمسيرة سلفه، وليتعلموا ما فعل الآباء والأجداد، ويقتدوا بالأمجاد. وأشار إلى أن الجيل الذي خاطبه قد يأخذ ببعض القديم وبعض الجديد. وكان همه الرئيسي أن (أنفخ فيهم روحا قوية، وأبعث منهم ذوي همم علية، وأهدي إليهم هذا الكتاب المستطاب
…
) (1). وهكذا يتضح أن أبا يعلي قد تحول خلال عشر سنوات من التاريخ العرقي (بالنظر إلى فكرة الآرية وطهارة الدم) إلى التاريخ الجهوي، ومن هذا إلى مبدإ التاريخ العام، أو من الطائفة إلى الأمة، وكم للإنسان من تقلبات وأحوال!.
والميلي الذي أهمه التاريخ كثيرا عندما رأى قومه وقد أهملوه ورأى الغربيين وقد اتقنوه بدراسة الآثار والاقتصاد ونحوه، قد عرف التاريخ بأنه وسيلة لمعرفة (سنة الكون وطبيعة العمران) وسير الأبطال والأنبياء والأولياء والسياسيين. ثم أكد على ذلك بقوله إن (التاريخ مرآة الغابر ومرقاة الحاضر
…
ودليل وجود الأمم، وديوان عزها، ومبعث شعورها، وسبيل اتحادها وسلم رقيها) يدرسه الشباب فلا تبتلع قومية أخرى قوميتهم، وأدركوا ما لآبائهم من الأمجاد والشرف) (2).
ومن جهته عرف المدني التاريخ بأنه (عرض وتحليل وتعليل وحكم).
(1) أبو يعلى الزواوي (تاريخ الزواوة)، الديباجة. دمشق 1924.
(2)
مقدمة الجزء الأول، ط 1، 1929.
وقال عن المؤرخ بأنه (حاكم نزيه حر الضمير، يدرس الوثائق والمستندات، ويستخرج الحقائق من بين النصوص، ويستمع بإمعان إلى ما يقوله هؤلاء وما يقوله هؤلاء، فإذا أسفر أمامه وجه الحق ناصعا، أصدر حكمه عادلا، لا عاطفة ولا رياء ولا محاباة)(1).
وهكذا يظهر أن التغيير الهام في مفهوم التاريخ وتقنياته قد ظهر مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وكان ذلك مرتبطا بظهور الحركة الاصلاحية من جهة والحركة الوطنية (المطالب السياسية) من جهة أخرى. فكانت جهود ابن باديس في الأولى وجهود الأمير خالد في الثانية هي التي نبهت إلى ميلاد المفهوم الجديد للتاريخ. ومن نتاج ذلك العهد: تاريخ الميلي وتاريخ المدني ومن جاء بعدهما. والجدير بالذكر أن ذلك التغيير كان مرتبطا أيضا بالظاهرة التاريخية في المغرب العربي عامة. فالمدني مثلا كان نتاج حركة التاريخ في تونس، وهي أكثر تطورا مما هي عليه في الجزائر، منذ ابن أبي الضياف وخير الدين التونسي ومدرسة الشبان التونسيين. وكان التاريخ الإسلامي والعربي والسيرة النبوية والفتوحات تدرس في كل من القرويين والزيتونة. وكان لقاء الطلبة المغاربة دوريا في فرنسا وعواصم المغرب العربي خلال الثلاثينات قد عمق فكرة التاريخ المشترك، بالإضافة إلى الاهتمام بتاريخ كل قطر. ومن يرجع إلى محاضر تلك اللقاءات سيجد أن الاهتمام بالتاريخ في المدارس وضرورة تدريس التاريخ الإسلامي والعربي كان من بين مطالب المجتمعين (2).
وقد ارتبط أيضا الاهتمام بالتاريخ القديم للمنطقة بالمستقبل السياسي لها. ففي نادي جمعية الطلبة المسلمين الشمال إفريقيين بفرنسا، ألقى السيد شريف ساحلي محاضرة بعنوان (مقاومة الوطنيين بالشمال الإفريقي للاستعمار
(1) راجعنا كتابه (حرب الثلاثمائة سنة بين الجزائر وأسبانيا)، في أبحاث وآراء، ج 1/ 347، ط. 3.
(2)
انظر الحركة الوطنية، ج 3. وكذلك رسالة الباحث محمد بلقاسم عن (الاتحاد الوحدوي في المغرب العربي)، معهد التاريخ، الجزائر.
الروماني). وقالت جريدة (البصائر) التي نشرت الخبر عندئذ إنه اختار موضوعا يمثل العلاقة المتينة بين الطالب وتاريخه، لأن ذلك يظهر سيرة السلف الصالح الذي قام بواجب الجهاد ضد الاستعمار الغشوم. ولا شك أن ذلك إسقاط للماضي على الحاضر. وقد تحدث الشريف ساحلي عن (الأمة المغربية) - المغاربية - ورد على كل من كان ينفي وجود شعور وطني مغاربي، وأثبت وجود الوطنية المغاربية بحديثه عن يوغرطة وباكوس (1).
ويجب ألا يفهم من حديثنا هذا أن تطور مفهوم التاريخ كان من جهة الوطنية والمذهب السياسي فقط، فنحن نتحدث عن ظاهرة عامة في الواقع، تشمل استخدام المراجع بطريقة نقدية وتصنيفية، واستخدام المراجع الأوروبية والرد على بعضها، ونقد المراجع العربية القديمة، والرجوع إلى المخطوطات والوثائق، والنقوش والآثار ومقابلة الآراء ببعضها، وقبول الحكم إذا كان صادقا ولازما ولو كان ضد النفس، بالإضافة إلى تقنيات البحث الجديدة من تعاليق وفهرسة وتبويب وصور وإحصاءات. فكل ذلك يدخل في ظاهرة التطور المشار إليها.
وقد عانى التاريخ من ضعف شديد لم يكن ذاتيا، ولكنه أثر عليه مع ذلك. ونلخص جوانب الضعف فيما يلي:
1 -
تغييب تدريس التاريخ الجزائري والإسلامي في المدارس الرسمية، مما تسبب في انقطاع المتعلم عن المراجع والبحوث والآراء حول الكتابة التاريخية. ومنذ 1880 أجبر بعض التلاميذ على دراسة تاريخ وجغرافية فرنسا فقط، وكان هؤلاء التلاميذ، وكذلك زملاؤهم في المدارس الابتدائية يرددون مع التلاميذ الفرنسيين أن أصول الجزائريين فرنسية (بلاد الغال). أما في الزوايا التي بقيت مفتوحة في العهد الاستعماري فلم يسمح فيها بتدريس التاريخ الإسلامي ولا الجزائري ولا السيرة النبوية والغزوات.
(1) البصائر عدد 106، 2 إبريل 1938. وكانت المحاضرة بتاريخ 14 فبراير من نفس العام.
وكانت المواد المسموح بها هي الفقه والنحو والتوحيد والأدب.
2 -
استيلاء ضباط المكاتب العربية والمستشرقين على المخطوطات التاريخية واستثمارها فيما يخصهم ثم تضييعها بعد استلافها من أصحابها تحت إغراءات وتهديدات مقنعة. وبذلك فقد تاريخ الأشراف والمدن والعائلات الكبيرة والوقائع. وكان ذلك من أسباب شكوى المؤرخ عندما شعر بواجبه في كتابة تاريخ بلاده. وقد حمل عدد من الفرنسيين الذين ذكرناهم مخطوطات جزائرية في التاريخ إلى بلادهم بعد انتهاء إقامتهم، ولا نعرف الآن مصيرها.
3 -
بدراستنا لأحوال المخطوطات عرفنا أن كثيرا منها ضاع بطرق مختلفة، ومنها مخطوطات تاريخية هامة، فمنها ما جمعه وحمله أدريان بيربروجر إلى العاصمة من أبرز المدن بعد الحملات العسكرية الفرنسية، وكون منه نواة المكتبة الوطنية التي كانت في الواقع مكتبة فرنسية لخدمة الاستشراق والإدارة الاستعمارية. ومن جهة أخرى فإن مكتبات كاملة قد اختفت مثل مكتبة الجامع الكبير بالعاصمة التي كانت في العهد العثماني من أغنى المكتبات (1)، أو بعثرت ثم بيعت كما يباع ورق العطارين، مثل مكتبة الفكون في قسنطينة التي كان يضرب بها المثل في الغنى.
وكانت معرفة العربية والفرنسية من عوامل تطور الكتابة التاريخية فقد استثمر المؤرخ الجزائري الجديد معرفته للفرنسية فرجع إلى مصادر مختلفة واتسعت رؤيته وشحذت آراؤه وأفكاره بالآراء الأجنبية التي كانت أحيانا مخالفة لما كان متداولا أو معروفا من نظريات، مثل أصول السكان والوحدة الوطنية والدين الإسلامي والوجود الاستعماري والنمو الاقتصادي. وهكذا لاحظنا أن معظم الذين ألفوا في التاريخ خلال القرن العشرين كانوا يعرفون الفرنسية إلى جانب العربية، مثل ابن أبي شنب وبوليفة، والحفناوي، والساحلي والمدني، من الجيل الذي نتناوله. ولعل الاستثناء هو الشيخ
(1) انظر التاريخ الثقافي، ج 1، (حول المصادر).
انظر التاريخ الثقافي، ج 1، (حول المصادر).