المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌التفسير والدراسات القرآنية - تاريخ الجزائر الثقافي - جـ ٧

[أبو القاسم سعد الله]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء السابع

- ‌الفصل الأولالعلوم الدينية

- ‌تمهيد

- ‌التفسير والدراسات القرآنية

- ‌القراءات ورسم القرآن

- ‌الحديث الشريف

- ‌الأثبات

- ‌الإجازات

- ‌الفقه والأصول

- ‌في القضاء والأحكام

- ‌الردود والاعتراضات

- ‌مسألة تدوين الفقه الإسلامي

- ‌جهود أخرى في الفقه لبعض الجزائريين والمستشرقين

- ‌الفصل الثانيالعلوم الاجتماعية

- ‌المؤلفات الصوفية

- ‌في علم الكلام والمنطق

- ‌دراسات حول الإسلام والإصلاح

- ‌حول المرأة

- ‌موضوعات أخرى مختلفة

- ‌ظهور مالك بن بني

- ‌الفصل الثالثالعلوم التجريبية

- ‌الطب والتقاليد

- ‌ممارسات طبية في الأوراس

- ‌الطب السحري والخرافي

- ‌بعض المؤلفات في الطب والصحة

- ‌بعض التراجم

- ‌مدرسة الطب

- ‌الفلك

- ‌في الحساب والفرائض

- ‌علوم أخرى

- ‌مدرسة العلوم

- ‌الفصل الرابعالتاريخ والتراجم والرحلات

- ‌مفهوم التاريخ وتعريفاته

- ‌سيرة نبوية وتواريخ عامة

- ‌الأنساب والأشراف

- ‌تواريخ محلية (شرق البلاد)

- ‌تواريخ محلية (الغرب)

- ‌تواريخ محلية (الجنوب)

- ‌تاريخ الجزائر عموما

- ‌في التراجم والمناقب

- ‌المذكرات

- ‌الرحلات

- ‌المحتوى

الفصل: ‌التفسير والدراسات القرآنية

علم حقيقي. وكانت الإجازات مستعملة بين العلماء فأصبحت مستعملة أيضا بين المتصوفة.

‌التفسير والدراسات القرآنية

قلنا إن التأليف في التفسير خلال العهد الفرنسي كان قليلا، ولكن التفسير الشفوي كان متوفرا. وسنحاول أن نقول كلمة عن التفسير الشفوي قبل الحديث عن التفسير المكتوب. إلى عهد محمد بن يوسف أطفيش (حوالي الثمانينات من القرن الماضي)، كان التفسير مقصورا، على الدروس المسجدية أو في الزوايا أو في الخطب الجمعية والأعياد. فالعالم كان يختار آية من القرآن الكريم، عادة مما تسمح به الإدارة الاستعمارية، ويناسب موضوع الدرس أو الخطبة، ثم يأخذ في بيانها ومعانيها، حسب طاقته اللغوية والثقافية وحسب إدراكه لمحتوى المعاني. ونحن نقرأ في كتب السير والتراجم أن فلانا قد اشتهر بالتفسير. فيجب ألا نفهم من ذلك أنه ألف فيه أو وضع كراسا أو منهجا فيه، وإما المقصود أنه اشتهر بين المواطنين والمعاصرين بأنه يتناول في دروسه وخطبه الآيات القرآنية وليس الأحاديث أو الموضوعات الأخرى، وأنه كان صاحب صيت في ذلك، لأن علم التفسير لا يتعاطاه كل مدرس ولا كل خطيب.

ولنبدأ بالأمير عبد القادر، فهو لم يترك لنا تفسيرا مكتوبا، مهما صغر (1)، ولكنه كان يلقي دروس التفسير أثناء راحته وأمام جنوده، وكان يختار آيات الجهاد والصبر ووصف المعارك وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويستخلص منها العبر والمواعظ. وكان بيانه وحماسه يساعدانه على بلوغ قلوب المستمعين. وقد استمر على ذلك في سجن امبواز بفرنسا، ثم في بلاد الشام. ولكننا لا نعرف أنه قد ترك تفسيرا مكتوبا، كما ذكرنا. وفي قسنطينة

(1) تناول آيات وفسرها بالكتابة في كتابه (المواقف). انظر فصل العلوم الاجتماعية. وقيل إن للأمير تفسير (إذا الشمس كورت). انظر لاحقا.

ص: 9

اشتهر الشيخ أحمد العباسي بدروس التفسير قبل احتلال قسنطينة، وكان من قضاة الحاج أحمد وعلماء الوقت. وكذلك محمد ابن العنابي، صاحب (السعي المحمود) قبل نفيه من الجزائر سنة 1830. وقد استمر على ذلك بعد نفيه إلى مصر أيضا. وتشهد مؤلفاته في غير التفسير أنه كان قادرا على وضع تفسير جامع لأن استشهاداته بالقرآن كثيرة وثقافته الدينية عميقة، وقد كان جده أحد الذين تركوا تفسيرا مكتوبا خلال العهد العثماني، هؤلاء هم بعض المخضرمين من علماء الجزائر الذين درسوا التفسير ولم يؤلفوا فيه.

ثم ظهر جيل نما في عهد الاحتلال أو رجع من هجرته إلى الوطن في هذا العهد. ومع ذلك لا نجده قد مارس التأليف في التفسير وإنما اقتصر على سعة المعرفة في كتب التفسير والتدريس في بعض آيات القرآن الكريم، ولا ندري إن كان عدم التأليف فيه يرجع إلى ضعف ثقافة هذا الجيل فقط، كما ذكرنا، أو إلى القيود التي كانت الإدارة تضعها على تناول الموضوعات المستمدة من القرآن وتفسيرها بما يناسب مع روح العصر وحاجة الناس. ومن الذين تحدثت الوثائق عن اهتمامهم وقدرتهم على تعاطي التفسير الشفوي: حميدة العمالي، مفتي المذهب المالكي بالعاصمة خلال الستينات، وعبد القادر المجاوي، وحمدان الونيسي. ومحمد الصالح بن مهنة وعبد الحليم بن سماية وشعيب الجليلي ومحمد بن عبد الرحمن الديسي، بالإضافة إلى بعض شيوخ العلم والتصوف (الأحرار) أمثال بلقاسم الهاملي وبلقاسم البوجليلي ومصطفى بن عزوز البرجي (النفطي).

ومنذ 1920 اتسعت قائمة العلماء الأحرار، ورجع عدد من العلماء المهاجرين، وتضخم حجم الجمهور المثقف بالعربية وازداد الحماس للإصلاح والتغيير. وعرف الناس ما أطلق عليه اسم الدروس الحرة في المساجد الحرة، فكان (العلماء) ينطلقون عادة من آية قرآنية على منبر من المنابر أو في حفل ديني أو تعليمي، ومنها يحللون الأفكار وينقدون الأوضاع ويدعون إلى التغيير. كان هذا دأب دروس عدد من رجال الاصلاح الذين غطوا بنشاطهم في هذا المجال على نشاط رجال الدين الرسميين والمتصوفة

ص: 10

التقليديين. ولكن دروسهم لم تكتب ولم تنشر. ولا وضعوا منهاجا لتفسير كل القرآن أو جزء منه على نحو معين (وسنتكلم على من حاول ذلك منهم بعد قليل). إن ما نريد الإلحاح عليه هنا هو أن تفسير القرآن شفويا كان حجر الزاوية والمنطلق لمعظم دروس العلماء الأحرار خلال هذه الفترة. وكما كان الجيل الذي قبلهم يتفادى التفسير المنظم ويكتفي بدروس الفقه خوفا أو عجزا، كان هذا الجيل من العلماء الأحرار أكثر جرأة متخذين من تفسير القرآن غطاء دينيا لإبعاد أنظار السلطات الفرنسية عنهم. كما أنهم كانوا ربما أوسع ثقافة من زملائهم السابقين، فكانت جرأتهم لا تتمثل فقط في الدعوة إلى الاصلاح ومهاجمة الخصوم ولكن في اعتزازهم الثقافي وتمكنهم من التراث واتقان اللغة التي حرم منها زملاؤهم.

غير أن التفسير لم يكن مقبولا عند كل العلماء، فبعض هؤلاء كانوا يفضلون دروس الفقه والتوحيد على دروس التفسير. ذلك أن كتب الفقه والتوحيد تضع لهم منهاجا لا يخرجون عنه. والحكومة الفرنسية قد سمحت لهم بذلك لتعليم العامة قواعد العبادات وصفات الله. أما تفسير الآيات من القرآن الكريم فهو يحتاج إلى رخصة رسمية، وعلى المدرس أن يختار الآيات التي تناسب المقام، وأن يتقيد بالمرخص فيه في الرأي والاستنتاج. ثم إن التفسير ليس مؤطرا كالفقه والتوحيد، بل يحتاج إلى (اجتهاد) المدرس إلى حد كبير، وذلك لم يكن متوفرا لفئة العلماء الرسميين إلا ما ندر منهم.

ولذلك نقرأ في (رسالة الشرك) لمبارك الميلي أخبارا غريبة عن موقف بعض الكتاب والمدرسين من التفسير. فقد قال الميلي إن بعض العلماء والمتصوفة قد عارضوا دروس التفسير بدعوى أن صوابه خطأ وأن خطأه كفر. ونادى بعضهم بالاكتفاء بما ألف الأوائل من تفاسير، وكانوا يخافون من (الاجتهاد) في هذا المجال. ومما يذكر أن بعضهم قد كتب في جريدة (النجاح) ان الرجوع إلى الكتاب والسنة ضلال مبين وخسارة كبيرة!. وعارضت بعض الزوايا دروس التفسير في المساجد، وهي الدروس التي كان

ص: 11

يقوم بها العلماء الأحرار. وأثناء إلقاء ابن باديس درسا في التفسير بجامع سيدي عقبة قام له أحد المدرسين وأحدث ضجة وأعلن أنه لا فائدة من التفسير، والأولى منه درس في مختصر الشيخ خليل بن إسحاق في الفقه (1).

ولكن هذا الرأي لم يكن هو الأساس دائما، فقد وجدنا بعض العلماء الرسميين والمتصوفة قد فسروا آيات من القرآن الكريم بطريقتهم وحسب فهمهم. ولا شك أن ظهور الحركة الإصلاحية ونمو التيار الوطني السياسي، قد شجعا هؤلاء على الخوض في التفسير أيضا. كما أن الحكومة الفرنسية قد تغاضت عن ذلك حتى تترك للمناقشة طريقها، لأن نشاط علماء الاصلاح قد أظهر عجز علماء الإدارة ورجال التصوف عن مواكبة الركب السياسي والثقافي.

يذكر بعض مؤرخي الثقافة أن محمد معنصر الميلي بدأ تدريس التفسير سنة 1918 في الجامع الكبير بميلة، مبتدئا من سورة الفاتحة والبقرة. وكان له جمهور كيف. وكان هو من مزدوجي اللغة، ولكن ثقافته العربية كانت أقوى فيما يبدو، وقد درس في مسقط رأسه ثم قسنطينة، وتوظف رسميا، ثم ترك ذلك الوظيف واشتغل بالتدريس الحر، مكرسا جهده لتفسير القرآن الكريم. وقد قيل إنه كان ينزع إلى استخراج المعاني الجديدة من الآيات التي يفسرها، ويتعمد ذكر الأمراض الاجتماعية. ولكننا لا نعرف عنه ذلك إلا من خلال وصف تلاميذه وبعض معاصريه، أما الحقيقة فاننا لا نعرف طريقته ولا أسلوبه في التفسير، ولا أين انتهى فيه (2).

جمهور هذا النوع من المفسرين كان من العامة في أغلب الأحيان. إنه جمهور التجار والفلاحين، وبعض المتعلمين والطلبة، ولذلك كان عليم أن يتبسطوا في اللغة والمعاني، وأن يتناولوا موضوعات ذات صلة بهذا الجمهور مثل العقائد المزيفة والأمراض الاجتماعية والمعاملات. ولا ظن أنهم كانوا

(1) مبارك الميلي (رسالة الشرك)، ط. 2، 1966، ص 36 - 37.

(2)

انظر عنه فصل التعليم العربي - الإسلامي. وكذلك محمد علي دبوز (أعلام الإصلاح) 3/ 63.

ص: 12

يلقون بالعربية الفصيحة ولكن بالعربية المتفاصحة. ولو كان تفسيرا للقرآن بالفصيح وبالأسلوب العالي ربما لم يتابعهم فيه إلا القليل. ولكننا كباحثين عن الدليل لا نستطيع أن نحكم على قيمة هذا الجهد، لأن النص المكتوب يعوزنا. حقيقة أن هذا الجيل من المفسرين الشفويين قد أدى دوره وبلغ رسالته عن طريق الكلمة الناطقة، وكون شبابا وبعث شعبا كاملا بوسائله البيانية غير القلم، ولكن تجربته ستظل محدودة في الزمن، لأنها توقف بتوقف اللسان عن البيان.

كان الشيخ العربي التبسي من هؤلاء المفسرين أيضا. بدأ ذلك بعد رجوعه من دراسته في الأزهر الشريف. كانت دروسه في الجامع الكبير بتسبة. وقيل إنه بدأ التفسير للعامة ولمن حضره من الخاصة، من السور القصار وتنقل منها إلى البقرة. وكانت ثقافته الدينية الواسعة تؤهله لهذه المهمة، فقد كان مطلعا على التفاسير وعارفا بأحوال العصر ومقتنعا بدور العالم في هذا المجال. فكان يتخذ من التفسير وسيلة للدعوة إلى التقدم والنهوض، لأن القرآن في أساسه يدعو إلى ذلك. وكان يعتمد منهجا معينا، يقوم على شرح الألفاظ واستخراج المعاني وتطبيقها على الواقع. ولذلك كانت الدعوة إلى الاتحاد والتقدم واليقظة هي الغاية، وكذلك الدعوة إلى نبذ البدع، والعمل بما جاء به القرآن. إن التبسي لم يستمر في مكان واحد، فقد تنقل من تبسة إلى غيرها من مدن الغرب ثم قسنطينة ثم العاصمة. ولكنه لم ينفك عن إلقاء دروس التفسير ومواصلة ما بدأه إلى أن ختمه في آخر سنة 1956. وكان ذلك قبل استشهاده ببضعة أشهر فقط. وقيل إن تدريسه للتفسير دام اثنين وعشرين سنة (1).

وخلافا لبعض معاصريه كان الشيخ العربي التبسي يكتب أيضا في البصائر وغيرها. وكان يتناول في دروسه الوعظية وفي خطبه الدينية آيات من

(1) دبوز (أعلام) 2/ 44. جمع أحمد الشرفي الرفاعي بعض آثار الشيخ العربي التبسي. وسماها (مقالات في الدعوة إلى النهضة الإسلامية في الجزائر) قسنطينة، دار البعث، 1981. ولا ندري إن كان منها دروس في التفسير.

ص: 13

القرآن الكريم، ولا ندري الآن ما إذا كان من بين ما نشر ما يدل على طريقته في تناول التفسير.

وأحمد سحنون كان كذلك يجمع بين الدرس الشفوي في التفسير والمقال الصحفي الذي يستخرج فيه معاني بعض الآيات. وقد استمر على ذلك فترة طويلة، وكان ينشر إنتاجه على صفحات البصائر في باب دائم وخاص، ولكن هذا النوع لا يدخل أيضا في ما نحن فيه. إن الشيخ سحنون لم يسلك منهاجا في التفسير سار عليه خلال جزء أو أجزاء من القرآن الكريم، لنعرف منه، شفويا أو كتابيا، ما كان يرمي إليه وما أوجه مخالفته أو موافقته للمفسرين السابقين. وقد استمر الشيخ سحنون على طريقته المذكورة إلى ما بعد الاستقلال. واستطاع أن يؤثر في جيل من الشباب المتعلم - بعد الاستقلال - بأسلوبه الهادئ والأدبي والمستمد من القرآن الكريم (1).

أما التفسير المكتوب فلم يصلنا منه بالرؤية أو بالرواية، إلا عدد ضئيل، كما ذكرنا، وقد بقى بعضه مخطوطا بينما أصبح بعضه مطبوعا متداولا. وسنذكر هنا المؤلفات سواء كانت لمقيمين أو لمهاجرين. وسنتبع في ذلك ترتيبا زمنيا:

1 -

تحفة الأحباب في تفسير قوله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب} . وهو لعلي بن محمد الميلي الجمالي. قيل إنه من ميلة، واستوطن مصر، وبها توفي. وربما جاء مصر حاجا فأقام، أو جاءها متعلما أو مهاجرا. وله عدة مؤلفات أخرى سنذكرها في مكانها. ومن الواضح أن هذا التأليف لا يخص إلا أية واحدة. فنحن لسنا أمام كتاب في تفسير القرآن كله أو حتى جزء منه. ولم نطلع على هذا التألف ولم نر من وصفه (2).

(1) نشرت له في السنوات الأخيرة عدة مؤلفات، منها بعض مقالاته السابقة في البصائر. وهل منها بعض تفسيره أيضا؟.

(2)

معجم أعلام الجزائر، ص 121. توفي علي بن محمد الميلي بمصر سنة 1248 (1833).

ص: 14

2 -

تفسير {إذا الشمس كورت} للأمير عبد القادر، ولا ندري هل هو تفسير للسورة أو للآية (1).

3 -

التيسير في التفسير، ط. مسقط، سنة 1325، وهو في سبعة أجزاء.

4 -

داعي الأمل ليوم العمل، ط. مسقط، في أربعة أجزاء. وهو من سورة الرحمن إلى سورة الناس. وقيل إن المؤلف كان ينوي مواصلة هذا التفسير إلى أن يصل التأليف إلى 32 جزءا، ولكن توفي قبل إتمامه.

5 -

هميان الزاد ليوم المعاد. مطبوع في زنجبار، سنة 1888، وهو في أربعة عشر جزءا، وشمل تفسير القرآن كله.

هذه المؤلفات أو التفاسير الأخيرة الثلاثة هي للشيخ محمد بن يوسف أطفيثس المعروف بالقطب (2). وقد كان في زمنه من أبرز العلماء العاملين بعلمهم. تكون في فترة (الحماية) الفرنسية على ميزاب (1853 - 1882) ثم أخذ ينشر علمه ويطبع تأليفه في الجزائر وغيرها، ومنها مؤلفاته في تفسير القرآن الكريم. وقد كان الوحيد عندئذ الذي ألف في هذا العلم على ما نعرف. وكانت له من الإمكانات الأدبية واللغوية والمواهب العقلية ما أهله لخوض هذا البحر. فقد كان ولوعا بالأدب واللغة والتاريخ والبلاغة والحديث، وله اطلاع واسع على الحضارات ومساهمات الشعوب. وكان بالطبع طموحا وذكيا ويملك زمام القيادة الروحية والفكرية في ميزاب. كما كان من العلماء المستقلين عن الإدارة الفرنسية، أي أنه لم يكن موظفا يتقاضى أجره من هذه الإدارة التي كانت تسيطر على الشؤون الدينية وغيرها مما يتعلق بالجزائريين. وقد كانت له علاقات مع بعض علماء الفرنسيين الذين كانوا يستميلونه للحصول منه على معلومات في تاريخ المنطقة. فلم يكن الشيخ أطفيش معزولا في صومعة عن العالم من حوله، بل كان فعالا متحركا مشاركا. وقد سافر وارتحل، وراسل الأعيان عدة مرات.

(1) الخالدي (المهجرون الجزائريون)، قال إنه في مكتبة الأسد بدمشق، برقم 11470.

(2)

ترجمنا له في فصل السلك الديني القضائي.

ص: 15

أما تفسيره للقرآن فهو، كما لاحظنا، على عدة مستويات. والظاهر أنه لم ينطلق من مخطط واضح منذ البداية: هل يكتب تفسيرا ميسرا أو تفسيرا مطولا. فكان تفسيره المختصر (هميان الزاد) الذي ألفه وهو في العقد الثالث من عمره و (التيسير). ثم بدا له أن يضع تفسيرا مطولا وجامعا يكون عمدة التفاسير، فكان (داعي الأمل) الذي لم يتمه لسوء الحظ. ومن مميزات تفاسير الشيخ أطفيش أنها مطبوعة، وهو ما لم يتيسر لبعض علماء الجزائر الآخرين الذين ربما كتبوا ولم يطبعوا كتبهم.

اطلعنا من تفسير القطب على أجزاء من تيسير التفسير، فوجدناه طويلا في مخططه، لأنه انتهى في السادس منه إلى سورة (النحل) من قوله تعالى:{وقال الله لا تتخذوا الهين اثنين إنما هو إله واحد} ولا ندري هل أتمه، والظاهر أنه لم يفعل لأن بطاقات مكتبته في بني يزقن لا تذكر ذلك. أما الأجزاء التي ظهرت منه (من واحد إلى السادس) فقد طبعت بسلطنة عمان سنة 1325 (1).

وجاء في خطبة هذا التفسير، وهي مختصرة، إنه كان قد ألف في التفسير وهو في الخامسة والعشرين من عمره، كتابا سماه (هميان الزاد إلى دار المعاد). والظاهر أنه أحس بأن (هميان الزاد) كان دون ما كان يريد بعد أن تقدمت به السن، فأراد أن يضع تفسيرا جديدا يصب فيه أفكاره بعد أن نضج سنا وفكرا. كما أن تفسيره الآخر الذي سماه (داعي الأمل ليوم العمل) فقد كان متوسعا على من يريد الاختصار فخشي أن يتكاسل القراء عنه لتفاصيله. وأمام كل ذلك عزم على وضع تفسير جديد وهو الذي سماه (التيسير)، وتمنى على الله أن يجعله مما يغتبط به ولا يمله القارئ، كما تمنى عليه أن يوفقه لإكماله. ونبه إلى أنه وضعه على حرف نافع واتبع فيه مصحف عثمان (2).

(1) أما الطبعة الثانية فقد ظهرت بمطبعة عيسى البابي الحلبي - القاهرة 1981.

(2)

من خطبة تيسير التفسير، ج 1، ص 7. وكذلك رسالة من الشيخ محمد شريفي 14 أبريل، 1995.

ص: 16

يقع الجزآن اللذان اطلعنا عليهما في حوالي ألف صفحة (498 و 511). واستغرق الأول سورة البقرة، وابتدأ الثاني من سورة آل عمران. وبداية الأول تفسير البسملة والتبرك بها في كل مباح وما هو للعبادة. وقال إن البسملة لا تكتب في أول دواوين الشعر إلا إذا كان موعظة أو علما، أو فيما هو غير ممنوع شرعا، ثم فسر سورة الفاتحة. وهكذا، وقد اهتم فيه بتفسير اللغة والمعاني والنحو، واستشهد بالحديث وبالشعر أحيانا .. ولكن باختصار، ولم يذكر مصادره، وإنما هي تبدو غزيرة من الإحالات عليها، وأول الجزء الثاني هو تفسير سورة آل عمران، وآخره هو قوله تعالى من سورة النساء:{فللذكر مثل حظ الأنثيين، يبن الله لكم أن تضلوا، والله بكل شيء عليم} ويبدو أن المطبوع لا يساير المخطوط، لأن نسخة مكتبة بني يزقن تختلف في بدايتها عن ذلك.

سبق أن أول تفسير للشيخ أطفيش هو (هميان الزاد). وقد طبع سنة 1888 في زنجبار في أربعة عشر جزءا. وكان الشيخ عندئذ في أوج قوته الفكرية شبابه. ولا ندري مدى رواج هذا التفسير عندئذ. غير أن الطباعة في حد ذاتها قد ساهمت في التعريف به وبصاحبه. وكان نشره عشية ميلاد ابن باديس، وفي وقت كادت تتوقف فيه عجلة التاريخ الثقافي في الجزائر، ويكفي أن تعرف أنه هو وقت لويس تيرمان، الذي كان حاكما للجزائر، وكان من أظلم العهود في مجال التعليم على الخصوص، وكانت ميزاب، حيث الشيخ أطفيش، قد احتلت خلال هذا العهد أيضا. ويفهم من إشارات وجدناها في بطاقات مكتبة القطب أن أجزاء من هميان الزاد تحمل تاريخ شهر رمضان سنة 1271 وهي بخط المؤلف. وجاء في إحدى المراسلات أن الشيخ أطفيش قد انتهى منه في شهور سنة 1306 (1)، وهو بعيد مما ذكرنا من بطاقات المكتبة. ولم نطلع على الطبعة الجديدة من (هميان الزاد) التي يقول الشيخ شريفي إنه اتصل منها بالجزء الخامس وآخره سورة المائدة، وأنه أعيد

(1) محمد شريفي رسالة 14 أبريل، 1995.

ص: 17

طبعه سنة 1406? 1986. ويذهب أحد الباحثين المعاصرين إلى أن الشيخ أقد تأسف على انتشار- الهميان - لما تضمنه من أخبار وآراء ظهر له عدم صحتها وبعدها عن الموضوعية، مع تقدم السن، وتمنى لو أمكنه جمع نسخ الكتاب لإتلافها) (1).

أما تفسير الشيخ أطفيش الآخر، وهو (داعي الأمل)، فهو تفسير جزئي، بدأه بسورة (الرحمن) ولم يتمه أيضا. وقد وصل فيه إلى سورة (المزمل) عند قوله تعالى:{ورتل القرآن ترتيلا} . وأوله هو قول الشيخ: (قد علمت أن ترتيب السور والآي توقيف في الدرس والمصاحف ولو خالف ترتيب النزول. فهذه السورة (تأتي) بعد سورة {اقتربت الساعة} . أما آخر الكتاب أو الموجود منه فهو قوله: (وليس بالكثير، وذلك أمر بترتيل القرآن في الليل وغيره، وليست الآية في قيام الليل). أما حجم هذا الكتاب فلا ندري بالضبط. ففي رسالة الشيخ شريفي أن عدد أوراقه 322، وفي بحث السيد بوتردين أنه يقع في جزئين كبيرين، ولا نعرف إن كان (داعي الأمل) قد طبع حتى الآن.

مما اطلعنا عليه من تفسير الشيخ أطفيش نفهم أن صاحبه مهتم بتقريب المعاني القرآنية إلى أذهان قرائه في عصره وبأسلوبه المباشر والوعظي. ويبدو أن تفسيره يمثل خلاصات دروس كان يلقيها أو يمليها على تلاميذه، وربما على جمهور المساجد أيضا. ولذلك جاء تفسيره خاليا من الاستنباط العقلي الهادف إلى مطابقة القرآن لروح الزمان أو العصر الذي كان يؤلف فيه الشيخ، وهي الطريقة التي حاول أن يسلكها الشيوخ محمد عبده ورشيد ورضا وعبد الحميد بن باديس. ذلك أن هؤلاء جميعا قد عاصروا تحديات الاستعمار والمستشرقين والعلمانيين المسلمين الذين أخذوا يقولون أن القرآن لم يعد

(1) نفس المصدر. عن رسالة الماجستير التي كتبها الباحث يحيى صالح بوتردين بعنوان (محمد بن يوسف أطفيش)، وقدمها إلى جامعة عين شمس (القاهرة) سنة 1989/ 1410.

ص: 18

صالحا للعصر الحاضر أو أنه هو سبب تخلف المسلمين، وأنه سبب العداء بينهم وبين غيرهم. ولعل عيشة الشيخ أطفيش بعيدا عن المراكز الحضرية والصراعات الفكرية قد جعلت تفسيره كأنه يرجع إلى عصور خالية من حيث روحه وأهدافه. وقد نقول إن إقدامه على التفسير كان بدافع الخدمة الدينية والأدبية أكثر مما هو بدافع الخدمة العقلية والسياسية. فإذا كان هدفه هو ذلك فقد نجح نجاحا كبيرا. على أننا يجب ألا ننسى ما ذكرناه من أن زمن الإقدام على التفسير كان أثناء عهد تيرمان وما بعده، وفي ذلك تحد كبير للمخطط الاستعماري نحو الثقافة العربية - الإسلامية.

وربما أقيم للشيخ أطفيش حفل عند ختمه تفسير القرآن. فنحن لا نجد فيما لدينا من وثائق أن ذلك قد حصل. ولكن العادة قد جرت منذ القديم أن ختم القرآن درسا أو تأليفا يستحق صاحبه التكريم والتعظيم. وقد نال الشيخ حظوة كبيرة بتآليفه العديدة ودروسه ودوره الديني والاجتماعي. أما مناسبة ختم القرآن، إن كانت، فنحن نجهلها الآن.

لقد ظل تفسير الشيخ أطفيش هو الوحيد في الميدان، ولا نعرف أن عالما آخر، مستقلا أو موظفا، قد ألف في التفسير بعده إلى ظهور الشيخ عبد الحميد بن باديس، وقد بدأ ابن باديس دروسه في التفسير منذ سنة 1929، وكان يلقيها وينشرها تباعا في مجلته (الشهاب) تحت عنوان (مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير وحديث البشير النذير)، وفي 1939 ختم الشيخ ابن باديس القرآن الكريم، وأقيم له حفل يليق بمقامه العلمي وبإنجازه الكبير. وكان الاعتقاد عندئذ أن ختم القرآن هو عمل ديني قبل كل شيء. أما الجانب العلمي والأدبي فهو غائب أو ثانوي. وقد شارك المشاركون عندئذ في مدح الشيخ والإشادة بما قدمه للجزائر عموما وما قدمه للإسلام. وكان الشيخ الإبراهيمي هو الذي أشرف على الحفل الذي تبارى فيه الخطباء والشعراء، ولا نعرف أن عالما آخر ختم القرآن واحتفل به بمثل هذا الاحتفال في الجزائر. على أنه جرى مثل هذا الاحتفال بعد عدة عقود في ميزاب عندما

ص: 19

ختم الشيخ إبراهيم بيوض تفسير القرآن أيضا (1).

ظهر تفسير ابن باديس في عدة طبعات وأشكال، منها ما طبعته الشهاب، كما ذكرنا، ومنه ما جمعه وأصدره الشيخ محمد الصالح رمضان وتوفيق محمد شاهين بعد الاستقلال (1964)(2). ثم ما أصدرته وزارة الشؤون الدينية في الثمانينات. وهو من حيث الحجم لا يمثل عملا ضخما موسعا، في حجم أحد تفاسير الشيخ أطفيش. ولكنه من حيث القيمة يظهر عظيما، ويرجع ذلك إلى اهتمام ابن باديس بالربط بين معاني القرآن والحياة المعاصرة. ويمكن أن نسمي ذلك توليد المعاني من القرآن لكي تناسب دعوته إلى النهضة والأخذ بأسباب الحياة. فتفسيره ليس لفظيا قائما على بيان اللغة والدين والأدبيات القرآنية، ولا على ما ورد في القرآن من آثار وأخبار ومواعظ، وإنما هو تفسير لهداية المسلمين المعاصرين إلى ما في القرآن من حث على العمل والنهوض والاستعداد للتقدم والحياة المثلى في الدنيا والآخرة.

5 -

يذهب علي مراد الذي خص تفسير ابن باديس - بدراسة نقدية، أن هذا التفسير كان قد نشره ابن باديس في شكل مقالات في (الشهاب) خلال عشر سنوات، وكان توجهه فيه سلفيا، سار فيه على طريقة الشيخ محمد عبده وتلميذه رشيد رضا، وكان ابن باديس يهتم بإظهار الأصالة الإسلامية. وقد تميز تفسير ابن باديس بخصائص: منها أنه تجاوز فيه تقاليد الإسلام في بلدان المغرب العربي، تلك التقاليد القائمة على الطقوسية والحياة الشرعية والأحكام الفقهية بأسلوب جاف، وهو ما نجده عند الشيخ محمد بن يوسف أطفيش من المتأخرين. أما ابن باديس فكان يبحث، كما يقول علي مراد، عن حلول إسلامية للمجتمع الاسلامي أمام الغزو الغربي. وتشمل هذه الحلول الميادين السياسية والاجتماعية والثقافية، ولذلك فإن تفسير ابن

(1) لن نتناول تفسير الشيخ بيوض هنا لأنه خارج المرحلة التي حددناها.

(2)

نشر دار الكتاب الجزائري (دون تاريخ)، الجزء الأول، 496 ص.

ص: 20

باديس يدخل في نطاق مسألة الأفكار وصراعها مع الحياة المعاصرة في الجزائر.

لم يسر ابن باديس في تفسيره على الطريقة التقليدية، أي كان تفسيرا منتظما شاملا، ولكنه اقتصر فيه على أجزاء متفرقة، فهو تفسير جزئي. ولكنه اتخذ من القرآن وسيلة لتوضيح الأفكار المعاصرة من أجل بناء مجتمع إسلامي في نطاق المدنية الإسلامية المتلائمة مع روح العصر والوفية لروح الإسلام نفسه. وإذا نظرنا إلى حجم تفسير ابن باديس فإننا نجده يمثل أكبر قدر من كتاباته الفكرية. وقد ظهر فيه ابن باديس باحثا ناقدا موازنا وليس صحفيا يكتب بسرعة ليرد على رأي أو ليعالج مسألة آنية. ان ابن باديس قد ظهر فيه معلما رزينا ومستنطبا حكيما، خائضا في مسائل العقائد الإسلامية والأفكار المعاصرة، وهكذا يصبح تفسير ابن باديس مصدرا أساسيا للفكر الإصلاحي في الجزائر ولما سماه بعضهم بمدرسة (الشهاب)، وربما مصدرا أساسيا للفكر الاصلاحي الحديث عموما. ولذلك يحتفظ هذا التفسير بقيمته الخاصة رغم ما قد يوجه إليه من نقد أحيانا.

إن ابن باديس يظل في تفسيره متمسكا بالمذهب المالكي ومتحذرا في معالجة مسائل العقائد، فهو محافظ في نظر بعض المعاصرين ومن جاء بعدهم. ورأى علي مراد أن ابن باديس لم يخرج على التيار الفكري العام، كما خرج بعض العلماء المسلمين مثل مصطفى عبد الرازق المصري الذي عالج مسألة (الإسلام وأصول الحكم) سنة 1925. ولا مثل الطاهر الحداد التونسي الذي ألف كتابه المعروف (امرأتنا في الشريعة والمجتمع) سنة 1930. وربما كان لابن باديس هدف آخر من التفسير، وهو عند علي مراد، أن يظهر للمواطنين الجزائريين أن العلم الإسلامي غير مقصور على دراسة المنطق والفقه والنحو والأسلوب، وقد يكون أراد أيضا أن يفسر القرآن في الجزائر ليبين أن هذا الموضوع غير مقتصر على المشارقة، وأن بإمكان المغاربة أن يتفوقوا في هذا الباب. ولعله كان بإمكانه أن يفسر القرآن بطريقة الشيخ أطفيش أو البيضاوي أو الثعالبى. ولكنه اختار طريقة الشيخ عبده.

ص: 21

وهو معالجة الأفكار الأساسية في ضوء حاجات ومصالح العصر. وقد قلنا إن تأثر أيضا بتفسير رشيد رضا، وإنه، كما لاحظ علي مراد، اعتبر نفسه مسخرا من القدر لمواصلة رسالة رشيد رضا بعد وفاته سنة 1935 (1).

وقد سبقت الإشارة إلى أن الذي تولى جمع المقالات الأساسية لتفسير ابن باديس كما ظهرت في مجلة الشهاب، هو الشيخ محمد الصالح رمضان وزميله المصري توفيق محمد شاهين في منتصف الستينات. ويذهب علي مراد أن كتاب الشيخين المذكورين قد تصرف في المقالات الباديسية بالتقدم والتأخير والحذف. كما وقع التصرف في وضع العناوين. وقال أيضا إن الكتاب لم يتضمن تحلية ونقدا وإنما اكتفى بالجمع، وأن فيه أخطاء إملائية ولغوية (2).

ومهما كان الأمر، فإن تفسير ابن باديس، رغم أنه جزئ وأنه ظهر في شكل مقالات افتتاحية لمجلة الشهاب، قد تضمن منهجا لدراسة القرآن وفهمه وتقديمه للجمهور الإسلامي، متعلما وغير متعلم، وربما لو عاش ابن باديس طويلا لتفرغ لكتابة تفسير آخر شامل للقرآن كله، وبأسلوبه المذكور، لأن الوفاة قد أدركته وهو في أوج العطاء الفكري، على أنه يكفيه أنه قد وضع العلامات في الطريق.

6 -

وقد نسبت بعض الكتب إلى الشيخ أحمد بن عليوة تفسيرا لبعض

(1) علي مراد (ابن باديس مفسرا للقرآن)، ط. موتون، لاهاي، 1971، المقدمة. وقد درس علي مراد تفسير ابن باديس، كما ظهر في مجلة (الشهاب) 1929 - 1939. وقسم عمله إلى ثلاثة أبواب: الباب الثاني منها وعنوانه تفسير القرآن في الشهاب، وفيه عدة فصول، منها فصل عن منهج ابن باديس في التفسير. أما الباب الثالث فعنوانه: الموضوعات الرئيسية لتفسير ابن باديس، وفيه عدة فصول شملت الموضوعات الدينية، والأخلاقية والاجتماعية والسياسية والثقافية.

(2)

علي مراد، مرجع سابق، ص 250. والغريب انه قال أنه اطلع على هذا الكتاب عندما كان هو يوشك على الانتهاء من تأليفه الذي صدر، كما ذكرنا، سنة 1971.

ص: 22

الآيات والسور، فقد ذكر الباحث الإنكليزي (مارتن لانغز) الذي أصبح من أتباع الشيخ ابن عليوة، أن هذا فسر آيات من سورة (البقر) ووصل إلى الآية الأربعين منها. وقال (لانغز) إن هذا التفسير لم يطبع وأن مخطوطته الوحيدة موجودة في زاوية مستغانم العليوية. كما ذكر لانغز أن ابن عليوة قد فسر سورة (والعصر) تفسيرا فيه تصوف، ومن ذلك أنه فسر معنى (الخسر) بأنه (إشارة إلى حالة الإنسان البدنية على الأرض بالقياس إلى حالته الروحية الصرف في السماء بعد خلقه، ولكن قبل تصويره). وهناك إشارة ثالثة إلى اهتمام ابن عليوة بالتفسير إذ نسب إليه لانغز أيضا كتابا بعنوان (لباب العلم في سورة النجم) كتبه سنة 1915 (1).

وبقطع النظر عن روح التصوف التي تشيع في مؤلفات وآراء الشيخ أحمد بن عليوة، فإن ما نسبه له مارتن لانغز ليس تفسيرا بالمعنى الدقيق للكلمة، سواء بمنهج القدماء أو بمنهج المحدثين. وإنما هو فهم وتدريس وبيان لمعاني بعض الآيات من هذه السورة أو تلك. ولو اطلعنا على المخطوط الذي أشار إليه لانغز لعرفنا منه طريقة ابن عليوة في تناول بعض آيات سورة البقرة. وربما كان قد كتب مقدمة لهذا المخطوط يذكر فيها دوافعه وأهدافه ومنهجه من التفسير.

7 -

وهناك شيخ آخر قيل إنه ختم تفسير القرآن الكريم بالجامع الأعظم بتلمسان. ولا ندري متى كان ذلك بالضبط. ومهما كان الأمر فان هذا الشيخ هو علي البوديلمي بن محمد، وهو من الذين جمعوا بين العلم والتصوف. فقد درس على ابن باديس في قسنطينة، ثم توجه إلى جامع الزيتونة بتونس، ثم إلى القرويين بالمغرب، وتحصل على شهادات في العلوم الإسلامية وفي الحديث بالخصوص، وكان هذا الشيخ رحماني الطريقة، ثم مال إلى العليوية (الشاذلية). وتوظف عند الإدارة الفرنسية إذ ولته وظيفة مدرس بجامع تلمسان، بعد مسابقة جرت في وهران سنة 1942. وكان مفتي وهران عندئذ

(1) مارتن لانغز (الشيخ أحمد العلوي)، بيروت، 1973، ص 222.

ص: 23

هو الشيخ حسن بو الحبال (1).

جمع الشيخ علي البوديلمي إلى نشاطه المذكور نشاطه في الصحافة أيضا. فقد كان من جهة مدرسا، كما تقتضي وظيفته الرسمية، ولكنه أسس أيضا زوايا تقوم بنشر التعليم العربي، إما قناعة منه وإما منافسة لمدارس جمعية العلماء، وكذلك كان مديرا لمدرسة سيدي بومدين. ونشر البوديلمي صحيفة بعنوان (الذكرى) في تلمسان لا ندري كم دامت. وأثناء هذا النشاط، وربما أثناء إلقائه دروس الوعظ والإرشاد في الجامع الأعظم ختم الشيخ تفسير القرآن، حسبما ترجم له عبد الغني خطاب ونقل ذلك عنه الشيخ الهاشمي بكار. وقيل إن حفلا كبيرا أقيم بهذه المناسبة ألقيت فيه الخطب والقصائد. وربما يوجد في الصحف المعاصرة وصف لهذا الحفل، ووصف لمنهج التفسير الذي سار عليه الشيخ. ومهما كان الأمر فان هذا الختم كان شفويا وليس كتابيا، أي أنه نتيجة دروس كان الشيخ يلقيها مدة طويلة، إذ قيل ان وجوده في المهنة قد دام أكثر من ربع قرن (2). ولا ندري هل تأثر الشيخ البوديلمي في تفسيره بشيخه ابن باديس وبعض شيوخ الزيتونة والقرويين، أو تأثر بشيخه ابن عليوة وبعض شيوخ الزوايا الآخرين. وربما يكون في صحيفة (الذكرى) أو غيرها بعض نماذج من تفسيره.

وفي (المرآة الجلية) بعض التفاصيل عن حياة البوديلمي نذكر منها أن والده كان من أتباع الرحمانية ومن تلاميذ عبد القادر المجاوي في العلم، وقرأ في بجاية على السعيد الحريزي (الاحريزي)، واختلف إلى زوايا ومعاهد

(1) انظر عنه محمد الهادي السنوسي (شعراء الجزائر) فهو فيه أحد الشعراء خلال العشرينات.

(2)

الهاشمي بكار (مجموع النسب)، ص 174 - 176. انظر أيضا الجيلاني بن عبد الحكم وكتابه (المرآة الجلية)، المطبعة الخلدونية، تلمسان، 1953. إذ ترجم فيه للشيخ البوديلمي ص 351 - 357. ونشر الشيخ الهاشمي كتابه حوالي 1961، وعندما يقول: (إلى الآن) لا ندري هل يشير إلى التاريخ المذكور أو إلى تواريخ أخرى سابقة.

ص: 24

زواوة، منها معهد اليلولي ومعهد أحمد بن يحيى، وسافر (أي الوالد) إلى المشرق وتجول فيه، وتوفي سنة 1943 عن 96 سنة. كما أن والدة علي البوديلمي كانت من أصول صوفية إذ ترجع إلى سيدي علي الطيار بقرب برج بوعريريج. وكان والده مدرسا في زاويتهم بالمسيلة قرابة أربعين سنة، وكان له معاونون من العلماء والمرشدين.

أما علي البوديلمي نفسه فقد درس في زاوية أبيه بالمسيلة، ثم رحل إلى زاوية الهامل فقسنطينة حيث درس على ابن باديس والحبيباتني والطاهر زقوطة ويحيى الدراجي وغيرهم. ثم قصد تونس فدرس على مشائخ الزيتونة أمثال معاوية التميمي وأبي الحسن النجار، والطاهر بن عاشور. كما زار المغرب وأخذ علم الحديث هناك، وحصل على إجازات من شيوخه سواء في قسنطينة أو تونس أو في المغرب. وبعد رجوعه إلى زاويتهم بالمسيلة تولى التدريس بها ثم في غيرها مثل زاوية بوجملين، والجعافرة بزواوة، ثم اتجه غربا نحو غيليزان ثم مستغانم حيث درس وتتلمذ على الشيخ ابن عليوة الذي كان شاذليا - درقاويا. ولم يتفاهم مع خلفاء هذا الشيخ بعد وفاته سنة 1934، ولذلك أسس البوديلمي زاوية خاصة به في تلمسان، وجعلها للتدريس والتصوف، كما فتح زوايا أخرى في غير تلمسان ومنها واحدة في وهران. وكان فتح الزوايا لا يتم إلا بموافقة السلطات الفرنسية طبعا! وقد كان الشيخ البوديلمي موظفا رسميا عندها منذ 1942، كما ذكرنا. ولعل اهتمامه بالتصوف وقبوله الوظيف الرسمي هما اللذان حالا دونه ودون الانضمام إلى جمعية العلماء وبرنامجها الإصلاحي والتعليمي. ولنا أن نتصور أن الشيخ البوديلمي كان، رغم علمه، من خصوم جمعية العلماء. وقد كان نشاطه في تلمسان في الوقت الذي كان فيه الشيخ الإبراهيمي هناك ممثلا للجمعية (1). ولا نحسب أنهما كانا على وفاق، رغم أنهما من جهة واحدة.

(1) اعتقل الإبراهيمي سنة 1940 في الوقت الذي توفى ابن باديس. ونفى الإبراهيمي إلى آفلو حيث بقي إلى 1943 (سنة توظيف البوديلمي رسميا). انظر دراستنا عن الإبراهيمي في تلمسان في كتابنا أبحاث وآراء، ج 3.

ص: 25

كان البوديلمي يلقي دروسه في التفسير والحديث بالجامع الأعظم بتلمسان. ويهمنا الآن تفسيره للقرآن في دروسه. ولا نعرف أن تفسيره كان مكتوبا. وكان يخلط الدرس ربما بآرائه في التصوف، وكانت تعقد احتفالات سنوية يحضرها تلاميذه وأنصاره وأشباهه من العلماء. وقد عبر عنها صاحب (المرآة الجلية) بأنها نوع من سوق عكاظ حيث ففي الشعر والخطب. ومما يدل على الخلط بين العلم والتصوف أن ابن عبد الحكم يقول إن الاحتفال يشبه ما كان يقيمه ابن عليوة أثناء حياته. وقد نوه أحد رحالة المغرب، وهو الشيخ الوارزقي بدروس البوديلمي في الجامع الأعظم في الأخلاق والدين، وأخبر أن الناس كانوا يحترمونه ويلتفون حوله لتقبيل رأسه ويده. ولا شك أن هذا أيضا من تقاليد المتصوفين (1).

وللبوديلمي عدد من المؤلفات لم نطلع عليها، وليس منها عنوان في تفسير القرآن الكريم، وقد ذكرها له صاحب (المرآة الجلية)(2).

أما المفتي الحنفي محمد العاصمي فقد كان يلخص تفسيره لبعض الآيات في مجلة (صوت المسجد)، ولعله كان يلقي دروسا في الجامع

(1) ابن عبد الحكم (المرآة الجلية)، ص 351 - 357. عن مقالة نشرت في جريدة (النجاح) 8 ديسمبر 1951. وذكر ابن عبد الحكم بعض القصائد التي قيلت في إحدى هذه المناسبات العكاظية.

(2)

(المرآة الجلية). لا ندري هل هذه المؤلفات مطبوعة أو مخطوطة ولا محتوياتها. ويبدو أنها من نوع الوعظ والإرشاد والردود. وهي:

1 -

إماطة اللثام.

2 -

رفع التلبيس عن وساوس إبليس.

3 -

حاجة البشرية إلى الدين.

4 -

الرسالة الديلمية في صيانة العائلة الإسلامية.

5 -

كشف الغيم في قضية عيسى بن مريم.

6 -

رماح علاء السنة المحمدية. (وربما كان هذا انتصارا لجمعية علماء السنة التي نافست جمعية العلماء برئاسة ابن باديس بعض الوقت 1932 - 1934).

7 -

ديوان في المديح والأذكار.

ص: 26

الجديد، حيث مقر المفتي الحنفي. وكان العاصمي من العلماء الأدباء، وقد تناولناه في مناسبة أخرى عندما كان يكتب المقالات الصحفية ويستنهض الهمم في العشرينات والثلاثينات. ويبدو أنه لم يبق على ذلك التيار الفكري بعد أن أصبح من الموظفين الرسميين. ومهما كان الأمر، فقد لاحظنا أنه كان يعرض لبعض الآيات ويفسرها تفسيرا ملخصا موجزا بعبارات بسيطة كأنها موجهة للعامة وللمبتدئين، ومعظمها في معاني دينية وأخلاقية. ونعترف بأننا لم نطلع على كل ما لخصه من التفسير في المجلة المذكورة. ولا ندري متى تولى الفتوى وأخذ في التدريس في علم التفسير، ولكن المجلة ظهرت في خريف 1948 لتعبر على حال (رجال الديانة الإسلامية) الموظفين لدى الإدارة الفرنسية. واستمرت بضع سنوات.

وقد وصلتنا أعداد من (صوت المسجد) من سنة 1949 - 1951، فوجدنا افتتاحياتها تحمل هذا العنوان الطويل:(عرض وتلخيص واستنتاج من تفسير الذكر الحكيم) بقلم محمد العاصمي. وطريقة ذلك أنه يذكر آية ثم يعرض معناها ويلخصه ويستنتج منه باختصار، وليس في (الاستنتاج)، بمعنى الاستنباط، ما يذكر هنا. فالمساحة لكل ذلك عبارة عن صفحة. وقلما يسقط معنى الآية على الأوضاع الحاضرة، ورغم بساطة الأسلوب فإن المعنى يظل بعيدا عن الواقع. ومهما كان الأمر فان ما كتبه العاصمي في هذا الصدد لا يخرج عن مهنة الوعظ والإرشاد التي كان يقوم بها في حدود ما تسمح به الظروف الإدارية.

وقد أفادنا بعض الشيوخ (1) أن العلماء الآتية أسماؤهم قد مارسوا التفسير في دروسهم أيضا - دون التأليف - وهم:

1 -

محمد المولود بن الموهوب، أحد علماء قسنطينة في أول هذا القرن (توفي 1939).

2 -

الهاشمي بن الحاج اليعلاوي.

(1) محمد الحسن عليلي، رسالة في شهر مايو، 1995.

ص: 27

3 -

الفضيل إسكندر، أحد علماء المدية.

ورغم إمكانات العقبي والإبراهيمي العلمية فاننا لا نعرف أنهما وضعا مشروعا لتفسير القرآن الكريم. كان كل منهما منهمكا في تكوين الجيل والتلاميذ ومحاربة خصوم الإصلاح والتمهيد للنهضة الوطنية. وكان الإبراهيمي بالخصوص قد تولى قيادة جمعية العلماء في مرحلة صعبة، منذ 1940، وعاش خلال ذلك عدم الاستقرار الجسماني والنفساني: الاعتقال، وأحداث مايو 1945، والسهر على معهد ابن باديس والمدارس الابتدائية، وإدارة البصائر، ومواجهة الهجمة الاستعمارية المتمثلة في قانون الجزائر (سنة 1947)، ولعبة الأحزاب وتزوير الانتخابات، ثم حان وقت خروجه إلى المشرق وقيام الثورة. ونظن أنه لو استقر ووطن نفسه على كتابة تفسير للقرآن لكان بإمكانه ذلك. على أنه مثل عدد من زملائه كان يتناول تفسير الآيات في الدروس الشفوية وفي المقالات المكتوبة. وكان ربما أقدرهم على تشقيق المعاني وتوليد الأفكار والتطبيق على الحاضر، بطريقة لا تختلف كثيرا عن منهج ابن باديس ورشيد رضا.

8 -

من بين الكتب التي جمعت بين التفسير والدراسة للقرآن الكريم كتاب (الظاهرة القرآنية) لمالك بن نبي. صدر هذا الكتاب بالفرنسية في الجزائر سنة 6 194. وربما كان هو أول كتاب للمؤلف - بعد رواية لبيك (1) - وقد تناول فيه القرآن الكريم وإعجازه، وعلامات النبوة، ودرس فيه أيضا علاقة الدين بالنفس الإنسانية والغريزة، ونبه فيه الشباب الإسلامي، لا سيما المتعلم في البلدان الغربية، إلى تفادي الأخطاء التي يقع فيها المستشرقون أو دسائسهم أحيانا. ويعتبر كتاب (الظاهرة القرآنية) جديدا في بابه، كما لاحظ

(1) تذكر بعض المصادر أن (لبيك) قد صدرت سنة 1947 بالجزائر، وأنها بالعربية. وأنها تمثل التفكير الاجتماعي للمؤلف. انظر أسماء رشدي (الإسلام في التاريخ والمجتمع)، الباكستان، معهد البحوث الإسلامية بإسلام آباد، 1988. وهذا الكتاب ترجمة إنكليزية (من الفرنسية) لكتاب مالك بن نبي (وجهة العالم الإسلامي). انظر المدخل.

ص: 28

على ذلك الشيخ محمود شاكر الذي قدمه.

ترجم الظاهرة القرآنية إلى العربية عبد الصبور شاهين وطبعه في مصر سنة 1961. وكتب ابن نبي للترجمة مدخلا جديدا، قال فيه إنه أعاد تأليف الكتاب من أصوله بعد أن (أحرقت في ظروف خاصة). ونحن لا ندري ما (الأصول) التي أحرقت، هل يقصد بذلك الطبعة الفرنسية، أو يقصد مسودات الكتاب قبل ظهور الطبعة الفرنسية؟ ومهما كان الأمر فإن ابن نبي قد رأى أن الكتاب غير كاف لتوضيح رأيه في علاج ما أسماه مشكلة الظاهرة القرآنية. وقد أخبرنا وهو يكتب المدخل للطبعة العربية بعد نزوحه إلى مصر سنة 1956، أنه جمع ما بقي عنده من قصاصات مكتوبة وتسجيلات الذاكرة، وبذلك (أنقذنا

جوهر الموضوع، وهو الاهتمام بتحقيق منهج تحليلي في دراسة الظاهرة القرآنية) (1).

وفي المقدمة التي كتبها عبد العزيز الخالدي لكتاب (شروط النهضة) قال عن (الظاهرة القرآنية) إن ابن نبي قد (حشد فيه مشاكل وجاء فيه بطريقة جديدة في تفسير القرآن للمرة الأولى). وبناء على الخالدي فإن ابن نبي قد تأثر في الظاهرة القرآنية) بمشهد شباب الإسلام الذين استهوتهم المناقشة الخطيرة بين العلم والدين: فاستنتج من ذلك نتانج (أراد تبليغها للضمائر الأخرى)(2).

ومن الواضح أن الظاهرة القرآنية في طبعته العربية قد تطور وأضيف إليه وابتعد كثيرا عن الطبعة الفرنسية. وذلك بعد الإضافات والتنقيحات وإعادة الترتيب. فنحن إذن في الطبعة العربية الثالثة أمام كتاب جديد تقريبا. وقد نوه به وبطريقة مؤلفه عدد من الباحثين في أساليب وتفسير القرآن، ومنهم الشيخ

(1) ابن نبي (الظاهرة القرآنية) ترجمة عبد الصبور شاهين، ط 3، 1968. وقد جاء في الهامش أن المدخل سبق نشره في (رسالة مستقلة). ولا ندري كيف حدث ذلك.

(2)

ابن نبي (شروط النهضة)، ط. دمشق، 1986، ص 7.

ص: 29

محمود شاكر. وأخبرنا هذا أنه كان قد وقع في ما وقع فيه مالك بن نبي من القلق، وأنه فكر في نفس المنهج، ولكن ابن نبي استطاع أن يعبر عن قلقه وأن يصدر كتابه بمنهج جديد، بينما بقي شاكر في حيرته إلى أن اطلع على هذا الكتاب. يقول شاكر إنه بعد قراءته للظاهرة القرآنية وجد نفسه (يسير في دروب قد طال عهدي بها). وفي نظره أن ابن نبي لم يؤلف الكتاب (إلا بعد أن سقط في مثل الفتن التي سقطت فيها من قبل، ثم أقال الله عثرته بالهداية، فكان طريقه إلى المذهب الصحيح هو ما ضمنه كتابه من بعض دلائل إثبات إعجاز القرآن وأنه كتاب منزل). وفي نظر الشيخ شاكر أن المنهج الذي سلكه ابن نبي يستمد أصوله من تأمل عميق في طبيعة النفس البشرية وفي غريزة التدين عند الانسان وفي تاريخ المذاهب والعقائد التي توصف بالتناقض أحيانا. ومن جهة أخرى استمد منهج ابن نبي أصوله من الفحص الدائم في تاريخ النبوة وخصائصها وفي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم في القرآن الكريم على أنه كلام الله وليس من كلام البشر.

إن معركة الدين والعلم، والعقل والشك، وصراع الثقافات والأفكار ليست جديدة، فقد جربها علماء الإسلام منذ عهود غابرة. وقد شهد عصر ابن نبي حرب الثقافات. وإذا كانت حروب الاستعمار بطريق الغزو والغلبة قد انتهت أو خفت، فإن حرب الثقافات أو ما يسميه ابن نبي (صراع الأفكار) ما يزال على أشده. (وهو أخطر المعركتين وأبعدهما أثرا، على تقويض الحياة الإسلامية والعقل الإسلامي. كما استنتج الشيخ شاكر. ويتجه الاهتمام بدور التكوين في الجامعات الأجنبية وتأثير الدراسات ووسائل الإعلام الغربية وأعمال المستشرقين على شباب العالم الإسلامي، وإخراج نماذج منهم جنودا لهم في هذا الميدان، يعملون عن علم أو جهل على تعتيم الحياة الإسلامية والعقل الإسلامي. ومن ذلك إدخال المستشرقين الشك في الأصول القديمة التي قامت عليها أدلة إعجاز القرآن وتدمير الوسائل الصحيحة للتوصل إلى ذلك.

فهل نفهم من هذا أن كتاب الظاهرة القرآنية هو إثبات إعجاز القرآن

ص: 30

والدفاع عن ظاهرة النبوة والرد على المستشرقين ومن سار في ركابهم، مثل طه حسين، حين شككوا في الشعر الجاهلي؟ إن الظاهرة القرآنية يتعرض لهذه القضية بوضوح. وهو يذكر مارجليوث وطه حسين بالإسم، ويقول الشيخ شاكر إن ابن نبي قد خرج من هذه القضية الأدبية - التاريخية إلى قضية تفسير القرآن نفسه. وقارن الأسلوب القرآني بأسلوب الأدب الجاهلي، وأوضح تفوق كلام الله (القرآن) في ذلك. ولو طبق المنهج الذي جاء به مرجليوث لانهار الدليل على تفوق القرآن وإعجازه. لكن من رأى شاكر أن هذه المسألة (المقارنة) خارجة عن إعجاز القرآن. ذلك أن غاية علم التفسير إنما هي (بيان معاني ألفاظ (القرآن) مفردة، وجملة مجتمعة، ودلالة هذه الألفاظ والجمل على المباني، سواء في ذلك آيات الخبر والقصص، وآيات الأدب، وآيات الأحكام، وسائر ما اشتملت عليه معاني القرآن. وهو أمر عن إعجاز القرآن بمعزل). وإذن ما هو إعجاز القرآن وكيف نتوصل إليه؟ يقول الشيخ شاكر: أما الأمر المرتبط بالشعر الجاهلي، أو بقضايا الشعر جميعا، والمتصل بأساليب الجاهلية وغير الجاهلية وأساليب العربية وغير العربية، ومقارنتها بأسلوب القرآن، فهو علم إعجاز القرآن ثم علم البلاغة (1).

عالج مالك بن نبي في (الظاهرة القرآنية) عدة قضايا، منها، كما قلنا، دلائل النبوة، وعلم التفسير، ومسألة إعجاز القرآن، ومقارنة النصوص القرآنية ببعض نصوص الكتب المقدسة الأخرى. ورد ابن نبي على بعض آراء المستشرقين في مسألة الأصول النفسية والأدبية للتراث العربي قبل الإسلام وصلته بالقرآن وإعجازه. واعتمد على بعض النظريات الحديثة وثقافته العلمية الواسعة وعلى بعض المذاهب النفسية والأدبية التي ظهرت منذ الحرب العالمية الأولى، من أجل إثبات نظريته في إعجاز القرآن ودلائل النبوة. وإذا نظرنا إلى كتاب (الظاهرة القرآنية) على أنه أول تأليف له ضمن سلسلة من

(1)(الظاهرة القرآنية)، مدخل محمود محمد شاكر، ط 3، 1968، ص 8 - 10، وهنا وهناك.

ص: 31

المؤلفات اللاحقة، علمنا الأساس الذي انطلق منه ابن نبي في اتجاهه الفكري، وهو تنوير الشباب الإسلامي وربط الحاضر بعهد النهضة الإسلامية الأولى، وبث روح الأمل والانطلاق نحو نهضة إسلامية جديدة (1).

وهناك إنتاج آخر متصل بالقرآن قام به بعض الجزائريين، ونعتقد أن هنا مجال الحديث عنه. ونقصد بذلك ترجمة القرآن وبعض الدراسات المستمدة منه. أما الترجمة فقد قام بها جزائريان وهما: أحمد لعيمش ومحمد بن داود. الأول كان قاضيا ومتخصصا في الفقه والدين والتوثيق، والثاني كان ضابطا، في الجيش الفرنسي مدة حياته. وقد ظهرت الترجمة الفرنسية سنة 1933، كما نفهم من تعليق المعلقين عليها (2). وكانت الترجمة إلى الفرنسية محتكرة في الماضي للعلماء الفرنسيين. ويبدو من تعليق السيد كنار أنه إذا كانت ترجمات المستشرقين تفتقر إلى الدقة أحيانا وإلى عدم الإلمام بكل الجوانب التاريخية واللغوية، فان الترجمة الجزائرية لم تخل أيضا من المآخذ. ومن ذلك ترجمة الآية {لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف} بالتعود على الهجرة، بينما هي، حسب رأي كنار، تعني القافلة التجارية. وانتقد المترجمين على جهلهما معنى (إيلاف) التي تعني عنده عهد الأمان والرخصة التي كانت قريش تحصل عليها من ملوك الفرس والروم لكي يتاجروا دون إزعاج من الدولتين المتحاربتين. وكلمة إيلاف قد شرحها المسعودي في المروج وفسرها بالأمان وكذلك الطبري. كما انتقد كنار ترجمة لعيمش وابن داود على افتقارها للتعاليق والتوضيحات لأن القرآن لا يفهم وحده بنصه فقط، سيما عند القارئ العادي. كما انتقد كثرة الأخطاء

(1) من يتأمل في مذكراته جيدا يدرك أن ابن نبي كان خلال عقدين (1925 - 1947) يحضر نفسه لهذا الدور.

(2)

ماريس كنار في (المجلة الإفريقية)، 1933، عدد 74، ص 366 - 368.

ص: 32

اللغوية والتعبيرية. ولكن كنار أشاد بالترجمة من جهة أخرى وهي أنها تعبر عن إخلاص المترجمين وحماسهما، وأنها جاءت من مسلمين وليس من مستشرقين (1).

9 -

في سنة 1954 صدر إعلان عن قرب صدور كتاب بعنوان (مقاصد القرآن) للشيخ محمد الصالح الصديق (2). وقد صدر منه جزء في آخر هذه السنة. وكان صاحبه يخطط لوضع أجزاء لما اختاره من موضوعات في مقاصد القرآن، ولكن أحداث الثورة والوضع المادي له جعله يجمد المشروع إلى سنة 1982 حين أعاد طبع الأول وأضاف إليه جزءا ثانيا (3). قال عنه أحد المراجعين للكتاب انه (تفسير توجيهي) لبعض آيات القرآن الكريم. وقد شملت الموضوعات قضايا دينية وفكرية واجتماعية. ونحن إذ نتحدث عن الطبعة الثانية نلاحظ أنها تضمنت ثمانية أبواب وفي كل باب فصول، وفي كل فصل تفسير آية معينة. وتضمن التفسير العناية بالتوضيح اللفظي والشرح المعنوي، أي المعنى الإجمالي للآية وإسناد ذلك بالبراهين من الحديث والآيات وآراء بعض العلماء. وفي ذكر عناوين الأبواب بيان لمحتوى الكتاب فهي: التوحيد، والعقائد والدين، والتشريع، والعبادات، والقصص، وإعجاز القرآن، وأصول المثل الأعلى، والنظم الاجتماعية. وبعض الأبواب قد شملت أكثر من عشرين فصلا، ولكن بعضها لا يضم سوى فصل واحد مثل فصل إعجاز القرآن.

وهذا التناول داخل في الدراسات القرآنية أكثر مما هو في تفسير القرآن. ولكنا ذكرناه هنا لأن مؤلفه ركز كثيرا على إيراد الآيات وشرحها شرحا يدعم المقصد الذي يرمي إليه. والشيخ الصديق أديب وفقيه وله فكر

(1) ظهرت الترجمة في وهران وباريس، دون تاريخ.

(2)

ط. بالمطبعة العربية بالجزائر (1954 أو 1956؟). راجعه الشيخ حمزة بوكوشة (؟) في البصائر، 23 مارس 1956.

(3)

ط. 2، مطبعة البعث، قسنطينة، 1403/ 1982، 563 ص. رسالة من الشيخ علي أمقران السحنوني (بخط الشيخ محمد الحسن عليلي) مارس 1995.

ص: 33

نير، فانسجم عنده فهم القرآن مع أفكار العصر، ولا ندري مدى تأثره بأسلوب ابن باديس ورشيد رضا في تناول موضوعات كتابه، ولكنه درس على بعض شيوخ الزيتونة المتنورين. وهكذا فان تناوله للآيات القرآنية ليس تناولا تقليديا جامدا، وإنما هو تناول يسير في نظرنا في تيار الاصلاح الذي نادى به ابن باديس.

10 -

وآخر ما نشير إليه هو الكتيب الذي أصدره محبوب محمد بن بلقاسم سنة 1956 تحت عنوان (تمرد القرآن على العصور). وهو ليس في موضوع التفسير نفسه ولكنه محاولة لفهم القرآن فهما أدبيا خاصا. ويبدو أن المؤلف كان من الشباب الثائر المتحمس الذي تظهره الصورة حاسر الرأس وبلباسه الأروبي. وجاء في (المقصد) أن القرآن الكريم تطرق إلى جميع المواضيع التي تتصل بالحياة البشرية، ثم رأى أن القرآن ليس خاصا بجيل دون آخر، ولا بزمن محدود وأنه كتاب مليء بالأسرار التي يكتشفها كل جيل حسب إمكاناته. ورأى في (المقدمة) أن تفسير القرآن حق مشاع بشرط ألا يتنافى تأويله مع القواعد اللغوية. وقام المؤلف الشاب ضد الذل احتكروا تفسير القرآن!، ورأى أن القرآن ليس كتاب عبادة ودين فقط، ولكنه كتاب أدب وتاريخ وقانون، الخ. ومن الموضوعات التي طرقها المؤلف في فهمه وتأويله للقرآن هذه العناوين: القرآن والاختراع، القرآن والمأساة، القرآن والمنكوبون في الحب، القرآن والمذنبون، والدبلوماسية في القرآن. وقد ضاق المؤلف، فيما يبدو، باحتكار فهم القرآن للفقهاء فقط، فرأى أن يسجل رأيه بحرية ويحاول فهم القرآن فهما مباشرا بنفسه. ولكنه لا يذكر مراجع ولا يحيل على تفاسير أخرى (1).

(1) الجزائر، المطبعة العربية، 1956، 32 صفحة. ذكر سهيل الخالدي (المهجرون

) أن هناك تفسيرا للقرآن الكريم، مخطوط في المكتبة الظاهرية (الأسد) ونسبه للبهلول عمر بن محمد المحجوب. وهو تحت رقم 7122. انظر الخالدي، ص 414. ولا نعرف عن المؤلف ولا عصره الآن شيئا. وربما ألف الشيخ طاهر الجزائري وغيره في التفسير أيضا.

ص: 34