الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
على نجاح العمليات. غير أن المؤلف (سيمسون) لم يستطع أن يحصل على إحصاء دقيق لعدد العمليات الناجحة. وتبين من الكتاب أيضا المعرفة الجيدة للأوراسي بالأعشاب وأنواعها وفوائدها. ويدعى الطبيب الأوراسي أن كل النباتات لها فوائد ومنافع طبية، ولكن الناس لا يعرفون كل خصائصها. وهذا الطبيب كان يجمع بنفسه الأعشاب التي يحتاجها ويعالج بها. كما كان يتردد على صيدليات الأوروبيين من وقت إلى آخر في باتنة وبسكرة، ولكنه لا يستفيد منها إلا القليل، وذكر سيمسون أنواع الأمراض التي كان يعالجها أطباء الأوراس. وفي النهاية نعرف أن سيمسون نشر ملاحظاته عن الطب (العلمي) في الأوراس بينما أجل نشر ملاحظاته عن الطب (السحري) أو الخرافي. وهذا في حد ذاته فصل هام من مسيرة الطب في الجزائر. ولا نعرف أن سيمسون قد نشر الجزء الآخر من كتابه.
الطب السحري والخرافي
لقد كتب الكثير عن الطب الشعبي - الخرافي في الجزائر، من كتاب مسلمين وفرنسيين. ونعني به تلك الممارسات التي ارتبطت بالعقائد القديمة في الأشياء والأشخاص على أساس المضرة أو النفع. فمع انتشار الجهل بين العامة وابتعاد الخاصة عن التعلم واستعمال العقل، وجدنا المجتمع قد اعتقد في وسائل أخرى للتداوي ليست هي دينية ولا علمية. أصبح الشفاء والسقم والنفع والضر يأتي من قبل شجرة أو ضريح ولي أو ماء معين أو كتابة على حرز (حجاب) أو نحو ذلك. وقد شاعت خطوط الرمل وكتابة الحروز وقراءة البخوت واستطلاع الغيب، والكشف الصوفي، كما شاعت أنواع النشترة والعزائم والتمائم التي لها أصول ربما مفيدة، ولكنها تحولت إلى ممارسات استغلالية واستسلام بليد لسلطة روحية ونفسية طاغية. وقد روى الشيخ مبارك الميلي نماذج من ذلك في كتابه (رسالة الشرك ومظاهره)، وهو الكتاب الذي أصدره خلال الثلاثينات من هذا القرن. فقال عن صفة العزيمة إن القارئ يقرأ على من يظن أن به مسا من الجن سورة الجن من القرآن الكريم في غالب
الأحيان، وتكون بيده فتيلة قد أحرق رأسها ويكوي بها أنف المصاب. وقد يدخن له ببخور، وقد يكتب له شيئا مما هو مدون في كتاب (شمس المعارف) للبوني. أما النساء فلا تسأل عن لجوئهن إلى تنزيل القمر في القصعة حتى كان القمر خبزة، وكم تستعمل النساء السحر وحل الأزواج وربطهم، وكم يصدر عنهن من وصايا سحرية ومن رقى ومن أوصاف أدوية لبناتهن وصاحباتهن (1).
ووصف الميلي أيضا النشرة (بضم وتضعيف النون) وقال إنها من أنواع التطبب ولها حكم الرقية والتميمة حسب قوله. وعرفها بأنها تعويذة يعالج بها المريض والمجنون، وهو يعلقها تميمة أو يمحوها ويشرب ماءها أو يدهن بها. فالنشرة هنا كأنها هي تفريق المرض عن المريض، حسب تعريف الميلي. وتعني النشرة أيضا السحر وإبعاد السحر عن المسحور. وترتبط النشرة بالجن غالبا حتى أن اسم الله لا يذكر على الذبيحة إرضاء للجن (2). ونسب الميلي هذه التصرفات إلى بعض المشائخ، ومنهم شيخه الذي تعلم عليه القرآن. وأشهر منه الشيخ العبيدي الذي كان يتصرف في الجنون فيخرجه من فلانة ويسجنه في زجاجة، وقد يدعي إحراق بعض الجن وتوبيخ آخرين (3). وهكذا. أما الطيب العقبي فقد سخر من مثال هذه الممارسات في قصيدته (إلى الدين الخالص) عندما أعلن عن عجز هؤلاء (الأطباء الروحيين) عن إزالة الحشرات فما بالك بجلب البرء ودفع الضرر:
لست أدعوهم، كما قلتم، وقد
…
عجزوا عن طرد بق أو قراد
وقد انتشر الطب السحري رغم ظهور بعض الأطباء الجزائريين الذين تخرجوا من الجامعات الفرنسية. ويبدو أن الإغراق في الطب السحري قد جاء مع الإغراق في التصوف منذ أواخر القرن الماضي. وكذلك مع الإغراق
(1) الميلي (رسالة الشرك)، ط. 2، 1966، ص 153 - 159.
(2)
نفس المصدر، ص 237 - 238.
(3)
نفس المصدر، ص 153. وقصيدة العقبي المذكورة منشورة في (شعراء الجزائر) 1/ وفي رسالة الشرك للميلي.
في الجهل. فقد انقطعت العامة عن الهداية الدينية والعلوم العملية وتدهورت أوضاعها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وتعلق الناس في التداوي والعقائد بالشيوخ والأشباح والجن والأرواح والممارسات الشيطانية. وارتبط ذلك كله بظهور موجة من البدع والخرافات الغريبة عن الدين والعلم والعقل. وكان ذلك يلذ للسلطات الفرنسية، فكلما غرق الناس في البدع والخرافات والسحر والتعلق بالشيوخ كلما هدأت الأوضاع واستقرت البلاد في نظرها. وكان علماء الاجتماع الفرنسيين ينشرون فكرة جديدة أوائل هذا القرن، وهي أن المجتمع الجزائري سيتحلل من الداخل بنفسه وينتهي أجله عما قريب (1).
وظاهرة اللجوء إلى الممارسات السحرية والطب الخرافي لم تكن خاصة بجهة من الجهات. وقد رأينا من النماذج التي ساقها الميلي ما كان يحدث في بعض الجهات الشرقية. وفي سنة 1907 كتب أبو بكر عبد السلام بن شعيب دراسة عن (المرابطين المداوين) في الناحية الغربية، سيما تلمسان وضواحيها. وقد بين أن كل ولي عند العامة قادر على علاج مرضى أو أكثر. فالحمى والصداع لهما (أطباؤهما) من الدراويش. وأكد الكاتب أن المسلمين في وقته كانا يفضلون الذهاب إلى المرابطين بدل الأطباء الفرنسيين، (ولكن لماذا الفرنسيون فقط؟) ووصف هؤلاء المسلمين بأنهم جهلة. ولكنه قال إن هذه الممارسات في نظره غير خاصة بالمسلمين. فالعقيدة في الدراويش منتشرة أيضا لدى الكاثوليك. وحاول الكاتب أن يربط بين الإسلام وهذه الممارسات، فقال إن الإسلام لا يمانع في المداواة عند المرابطين بشرط عدم الشرك. ولكن من أين له بذلك؟ وأية مداوداة؟.
والأمراض الشعبية في نظر أبي بكر على نوعين: بدنية ومعنوية (روحية). فالبدنية هي التي يمكن تفسير أسبابها وطبيعتها مثل الحمى وأمراض العين والصداع. أما الأمراض المعنوية أو الخفية فهي التي لا يمكن تعليلها كالصرع والهستيريا، والعامة تعتقد أنها من فعل الجن، ولذلك ينصح
(1) انظر كتابات دوتيه عن (الإسلام الجزائري)، والإسكندر جولي عن الطرق الصوفية.
الناصحون بالتوجه إلى المرابطين لعلاجها. وقد ذكر الكاتب بعض هؤلاء المرابطين والأماكن الخاصة بطلب العلاج. ففي تلمسان قبة بناحية الوريط تسمى (قبة سيدي محمد بن يعقوب)، ويشاع أن هذا الولي كان يبرئ من أمراض العين، ووجد على القبر شجرة زيتون من أكل من حبوبها شفي من عينيه. أما المرابط سيدي بوراس، حول تلمسان أيضا، فقد شاع عنه العلاج من الصداع. وتذهب الأسطورة إلى أن على المريض أن يطبخ رأس كبش في بيته ثم يحمله معه ويأكله في قبة الشيخ المذكور ويترك العظام حيث أكل. وفي قبة سيدي القيسي يتداوى المرضى من الحمى. وهذه القبة توجد على مقربة من ضريح سيدي ابن مدين الغوث. والمطلوب من المريض أن يذهب إليها ثلاثة أيام متوالية، لكن قبل شروق الشمس أو بعد غروبها، وعليه أيضا أن يحرك الأوراق المتساقطة على قبة الشيخ. وهناك أولياء آخرون يمتاز كل منهم بمداواة مرض من الأمراض، فقد اختصر سيدي الأنجاصي مثلا بمداواة المغص عند الأطفال، وسيدي الداودي بن ناصر في (أغادير) بالمداواة من العقم (1).
وفي الصحراء وغيرها عقائد مشابهة في المداواة، عن طريق السحر وما يشبهه. فلو ذهبت إلى بلاد سوف أو ميزاب أو توات، أو تنقلت في نواحي العاصمة وزواوة لوجدت عشرات القصص والأسماء وطرق العلاج الشعبي المبني على الخرافات شبيهة بما وصف الميلي وأبو بكر. والغريب أن بعض ذلك مرده في الأساس إلى الطب النبوي ولكن بعد تحريفه عن أصله. ولا سبيل إلى استقصاء النماذج من كل جهة، لأن الأمراض تكاد تكون واحدة، وطرق العلاج الخرافي متشابهة.
(1) أبو بكر عبد السلام بن شعيب (المرابطون المداوون) في (المجلة الإفريقية)، 1907 ص 250? 255. يجب التنبيه إلى أن كلمة (مرابطين) هنا مستعملة في معنى شعبي عام. وأصلها - كما عرفنا في فصول أخرى - أن المرابط يعني العالم المجاهد وليس الدرويش والخرافي. ولكن مع الزمن أصبح كل خرافي (مرابطا)، وهو من الاستعمالات الفرنسية للتنفير من المجاهدين والعلماء والأشراف الذين تولوا المقاومة.