الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله تعالى (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ
وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
قال ابن الجوزي في "المقتبس ": سمعت الوزير يقول في قوله تعالى:
(فَقَذ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ)، قال: المعنى: فقد كذبكم أصنامكم
بقولكم؛ لأنكم ادعيتم أنها الآلهة وقد أقررتم أنها لا تنفع، فإقراركم يكذب
دعواكم.
في قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَاّ إِنَّهُمْ لَيَأكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ) ، قال هو يدل على فضل هداية الخلق بالعلم، ويبين
شرف العالم على الزاهد المنقطع؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كالطبيب، والطبيب يكون عِنْدَ المرضى، فلو انقطع عنهم هلكوا.
* * *
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُ
دْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ)
وخرَّج النسائيّ من حديثِ أبي سعيد، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "إذا أسلمَ العبدُ
فحَسُنَ إسلامُهُ، كتَبَ اللَّهُ له كُل حَسنة كانَ أزلفَها، ومحيت عنه كلُّ سيئة كان أزلفها، ثمَّ كانَ بعدَ ذلكَ القصاصُ، الحسنةُ بعشْر أمثالِها إلى سَبع مائةِ ضعف، والسيئةُ بمثلها إلا أن يتجاوزَ اللَّهُ ".
وفي روايةٍ أخرى: "وقيلَ لهُ: ائْتَنِفِ الْعَمَلَ ".
والمرادُ بالحسناتِ والسيئاتِ التي كانَ أزلَفَهَا: ما سبقَ منه قبلَ الإسلامِ.
وهذا يدلُّ على أنه يُثابُ بحسناتهِ في الكفرِ إذا أسلمَ وتُمحى عنه سيئاتُه إذا
أسلَمَ، لكن بشرطِ أن يحسُنَ إسلامُه، ويتقِي تلكَ السيئاتِ في حالِ إسلامِهِ.
وقد نصَّ على ذلكَ الإمامُ أحمدُ.
ويدلُّ على ذلكَ ما في "الصحيحينِ " عن ابنِ مسعودٍ قال: قلنا:
يا رسولَ اللَّهِ، أنؤاخذُ بما عملْنا في الجاهليةِ؟
قالَ: "أما مَنْ أحسنَ منكُم في الإسلامِ فلا يُؤاخذُ بِهَا، ومن أساءَ أُخِذَ بعملِهِ في الجاهليةِ والإسلام".
وفي "صحيح مسلم " عن عمرِو بنِ العاصِ قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم لما أسلمَ: أريدُ أن أشترطَ، قالَ:"تشترطُ ماذَا؟ "
قلتُ: أن يُغفرَ لِي.
قالَ: "أما عَلمتَ أنَّ الإسلامَ يهدمُ ما كانَ قبلَهُ؟ ".
وخرَّجَهُ الإمامُ أحمدُ ولفظُه:
"إن الإسلامَ يجبُّ ما كانَ قبلَهُ منَ الذنوبِ "
وهذا محمولٌ على الإسلامِ الكاملِ الحسنِ، جمعًا بينَهُ
وبين حديثِ ابنِ مسعودٍ الذي قبلَهُ.
وفي "صحيح مسلم " أيضًا عن حكيم بنِ حزام قالَ: قلتُ:
يا رسولَ اللَّهِ أرأيتَ أمورًا كنتُ أصنعُها في الجاهليةِ من صدقةٍ
أو عتاقةٍ أو صلة رحم، أفيها أجرٌ؟
فقالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:
" أسلمتَ على ما أسلفتَ من خيرٍ"
وفي روايةٍ لهُ: قالُ: فقلتُ: واللَّهِ؛ لا أدعُ شيئًا صنعتُه في الجاهليةِ إلا صنعتُ في الإسلام مثلَهُ.
وهذا يدلُّ على أنَّ حسناتِ الكافرِ إذا أسلمَ يُثابُ عليهَا كما دلَّ عليه
حديثُ أبي سعيدٍ المتقدِّمُ.
وقد قيلَ: إن سيئاتهِ في الشركِ تبدَّلُ حسناتٍ، ويُثابُ عليها، أخذًا من
قولهِ تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) .
"وقد اختلفَ المفسرونَ في هذا التبديلِ على قولِين:
فمنهُم مَنْ قالَ: هو في الدنيا، بمعنى: أنَّ اللَّه يُبَدِّلُ من أسلمَ وتابَ إليه
بدلَ ما كان عليهِ من الكفرِ والمعاصِي: الإيمانَ والأعمالَ الصالحةَ.
وحكَى هذا القولَ إبراهيمُ الحربيُّ في "غريب الحديثِ "
عن أكثرِ المفسرينَ، وسمَّى منهم ابنَ عباسٍ، وعطاءً، وقتادةَ، والسُّديَّ، وعكرمةَ.
قلتُ: وهو المشهورُ عن الحسنِ.
قالَ: وقال الحسنُ وأبو مالكٌ وغيرُهما: هي في أهلِ الشركِ خاصةً، ليس
هي في أهلِ الإسلامِ.
قلتُ: إنما يصحُّ هذا القولُ على أنْ يكونَ التبديلُ في الآخرةِ كما سيأتِي.
وأما إن قيلَ: إنه في الدنيا، فالكافرُ إذا أسلمَ والمسلمُ إذا تاب في ذلكَ سواءٌ، بل المسلمُ إذا تابَ فهو أحسنُ حالاً من الكافر إذا أسلمَ.
قالَ: وقال آخرونَ: التبديلُ في الآخرةِ: جعلت لهم مكانَ كلِّ سيئةٍ حسنةً
منهم: عمرُو بنُ ميمون، ومكحولٌ، وابنُ المسيبِ، وعليٌّ بنُ الحسينِ، قالَ: وأنكرهُ أبو العاليةَ، ومجاهدٌ، وخالد سبلان، وفيه موضعُ إنكارٍ، ثم ذكرَ ما حاصلهُ: أنه يلزمُ من ذلكَ: أن يكونَ مَن كثرتْ سيئاتُهُ أحسن حالاً ممن قلَّتْ سيئاتُه، حيثُ يُعطى مكانَ كلِّ سيئةٍ حسنةً.
ثم قالَ: ولو قال قائل: إنما ذكرَ اللَّهُ أن يُبدلَ السيئاتِ حسناتٍ ولم يذكرِ العددَ كيفَ تبدَّل فيجوزُ أن معنى تبدَّلُ: أن من عملَ سيئةً واحدةً وتابَ منها تبدَّلُ مائةَ ألفِ حسنةٍ، ومن عملَ ألفَ سيئة أن تبدَّل ألفَ حسنةٍ، فيكونُ حينئذٍ مَنْ قلَّت سيئاتُهُ أحسنُ حالاً.
قلتُ: هذا القولُ - وهو التبديلُ في الآخرةِ - قد أنكرَهُ أبو العاليةَ، وتلا
قولَهُ تعالَى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا)، وردّه بعضُهم بقولِه تعالَى:
(وَمَن يَعْمَلْ مِثقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)، وقولهِ تعالَى:(وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) .
ولكن قد أُجيبَ عن هذا: بأنَّ التائبَ يُوقفُ على سيئاتهِ؛ ثمَّ تبدَّلُ
حسناتٍ، قالَ أبو عثمانَ النهديُ: إن المؤمنَ يُؤتَى كتابهُ في سَتْرٍ من اللَّه عزّ
وجلّ، فيقرأُ سيئاتهِ، فإذَا قرأَ تغيَّر لها لونُه حتَّى يمرَّ بحسناتِهِ، فيقرؤُها فيرجعُ
إليه لونُه، ثم ينظرُ فإذا سيئاتُه قد بُدلمتْ حسناتٍ، فعندَ ذلكَ يقولُ: (هَاؤُمُ
اقرَءُوا كتَابِيَهْ) .
ورواهُ بعضُهم عن أبي عثمانَ عن ابنِ مسعودٍ، وقالَ بعضُهم: عن أبي
عثمانَ عن سلمانَ.
وفي "صحيح مسلم " من حديثِ أبي ذرٍّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "إني لأعلمُ آخرَ أهلِ الجنَّةِ دُخولاً الجنة، وآخرَ أهلِ النارِ خروجًا منها، رجلٌ يُؤتَى بهِ يومَ القيامةِ فيقالُ: اعرضُوا عليه صِغارَ ذنوبهِ وارفعُوا عنه كبارها، فيعرضُ اللَّهُ عليه صغارَ ذنوبهِ.
فيقالُ له: عملتَ يومَ كذا وكذا، كذا وكذا؛ وعملتَ يومَ طذا وطذا، كذا وكذا؛ فيقولُ: نعم، لا يستطيعُ أن يُنكرَ وهو مشفقٌ من كبارِ ذنوبِهِ أن تُعرضَ عليه، فيقالُ لهُ: فإنَّ لكَ مكانَ كلِّ سيئةٍ حسنةً، فيقولُ: يا ربِّ قد عملتُ أشياءَ لا أراها ها هنا".
قال: فلقد رأيتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم
ضَحِكَ حتَّى بدتْ نواجذُه.
فإذا بُدلت السيئاتُ بالحسناتِ في حقِّ من عوقِبَ على ذنوبهِ بالنارِ، ففي
حق من مُحِيَ سيئاتُه بالإسلامِ والتوبةِ النصوح أوْلَى، لأنَّ محوَها بذلكَ أحبُّ
إلى اللَّهِ من محوِها بالعقابِ.
وخَرَّج الحاكم من طريقِ الفضلِ بنِ مُوسى، عن أبي العنبسِ عن أبيهِ.
عن أبي هُريرةَ قالَ: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
"ليتمنَّينَ أقوامٌ أنَّهم أكثرُوا من السيِّئاتِ ".
قالوا: بِمَا يا رسولَ اللَّه؟
قال: "الذين بدَّلَ اللَهُ سيئاتهم حسناتٍ ".
وخرَّجه ابنُ أبي حاتمٍ من طريقِ سليمانَ أبي داود الزهريِّ عن أبي العنبسِ
عن أبيه عن أبي هريرةَ - موقوفًا، وهو أشبهُ مِن المرفوع.
ويُروى مثلُ هذا عن الحسنِ البصريّ أيضًا، وهو يُخالف قولَه المشهور: إن
التبديلَ في الدنيا.
وأما ما ذكره الحربي في التبديلِ، وأنَّ من قلَّت سيئاتُهُ يُزاد في حسناتهِ،
ومن كثرتْ سيئاتُه يُقَلَّلُ من حسناتهِ، فحديثُ أبي ذرٍّ صريحٌ في ردِّ هذا، وأنه يُعطى مكانَ كلِّ سيئةٍ حسنةً.
وأما قولُه: يلزمُ من ذلكَ أن يكونَ من كثرت سيئاتُه أحسنَ حالاً ممن قلَّت
سيئاتُهُ، فيقالُ: إنما التبديلُ في حقِّ مَنْ ندمَ على سيئاته، وجعلَهَا نصبَ
عينيهِ، فكلَّما ذكرَه ازدادَ خوفًا ووجلاً وحياءً من اللًّهِ، ومسارعةً إلى
الأعمالِ الصالحةِ المكفرةِ كَمَا قالَ تعالى: (إِلَاّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا) ، وما ذكرناهُ كله داخلٌ في العمل الصالح، ومن كانتْ هذه حالُهُ.
فإنَّه يتجرعُّ من مرارةِ الندمِ والأسفِ على ذنوبِهِ أضعاف ما ذاق من حلاوتها
عند فعلها، ويصير كل ذنبٍ من ذنوبه سببًا لأعمالٍ صالحةٍ ماحيةٍ له، فلا
يُستنكرُ بعد هذا تبديلُ هذه الذنوبِ حسناتٍ.
وقد وردت أحاديثُ صحيحةٌ صريحةٌ في: أن الكافرَ إذا أسلم وحَسُنَ
إسلامُه تبدَّلت سيئاتُه في الشِّرك حسناتٍ، فخرَّج الطبراني من حديثِ
عبدِ الرحمنِ بنِ جبيرِ بنِ نفيرٍ عن أبي فروةَ شطبٍ: أنه أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: أرأيتَ رجلاً عَمِلَ الذنوبَ كُلَّها، ولم يتركْ حاجةً ولا داجةً، فهل له مِنْ توبة؟
فقالَ: " أسلمتَ؟ " قال: نَعم، قال: "فافعل الخيراتِ، واتركِ السيئاتِ.
فيجعلُها اللَهُ لك خيراتٍ كلَّها".
قالَ: وغَدَرَاتي وفَجَراتي؛ قالَ: "نعم ".
قال: فما زال يُكبِّرُ حتَّى توارَى.
وخرَّجه من وجهٍ آخرَ بإسنادٍ ضعيف عن سلمةَ بنِ نفيل، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وخرَّج ابنُ أبي حاتمٍ نحوَهُ من حديثِ مكحولٍ مرسلاً، وخرَّجَ البزار