الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأمَّا قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:
"لا يُجلدُ فوقَ عشرِ جلدات إلا في حَدٍّ مِن حُدودِ اللَّه "
فهذا قد اختلف الناسُ في معناه، فمنهم من فسَّر الحدودَ هاهنا بهذه الحدودِ
المقدّرةِ، وقال: إنَّ التَّعزيرَ لا يُزادُ على عشرِ جلداتٍ، ولا يُزادُ عليها إلا في هذه الحدودِ المقدَّرةِ، ومنهم من فسَّر الحدودَ هاهنا بجنس محارمِ اللَهِ، وقالَ:
المرادُ أن مجاوزةَ العشرِ جلداتٍ لا يجوزُ إلا في ارتكابِ محرمٍ مِنْ محارمِ
اللَّه، فأمَّا ضربُ التَّأديبِ على غيرِ محرَّمٍ، فلا يتجاوزُ به عشر جَلْدات.
وقد حملَ بعضُهم قولَه صلى الله عليه وسلم:
"وحدَّ حُدُودًا فلا تعتدوها"
على هذه العقوباتِ الزَّاجرةِ عَنِ المحرَّماتِ، وقال: المرادُ النَّهيُ عن تجاوُزِ هذه الحدود وتعديها عندَ إقامتِها على أهلِ الجرائم.
ورجَّح ذلك بأنَّه لو كانَ المرادُ بالحدودِ الوقوف عند
الأوامرِ والنَّواهي، لكانَ تكريرًا لقولهِ:
"فرضَ فرائضَ فلا تُضيِّعُوها، وحرَّم أشياءَ، فلاتننهكُوها"
وليس الأمرُ على ما قالَه، فإنَّ الوقوفَ عند الحُدودِ يقتضي أنَّه لا
يخرجُ عمَّا أذِنَ فيه إلى ما نَهى عنه، وذلك أعمُّ من كونِ المأذونِ فيه فرضًا أو
ندبًا أو مباحًا كما تقدَّم، وحينئذٍ فلا تكريرَ في الحديثِ، واللَّهُ أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا)
قال قتادةُ في قوله تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا) . 2
قالَ: مِن الكربِ عندَ الموتِ، ومن أفزاع يوم القيامةِ.
وقال عليٌّ بنُ أبي طلحةَ عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما في هذه الآيةِ: ننجيه من كلِ
كربٍ في الدُّنيا والآخرةِ.
وقال زيدُ بنُ أسلمَ في قولهِ تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَ اسْتَقَامُوا)
قال: يُبشرُ في ذلك عند موتهِ، وفي قبرهِ ويومَ البعثِ، فإنه لفي
الجنةِ، وما ذهبت فرحةُ البشارةِ من قلبه.
وقال ثابتٌ البناني في هذه الآية: بلغنا أنَّ المؤمنَ حينَ يبعثُه اللَّهُ من قبرهِ
يتلَقاه ملكَاه اللذانِ كانا معه في الدُّنيا فيقولان له: لا تخف ولا تحزنْ، فيؤمِّنُ
اللَّهُ خوفَه ويقر عينَه، فما من عظمةٍ تغشى الناسَ يومَ القيامةِ إلا وهي
للمؤمنِ قرةُ عينٍ، لما هداه الله ولما كانَ يعملُ في الدنيا.
خرَّج ذلك كلَّه ابنُ أبي حاتم وغيرهِ.
وأمَّا من لم يتعرف إلى اللَّهِ في الرخاءِ، فليسَ له أنْ يعرفَه في الشدةِ لا
في الدَّنيا ولا في الآخِرة.
وشواهدُ هذا مشاهدةُ حالِهم في الدُّنيا، وحالهُم في الآخرة أشدُّ، وما لهم
من وليٍّ ولا نصير.
* * *
قال اللَّهُ عز وجل: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ.
وقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه - الآيةَ على أبي ذَرٍّ، وقالَ له:"لو أن الناسَ كُلَّهم أَخَذوا بها لكفَتهم ".
يعني: لو أنَّهم لو حقَّقوا التَّقوى والتوكلَ لاكتَفَوا بذلك في مصالح دينهِم
ودنياهُم.
قال بعضُ السلف: بِحَسبِكَ من التوسلِ إليه أن يعلَمَ من قلبكِ حُسنَ
توكُّلك عليه، فكَمْ من عبدٍ من عبادِه قد فَوَّضَ إليه أمرَه فكفاه منه ما أهمَّه.
ثمَّ قرأ: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) .
وحقيقةُ التوكُّلِ: هو صدقُ اعتمادِ القلبِ على اللَّهِ عز وجل في استجلابِ
المصالح، ودفع المضارِّ من أمور الدنيا والآخرةِ كُلِّها، وكلَةُ الأمورِ كُلِّها إليه، وتحقيقُ الإيمانِ بأنه لا يُعطي ولا يمنعُ ولا يضرُّ ولا ينفعُ سِواه.
قال سعيدُ بنُ جُبير: التوكُّلُ جماعُ الإيمانِ.
وقال وهبُ بنُ مُنبه: الغايةُ القُصوى التوكلُ.
قالَ الحسنُ: إن توكُّلَ العبدِ على ربِّه: أنْ يعلمَ أنَّ اللَّه هو ثقتُه.
وفي حديث ابن عباس عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:
"مَنْ سرةَ أن يكونَ أقوى النَّاسِ فليتوكل على اللَّهَ ".
ورُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه كانَ يقولُ في دعائهِ:
"اللهمَّ إنِّي أسالُك صدْقَ التوكُّل عليك "، وأنّه كان يقولُ:
"اللهمَّ اجعلني مِمَّنْ توكَلَ عليك فكفيْتَه " َ.
واعلمْ أنَّ تحقيقَ التوكلِ لا يُنافي السَّعي في الأسباب التي قَدَّر اللَّهُ سبحانَه
المقدوراتِ بها، وجرت سُنَّته في خَلْقهِ بذلك، فإن اللهَ تعالى أمرَ بتعاطي
الأسباب مع أمرهِ بالتوكُلِ، فالسَّعيُ في الأسبابِ بالجوارح طاعة له، والتوكل بالقلبِ عليه إيمان به، قال الله تعالى:(يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكمْ)
وقال: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ) .
وقال: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)
قالَ سهل التُّستري: مَنْ طعنَ في الحركةِ - يَعْني: في السعيِّ والكَسْبِ -
فقد طعنَ في السّنَة، ومن طَعَنَ في التوكُّلِ فقد طَعَنَ في الإيمانِ.
فالتوكُلُ حالُ النبي صلى الله عليه وسلم، والكَسْبُ سنّته، فمن عَمِلَ على حالهِ، فلا يَتْرُكَنَّ سنتَه.
* * *