الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سُورَةُ الفَجْرِ
قوله تعالى: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)
في حديثِ ابنِ عُمَرَ المرفوع: "ما مِنْ أيامٍ أعظمُ عندَ اللهِ ولا أحب إليه العمَلُ
فيهنَّ من هذه الأيام العَشْرِ"
وفي "صحيح ابنِ حبانَ " عن جابرٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "ما مِنْ أيامٍ أفضلُ عندَ اللَهِ من أيام عشْرِ ذي الحجةِ".
ورويناه من وَجهٍ آخرَ بزيادةٍ، وهي: "ولا لياليَ أفْضَلُ من لياليهن) .
قيل: يا رسول اللَّه، هُنَّ أفضْلُ منْ عِدتهنَّ جهادًا في سبيل اللَّه؟
قال: "هُنَّ أفضلُ من عِدتهنَّ جهادًا فى سبيلِ اللهِ، إلا من عُفِّرَ وجهُه تعْفيرًا، وما منْ يَومٍ أفضلُ من يومِ عرفة"
خرَّجه الحافظ أبو موسى المدينيُّ منْ جهةِ أبي نُعيمٍ الحافظِ بالإسنادِ الذي خرَّجه به ابنُ حبَّانَ.
وخرَّجَه البزار وغيرُه من حديثِ جابرٍ أيضًا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال:
"أفضَلُ أيام الدنيا أيامُ العشْرِ".
قالُوا: يا رسول اللَّه، ولا مثلُهُنَّ في سبيلِ اللَّه؟
قال: "ولا مثْلُهُنَّ في سبيلِ اللَّهِ، إلا مَنْ عُفرَ وجهُه بالترابِ ".
ورُوي مرْسَلاً وقيل: إنَّه أصحُّ، وقد سبق ما رُوي عن ابنِ عُمرَ: قال:
ليس يوم أعْظمُ عندَ اللَّهِ من يومِ الجمعة، ليْسَ العشْرَ.
وهو يدلُّ على أنَّ أيامَ العشْرِ أفضَلُ من يومِ الجُمُعة الذي هو أفضَلُ الأيامِ.
وقال سهيلُ بنُ أبي صالح، عن أبيه، عن كعبٍ، قال: اختارَ اللَّهُ الزمانَ.
فأحبُّ الزَّمانِ إلى اللَّهِ الشهرُ الحرامُ، وأحبُّ الأشهرِ الحُرُمِ إلى اللهِ ذو
الحجَّةِ، وأحبُّ ذي الحجَّة إلى اللَّه العشرُ الأُوَلِ.
ورواه بعضُهم عن سُهيلٍ عن أبيه، عنْ أبي هريرة، ورفعه، ولا يصحُّ ذلك، وقال مسروقٌ في قولهِ تعالى:(وَلَيَالٍ عَشْرٍ) : هي أفضلُ أيَّامِ السنَةِ.
خرَّجه عبدُ الرزاقِ وغيرُهُ، وأيضًا فأيَّامُ هذا العشْرِ يشْتملُ على يوم عرفة. وقد رُوي أنه أفضَلُ أيَّامِ الدنيا، كما جاء في حديثِ جابر الذي ذكرناه وفيه:"يومُ النَّحْرِ".
وفي حديثِ عبدِ اللَّه بنِ قُرْطٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنه قال:" أعظمُ الأيامِ عندَ اللَّه يومُ النَحْرِ، ثمَّ يومُ القَر ".
خرَّجه الإمامُ أحمدُ وأبو داود وغيرُهما، وهذا كلُّه
يدلُّ على أن عشْرَ ذي الحجَّةِ أفْضلُ من غير من الأيَّامِ منْ غيرِ استثناءٍ، هذا
في أيامِهِ.
فأمَّا لياليه فمنَ المتأخِّرينَ منْ زعمَ أنَّ ليالي عشْرِ رمضانَ أفضلُ منْ لياليه.
لاشْتمالِهَا على ليلةِ القدرِ، وهذا بعيد جدًّا.
ولو صحَّ حديثُ أبي هريرة: "قيامُ كلِّ ليلةٍ منها بقيام ليلة القدر"
لكان صريحًا في تفضيلِ لياليه على ليالي عشْرِ رمضانَ، فإنَّ عشْرَ رمضانَ فُضِّلَ بليلةٍ واحدةٍ فيه، وهذا جميعُ لياليه متَساوية لها في القيام على هذا الحديثِ.
ولكنَّ حديثَ جابر الذي خرَّجه أبو موسى صريح في تفضيلِ لياليه كتفضيلِ أيَّامِهِ أيضًا، والأيَّامُ إذا أُطلِقَتْ دخلتْ فيها الليالي تبعًا، وكذلك الليالي تدْخُلُ
أيَّامُها تبعًا.
وقد أقسَمَ اللَّه تعالى بلياليه، فقال:(وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) .
وهذا يدلُّ على فضيلةِ لياليه أيضًا، لكنْ لم يثبُتْ أنَّ لياليه ولا شيئًا منها
يعدلُ ليلةَ القدْرِ.
وقد زعمَ طوائفُ منْ أصحابِنا أنَّ ليلةَ الجمعة أفضلُ من ليلةِ القدْرِ، ولكنْ
لا يصحُّ ذلك عن أحمد، فعلى قولِ هؤلاءِ لا يُسْتبْعَدُ تفضْيلُ ليالي هذا
العشْرِ على ليلةِ القدرِ.
والتحقيقُ ما قالَهُ بعضُ أعيان المتأخِّرينَ منَ العلماءِ، أنْ يقُال: مجموعُ هذا
العشْرِ أفضْلُ من مجموع عشْرِ رمضانَ، وإنْ كان في عشْرِ رمضان ليلةٌ لا
يَفْضل عليها غيرُها، واللَّه أعلم.
وما تقدَّم عنْ كعبٍ يدلُّ على أنَّ شهرَ ذي الحجَّةِ أفضْلُ الأشهرِ الحُرُمِ
الأربعة، وكذا قال سعيدُ بنُ جبير، راوي هذا الحديثِ عن ابنِ عباسٍ:"ما من الشهورِ شهرٌ أعْظمُ حُرْمة منْ ذي الحجَّةِ".
وفي "مسندِ البزَّارِ" عن أبي سعيد الخدريِّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:
" سيِّدُ الشهورِ رمضانُ، وأعْظمها حُرْمةً ذو الحجَّةِ".
وفي إسنادِهِ ضعْفٌ.
وفي "مسندِ الإمامِ أحمدَ"، عن أبي سعيدٍ الخدريّ أيضا: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع في خطبتِه يومَ النَّحْرِ:
"ألا إنَّ أحْرَمَ الأيام يومُكُم هذا، ألا وإنَّ أحْرَمَ الشُّهورِ شهرُكُم هذا، ألا وإنَّ أحرَمَ البلادِ بلدُكُم هذا".
ورُوي ذلك أيضًا عن جابرٍ، ووابصةَ بنِ معبدٍ، ونُبيطِ بنِ شَريطٍ.
وغيرِهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كلُّه يدلُّ على أنَّ شهرَ ذي الحجَّة أفضلُ الأشهرِ الحُرُمِ، حيثُ كان أشدَّهَا حُرْمةً.
وقد رُوي عن الحسنِ: أنًّ أفضلها المحرَّم، وسنذكرُهُ عند ذِكْرِ شهرِ المُحَرَّم، إن شاء اللَّه تعالى.
وأمَّا من قال: إنَّ أفضلَها رجبٌ فقولُهُ مرْدُود.
ولِعَشْرِ ذي الحجة فضائلُ أُخرُ غيرَ ما تقدَّم.
فمنْ فضائلِه: أنَّ اللَّه تعالى أقسَمَ به جُملةً، وببعضِه خُصوصًا، قال تعالى:
(وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) .
فأمَّا الفجرُ فقيل: إنه أراد جنسَ الفجر، وقيل: المرادُ طلوعُ الفجر، أو صلاةُ الفجر، أو النَّهارُ كلُّه.
فيه اختلافٌ بين المفُسّرين، وقيلَ: إنه أريد به فَجْرٌ مُعَيَّنٌ.
ثُمَّ قيل: إنه أُرِيدَ به فجرُ أوَّلِ يومٍ من عَشر ذي الحجَّة.
وقيل: بل أرِيدَ به فجرُ آخرِ يومٍ منه، وهو يومُ النَّحْرِ، وعلى جميع هذه الأقوالِ، فالعَشْرُ يشتملُ على الفجرِ الذي أقْسَمَ اللَّهُ به.
وأمَّا "الليالي العشر" فهي عشر ذي الحجة، هذا الصحيحُ الذي عليه
جُمهور المُفسِّرين منَ السلفِ وغيرِهم، وهو الصحيحُ عن ابنِ عباس.
روي عنه مِنْ غيرِ وجه والروايةُ عنه: "أنه عشرُ رمضان " إسنادُها ضعيف.
وفيه حديثٌ مرفوعٌ خرَّجه الإمامُ أحمدُ، والنسائيُّ في "التفسيرِ" منْ
روايةِ زيدِ بنِ الحُبابِ حدَّثنا عيَّاشُ بنُ عُقبة، حدَّثنا خيرُ بنُ نُعيم، عن أبي
الزُّبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"العَشْرُ عشْرُ الأضْحَى، والوَتْرُ يومُ عرفة، والشَّفع يومُ النَّحْرِ"
وهو إسناد حسنٌ.
وكذا فسَّر "الشَّفع " و"الوتْرَ" ابنُ عباسٍ في روايةِ عكرمةَ وغيرِهِ.
وفسَّرهما أيضًا بذلك عكرمةُ والضحاكُ وغيرُ واحدٍ، وقد قيل في "الشَّفْع " و"الوتْرِ" أقوالٌ كثيرةٌ، وأكثرها لا يخرجُ عن أنْ يكونَ العشرُ أو بعضُه مُشتملاً على "الشفْع " و"الوترِ" أو أحدِهِما، كقولِ من قال:"هي الصلاةُ منها شفع ومنها وترٌ".
وقد خرَّجَه الإمامُ أحمدُ والترمذيُّ من حديث عمرانِ بن حُصينٍ.
عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقولُ منْ قال: هي المخلوقات منها شفغْ ومنها وَتْر، يدخلُ فيها أيامُ العَشْرِ.
وقولُ مَنْ قال: الشفعُ الخلْقُ كلُّه، والوِتْرُ الله، فإنَّ أيامَ العشْرِ منْ جُمْلةِ المخلوقاتِ.
ومنْ فضائِلِه أيضًا: أنه من جملة الأربعين التي واعدها اللَّه عز وجل لمُوسى
عليه السلام قال الله تعالى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً) ، ولكن
هل عَشْرُ ذي الحجَّة خاتمةُ الأربعينَ، فيكونُ هو العشْرُ الذي أُتِمَّ به الثَّلاثون، أمْ هو أوَّلُ الأربعين، فيكونُ مِنْ جُملةِ الثلاثينَ التي أُتِمَّتْ بعشر؟
فيه اختلاف بينَ المفسرين.
روى عبدُ الرزاقِ، عن معمر، عن يزيدَ بنِ أبي زيادٍ، عنْ مُجاهدٍ.
قال: ما منْ عملٍ في أيَّامِ السنة أفضلُ منه في العَشْرِ من ذي الحجَّة، وهي
العشْرُ التي أَتمَّهَا اللَهُ لموسى عليه السلام ".
ومنْ فضائِلِهِ: أنَّه خاتمةُ الأشهرِ المعلوماتِ، أشهرُ الحجِّ التي قال اللَّه فيها:
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ معْلُومَاتٌ) ، وهي شوَّال، وذو القعْدة، وعَشْرٌ من
ذي الحجَةِ.
وروي ذلك عن عُمرَ، وابنِه عبدِ اللَّه، وعلي، وابنِ مسعود، وابنِ عباسٍ.
وابنِ الزُّبيرِ وغيرِهِم، وهو قولُ أكثر التابعينَ، ومذهبُ الشافعيَ، وأحمدَ
وأبي حنيفةَ وأبي يوسُف وأبي ثور وغيرِهم، لكنَّ الشافعي وطائفةً أخْرجوا
منه يومَ النَّحْرِ، وأدخله فيه الأكثرون، لأنَّه يومُ الحجِّ الأكبرِ، وفيه يقعُ أكثرُ
أفعال مناسكِ الحجِّ.
وقالتْ طائفة: ذو الحِجَّةِ كلُّه منْ أشهرِ الحجِّ.
وهو قولُ مالكٍ، والشافعيّ في القديمِ، ورواه عن ابنِ عمرَ أيضًا.
وروي عن طائفة من السلفِ، وفيه حديث مرفوعٌ خرَّجه الطبرانيُّ.
لكنه لا يصحُّ.
والكلامُ في هذه المسألةِ يطولُ، وليس هذا موضعه.
ومن فضائِلِهِ: أنَّه الأيَّامُ المعلوماتُ التي شرع اللَّه ذِكْرَه فيها على ما رزَقَ من
بهيمةِ الأنعامِ، قال اللَّهُ تعالى:(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) .
وجمهورُ العلماءِ على أنَّ هذه الأيامَ المعلوماتِ هي عشْرُ ذي الحجَّةِ، منهم ابنُ عمرَ، وابنُ عباسٍ والحسنُ وعطاء ومجاهد وعكرمةُ وقتادةُ والنَخعي، وهو قولُ أبي حنيفةَ والشافعيِّ وأحمدَ في المشهورِ عنه.
ورُوي عن أبي موسى الأشعريِّ: أنَّ الأيامَ المعلوماتِ هي تسعْ ذي الحجَّة
غير يومِ النحرِ، وأنَّه قال: لا يُرَدُّ فيهنَّ الدعاءُ.
خرَّجه جعفر الفرْيابيُّ وغيرُه.
وقالتْ طائفة: هي أيامُ الذبْح.
ورُوي عن طائفةٍ من السلفِ.
وهو قولُ مالكٍ، وأبي يوسفَ، وجعلوا ذِكْرَ اللَّهِ فيها ذِكْرَه على الذبح، وهو قولُ ابنِ عُمرَ رضي الله عنهما، ونقل المرُّوْذيُّ عن أحمدَ أنه استحسنه، والقولُ الأولُ أظْهرُ.
وذكْرُ الله على بهيمةِ الأنعام لا يختصُّ بحالِ ذبْحِها، كما قال تعالى:
(كذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكمْ) .
وقالَ تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ)، وأيضًا فقد قال اللَهُ تعالى بعد هذا:(فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) .
فجعل هذا كلَّه بعْدَ ذِكْرِه في الأيام المعلوماتِ وقضاءِ التَفَثِ، وهو شعثُ
الحج، وغبارُهُ ونصَبُهُ.
والطًوافُ بالبيتِ إنَّما يكونُ في يوم النحر وما بعدَه.
ولا يكونُ قبْله وقد جعلَ الله سبحانه هذا مُرَتبًا على ذِكرهِ في الأيامِ
المعلوماتِ بلفظةِ "ثُم" فدل على أن المرادَ بالأيام المعلوماتِ ما قبْل يومِ النَحْرِ.
وهو عشْرُ ذي الحجة.
وأما قوله تعالى: (وَيَذْكرُوا اسْمَ اللًهِ فِي أَيام مَّعْلُومَات عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ) فقيل: إن المرادَ ذكْرُهُ عند ذَبْحها، وهو حاصل بذكْر في
يوم النحر، فإنه أفضلُ أيامِ النَحْرِ، والأصح أنه إنما أريد ذِكْرُه شُكْرًا على
نعمة تسخيرِ بهيمة الأنعام لعباده، فإن للَّه تعالى على عباده في بهيمة الأنعامِ
نعمًا كثيرةً قد عدَّد بعْضها في مواضعَ منَ القرآنِ.
والحاج لهم خصوصية في ذلك عن غيرِهم؛ فإنهم يسيرونَ عليها إلى الحرم، لقضاءِ نُسكهم، كما قال تعالى:(وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) وقال تعالى: (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) ويأكلون من لحومِهَا، ويَشْربون من ألبانِها، وينتفعون بأصْوافِهَا وأوبارِها وأشعارِها.
ويختصُّ عشْرُ ذي الحجَّة في حقِّ الحاجِّ بأنَّه زمنُ سَوْقهِم للهَدْي الذي به
يكمُلُ فضلُ الحجِّ، ويأكلون منْ لُحُومه في آخر العشْرِ، وهو يومُ النحْر.
وأفضلُ سوْقِ الهَدْي من الميقاتِ، ويُشعرُ ويُقلَّدُ عندَ الإحرامِ، وتقارنُهُ
التلبيةُ، وهي مِنْ الذِّكر للَّه في الأيَّام المعلومات.
وفي الحديث: "أفضل الحجِّ العَجُّ والثَّجُّ "
وفي حديثٍ آخر: "عجُّوا التَّكْبيرَ عجًّا، وثُجُّوا الإبل ثجًّا ".
فيكون كثرةُ ذِكْر اللَّه في أيَّامِ العشْرِ شكْرًا على هذه النّعمة المختصَّةِ ببهيمة
الأنعام، التي بعضُها يتعلَّق بدين الحاجِّ، وبعضُها بِدُنياهم.
وأفضلُ الأعْمالِ ما كثُرَ ذِكْرُ اللَّه تعالى فيها، منها خُصُوصًا الحج، وقد أمر اللَّه تعالى بِذكْرِه كثيرًا في أيام الحجّ، قال تعالى:(فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)، فهذا الذِّكْرُ يكونُ في عشْرِ ذي الحجَّةِ. ثمَّ قال تعالى:(فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) ، وهذا يقعُ في يومِ النَّحْرِ، وهو خاتمةُ العشْرِ أيضا.
ثم أمرَ بذكْى بعد العشْرِ في الأيام المعدوداتِ، وهي أيامُ التشريق.
وفي "السنن " عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:
"إنَّما جُعِلَ الطَّوافُ بالبيتِ، والسعْيُ بيْنَ الصفا والمروةِ، ورميُ الجمار، لإقامة ذكْرِ اللَّه عز وجل ".
وفي "مسند الإمامِ أحمدَ" عن معاذِ بنِ أنس: أن رجلاً قال:
يا رسول اللَّه، أيُّ الجهادِ أعظمُ أجْرًا؟
قال: "أكثرُهُم للَّه ذِكرًا" قال: فأيُّ الصائمين أعْظمُ أجْرًا؟
قال: "كثرُهُم للهِ ذِكْرًا".
قال: ثم ذكر الصلاة، والزكاة، والحج، والصدقة كلُّ ذلك ورسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:" أكثرُهُم للَّه ذِكرًا".
فقال أبو بكر؛ يا أبا حفص، ذهب الذَّاكرون بكُلِّ خيرٍ، فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أجَل ".
وقد خرَّجه ابنُ المباركِ، وابنُ أبي الدنيا من وجوهٍ أُخَر مُرْسلةٍ، وفي
بعْضِها: أي الحاجّ خير؟
قال: "أكثرهم ذكرًا للَّه " وفي بعْضِها: أيُّ الحاجِّ أعظمُ
أجْرًا؟
قال: "أكثرهُم للهِ ذِكرًا" وذكر بقيةَ الأعمالِ بمعْنى ما تقدم، فهذا كُلُّه
بالنسبةِ إلى الحاج.
فأمَّا أهلُ الأمصارِ فإنَّهم يشاركون الحاجَّ في عشْرِ ذي الحجَّة، في الذكر.
وإعدادِ الهَدْي، فأمَّا إعدادُ الهَدْي فإنَّ العشْر تُعَدُّ فيه الأضاحي، كما يسُوقُ
أهلُ الموسم الهَدْي، ويُشاركونهم في بعضِ إحرامِهِمْ، فإنَّ منْ دخلَ عليه
العَشْرُ وأرادَ أنْ يُضحي، فلا يأخُذْ منْ شعرِهِ ولا منْ أظفارِهِ شيئًا، كما روتْ ذلك أمُّ سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
خرَّج حديثَها مسلمٌ، وأخذَ بذلك الشافعي، وأحمدُ، وعامَّةُ فقهاءِ الحديثِ.
ومنهم منْ شرَطَ أنْ يكونَ قد اشترى هدْيَه قبْلَ العشْرِ.
وأكْثرُهُم لم يَشْرُطوا ذلك.
وخالف فيه مالكٌ، وأبو حنيفة، وكثير من الفقهاءِ، وقالوا: لا يُكره شيءٌ